تلقي علماء الكلام العثمانيين لآراء الشريف الجرجاني بين الاحتفاء والنقد
فئة : مقالات
الشريف الجرجاني الحنفي الأشعري (ت 816هـ) من العلماء القلائل الذين أثّروا في الحياة العلمية في عصورهم، وتواصل هذا التأثير من خلال مؤلفاته وشروحه وحواشيه التي شملت علومًا إسلامية متنوعة.
وقد لقيت كتب الجرجاني اهتمامًا خاًصا في الثقافة العثمانية عامة وفي تاريخ علم الكلام العثماني خاصة، وتجليات هذا الاهتمام كثيرة منها:
1- حضور كتب الجرجاني في البرامج التدريسية بالمدارس العثمانية، من ذلك مثلاً أنّ علاء الدين الطوسي الذي أكرمه السلطان مراد خان وأعطاه مدرسة أبيه السلطان محمد خان بمدينة بروسه كان يدرّس حواشي شرح العضد للسيد الشريف الجرجاني في المدرسة المذكورة1. ويخبرنا طاش كبرى زاده (ت 968هـ) أنّه قرأ على المولى محيي الدين محمد القونوي "شرح المواقف" للسيد الشريف من أول الإلهيات إلى مباحث النبوات قراءة تحقيق وإتقان، ثم قرأ على خاله حواشي شرح التجريد للسيد الشريف من أول الكتاب إلى مباحث الوجوب والإمكان قراءة تحقيق وإتقان، ثم قرأ على المولى محيي الدين الفناري "شرح المفتاح" للسيد الشريف من أول مباحث المسند إلى آخر مباحث الفصل والوصل، ثم قرأ على المولى محيي الدين محمد القوجوي2 "شرح المواقف" للسيد الشريف من أول الإلهيات إلى مباحث النبوات قراءة تحقيق وإتقان 3. ومن الأمثلة على دراسة العلماء العثمانيين كتب علم الكلام التي صنفها السيد الشريف أنّ فتح الله الشيرواني أتى بلاد الروم واستوطن بلدة قسطموني في أيام ولاية الأمير إسماعيل بك فدرس عليه المولى محمد النكساري4 (ت 901هـ).
2- تتلمذ عدد من العلماء العثمانيين على الجرجاني، من ذلك مثلاً المولى علاء الدين الرومي5 (ت 932هـ) الذي "حضر دروس العلامة التفتازاني والسيد الشريف الجرجاني وحضر مباحثتهما وحفظ منهما أسئلة كثيرة مع أجوبتها"6. ومنهم أيضًا علاء الدين القوجحصاري7 الذي ارتحل إلى بلاد العجم "وقرأ هناك على التفتازاني أو السيد الشريف ثم أتى إلى بلاد الروم وفوّض إليه تدريس بعض المدارس"8.
3- تأليف حواش على كتب الجرجاني الكلامية أو على بعض المباحث فيها على غرار المولى السيد علي العجمي9 (ت 860هـ) الذي روي أنّه قرأ على السيد الشريف ثم أتى بلاد الروم، وألّف حواشي على عدة كتب للجرجاني منها حواش على شرح المواقف للشريف الجرجاني10. ولابن المدّاس التوقاني تعليقات على "حواشي شرح التجريد" للسيد الشريف. ولإلياس بن إبراهيم السينابي حواش على شرح الشمسية للسيد الشريف وحواش على شرح المقاصد للتفتازاني11. ولفتح الله الشيرواني حاشية على إلهيات "شرح المواقف" وتعليقات على أوائل "شرح المواقف"، وقد مات هذا الشارح في أوائل سلطنة محمد خان12.
وفي كثير من الأحيان لم تكن هذه الشروح والحواشي خالية من الجهد والإضافة، من ذلك أنّ المولى قاسم الشهير بغداري الكرماني له حواش على إلهيات "شرح المواقف" "أورد فيها لطائف وتحقيقات يتعجب منها النظار ويعتبر بها أولو الأبصار"13.
ومن مظاهر الاحتفاء بالجرجاني فضلاً عمّا ذكرنا سالفًا تفضيل بعض العلماء العثمانيين الشريف الجرجاني على التفتازاني، ومن الأمثلة على ذلك أنّ المولى شجاع الدين إلياس الرومي كان يفضل السيد الشريف على العلامة التفتازاني14، ومن تجليات الاحتفاء أيضًا حفظ كتب الجرجاني، من ذلك أنّ الشيخ محمد التونسي مولدًا الغوثي شهرةً دخل مدينة القسطنطينية، واهتم بحفظ الشرح المطول للتلخيص مع حواشيه للسيد الشريف من أوله إلى آخره "مع إتقان وتحقيقات وتدقيقات زائدة من عنده وكان شرح المواقف للسيد محفوظًا له مع إتقان وتدقيق"15.
إلاّ أنّ بعض العلماء عبّروا عن استقلال شخصيتهم العلمية من خلال معارضة آراء الجرجاني والردّ عليها، من ذلك مثلاً أنّ شمس الدين الفناري لمّا رأى شرح المواقف للجرجاني علّق عليه تعليقات متضمنة لمؤاخذات عليه. وفي السياق ذاته كتب المولى مصلح الدين مصطفى القسطلاني (ت 901هـ) رسالة يذكر فيها سبعة إشكالات على "المواقف" وشرحه16. وقد طالع المولى محمود القاضي بمدينة بروسه "شرح المواقف" وردّ كثيرًا من مواضعه لكنه لم يكتب بل أشار في حاشية الكتاب إلى تلك المواضع بحلقة رسمها بالقلم، وقد لقيت هذه الاعتراضات صدى واضحًا فقد كان العلماء في بلاد العجم يمتحنون الطلاب بالوقوف على ما قصده من الرد. وكان للمولى سيدي الحميدي (ت 912هـ) أسئلة على "شرح المفتاح" وعلى "شرح المواقف" للسيد الشريف17.
وكان لحافظ الدين محمد بن أحمد باشا ابن عادل باشا المشتهر بالمولى حافظ (ت 957هـ) كتاب موسوم بـ"مدينة العلم" جعله ثمانية أقسام وأورد في كل قسم منها اعتراضات على ثمانية من العلماء المشهورين منهم صاحب "الكشاف" والبيضاوي والتفتازاني والشريف الجرجاني18.
وللمولى لطف الله التوقاني (ت 904هـ) الشهير بمولانا لطفي حواش على شرح المفتاح للسيد الشريف، ولقد حلّ فيها المواضع المشكلة من الكتاب، وله أيضًا رسالة سماها بالسبع الشداد، وهي مشتملة على سبعة أسئلة على السيد الشريف في بحث الموضوع، وقد أثنى طاش كبرى زاده على هذه الرسالة قائلاً: "ولقد أبدع فيها كل الإبداع وأجاد كل الإجادة ولو لم يكن له تصنيف غير هذه الرسالة لكفته فضلاً وشرفًا، وأجاب عن تلك الأسئلة المولى غداري إلاّ أنّه لم يقدر على دفعها والحق أحق بأن يتبع"19.
وتبرز هذه الاعتراضات والنقود التي وجهها العلماء العثمانيون لكتابات السيد الشريف الجرجاني الكلامية أنّ مساهمة هؤلاء العلماء في دراسة علم الكلام ليست بالهينة ولا بالقليلة، ويمكن أن نتوقف في هذا الصدد على حاشية المولى حسن جلبي بن محمد شاه الفناري على شرح المواقف للسيد الشريف الجرجاني20، وهو يعتبر في مقدمة هذه الحاشية أنّ علم الكلام من بين العلوم الشرعية والمعارف الدينية أعلاها شأنًا وأقواها برهانًا، ثم بيّن أهمية شرح المواقف للسيد الشريف مصرّحًا برغبته في فكّ مغالقه فكًّا يتجاوز التمجيد والتنويه إلى نقد الفكر والرأي، يقول: "ولقد طال ما جال في صدري أن أكتب عليه حواشي تذلل صعابه، وتكشف عن وجوه فرائده، أنقد فيه نتائج الأفكار، وأوضح خزائن الأسرار"21.
ويمكن أن نفسر هذه الاعتراضات في جانب مهم منها بالاختلاف العقائدي بين الشريف الجرجاني ومن نقدوه فهو وإن كان حنفيًّا معروف بميله إلى العقيدة الأشعرية في أغلب المسائل الكلامية، وعلى خلاف ذلك فإنّ منطلقات نقده ماتريدية بالأساس.
ومن المؤكد أنّ علم الكلام العثماني تأثر وهو يتفاعل مع كتب الجرجاني بالمباحث الفلسفية المهيمنة على شروحه، فقد عاصر حركة الكلام الفلسفي وتأثر بالفلسفة على غرار تأثر فخر الدين الرازي وسيف الدين الآمدي بها، وقد تجلى هذا التأثير في كتابه "شرح المواقف" فأكثر موضوعاته تتعلق بالمسائل الفلسفية 22.
1 انظر طاش كبرى زاده، الشقائق النعمانية في علماء الدولة العثمانية، بيروت، دار الكتاب العربي، 1975، ص 60
2 محمد بن القوجوي: محمد بن محمد، العالم الفاضل المولى. محي الدين القوجوي الرومي الحنفي. كان عالمًا بالتفسير والأصول وسائر العلوم الشرعية والعقلية، وأخذ العلم عن والده، وكان والده من مشاهير العلماء ببلاد الروم، ثم قرأ على المولى عبدي المدرس بأماسية، ثم على المولى حسن جلبي بن محمد شاه الفناري، وولي التدريس والولايات حتى صار قاضي العسكر بولاية أناطولي، ثم استعفي منه فأعفي وأعطي إحدى المدارس الثماني، ثم صار قاضياً بمصر، فأقام بها سنة ثم حج وعاد إلى القسطنطينية، وبها مات سنة إحدى وثلاثين وتسعمائة. النجم الغزي، الكواكب السائرة بأعيان المئة العاشرة، 1/8
3 المصدر نفسه، ص 227
4 محمد النكساري: محمد بن إبراهيم بن حسن العالم، العامل، الفاضل، الكامل، المولى محي الدين النكساري الرومي الحنفي. كان عالماً بالعربية، والعلوم الشرعية العقلية، ماهراً في علوم الرياضة. أخذ عن المولى فتح الله الشرواني، وقرأ على المولى حسام الدين التوقاني، ثم على المولى يوسف بالي بن محمد الفناري، ثم على المولى يكان، وكان حافظاً للقرآن العظيم، عارفاً بعلم القراءات، ماهراً في التفسير. وكان يذكر الناس كل يوم جمعة تارة في أيا صوفيا، وتارة في جامع السلطان محمد خان، وكان حسن الأخلاق، قنوعاً راضياً بالقليل من العيش، مشتغلاً بإصلاح نفسه، منقطعاً إلى الله تعالى. صنف تفسير سورة الدخان، وكتب حواشي على تفسير القاضي البيضاوي، وحاشية على شرح الوقاية لصدر الشريعة، ولما آن أوان انقضاء مدته ختم التفسير في أيا صوفيا، ثم قال: أيها الناس إني سألت الله تعالى أن يمهلني إلى ختم القرآن العظيم، فلعل الله تعالى يختم لي بالخير والإيمان، ودعا فأمن الناس على دعائه، ثم أتى إلى بيته ومرض. وتوفي بالقسطنطينية في سنة إحدى وتسعمائة. النجم الغزي، الكواكب السائرة بأعيان المئة العاشرة، 1/8
5 علي بن أحمد الرومي: علي بن أحمد، العالم العلامة، العامل، الفاضل، المولى علاء الدين الجمالي، الرومي، الحنفي. قرأ على المولى علاء الدين بن حمزة القراماني، وحفظ عنده القدوري، ومنظومة النسفي، ثم دخل إلى قسطنطينية، وقرأ على المولى خسرو، ثم بعثه المذكور إلى مصلح الدين بن حسام، وتعلل بأنه مشتغل بالفتوى، وبأنّ المولى مصلح الدين يهتم بتعليله أكثر منه، فذهب إليه، وهو مدرس سلطانية بروسا، فأخذ عنه العلوم العقلية والشرعية، وأعاد له المدرسة المذكورة، ، ثم تقلبت به الأحوال، على وجه يطول شرحه، فترك التدريس، واتصل بخدمة العارف بالله تعالى مصلح الدين بن أبي الوفاء ثم لما تولى السلطان أبو يزيد السلطنة رآه في المنام، فأرسل إليه الوزراء، ودعاه إليه، فامتنع، فأعطاه تدريساً بثلاثين جبراً، ثم رقاه في التدريس حتى أعطاه إحدى الثماني، فدرس بها مدة طويلة ثم توجه بنية الحج إلى مصر، فلم يتيسر الحج في تلك السنة لفتنة حدثت بمكة المشرفة، فأقام بمصر سنة، ثم حج وعاد إلى الروم، وكان توفي المولى أفضل الدين مفتي التخت السلطاني في غيبته، فأعطاه السلطان أبو يزيد منصب الفتوى، وعين له مئة درهم، ثم لما بنى مدرسة القسطنطينية ضمها له إلى الفتوى، وعين له خمسين درهمًا زائدة على المائة، وكان يصرف جميع أوقاته في التلاوة، والعبادة، والتدريس، والفتوى، ويصلي الخمس في الجماعة، وكان كريم الأخلاق لا يذكر أحداً بسوء، وكان يغلق باب داره، ويقعد في غرفة له، فتلقى إليه رقاع الفتاوي، فيأخذها ويكتب، ثم يدليها، ففعل ذلك لئلا يرى الناس، فيميز بينهم في الفتوى، وكان يأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر، ويصدع بالحق، ويواجه بذلك السلطان، فمن دونه حتى أنّ السلطان سليم خان أمر بقتل مائة وخمسين رجلاً من حفاظ الخزينة، فتنبه لذلك المولى علاء الدين المذكور، فذهب إلى الديوان، ولم يكن من عادتهم أن يذهب المفتي إلى الديوان إلا لحادثة عظيمة، فلما دخل على أهل الديوان تحيروا في الأمر، وقالوا: لأي شيء دعا المولى إلى المجيء. فقال: أريد أن ألاقي السلطان، ولي معه كلام، فعرضوا أمره على السلطان، فأمر بدخوله وحده، فدخل وسلم وجلس، وقال: وظيفة أرباب الفتوى أن يحافظوا على آخرة السلطان، وقد سمعت بأنّك أمرت بقتل مائة وخمسين رجلاً من أرباب الديوان لا يجوز قتلهم شرعاً فغضب السلطان سليم، وكان صاحب حدة، وقال: لا تتعرض لأمر السلطنة، وليس ذلك من وظيفتك. فقال: بل أتعرض لأمر آخرتك، وهو من وظيفتي، فإن عفوت، فلك النجاة وإلا فعليك عقاب عظيم، فانكسرت سورة غضبه وعفا عن الكل، ثم تحدث معه ساعة، ثم سأله في إعادة مناصبهم، فأعادها لهم. النجم الغزي، الكواكب السائرة بأعيان المئة العاشرة، 1/168
6 المصدر نفسه، ص 31
7 علي القوجحصاري (750 - 841 هـ) (1349 - 1437 م) علي بن موسى بن إبراهيم الرومي، القوجحصاري (علاء الدين) عالم مشارك في بعض العلوم. ولي مشيخة الأشرفية بالقاهرة من تصانيفه: أسئلة علاء الدين في مجلدات، حاشية على شرح السعد للمفتاح المسمى بكشف الرموز ومفتاح باب الكنوز، وشرح أوراد الزينية. عمر كحالة، معجم المؤلفين، 7/248
8 المصدر نفسه، ص 64
9 المولى السيد علي العجمي: حصّل العلوم في بلاده، ويقال: إنّه قرأ على السيد الشريف، ثم أتى بلاد الرّوم، فأتى بلدة قسطموني وواليها إذ ذاك إسماعيل بك، فأكرمه غاية الإكرام، ثم أتى إلى مدينة أدرنة، فأعطاه السلطان مراد خان مدرسة جدّه السلطان بايزيد خان بمدينة بروسا، وعاش إلى زمن السلطان محمد خان، واجتمع عنده مع علماء زمانه، وباحث معهم، وظهر فضله بينهم، وله من التصانيف «حواش على حاشية شرح الشمسية» للسيد الشريف، و«حواش على حاشية شرح المطالع» للسيد الشريف أيضًا و«حواش على شرح المواقف» للسيد الشريف.ابن العماد شذرات الذهب، 9/434
10 المصدر نفسه، ص 62
11 المصدر نفسه، ص 63
12 المصدر نفسه، ص 65
13 المصدر نفسه، ص 172
14 المصدر نفسه، ص 193
15 المصدر نفسه، ص 269
16 المصدر نفسه، ص 89
17 المصدر نفسه، ص 180
18 المصدر نفسه، ص 268
19 المصدر نفسه، ص 171
20 طبع هذا الكتاب بمطبعة السعادة بمصر سنة 1325هـ/ 1907م.
21 المصدر نفسه، ص 4
22 الدكتور صدر الدين كوموش، السيد الشريف الجرجاني ومكانته في العلوم الإسلامية، موقع منتدى الأصلين أصول الدين وأصول الفقه.