تكوين العقل العلماني العربي فرح أنطون نموذجًا

فئة :  مقالات

تكوين العقل العلماني العربي فرح أنطون نموذجًا

تكوين العقل العلماني العربي

فرح أنطون نموذجًا

السياق النهضوي

هناك علاقة جدلية بين نشأة الفكر العربي الحديث النهضوي وإطلاق مشروع الإصلاح والتحديث، أقصد ما قامت به سلاطين الإمبراطورية العثمانية في عام 1839 و1856 من إصلاحات وما قام محمد علي باشا وابنه إبراهيم باشا من إصلاحات في مصر، ولا ننسى إصلاحات أحمد باي في تونس، والأمير بشير الثاني في لبنان، وكل هذه الإصلاحات كانت تصب في بوتقة واحدة هي بناء الدولة الحديثة من جهة، وبناء جيش قوي من جهة أخرى. وليس غريبا أن يتساوق الخطاب العربي النهضوي ويتناغم مع مشاريع التحديث في مصر والشام والمغرب، ومن الطبيعي أن يظهر في هكذا أجواء مفكرون يكون شغلهم الشاغل النهضة والتقدم، نذكر من هؤلاء - الذين ولدوا وترعرعوا في ظل إصلاحات الدولة العلوية في الثلث الأول من القرن التاسع عشر - رفاعة الطهطاوي الذي أنتج خطابا نهضويا بأفق ليبرالي واضح، وإن كان ملفوفا في بطانية تراثية/سلفية، لكنه خطاب منفتح على فلسفة العصر وعلوم العصر، خطاب يقوم على قاعدتين:

الأولى: أنه لا تعارض بين رسالة الإسلام الحضارية والتمدن الأوروبي.

الثانية: أن المبادئ الليبرالية، هي نفسها المبادئ التي كان يدعو إليها الفكر الإسلامي الكلاسيكي، مثل الحرية والعدل والمساواة وحب الوطن.

وبالإضافة إلى ذلك، بعض المفاهيم الليبرالية هناك ما يقابلها في القاموس السياسي التراثي، فالمنافع هي المصالح والشورى هي الديمقراطية، والتنظيمات هي الإصلاح السياسي.

كما ظهر في تونس سياسي ومفكر نهضوي آخر هو خير الدين التونسي الذي تَمَّيز عن غيره من مفكري النهضة العربية، بأنه جمع بين الممارسة السياسية من موقع المسؤولية، وبين التفكير السياسي في قضايا الإصلاح والتحديث. وبعبارة أخرى، كان يجمع في شخصه بين رجل الدولة ورجل الفكر. ولهذا، كان جهده منصبًّا على الإصلاح السياسي من جهة، وعلى التفكير في النهضة والتقدم من جهة أخرى؛ لأنه عايش التأخر التاريخي هنا، وشاهد بأم عينيه التقدم الحضاري هناك.

وفي المؤلَّـف الوحيـد الذي تركـه لنـا خير الدين التونسي هو "أقوم المسالك في معرفة أحوال الممالك" وفي مقدمة هذا الكتاب يتساءل عن أسباب قوَّة المجتمعات وتمدّنهـا، ويتساءل بنوع خاص عن دور الدولة في المجتمع. وانطلاقا من تلك الأسئلة، حاول تحليل تلك المجتمعات الأشد قوة وأكثر تمدّنـا في العالم الحديث، وحاول أن يثبت أنَّ السبيل الوحيد في العصر الحاضر لتقويَّة الدول الإسلاميَّة، إنَّما هو في اقتباس الأفكار والمؤسسات عن أوروبا وإقناع المسلمين المحافظين بأنَّ ذلك ليس مخالفا للشريعة، بل منسجم مع روحها. هكذا وضع خير الدين التونسيّ منذ البداية الخطوط العريضة لمشروعه النهضوي، وهي بكل تأكيد خطوط ليبرالية واضحة المعالم، فهو يريد معرفة أسباب تقدم الأمم الأوروبيَّة، ودور الدولة في قوة وتمدن المجتمعات، كما يحدّد خارطة الطريق للوصول إلى هذا الهدف، والتي تتمثل أساسا في الأخذ والاقتباس من أفكار ومبادئ ومؤسسات أوروبا، خاصة على المستوى السياسي. والحقيقة أن السياسة أخذت قسطا وافرا من اهتمامات المفكرين النهضويين، سواء في المغرب أو في المشرق العربي، وسواء في خطاب الإصلاحية العربية وفي الخطاب الليبرالي، وهذا ما كان بارزا أكثر في بدايات التكوين للخطاب السياسي العربي، الذي أعار إشكالية الدولة والدين اهتماما بالغا.

بدايات التكوين

في الربع الأخير من القرن التاسع عشر، تشكلت الملامح الكبرى لخطاب علماني عربي، باعتباره جزءا لا يتجزأ ضمن التركيبة العامة للفكر السياسي العربي النهضوي، خطاب علماني وضع خطوطه الرئيسة، مجموعة من الكتاب المسيحيين العرب، خاصة أولئك الذين هاجروا قسرا من سوريا ولبنان، وفضلوا الاستقرار في مصر، هربًا من الاضطهاد العثماني المضاعف، الذي ليس فقط مارس تمييزًا عرقيًا ضدهم بحكم أنهم عرب، ولكن مارس أيضا تمييزا دينيا ضدهم بوصفهم مسيحيين. وبالفعل كان الاضطهاد العثماني أحد الأسباب البارزة التي ساهمت في نثر بذرة الفكرة العلمانية في المنطقة العربية وخاصة في أرض الكنانة. والحقيقة التي لا مراء فيها، أن الخلافة العثمانية السنية كانت تمارس سياسة تمييز ضد الأقليات المسيحية وضد الطوائف الأخرى؛ وذلك من خلال قوانين وإجراءات تؤكد كلها أنهم رعايا من الدرجة الثالثة والرابعة؛ أي إنهم أهل ذمة. وبالإضافة إلى ذلك، كانت هناك ثقافة فقهية، لاهوتية مهيمنة ومتحكمة في كافة مفاصل المجتمع، كانت هذه الثقافة هي التي تحدد رؤية العالم (la vision du monde) وبالتالي تنتج سلوكا معينا للتعامل مع التاريخ ومع الذات ومع الآخر؛ أي إن المجتمعات العربية في ذلك الوقت كانت تنظر إلى الذات وإلى العالم بمنظار الفكر الديني التقليدي الذي يغلب عليه طابع الخرافة والأسطورة؛ أي إن النظام المعرفي الإبستيمي الذي كان سائدا في تلك الحقبة –وما يزال إلى يوم الناس هذا - كان كله لاهوتيا، وبالتالي كان من الضروري ظهور فكر آخر علماني يقدم رؤية جديدة لله والطبيعة والإنسان. هنالك عامل آخر ساهم في تهيئة الأرضية في نشوء التيار العلماني هو المناخ الليبرالي في مصر، والذي تشكل على مراحل منذ الحملة الفرنسية على مصر عام 1798، رغم أن هذه الحملة دشنت بداية حقبة الاختراق الأوروبي للمنطقة، لكنها كانت الضربة الأولى في جدار الثقافة اللاهوتية السَميّك وفي سور السياج الدوغماتي. ما نقصد إليه أن الفكرة العلمانية في دنيا العرب، لم تولد من عدم، بل خرجت من رحم تحولات الفكر والسياسة التي شهدتها المنطقة طيلة عقود من الزمن، كما أن النخبة التي تبنت الفكرة كانت على وعي بالتحديات الداخلية والتهديدات الخارجية التي كانت تقض مضاجع العرب، في تلك الحقبة الدقيقة من التاريخ. وقبل الغوص في تفاصيل الخطاب العلماني عند فرح أنطون، لا بد من التذكير أن هذا النوع من الفكر الجديد بشر به في البداية المثقف العربي المسيحي، ممثلا في بطرس البستاني والمثقف العربي المسلم ممثلا في أحمد لطفي السيد. ومن المعروف أن الفكرة العلمانية تقوم على فرضية أساسية هي الفصل بين الزمني والروحي.

الديني والسياسي...خطان لا يلتقيان

وهكذا، فإن قضية فصل الدين عن الدولة واستقلال الشأن الديني عن الشأن السياسي، كانت هي الهاجس الأساسي عند المفكر العربي اللبناني فرح أنطون وعند جيل من المثقفين المسيحيين العرب الذين تأثروا بالفكر الليبرالي الأوروبي وبالفلسفة الوضعية الفرنسية والثورات العلمية والنظريات الكبرى التي تشكلت عناصرها الكبرى في نهاية القرن التاسع عشر(الداروينية، الفرويدية، الماركسية) في النصف الثاني من القرن التاسع عشر؛ وذلك في سياق تاريخي تميز بالفتنة الطائفية في الشام، وبالاضطهاد العثماني للمسيحيين العرب؛ وذلك من منظور أن هذا الفصل شرط ضروري للنهضة العربية، فلا نهضة ولا تقدم إلا بتحديد دائرة الدين المفصولة تماما عن دائرة السياسية والدولة، وهذا الفصل سوف يسمح للمجتمعات العربية فك الارتباط مع ثقافة العصور الوسطى، ومن ثمة الدخول في عصر العلم والعقل والحرية، وقد دافع فرح أنطون عن فكرة العلمانية دفاعا مستميتا، بكافة الوسائل المتاحة لديه وقتذاك، بما في ذلك الكتابة في الصحف والمجلات، وبتأليف كتاب عن ابن رشد فيلسوف العقل والدخول في مناظرة مع الشيخ محمد عبده في موضوع الدين والسياسة والعلم أو بالكتابة القصصية، وبالكلام عن العلمانية، الدولة، الدين، النهضة، العلم، العقل، الإسلام والمسيحية.

مما لا شك فيه أن مسألة الفصل بين الدولة والدين في الفكر العربي الحديث ارتبطت بصورة واضحة بالأديب والصحفي والمفكر اللبناني فرح أنطون (1874-1922) كما ارتبط بها هو كذلك، بالدعوة إليها والدفاع فيها والنضال من أجل بيان جدواها وصلاحيتها للواقع العربي، بوصفها الدواء الناجع والترياق المناسب لأمراض الشرق السياسية ومعضلاته الطائفية..

وبناء عليه، يمكن القول، إن فرح أنطونهو أول من توضح عنده الخطاب العلماني في الفكر العربي إلى درجة أن وصفه البعض بأنه من طلائع العلمانية ومن رواد التنوير في العالم العربي، ولقد كان بالفعل نموذج المثقف الذي يناضل بلا هوادة من أجل نشر الأفكار التي كان يعتقد اعتقادًا جازما بأنها من أسس التقدم. كما لا يخفى على الباحثين في تاريخ الفكر العربي الحديث، أن فكرة فصل الدين عن الدولة واستقلال دائرة الدين عن دائرة السياسة عند فرح أنطون لم تكن وحيا جاءه من السماء، بل إنها نتاج عدة عوامل كانت لها أسباب نزول؛ منها تكوينه الدراسي الجيد وكثرة اطلاعه على الفلسفات والآداب والفنون العربية والعالمية، وتنوع قراءاته لرموز الفكر والفلسفة في أوروبا، من جان جاك روسو إلى إرنست رينان وأعلام الأدب العالمي من شكسبير إلى تولستوي. كما أن هناك عاملا ساهم في تكوينه العلماني هو إكثاره من السفر والترحال بين لبنان ومصر[1] وأمريكا. ولسنا في حاجة للقول بأن فرح أنطون قد لاحظ بأم عينيه في أمريكا تعايش الديانات والعيش المشترك بين الجماعات الدينية وتسامح الطوائف بسبب المناخ العلماني/الديمقراطي والأجواء الليبرالية حيث حرية الاعتقاد وعدم الاعتقاد. كما يجب لفت الانتباه إلى أن فرح أنطون كان ينتمي إلى الطائفة المسيحية، والجدير بالذكر أن هذه الطائفة كانت الأكثر تعرضا للاضطهاد والإقصاء والتهميش في ظل الخلافة السنية العثمانية. هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى كانت هذه الطائفة هي التي تميزت بالاحتكاك بالثقافة الأوروبية وبالتواصل مع الحضارة الغربية عن طريق جسر الإرساليات الدينية ومن خلال قناة حملات التبشير. كل ذلك علينا أن نأخذه في الحسبان، ونحن بصدد عرض وتحليل الخطاب العلماني عند فرح أنطوان، وهو خطاب نضعه في خانة العقلانية والتنوير، وهي الروح التي تميز بها الخطاب النهضوي العربي في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين؛ إذ كان الهاجس الأكبر هو هاجس التقدم والرقي والتمدن؛ لأن صيغة الاستفهام كانت واحدة عند الجميع هي: كيف نتقدم؟ وعند فرح أنطون أخذت هذه الصيغة: كيف نبني دولة علمانية ديمقراطية حديثة؟ ولهذا كان أنطون يعتقد أن أسس التقدم تكمن ليس في تكريس الارتباط بين الدين والدولة، ولكن بالفصل بينهما، وليس بالدعوة إلى الجامعة الإسلامية، ولكن بالتأكيد على الروابط الوطنية، وليس التشبث بالدين، وإنما الأخذ بالعلم، وليس التفكير اللاهوتي والتعبير بالعواطف الدينية والمشاعر الطائفية والأحاسيس العصبوية، بل التفكير العقلاني والرؤية العلمية والنزعة النقدية.[2] كانت شروط النهضة عنده واضحة ومحددة في العلم والعقل والعلمانية وحتى في الاشتراكية التي لم تكن معالمها واضحة لديه، ولم يعرفها المعرفة الكافية، ورغم ذلك اعتبر فرح أنطونالاشتراكية دين الإنسانية[3]. ولا نجانب الصواب إذا قلنا إن دفاع فرح أنطوندفاعا مستميتًا عن أسس التقدم التي كان يراها مجسدة في مبادئ العلم والعقل والتسامح والعدالة والحرية، وهي مبادئ كونية إنسانية لا يمكن أن ترى النور على أرض الواقع بدون مبدأ أساسي هو مبدأ الفصل بين الدين والسياسة أولا، وبين الدين والدولة ثانيا؛ أي استقلال الشأن السياسي عن الشأن الديني.

كان أنطون نموذج المثقف العضوي بالمفهوم الذي اعطاه غرامشي للمثقف؛ أي المثقف الذي يناضل من أجل نشر المبادئ والقيم والأفكار التي يعتقد أنها هي القطار السريع الذي يقود إلى بناء الدولة الحديثة والمجتمع الحديث على غرار ما حدث في أوروبا الغربية في الأزمنة الحديثة، من ثورات سياسية واجتماعية قطعت تماما ونهائيا مع النظم السياسية والاجتماعية القروسطية التي كان يسيطر عليها النظام المعرفي اللاهوتي. ولهذا كانت الكتابة والنشر، قد أخذت عنده صبغة نضالية، فاستخدم كل وسائل التعبير وطرائق الاتصال المتاحة وقتذاك من صحافة وأدب ومناظرة وحوار وترجمة، للدعوة إلى مبادئ الحداثة والتذكير بشروط النهضة والتبشير بالقيم العلمانية والتفكير العلمي. وكما هو متداول عند بعض الباحثين، كانت أفكار أنطونوكتاباته سببًا في تشكل وتأسيس ما سوف يعرف لاحقًا في تاريخ الفكر العربي الحديث والمعاصر، بالتيار العلماني الذي ينطلق من أولية أساسية هي أن الدولة تقف على مسافة واحدة من جميع الأديان والمعتقدات، وعبارة أخرى أكثر وضوحا الدولة ليست ملكا لطائفة من الطوائف أو لتيار إيديولوجي، بل هي ملك للجميع دون استثناء، هي ملك لجميع الجماعات والطوائف والعصبويات التي يتركب منها المجتمع، سواء أكانت تشكل الأكثرية أم الأقلية. في مقابل خطاب سياسي إيديولوجي إسلامي ظهر في أعقاب خطاب الإصلاحية، هذا الخطاب الإحيائي لا يرى بديلا عن أطروحة الجمع بين الدولة والدين، وبالتالي الإسلام دين ودولة[4].

من الواضح أن أنطونخط لنفسه اتجاها سار فيه من البداية إلى النهاية، وبالتالي كان يعرف ما يريد وما لا يريد، كما كانت المفاهيم والتصورات المتصلة بالنهضة والتقدم واضحة ومحددة لديه، ولهذا جاء خطابه الفكري متماسكًا من الناحية المنطقية وسلسًا من الناحية اللغوية. وفي هذا الصدد، يرى أحد الباحثين أن فرح أنطون "...استطاع أن ينشئ في الثقافة العربية المعاصرة مقالة تتمتع بامتياز صفاء الرؤية ووضوح القصد وسلاسة الترسل، كما تمتاز بلغة غير معهودة في متون القرن التاسع عشر، ومن تعود قراءة نصوص الأفغاني ومحمد عبده وقبلهما الطهطاوي وخير الدين التونسي، سيدرك الفوارق الكبيرة بين لغات هؤلاء الذين ذكرنا ولغة فرح أنطون، سواء في مستوى الشكل أو البنية أو في مستوى المحتوى والحمولة الفكرية ومنطق التحليل والبرهنة والإثبات..."[5].

الحوار...التسامح...والاختلاف

وبالفعل كانت لغته واضحة وأفكاره محددة وازدادت وضوحًا، وصارت أكثر تحديدًا من خلال المناظرة الشهيرة بين فرح أنطون والشيخ محمد عبده على صفحات مجلتي "الجامعة" و"المنار". وقصة المناظرة بدأت عندما نشر أنطون سلسلة مقالات عن فيلسوف قرطبة أبو الوليد بن رشد في مجلة "الجامعة" وتحدث فيها عن الاضطهاد الديني في التاريخ الإسلامي، وعندما قرأ الشيخ محمد رشيد رضا (1865-1935) هذه المقالات رأى فيها أفكارًا تغريبية، هدامة تمس العقيدة الإسلامية في الصميم، وأقنع الشيخ محمد عبده بالرد على هذه الأفكار، ودحض هذه الآراء التي تنظر إلى الإسلام باعتباره دينا يتعارض مع العلم والعقل. والجدير بالذكر أن فرح أنطون جمع هذه المقالات في كتاب بعنوان "ابن رشد وفلسفته". أما الشيخ محمد عبده، فقد جمع ردوده في كتاب أسماه "الإسلام والنصرانية بين العلم والمدنية". وقد حدثت المناظرة عام 1902؛ أي في بداية القرن العشرين، وعكست المستوى الراقي للخطاب النهضوي وقدرته على قبول الآخر، واحترامه للتعدد والاختلاف كما شكلت هذه المناظرة مرجعية في مستوى النقاش الفكري والسجال الإيديولوجي، كما كان هذا الحوار الفكري بداية ظهور خطين متوازيين في الفكر العربي، خط باتجاه إشارة أن الإسلام دين ودولة، وخط باتجاه معاكس يرى أصحابه، أن لا سياسة في الدين ولا دين في السياسة. وغني عن البيان القول، إنه في هذا السجال الفكري برزت بوضوح، أفكار ومفاهيم وتصورات كلا الطرفين فيما يتعلق بالدولة والدين والتاريخ وأوروبا...إلخ. وفي هذا الحوار، كانت المجابهة بين إرهاصات فكر علماني عربي، وبين فكر ديني إصلاحي يتميز بقدر كبير من الاستنارة والتسامح والاعتدال.

وكانت أوروبا القرن الثامن عشر وفلسفة الأنوار والتراث العقلاني العربي الإسلامي والتقدم العلمي في القرن التاسع عشر، هي مرجعيات فرح أنطون في هذه المجابهة الفكرية كما أن التاريخ الإسلامي والحضارة العربية الإسلامية والدين الإسلامي في حد ذاته، هي مرجعيات الشيخ محمد عبده. وبطبيعة الحال، اختلاف التصورات والإيديولوجية هو نتاج اختلاف المرجعيات. كان موضوع المناظرة يدور حول مسألة الاضطهاد في التاريخ الإسلامي والتاريخ المسيحي، حيث تناول فرح أنطون الاضطهاد الذي تعرض له ابن رشد واعتبره نموذجًا للاضطهاد الديني في التاريخ الإسلامي، وبناء عليه دعا إلى فك الارتباط بين العلم والدين؛ لأن لكل منهما حقله الخاص؛ فلا علم في الدين ولا دين في العلم؛ وذلك لاختلاف المنهج، فالمنهج في العلم تجريبي والمنهج في الدين إيماني، وانطلاقا من هذا المبدأ انتقل أنطون إلى مبدأ أساسي عنده هو فصل السلطة الدينية عن السلطة السياسية؛ لأن الجمع بينهما يؤدي إلى إضعاف الأمة[6]. أما الشيخ محمد عبده، في هذه المواجهة الفكرية، فرأى أن السلطة في الإسلام سلطة مدنية، وإن كانت مربوطة بالسلطة الدينية، وهذا بالنظر إلى وجود الشريعة، ثم إن الحاكم في التاريخ الإسلامي كان حاكمًا وخليفة في نفس الوقت؛ أي كان يجمع بين الخلافة والسلطنة[7]. أما بالنسبة إلى الاضطهاد الديني، فيرى الشيخ أن تاريخ المسيحية تاريخ دموي من الكاثوليكية إلى البروستانتية وفي هذه النقطة يقول: ".. إن الإصلاح البروتستانتي لم يكن أكثر تساهلاً من الكنيسة الرومانية، فإن كالفن أمر بإحراق سيزفيت في جنيف وأحرق فايتي في تولوز سنة 1629 وكان لوثر أشد الناس إنكارًا على من ينظر إلى فلسفة أرسطو، وكان يلقب هذا الفيلسوف بالخنزير الدنس الكذاب، بينما كان علماء المسلمين يلقبون هذا الفيلسوف بالمعلم الأول"[8] بعد ذلك يقدم عبده صورة مشرقة للتاريخ الإسلامي، حيث يقول: "...لن نسمع بقتال بين السلفيين والأشاعرة والمعتزلة مع شدة التباين بين عقائدهم...نعم، سمع بحروب الخوارج، كما وقع مع القرامطة وغيرهم وهذه الحروب لم يكن مثيرها الخلاف في العقائد، وإنما أشعلتها الآراء السياسية في طريقة حكم الأمة"[9]. وفي رد هذه المقولات، يتساءل أنطون عن الدافع وراء رصد هذه الوقائع ويضيف: "...هل غرضه أن يثبت أن الإكليروس المسيحي قد أخطأ فيما مضى من الزمن في فهم الكتب المسيحية وتأويلها ولذلك صبغ تاريخه بالدم وحشاه بالصغائر؟ إذا كان هذا هو غرض الأستاذ، فنحن معه؛ لأن هذا الأمر حقيقة لا شك فيها..."[10]، ثم يعود أنطون إلى كلام الشيخ عن تقاتل المسلمين وعن نفيه القتال من أجل الاعتقاد، وتأكيده أن الحروب سببها سياسي، حيث يقول من أجل الاعتقاد وتأكيده، بأن الحروب سببها سياسي، حيث يقول: "...نحن نستحسن قول الأستاذ هذا، كل الاستحسان ..وهو رأينا أيضا، ولكن لا نرى هذا الرأي في أمة دون أمة، بل نطلقه على جميع الأمم وعلى ذلك، فجميع ما حدث في العالم المسيحي باسم الدين من القتل والتمثيل كديوان التفتيش ومذبحة سان برتلماني وغيرها يكون مصدره السياسة أيضا والاختلاف على طريقة حكم الأمة والإنصاف يقتضي أن يحكم على جميع الناس حكم واحد ..".[11] يقصد أنطون بذلك أن المفاضلة بين تاريخ الأديان مسألة عبثية، بينما المطلوب هو تبني الفصل بين السلطتين المدنية والدينية. أما إذا دخلنا في جدلية أي الديانات أفضل، فلن نخرج بنتيجة؛ لأن كل الديانات متساوية عنده، فلا يوجد دين أفضل من دين؛ لأن كل مؤمن بعقيدة ما يرى أن عقيدته أحسن من كل العقائد الأخرى. وهنا يحاول أن يثبت أن كل الديانات تشترك في نفس المبادئ، وإن كانت تختلف في الطقوس والشرائع، ومن هذه الزاوية كل الديانات تدعو إلى الفضيلة ومكارم الأخلاق، لكن من الطبيعي أن تختلف طقوس العبادة والمطلوب هو أن نعامل الناس نفس المعاملة، وأن تكون لهم نفس الحقوق والواجبات وفي نهاية المطاف الإنسان حر و".. له الحق في أن يعتقد ما يشاء وهو كذلك له الحرية وله الحق في أن لا يعتقد في شيء..."[12]. وفي نفس السياق، سياق حرية الاعتقاد أو عدم الاعتقاد، يرى أنطون أن كل الديانات تتميز بسمة عدم التسامح، حيث يقول: "...وهنا نصل إلى جحود الأديان، فهل تطيق الأديان أن تصبر على أحد يجحدها، نحن نعلم أن كل الأديان لا تطيق على وجه الإطلاق وإذا أطاقته اليوم فما ذلك، إلا لأنها أصبحت تقدم الشرع المدني على الشرع الديني، فالمسلمون يسمون جاحدي الأديان (زنادقة)، وهم يوجبون قتلهم والمسيحيون يسمون هؤلاء "كفرة" وهم يوجبون استئصالهم من بين الناس. ولذلك قتل الإكليروس المسيحي منكري الأديان في زمن ديوان التفتيش في إسبانيا وقتل المنصور الزنادقة..."[13].

ويواصل فرح أنطون ردوده على مفتي الديار المصرية فيما يتعلق بمقولة التاريخ الأسود للمسيحية والتاريخ الأبيض للإسلام، حيث يرى في هذا الصدد أن كل الديانات لديها تاريخ فيه الأبيض والأسود بما في ذلك الإسلام والمسيحية، كما أن القتل كان في كل مكان وزمان، وهنا يقول أنطون: "...ولكن من التناقض الغريب أن الأستاذ حلل هذا القتل والتمثيل في الإسلام وحرمه في المسيحية على يد ديوان التفتيش فهل الفضيلة أو الرذيلة تتغير أو تتبدل بتغير الزمان والمكان أم تكون فضيلة او رذيلة في كل زمان ومكان"[14]. واللافت للانتباه في حجج أنطون أنه يستند على مبادئ العقل والعلم والتسامح والمستقبل، حيث يذكر بأهمية العلم وتحريمه للقتل والتمثيل وفي هذا المبدأ يقول: "...أما العلم فإنه يحرم الأمرين معا ...فهو يقول لقاتلي الزنادقة في الإسلام وقاتليهم في المسيحية أنكم كلكم مخطئون في قتل من تسمونهم زنادقة، وأن كل هؤلاء قد أخطأوا خطأ ما بعده خطأ ذلك أن الحياة التي منحها الله للبشر لا يجوز لإنسان أن يسلبهم إياها بأية حجة كانت وبأي سبب كان، وهنا يحدث أيضا الانفصال بين العلم والدين؛ لأن العلم يدافع عن حق الإنسان المجرد كل دفاع، والدين لا يطيق التساهل إلى ذلك الحد خوفا على نفسه .."[15]. ولا يتوقف السجال الفكري عند هذا الحد، بل إنه يتجاوز بعض الخطوط الحمراء، حيث يواصل مفتي الديار المصرية وقتذاك تبرئة ساحة الإسلام من كل التهم المنسوبة إليه ولا يكتفي بذلك، بل ويلقي بالتهم على الطرف الآخر. وبناءً عليه الإسلام دين العقل والعلم، بينما المسيحية دين يتأسس على الخزعبلات والكرامات واللامعقول[16]. وعند هذه الفكرة وهي تهمة في الحقيقة، يتوقف صاحب مجلة الجامعة ليطرح سؤالا بسيطا عن مفهوم الدين، ويجيب عنه قائلا إن الدين "....هو الإيمان بخالق غير منظور وآخرة غير منظورة ووحي ونبوءة ومعجزات وبعث وحشر وثواب وعقاب وكلها غير محسوسة وغير معقولة ولا دليل عليها غير ما جاء في الكتب المقدسة؛ فمن يريد فهم هذه الأمور بعقله ليقول إن دينه عقلي ينتهي إلى رفع هذا كله لا محالة ...".[17] ومن هذا المنطلق، يدعو المثقف العلماني محاوره الشيخ السلفي إلى خلع رداء التحزب الديني ولبس رداء الإنسانية، فالفتن الطائفية هي نتاج التعصب الديني، ثم إنه لا أحد يملك الحقيقة، فالوحيد الذي يملك الحقيقة المطلقة هو الله سبحانه وتعالى، بالإضافة إلى أن كل الديانات مستمدة من الله.[18] هذا من جانب ومن جانب آخر، يتوقف رائد التنوير عند بعض المفاهيم والمقولات التي لا يجد بعض المؤرخين حرجا في ترديدها، والتي تبناها مفتي الديار المصرية، ومن أبرز هذه المقولات مقولة "الإسلام استعجم وانقلب عجميا بسبب دخول الفرس والترك في الإسلام" هذه المقولة التي سادت في نهاية القرن التاسع عشر وما زالت سائدة عند بعض المفكرين العرب، يرفضها فرح أنطون جملة وتفصيلا من منطلق أن "...جراثيم الفتن والانحلال كانت في تاريخ المسلمين قبل اتصالهم بالترك والفرس ..."[19] ولا يتوقف أنطون عند هذه الحجة، بل يقدم حجة أخرى، وهي أن "... ما أنقذ الإسلام وحفظه إلى اليوم إلا الترك والفرس، وحسب الفرس فضلا عن التمدن أنهم كانوا من أعظم العناصر الإنسانية اشتغالا بالعلم والفلسفة وابتداعا فيها باللغة العربية من فطاحل العلماء يساوي علماء العرب...".[20] رغم ما في هذا الكلام من مبالغة، إلا أن صاحبنا يرمي من خلاله إلى أن يكون موضوعيًا في أحكامه وأكثر تسامحًا مع من نختلف معهم في العرق أو في الدين. وكما هو ملاحظ في هذه المناظرة، استعمل أنطون مفاهيم ومقولات القرن الثامن عشر وعصر التنوير في أوروبا، وهذا يبين إلى أي مدى كان متأثرًا بهذا الإطار الزمكاني، وأظهر ذلك واضحًا من خلال دفاعه المستميت عن الحكم المدني وعن مبدأ التسامح وحرية الضمير وعن السعادة كهدف لكل أعمالنا؛ وذلك في إطار الاعتقاد بحتمية التقدم مع التركيز على الأسس الكبرى لليبرالية السياسية[21]. أما الشيخ محمد عبده، فواضح من هذه المناظرة وفي كتاباته الأخرى، أنه أراد أن يمارس المسلمون دينهم بشكل يتوافق مع الحداثة الأوروبية والتقدم العالمي، ويتواكب مع متطلبات العصر، ولكن وكما هو معروف فإن الشيخ المستنير كان يرغب في الإصلاح ويرفض الثورة؛ أي إن منهجه كان إصلاحيا على العكس من منهج أستاذه الأفغاني الذي كان ثوريًا[22] ولكن رغم ذلك، ورغم تركه للسياسة وتعوذه من فعل ساس ويسوس، إلا أنه لم يستطع التخلص من فكرة أستاذه الأساسية وفي الخطاب الإصلاحي كله، وهي فكرة الجامعة الإسلامية؛ أي الأمة القائمة على الرابطة الدينية والحقيقة أن فكرة الجامعة الإسلامية التي ألقاها جمال الدين الأفغاني (1839-1897) في المجال السياسي وعلى المستوى الفكري ساهمت في تقسيم الخطاب النهضوي العربي إلى قسمين...خطاب نهضوي إصلاحي يربط بين السياسة والدين وخطاب نهضوي ليبرالي يفصل بين السياسة والدين. ومن المعروف أن الأفغاني "....اختار إستراتيجية سياسية محضة؛ وذلك نظرًا للظرفية التاريخية كان خطاب الأفغاني يتجاوز السياسي الظرفي بكثير، فهو خطاب نهضوي. وما يشد الاهتمام في خطابه هو ربطه الدين بالسياسة ربطًا براغماتيًا قد أدى إلى نوع من التعالي بالسياسة...تحولت معه السياسة إلى عقيدة ...والاقتراح الذي قدمه للنهوض هو رجوع الأمة إلى قواعد دينها والأخذ بأحكامه...إنه مجرد توظيف سياسي للدين ولجوء الأفغاني إلى التوظيف السياسي للدين لمناهضة الغرب وابتعاده بل واستبعاده لفكرة الإصلاح الديني الثقافي الاجتماعي السياسي ...رفض هذا المنهج ...كل ذلك جعله ينظر إلى كل من كانوا يخالفونه الرأي في طريقة مناهضة الغرب ووسائل تحقيق النهضة لا بوصفهم خصوما سياسيين، وكفى بل بوصفهم خصوما للدين وأعداء للإسلام وعملاء للغرب. لقد ألبس جمال الدين رأيه السياسي لبوسا دينيًا، وطابق بين الدين والسياسة فصار الخصم السياسي خصما دينيا..."[23]. وهذا بالضبط ما كان يخشاه ويتخوف منه فرح أنطون، أن يتحول الدين إلى سلاح إيديولوجي فتاك وإلى أداة من أدوات الصراع السياسي، وبالتالي يصبح الدين ألعوبة يتلاعب بها هذا التيار أو ذاك وهذا ما حدث في الساحة العربية طيلة القرن العشرين وما بعده؛ فالتيارات والأحزاب السياسية التي استندت إلى مرجعية دينية، ووظفت مقولات دينية ألصقت في الصراع السياسي ضد الخصوم السياسيين تهم الكفر والإلحاد، وبالتالي يصبح دمهم حلالاً مستباحًا. وغني عن البيان القول، إن موضوع الدعوة إلى الجامعة الإسلامية كانت في حد ذاتها دعوة مثيرة لقلق الكثيرين، وخاصة في ظل إمبراطورية تتواجد فيها أقليات نصرانية ويهودية، وهي الدعوة التي أطلقها الأفغاني من أجل توحيد الأمة على أساس الرابطة الدينية، فهي في نظر فرح أنطون دعوة فاشلة؛ لأن ما يوحد الناس اليوم، هي الرابطة الوطنية، فالوطن وليس الدين هو الذي يوحد الجميع؛ لأن داخل الوطن قد يتواجد عدة طوائف دينية، وإذا أمسكت إحدى هذه الطوائف بالسلطة السياسية؛ فمن الطبيعي أن يقع تمييز ديني بين أفراد المجتمع في جميع المجالات، حتى لا نقول اضطهادا دينيا يقود حتما إلى أتون الحروب الأهلية والنزاعات الطائفية التي تأتي على الأخضر واليابس. أما ما اقترحه صاحب مجلة "الجامعة"، فهو دولة علمانية يشترك فيها جميع الأفراد من كافة الديانات والطوائف، تقوم على أساس المواطنة؛ أي الكل مواطنون لهم نفس الحقوق ونفس الواجبات[24]. ومن هذا المنطلق، دعا صاحبنا إلى الارتكاز في الدولة العلمانية على مبدأ التسامح – يسميه أنطون التساهل- ويؤكد أن الفصل بين السلطتين آلة هذا المبدأ ووسيلته بمعنى أن جميع الأديان متساوية والدولة العلمانية تقف على مسافة واحدة من الجميع، والضمان الوحيد لتحقيق المساواة بين الديانات والطوائف هو آلة وحيدة ووسيلة واحدة هي آلة ووسيلة الفصل بين السلطة الدينية والسلطة السياسية وفق مبدأ التسامح الذي يعرفه أنطون بأنه "... لا يجب على الإنسان أن يدين أخاه الإنسان؛ لأن الدين علاقة خصوصية بين الإنسان والله..."[25] معنى هذا الكلام أن الدين مسألة شخصية، فالله هو الوحيد الذي يعرف خائنة الأعين وما تخفي الصدور وهو الوحيد الذي يحاسبنا في الآخرة، يوم الحساب عن أفعالنا وأعمالنا، والأعمال بالنيات فلا أحد يعرف نوايا الأشخاص غير الله وما دام الدين مسألة شخصية، هذا يقودنا حتمًا إلى الحديث عن مسألة حرية الاعتقاد. وبعبارة أخرى، حرية الإنسان في أن يعتقد ما يشاء أو في أن لا يعتقد إطلاقا في أي شيء؛ فالأفراد داخل المجتمع العلماني أحرار في أن يؤمنوا أو لا يؤمنوا ولا دخل لأحد في اعتقاد الآخر، فالأفراد داخل هذا المجتمع والدولة مواطنون بغض النظر عن اعتقاداتهم لهم نفس الحقوق ونفس الواجبات، حتى لأولئك الأفراد الذين لا دين لهم.[26] وبناءً عليه، الدولة العلمانية هي الوحيدة التي تضمن الحقوق والحريات لجميع مواطنيها في نظر أنطون، والعلمانية عند أنطون لا تكتمل إلا بمبدأ الفصل بين السلطة الزمنية والسلطة الروحية، والتبرير الذي يقدمه للبرهنة على صحة موقفه هو الاختلاف في غاية السلطتين لدرجة التناقض فالدين يبتغي العبادة والفضيلة، وكل دين يدعي الحقيقة يطلب الانتماء إليه للخلاص، ثم إنه من الطبيعي إذا تمكنت السلطة الدينية من السلطة السياسية أن تقوم باضطهاد من يخالفها وخاصة العلماء والمفكرين ليس باعتبارهم خصوما سياسيين– كما سبق الذكر- بل باعتبارهم كفارا ومارقين عن الدين. أما غاية السياسة، فهي صيانة الحرية في إطار الدستور، ثم لا ننسى أن المجتمع الصالح يقوم على المساواة المطلقة بين جميع المواطنين بغض النظر عن التمايز العقائدي، بالإضافة إلى أن السلطة الدينية تشرع للآخرة والدين عموما يرى الخلاص في الآخرة من خلال الجنة والنار والحساب.[27] أما الحكومة المدنية، فهي تشرع للدنيا، وترى الخلاص في الدنيا من خلال تدبير الشأن العام وتوفير الخدمات للناس. وأخيرًا وليس آخرًا السلطة الدينية عندما تختلط بالسلطة السياسية، تصبح تحت رحمة العامة والغوغاء، قوتها في الحشد والتجييش وتدار بالعواطف الجياشة والانفعالات الحادة[28]. وهذا يؤدي إلى إضعاف حتى الدين نفسه ويعرضه لجميع أخطار الحياة السياسية، والطامة الكبرى أن الحكومات الدينية تؤدي إلى الحرب بين الدول والمجتمعات وإلى الاحتراب الداخلي، ورغم أن الدين الحق واحد لكن المصالح الدنيوية مختلفة وبالتالي، فالمصالح الدنيوية تتعارض مع بعضها البعض والحل هو الفصل بين الدين والدولة، بين الدين والسياسة بين السلطة الروحية والسلطة الزمنية وذلك لحماية المقدس من المدنس والغريب في الأمر أن فرح أنطون قد لخص هدفه الفكري العام في الإهداء الذي سجله في كتابه "ابن رشد وفلسفته" الذي وجهه إلى النبت الجديد في المشرق أي إلى "العقلاء من كل ملة وكل دين في الشرق الذين عرفوا مضار المزج بين الدين والدنيا في عصر كهذا العصر، فصاروا يطلبون وضع أديانهم جانبا في وضع مقدس محترم ليتمكنوا من الاتحاد اتحادا حقيقيًا ومجاراة تيار التمدن الأوروبي الجديد لمزاحمة أهله، وإلا جرفهم جميعا وجعلهم مسخرين لغيرهم .."[29]

و بهذه العبارات، التي كلها تحذير وتنبيه يحاول أنطون أن يذكر بأهمية الفصل بين الدين والسياسة، ولكن هذه الدعوة العلمانية كانت دعوة نخبوية ولم تكن هناك قوى اجتماعية تسندها، ولم تكن نتاج ثورة برجوازية ليبرالية ولا نتاج حروب دينية مدمرة، بل كانت صيحة في واد غير [30]ذي قرار، كما كانت النهضة فكرة نخبوية. والغريب في الأمر أنها ما زالت كذلك إلى غاية اليوم. أما العلمانية في أوروبا، فقد كانت نتيجة لمسار تاريخي طويل ومعقد، لعل أبرزه ما يسمى بالحروب الدينية، والصراع الدامي في الأول بين رجال ورجال العلم في بداية عصر النهضة في القرن الخامس عشر والسادس عشر، وفي مرحلة ثانية بين الكنيسة والدولة في القرنين السابع عشر والثامن عش، وجاءت بعد ثورات ثقافية وعلمية وسياسية وظهور طبقات اجتماعية جديدة هي الطبقة البرجوازية التي قامت على أنقاض الطبقة الإقطاعية، هذه الطبقة الجديدة قطعت نهائيًا مع الإقطاع وفكر القرون الوسطى. أما الدعوة إلى العلمانية في الفكر العربي الحديث، فقد جاءت في سياق مختلف تمامًا في مجتمعات لم تعرف تطورا اجتماعيا ولا ثورة علمية، ولا نهوضا ثقافيا ولا إصلاحا دينيا.

 

مصادر ومراجع

  1. فرح أنطون: ابن رشد وفلسفته مع نصوص المناظرة، تقديم طيب تيزيني دار الفارابي ط1 بيروت 1988
  2. محمد عبده: الإسلام والنصرانية بين العلم والمدنية المؤسسة الوطنية للكتاب الجزائر 1988
  3. محمد عابد الجابري: المشروع النهضوي العربي مراجعة نقدية. مركز دراسات الوحدة العربية ط2 بيروت2000
  4. كمال عبد اللطيف: إعادة بناء المجال السياسي في الفكر العربي مجلة عالم الفكر المجلد 29 العدد3 يناير مارس 2001
  5. حليم بركات: المجتمع العربي المعاصر مركز دراسات الوحدة العربية ط 1 بيروت 1984
  6. ألبرت حوراني: الفكر العربي في عصر النهضة، دار النهار للنشر، ط3، بيروت 1979

[1] ألبرت حوراني: الفكر العربي في عصر النهضة، دار النهار للنشر، ط3، بيروت 1979. ص 30

[2] المصدر نفسه، ص 308

[3] حليم بركات: المجتمع العربي المعاصر مركز دراسات الوحدة العربية ط 1 بيروت 1984 ص 413

[4] كمال عبد اللطيف: إعادة بناء المجال السياسي في الفكر العربي مجلة عالم الفكر المجلد 29 العدد3 يناير مارس 2001 ص 96

[5] المرجع نفسه، ص 95

[6] فرح أنطون: ابن رشد وفلسفته. دار الفارابي ط1 بيروت1988 ص 250

[7] محمد عبده: الإسلام والنصرانية بين العلم والمدنية المؤسسة الوطنية للكتاب الجزائر 1988 ص 50

[8] المصدر نفسه، ص ص 35 و36

[9] المصدر نفسه، ص ص 12 و13

[10] فرح أنطون: المصدر نفسه، ص 235

[11] المصدر نفسه، ص 277

[12] المصدر نفسه، ص 245

[13] فرح أنطون: المصدر نفسه، ص 245

[14] المصدر نفسه، ص 245

[15] المصدر نفسه، ص 245

[16] محمد عبده: المصدر نفسه، ص 20

[17] فرح أنطون: المصدر نفسه، ص 290

[18] المصدر نفسه، ص 290

[19] المصدر نفسه، ص 287

[20] المصدر نفسه، ص 287

[21] ألبرت حوراني: المرجع نفسه، ص 306

[22] محمد عابد الجابري: المشروع النهضوي العربي مراجعة نقدية.مركز دراسات الوحدة العربية ط2 بيروت2000 ص 76 و77

[23] المرجع نفسه، ص 73

[24] ألبرت حوراني: المرجع نفسه، ص 307

[25] فرح أنطون: المصدر نفسه، ص 243

[26] المصدر نفسه، ص 243

[27] المصدر نفسه، ص 250

[28] المصدر نفسه، ص 251

[29] المصدر نفسه، ص 41