تقديم كتاب: نظريّة التجديد الأصولي من الإشكال إلى التحرير
فئة : قراءات في كتب
تقديم كتاب: نظريّة التجديد الأصولي من الإشكال إلى التحرير
للدكتور الحسان شهيد
- الجزء 1 -
الكتاب الموسوم بـ"نظريّة التجديد الأصولي من الإشكال إلى التحرير" للدكتور الحسّان شهيد أصدره مركز نماء للبحوث والدراسات في طبعته الأولى سنة 2012، بمدينة بيروت. وصاحب هذا الكتاب مغربي باحث في الدراسات الإسلاميّة حاصل على الدكتوراه من كلية الآداب جامعة مولاي إسماعيل بمكناس.
تدور أغلب بحوث هذا الكاتب حول مجال أصول الفقه ومقاصد الشريعة، على غرار بحث بعنوان "نظرية النقد الأصولي"، وبحث موسوم بـ"منهج النظر المغربي بين أصول الفقه والتاريخ"، وبحث معنون بـ "الخطاب النقدي الأصولي من تطبيقات الشاطبي إلى التجديد المعاصر".
ويمتدّ الكتاب الذي نهتمّ بتقديمه على 287 صفحة تتوزّع على بابين، يشتملان على خمسة فصول. وبالإضافة إلى ذلك، توجد مقدّمات وملاحظات ختاميّة.
وقد سعى الباحث في المقدّمات التأسيسية لكتابه إلى النظر في إشكاليّة التجديد عامّة دون ربطها بمجال أصول الفقه، وبيان أهمّيته وقيمته والمعنى المقصود به. وبيّن منذ الصفحة الأولى أنّ بحثه في التجديد يندرج في دائرة الاهتداء بسُنّة النبي لا في دائرة الابتداع، لذلك يدلي ببرهانه النقلي المتمثّل في الحديث النبوي: "إنّ الله يبعث إلى هذه الأمّة على رأس كلّ مائة سنة من يجدّد لها دينها" (أبو داود رقم 4293).
حاول الباحث أن يشرّع لبحثه هذا من خلال داعيين: أحدهما معرفي علمي، والآخر عملي واقعي؛ فأمّا الأول، فيتمثّل في ارتباط تواصل مسيرة العلوم وأدائها لرسالتها المعرفية بخضوعها لمطالب التجديد، حتى تستجيب لأسئلة العقل الإنساني. وأمّا الثاني، فهو استثمار مراجعة علم أصول الفقه في فقه التكليف وتصريف الأحكام الشرعيّة.
ومدار الباب الأوّل من هذا الكتاب دراسة إمكانات التجديد في علم أصول الفقه من حيث إشكالاته وقضاياه المعرفيّة المرتبطة بدواعيه وآلياته ومقاصده ثمّ موضوعاته. أمّا الباب الثاني، فإنّه يخوض في المداخل المتاحة والمفترضة في تحرير مسألة التجديد بحسب التحقق والإنجاز المتناسبين مع طبيعة هذا الفن.
أبدى الباحث منذ البداية احترازه من حصر التجديد في مجال علم أصول الفقه؛ فهذا العمل في نظره ينبغي أن تسبقه "قراءة الواقع والكون وحال الأمّة وتربية الأفراد على الثقافة السليمة وتوعيتهم بالوعي الحضاري اللازم الذي يفقهون به الوضع الإنساني".[1]
ومن المقدّمات التأسيسية التي سبقت الباب الأول مقدّمة أولى جعلها الباحث لإشكاليّة التجديد: هل يحصل بالفعل والقوّة من قبل متخصّصين في هذا الفنّ أم يتأتّى بشكل تلقائي تاريخي دون تنظيم محكم وإرادة واعية أي من خلال مجرّد التراكم التاريخي؟
وفي المقدّمة الثانية "في أهمّية التجديد وقيمته" وقف صاحب الكتاب عند الاعتبارات التي تدعم هذه القيمة، منها خطورة موضوع تجديد أصول الفقه من حيث ملامسته لأصول الخطاب الشرعي وأسسه العلميّة، ومنها "عدم وضوح الرؤية وبيان التصوّر في عمليّة التجديد الأصولي لحسبانه موضوعاً جديداً من حيث معالجته وتحرير النظر فيه"[2]، ومنها أيضاً استناد المعرفة الفقهية والاجتهاد إلى مبادئ، ممّا يعني أنّ كلّ تغيّر يطرأ على هذه المبادئ والقواعد سينعكس ضرورة على المعرفة الفقهية.
خصّص الباحث بعد هذه المقدّمات الباب الأوّل "التجديد الأصولي في أصول الإشكال" لبحث جملة من المسائل موزّعة على فصول ثلاثة:
- الفصل الأوّل: تجديد علم أصول الفقه، دراسة مفهوميّة.
- الفصل الثاني: ثنائيات متحكّمة في التجديد الأصولي.
- الفصل الثالث: إشكالات التجديد الأصولي.
انطلق في الفصل الأوّل من بيان مختزل لمفهوم التجديد لغة واصطلاحاً؛ ليستخلص من ذلك أنّ كلمة التجديد تفيد حصول حالات أربع؛ الأولى: أنّ الأمر قد تقادم به الزمن، الثانية: أنّ الأمر محلّ النظر في حاجة ملحّة إلى التجديد، الثالثة: أنّ الحاجة الملحّة إلى التجديد في الأمر كان من ورائها داع ضروري استدعى عمليّة التجديد، الرابعة: أنّ التجديد قد يفيد في إعادة الأمر إلى ما كان عليه أو استبداله بما هو أحسن منه يحلّ محلّه في إنجاز المقصود.[3]
ولمّا كان التجديد في نظر الكاتب جعل الشيء على صورة مغايرة في المآل لما هو عليه من صوره في الحال استنتج أنّ الجدّة يُفهم منها معان عدّة لا تخرج في رأينا عن معنيين رئيسيين؛ هما: إبقاء القديم وإدخال ما به يكتسب جدّة وحداثة عليه، أو تغيير كليّ للقديم لتعويضه بأمر جديد. وقد عبّر صاحب الكتاب عن هذين المعنيين من خلال مصطلحات التأصيل والتكميل والتنخيل والتشغيل والتبديل. والمصطلح الأخير هو وحده الذي يعبّر عن المعنى الثاني، وهو يدرك أنّ هذا المعنى لا يُرضي كثيراً من دعاة المحافظة على القديم، لذلك يؤصّله قرآنياً بواسطة الآية: "إن يّشأ يذهبكم ويأت بخلق جديد" (إبراهيم 14 / 19).
ولعلّ ما يعزّز تحرّج الكاتب من هذا المعنى إقراره بأنّه لا مكان له في تجديد علم أصول الفقه، مبرّراً ذلك بأنّ "تغيير الأدلّة أو القواعد لا ينسجم مع الطبيعة الخاصّة للخطاب الشرعي المؤسس على مطلقية النصوص والأدلّة، لكنّه استثنى من ذلك الحالة التي يكون المقصود بها استبدال بعض القواعد والمبادئ المتغيّرة والفنّية بقواعد أخرى أكثر قطعاً وثباتاً.
وهذا الموقف يبدو فيه كثير من التقديس والتحنيط للخطاب الأصولي، وهو ما يتنافى والطابع الحركي للأدلّة والقواعد الأصوليّة؛ فالدليلان اللذان سلما إلى حدّ كبير من التجديد والتغيير في الدائرة السنيّة على الأقل هما القرآن والسُنّة. أما بقيّة الأدلّة، فكانت موضع نقد وشهدت مباحثهما والحجج عليهما حركيّة جليّة لكلّ ناظر موضوعي يأخذ بعين الاعتبار مختلف المواقف التي ظهرت في التاريخ حتى ما كان مهمشاً منها.
وينتهي الكاتب الحسّان شهيد إلى أنّ التعريف الأصوب للتجديد في علم أصول الفقه هو: "إعادة النظر في علم أصول الفقه ابتداء من تأصيل الأصول حتى تكون قطعية، مروراً بتنخيلها كي تخلص علمية، وتعليل النظر بها حتى تظهر قاصدة، وتكميل نقصها لتصبح وافية، وانتهاء بتشغيلها حتى تصير مفيدة، وتنزيل أحكامها لتبدو عمليّة".[4]
ويقف الباحث في الفصل الثاني من الباب الأوّل عند عدد من الثنائيّات المتحكّمة في التجديد الأصولي، وفي صدارتها ثنائيّة النقل والعقل التي تحكّمت في تقديره في أبعاد التفكير الأصولي منذ نشأته وذلك من حيث جوانب عدّة؛ منها جانب المداخل الشرعيّة للعقل في فهم النصوص وجانب قدرة العقل على تعليل الأحكام الشرعيّة المنقولة وإضفاء صفة المعقوليّة عليها.
ونظر إثر ذلك في ثنائيّة الأمّة والنصّ، وهي إشكاليّة غابت في القديم في نظره لكنها حاضرة في الأوساط الأكاديمية، يقول في هذا السياق: هل الأمّة اليوم متراجعة أو بصيغة أخرى متوقّفة عن الاستئناف الحضاري، لأنّ علم أصول الفقه قاصر عن المواكبة الفعليّة؟ أم أنّ علم أصول الفقه متوقّف عن إنتاج المعرفة الفقهيّة المناسبة ومعطّل عن الإجابة على الأسئلة الاجتماعيّة والسلوكيّة، لأنّ الأمّة لم تحفظ الضرورات التاريخية ولم تف بالحاجات الإنسانيّة التي تهب لعلم أصول الفقه حياة التجدّد والتطوّر؟
سعى المؤلف إلى البحث في تاريخ علم أصول الفقه عمّا يدعم هذه الرؤية أو عمّا يفنّدها، فما وجد غير موقف رمضان البوطي الذي قرّر أنّه "ما ينبغي أن يكون لتبدّل الظّروف الاجتماعيّة والثقافيّة والاقتصاديّة والسياسية أثر في الدعوة إلى تجديد هذا العلم".[5] وقد بيّنا في كتابنا "جدل الأصول والواقع" وهن هذا الرّأي وضربنا أمثلة كثيرة تدحضه وتؤكّد، على خلاف ذلك، على الارتباط الوثيق بين علم أصول الفقه وقضاياه وقواعده وبين الواقع التاريخي الذي عاش الأصوليّون في كنفه، ورسالة الشافعي ـ على خلاف ما يراه البوطي- خير مثال يشير إلى أنّ نشأة علم أصول الفقه كان استجابة لضغوط مذهبيّة وثقافيّة واجتماعية. وما تشخيص قسم كبير منها للذود عن حجية أخبار الآحاد إلا دليل يجلي مسعى صاحب الرسالة إلى مواجهة فريق من علماء المسلمين رفض العمل بهذا الصنف من الأخبار أو شكّك فيها ونقدها بسبب التعارض بينها حيناً وغياب المنطق منها حينا آخر.
وفي الثنائيّة الثالثة الخاصة بالتقليد والتجديد، بيّن المؤلف أنّ التعصّب المذهبي متجلياً في الانتصار للمذاهب والارتباط باستنباطاتها الفقهية قد أحدث توقّفاً على مستوى الاجتهاد الفقهي واستنباط الأحكام الشرعية، وهو ما أدّى إلى ترسيخ وضع التقليد وإلى اعتبار أصول الأئمة أصولاً للفقه.
وأنهى الباحث وقفته عند هذه الثنائيات بالحديث عن ثنائيّة الظاهر والمقصد أو الظاهر والمعنى التي استأثرت زمناً طويلاً بالعقل الأصولي، فانشغل بها في جلّ التصانيف الأصوليّة، وإن لم يتمّ الإفصاح عنها مباشرة.
وفي الفصل الثالث الموسوم بـ"إشكالات التجديد الأصولي"، أثار الباحث عدّة إشكاليات منها بشكل خاص إشكاليّة القطعي والظني في أصول الفقه، وهي إشكاليّة رافقت البحث الأصولي مدّة طويلة من الزمن دون الحسم فيها، إلاّ أنّ ما يجدر الإشارة إليه حسب الباحث هو "أنّ الاختلاف في مسألة القطعي والظني ارتبطت ببعض الأصول دون سواها. فأصول الكتاب والسُنّة والإجماع انتهى النظر فيها ضمن دائرة القطعي على سبيل الإجمال لا التفصيل، ومن حيث البعد الثبوتي لا البعد الدلالي. وأمّا ما عدا ذلك، فاعتبر في عداد الأصول الظنيّة".[6] وهذا الموقف يصحّ طبعاً داخل الفكر السنّي، لأنّ بقيّة الفرق الإسلاميّة وإن تبنّت هذه الأصول، فإنّ لها تصوّرات مخصوصة بالنسبة إلى السُنّة والإجماع تقوم على ركائز مختلفة عن ركائز التصوّرات السنيّة.
تطرّق الباحث في هذا الفصل أيضاً إلى مسألة الثابت والمتغيّر في علم الأصول منتهياً إلى أنّ ثوابت الخطاب الأصولي لا يمكن أن تمسّها عمليّة التجديد، ويقصد بذلك النصوص الشرعيّة بشكل خاصّ وما تفرّع عنها من القطعيات العلمية والعملية، لأنّها في نظره أصل الأصول، أمّا ما يمكن أن يشمله التجديد، فهو القواعد الظنيّة وبعض الضوابط والشروط الاجتهادية لدى المجتهد، وهي تندرج في نطاق الإنتاج الإنساني.
[1]- الحسّان الشهيد، نظرية التجديد الأصولي، ط3، بيروت، مركز نماء للبحوث والدراسات، 2012، ص 18
[2]- المرجع نفسه، ص 22
[3]- المرجع نفسه، ص 32
[4]- المرجع نفسه، ص 39
[5]- رمضان البوطي، إشكاليّة تجديد أصول الفقه، سلسلة حوارات لقرن جديد، ط3، 1426هـ/2006م، ص 178
[6]- المرجع نفسه، ص 65