تكنولوجيا التطرف
فئة : مقالات
تزايدت بقوة، لا سيما بالعقود الثلاثة الأخيرة، نعرات في التطرف غير مسبوقة، تجاوزت على معين القبيلة والدولة الوطنية والخلفية القومية، لتنهل من معين حقل كان دائما حاضرا بالمضمر، لكنه كان فاعلا أو مفعلا من الباطن وبأشكال وتلاوين مختلفة: المعين الديني.
لم يعد التشدد، المحيل صوبا على التطرف، يستقي مادته وعنوانه من الآصرة العرقية الصرفة أو الرابطة القومية الخالصة، بل أضحى شبه مستقل عنهما لفائدة حقل أكثر جذبا وأكثر قدرة على الاستقطاب: الحقل الديني.
لقد قلنا بسياقات أخرى، بأن موجات التشدد ونعرات التطرف، المحتكمة إلى المعين الديني، أو من خلال ركوبها لناصية تأويل جاف لمضامينه، إنما تنشد التكفير والعنف، ولا تتوانى في ليّ عنق النص المقدس لخدمة إيديولوجيا الإرهاب التي تعتنقها، جهارة أو بالمضمر، مجموعات "حركية" تدعي الاحتكام إلى الدين الإسلامي، وترفع لواء إعادة إحياء "الخلافة" هنا أو هناك، كمدخل من مداخل "إحياء الشريعة" وكمطية لتسويغ مقولة "الاحتكام للنص".
بيد أن التشدد الملاحظ على مستوى الخطاب، كما التطرف المتأتي منه سلوكا وممارسة بأرض الواقع، لا يطعنان في الحداثة، لا بل ولا يتوانيان في ركوب ناصيتها وتوظيف مستجداتها، لا سيما وقد باتت مشاعا وفي جزء كبير منها "ملكا كونيا مشتركا". لا يتعذر الأمر كثيرا للتدليل على ذلك، إذ لجوء الحركات الدينية المتشددة والمتطرفة، إلى تكنولوجيا البث التلفزيوني ومحطات الإعلام الفضائي وشبكات التواصل الاجتماعي، لا يضاهيه إلا قدرة هذه الشبكات على ترويج المعلومات والأفكار، ونجاعتها في استقطاب جمهور سئم من الإيديولوجيات "الوضعية"، والسياسات العمومية المرتكزة عليها، وبات ذو قابلية متعاظمة على اعتناق بديل يبدو له مكمن الخلاص وسبيلا لتغيير واقع الحال...أو هكذا يقال له بهذه الفضائية التلفزيونية أو تلك، بهذه الشبكة الافتراضية أو تلك.
لقد برعت الحركات المتشددة والمتطرفة في توظيف القنوات التلفزيونية العابرة للقارات، ونجحت أكثر في خلق عشرات الآلاف من الحسابات على مواقع التواصل الاجتماعي، تنشر من خلالها "فكرها" وإيديولوجيتها، وتقدم سبلا عملية "جذابة" لاستقطاب جمهور الشباب ودفعه لاعتناق ذات الفكر، في أفق توظيفهم أفرادا وجماعات، بساحات المواجهة والقتال، أو بخلفية الاحتفاظ بهم كـ"خلايا نائمة" يتم تحريكها عندما تسنح الظروف، أو يستجد من الأحداث ما يستدعي اللجوء إلى "خدماتهم".
لسنا بحاجة هنا إلى توصيف واقع الحال، واقع قدرة هذه "المجموعات" على استخدام وتوظيف التكنولوجيات المستجدة، بكل حواملها ورموزها وبرامجها، حتى في ظل "النفور الفكري" الذي تبديه بإزائها أو بإزاء الجهات "الكافرة" الثاوية خلف تصميمها وتصنيعها؛ بيد أننا لا يمكن أن نغفل حقيقة إعمالها وترجمة وظائفها بهذه المنطقة من العالم أو تلك. لقد تابعنا كيف عمد تنظيم داعش، بالعراق وبسوريا تحديدا، إلى مصادرة وتدمير الصحون اللاقطة للفضائيات، وكيف مارس التضييق على مزودي ومرتادي شبكة الإنترنيت، لكنه لم يعدم الوسيلة لفسحها أمام "الآخرين"، بغرض استمالتهم واستقطابهم، وإن بالتدريج المرتكز على الحيطة والحذر.
إن التنظيمات المتطرفة، من قبيل تنظيم داعش مثلا، لا تلجأ لذات السلوك ولا تركب ناصية ذات الممارسة من باب نزوع ما من لدنها للتضييق على الحريات، أو الحيلولة دون تواصل الأفراد والجماعات، بقدر ما تلجأ له على خلفية من الادعاء بأنه "مفسدة للأخلاق" و"تدميرا لقيم الحق" واستهدافا "لحضارة السلف الصالح"، ناهيك عن كونه صنيعة "الكفار أعداء الدين" ومنتوج "الصليبيين" الذين يحاربون الإسلام.
التكنولوجيا هنا ليست أداة محايدة، ولا هي بالمستقلة عما سواها من روافد. إنها ملازمة لمنظومة قائمة، لا تناصبها هذه الحركات العداء من منطلق ديني صرف، بل من زاوية الاعتبارات الحضارية والثقافية والنفسية. بالتالي فإن قبولها بها لا يخرج عن سياق ما يسمى "انتزاع السم بالسم"؛ أي توظيف الأداة التقنية حتى وإن كانت إفرازا لمنظومة أو نتاج ثقافة وحضارة لا "تستقيمان".
يذهب التحليل هنا إلى الادعاء النقيض بأنه حتى وإن ثبت أن التقنية "مفسدة" للعامة، فلا ضرر من توظيفها وركوب ناصيتها لخدمة "القضية"، والترويج لمفاصلها، وإشاعة بريقها هنا أو هناك. إذ الوسيلة، في قارية الغاية، هي المبتغى، هي المستلطفة، حتى وإن كانت مذمومة من وجهة نظر قيمية محضة.
التطرف هنا لا يجد مرده في التكنولوجيا. إنه يجده في الأفكار وفي الأذهان، وهذا يعني أن توظيف تكنولوجيا ما لضرب منشأة أو لتدمير موقع أو لتخريب منظومة هو مسألة منفصلة عن التكنولوجيا في حد ذاتها. إنها مرتبطة بالمحصلة النهائية بطبيعة التفكير (وبالإيديولوجيا إلى حد بعيد) الذي تمكن من ذات التكنولوجيا وعمد إلى تطويعها، لتصبح أداة تخريب وتدمير.
وعلى هذا الأساس، فإن المدخل القمين بمواجهة تطرف هذه الحركات وغلوها، إنما يمر عبر تقويض ذات المنظومة في بنيتها وبنيانها، وزعزعة خلفياتها وتعرية نمط تفكيرها وتمثلها لذواتها وللآخرين. لذلك، فإن مواجهتها، إنما يجب أن تتم من بين ظهراني معاقلها المفضلة:
+ بالمساجد والبيوت، ثم بالمدارس وبنوادي الشباب، حتى وإن بات العمل على هذه الواجهة غير ذي مفعول معتبر، بحكم تحكم بعض من الحركات إياها فيما يروج من خطاب داخل هذه الفضاءات، وتعثر السياسات العمومية في مراقبة هذه الأخيرة.
+ ولكن أيضا وبالتحديد على مستوى الفضائيات وبشبكات الإعلام الاجتماعي، حيث تتجدر هذه التيارات وتجد المجال فسيحا لبث خطابها ومنظومتها، لا بل وأدواتها العملية لاستقطاب الجماهير واستجلابها.
لقد أشرنا، في دراسات عدة سابقة، إلى حقيقة أننا إنما بتنا بإزاء منظومة "فكرية وعقدية" لا ينحصر مداها أو يقف مفعولها على رافد من هذه الروافد، دون الأخرى. إنها تلجأ إليها مجتمعة إيمانا منها بأن المسألة تكاملية، وأن ما يصعب بلوغه بالمساجد قد يمكن تداركه بالمدارس والجامعات، وما يتعذر النفاذ إليه في البيوت، يهون الوصول إليه في نوادي الشباب، حيث يسهل الاستقطاب، ويرتفع منسوب القابلية على الانجراف بهذا الشكل أو ذاك.
بامتداد لذلك، نلاحظ أن العديد من الفضائيات العربية والإسلامية تتماهى مع هذه المنظومة، فتمرر لها من على استوديوهاتها بطريقة ناعمة، غير محسوسة، ولا تعترض إلا فيما ندر على طبيعة خطابها؛ أي عندما يتجاوز أو يبلغ مبلغ العنف أو التكفير. بالآن ذاته، تكاد العديد من مواقع شبكة الإنترنيت أن تنحو المنحى ذاته، لكن دونما أن تصل المسألة لحد الإشادة بالقتل أو تبني العنف بصورة مباشرة أو مقصودة. بالحالتين معا، يبقى الغلو والتطرف في الفكر ثابتا، حتى وإن اختلفت درجات إعماله على أرض الواقع.
ولذلك، فإن التساؤل في سبل مواجهة هذه المنظومة، إنما يجب أن يروم التساؤل في قدرة ونجاعة الخطاب الديني على محاربة مظاهر التطرف، ليس فقط من خلال تقويض بنيان خطاب التيارات إياها، بل أيضا من خلال الترويج والإلحاح في الترويج لسماحة الإسلام ووسطيته وقيمه، وتبرؤ المسلمين من فكر هذه الجماعات ومن سلوكها في الزمن والمكان.
إن التطرف يبدأ بالفكر وبأدمغة الناس، ثم يسري ويتدرج في أفق استباحة منظومات قيمهم، ثم يتطور ليتحول إلى رفض للآخر، ثم إلى إخراجه من الملة وتكفيره، ثم إلى استباحة دمه وعرضه، ثم إلى إفساد الضرع والزرع جملة وتفصيلا. لذلك، وجب فهم آليات اشتغاله قبل العمل على مواجهته بأرض الواقع وعلى مستوى الإعلام...التكنولوجيا هنا ساحة حرب واسعة بين يدي الطرفين...الغلبة فيها لمن يحسن الاستعمال في المكان المناسب وفي الزمن المناسب...