تنبيه المراجع على تأصيل فقه الواقع، الشيخ عبد الله بن بية
فئة : قراءات في كتب
تنبيه المراجع على تأصيل فقه الواقع، الشيخ عبد الله بن بية
"الجمود على النصوص أبدا ضلال وإضلال" القرافي
فكرة الكتاب
الفقه في اللغة بمعنى الفهم الدقيق والعميق، وفي الاصطلاح العلم بالأحكام الشرعية العمَلية المكتسَبة مِن الأدلة التفصيلية. وعندما نضيف كلمة الواقع للفقه، فذلك يعني فهم ما عليه حياة الناس من حيث معاشهم وسكناهم وتعاملاتهم الاجتماعية والمالية... وفهم طبيعة المجتمع الدولي والتوازنات التي تحكمه والمشكلات التي تحيط به، وكل هذا ينبغي استحضار معرفة سنن الله في النفس والمجتمع من أجل الاقتراب من الفهم الصحيح والأقرب الى الصواب.
ولا يخفى على أحد أن القرآن لم ينزل في فراغ، فالرسول بعث في واقع الجزيرة العربية في القرن السابع الميلادي، ولا شك في أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان أفقه الناس بواقعه وبمجتمعه. ففقه الواقع يعد مدخلا لا غنى عنه في فهم الشريعة وفي الأخذ بمصالحها ومقاصدها. ولا شك في أن الإعراض عن فهم واقع الناس ومقتضياتهم اليومية الخاصة والعامة من مختلف الجوانب الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والسياسية، والخوض في مجال الشريعة، سيكون له أثر سلبي وسيجلب معه كثيرا من الضرر على الناس والشريعة معا؛ لأن واقع الناس متغير ومتبدل بتحول أحوال الناس، فالفتوى تتغير بتغير الزمان والمكان. ومن هنا تأتي أهمية كتاب: "تنبيه المراجع على تأصيل فقه الواقع"، وهو كتاب من تأليف الشيخ عبد الله بن بية.
أهمية موضوع الكتاب
الكتاب صغير الحجم كبير الفائدة، يغطي 253 صفحة من الحجم المتوسط، ويضم مجموعة من العناوين المهمة أبرزها: بيان الواقع، ووسائل التعرف على الواقع، وبرهان تأثير الواقع في الأحكام من الكتاب والسنة وعمل السلف، ومنهجية التعامل بتحقيق المناط تأصيلا وتنزيلا. تأتي أهمية هذا العمل كما يرى عبد الله بن بية، بأنه دعوة للسلام والوئام، بكونه عمل يبحث في مسوغات السلام والعافية، بدلا من مبررات الفتن والحروب.[1]
السبب الذي كان وراء تأليف هذا الكتاب، ما جلبته ثورات الربيع العربي التي تحولت بشكل سريع إلى خريف ونار راح ضحيتها الكثير من الضحايا في كثير من البلدان العربية، وقد صدقت مقولة كانت ترى أن الثورة قد تؤدي إلى سقوط الاستبداد أو التحرر من الاضطهاد، لكنها لا تؤدي قط إلى إصلاح حقيقي لأساليب التفكير، بل إن أوهاما جديدة تظهر فتأخذ مكان الأوهام القديمة.
ضرورة فقه الواقع
قال القرافي "الجمود على النصوص أبدا ضلال وإضلال"، ويرى الشاطبي أن العالم الرباني، هو الذي ينظر في كل حالة ليقدم الحكم المناسب، ويقول ابن القيم: "إن المفتي الذي يطلق حكما واحدا في كل حالة هو مثل طبيب له دواء واحد، وكلما جاء مريض أعطاه إياه، بل هذا المفتي أضر"[2] وقد تعامل الأصوليون مع فهم الواقع، باعتباره مقدمة لتحقيق المناط، والمناط هو العلة، من النوط أي التعليق فالحكم معلق بها.
لا شك في أن واقع الأمة اليوم ليس هو واقعها بالأمس؛ فواقع الحال اليوم "يعرف تغيرات هائلة وتطورات مذهلة من الذرة إلى المجرة، في شتى المجالات ومختلف المظاهر والتجليات، من أخمص قدم الأمة إلى مَفرِق رأسها في القضايا السياسية والاجتماعية والاقتصادية والمالية، والكشوف العلمية، والعلاقات الدولية والتمازج بين الأمم، والتزاوج بين الثقافات إلى حد التأثير في محيط العبادات، والتطاول إلى فضاء المعتقدات. وقد أصبحت الأنظمة الدولية والمواثيق العالمية ونظم المبادلات والمعاملات جزءا من النظم المحلية، وتسربت إلى الدساتير التي تعتبر الوثائق المؤسسة فيما أطلق عليه، اسم العولمة والعالمية، كل ذلك يدعو إلى التجديد في الأصول لتصحيح الفروع حتى تكون سليمة؛ لأنها مبنية على أصول صحيحة".[3]
هذا الواقع المتحول والمتغير والمخالف لكل ما عليه الماضي، جعل الأمة في مشكلة مزدوجة بين وجهين: الوجه الأول: يتجلى في تيار حداثي مقلد، همه تبريري أكثر ما هو تجديدي، والوجه الثاني: يتجلى في دعوة دينية لا تسمح للواقع بالإسهام في مسيرة التطوير وسيرورة التغيير، تتجاهل الواقع وتعيش في الواقع، حمل بعض منتحلي هذا الاتجاه فقها وهم ليسوا بفقهاء، فحكموا بالجزئي على الكلي، وتعاملوا مع النصوص بلا أصول، فأمروا ونهوا وهدموا وما بنوا.[4]
يرى الشيخ عبد الله بن بية، أن أصحاب الدعوة الدينية التي لا تولي للفقه الواقع اهتماما ولا قيمة، يتصفون بالقصور في التأصيل وضمور في الفقه، وجهل بالحكم والتعليل، وتجاهل للواقع عند التنزيل، فقد قدموا فتاوى تتضمن فروعا بلا قواعد، تجانب المصالح وتجلب المفاسد، مما ترتب عنه حالة من الفوضى تطورت إلى نزاعات وخصومات كلامية سرعان ما تحولت إلى حروب بالذخيرة الحية، فسفكت الدماء المعصومة واستباحت الحرمات.[5]
ومفهوم الجهل الذي اتصف به أصحاب الدعوة الدينية التي تقفز على فهم الواقع، يحمل معنيين؛ المعنى الأول: تصور الشيء على خلافه، والمعنى الثاني: الخلو من العلم بالمطلوب. وبهدف الإعراض عن الجهل وتجاوز منزلقاته، والعمل على استحضار فقه الواقع في فهم النصوص وفي تنزيلها على الواقع المعاش، وضع عبد الله بن بية منهجية تشمل مجموعة من النقط، بهدف تجاوز معضلة الجهل بمعناه المزدوج، النقط التي حددها المؤلف هي كالتالي[6]:
1- النظرة الشمولية التي تعتبر الشريعة بمنزلة النص الواحد، بدل اجتزاء بعض منها دون البعض الآخر.
2- عرض النصوص على اللغة؛ وذلك لإدراك مختلف الحمولات والاحتمالات اللغوية التي تهيئ النص للتأويل والمجاز.
3- الجمع بين النصوص التي يوحي ظاهرها بالتعارض.
4- الموازنة بين الجزئي والكلي، من أجل تجاوز مشكلة الاكتفاء بالجزئي والاعراض عن الكلي. فالفكر المتطرف يأخذ بالجزئي ويلغي الكلي.
5- عرض الخطاب الآمر (التكليف) على بيئة التطبيق على بيئة التطبيق (خطاب الوضع)؛ فالأحكام مقيدة بقيودها وعمومها مخصوص بخصائصها. فالفكر المتطرف لا يراعي السياقات العامة والخاصة في فهم الأحكام.
6- مراجعة سياقات النصوص؛ وذلك بهدف تحسين العديد من الاحكام لتلائم المحيط والزمن الجديد. وعدم مراجعة النصوص والاحكام جعل المتطرفين، يسقطونها على سياقات مختلفة كانت من قبل ولم توجد اليوم، ولهذا تجدهم يدعون الى الجهاد، ويقولون بفرض الجزية على الأقليات المسلمة، وغير ذلك.
7- اعتبار العلاقة بين الأوامر والنواهي ومنظومة المصالح والمفاسد. وإهمال هذه القاعدة تعد أحد منزلقا الفكر المتطرف؛ لأنه لا يراعي الحكمة والغاية والمقصد من الشريعة.
8- مراعاة التطور الزماني والواقع الإنساني. وهذا أمر تترتب عنه القراءة الجديدة للواقع الذي تعلق عليه الأحكام؛ فالواقع مقدمة لتحقيق المناط. فواقعنا اليوم يقتضي قراءة جديدة للتذكير بالكليات التي مثلت لبنات الاستنباط. فعالم اليوم لم يعد يعرف هويته بالدين، وإنما أصبح يعرفها بالثقافة والمصالح والتكنولوجيا والمعاهدات، وهذا لا ينفي أن يكون فيه متدينون ومحافظون؛ فالتعددية التي يعرفها العالم اليوم، هي فضيلة تفتح فرصا واسعة للسلام، وهو الأصل الطبيعي للبشرية.
9- النظرة في المثالات والعواقب؛ وذلك بالعناية بفهم مآلات ومستقبل ما نقبل عليه بالاهتمام بمعرفة توجه المستقبل من خلال معطيات الحاضر التي أفرزها الماضي.
10- ملاحظة موارد الخطاب طبقا للوظائف النبوية.
11- استحضار البعد الإنساني والانتماء إلى الكون؛ وذلك باعتماد وحدة الأصل والخلق، فالأصل هو التعاون بين البشرية والسعي إلى إصلاح الأرض واستدامة صلاحها؛ فالبشرية في حاجة إلى التعاون من أجل البقاء، بدل الصراع الذي يؤدي إلى الفناء. فالعالم اليوم في حاجة للتعاون على حل كثير من المشكلات من بينها مشكلة الحرب والعدوان وبيع السلاح وقتل الأطفال وهدم المباني على رؤوس سكانها.
12- استغلال الإمكان المتاح في الشريعة.
من خلال هذه النقط الاثنتي عشرة، يكون عبد الله بن بية، قد جعل من فقه الواقع أمرا لا غنى عنه في فهم الشريعة، وهي نقط تضع في الحسبان أن أمر الشريعة وأحكامها قابل للتجديد في استجابة لمقتضيات الواقع؛ فالتجديد في أمر الدين ينبني على أمرين؛ التجديد في فهم النصوص، والإحاطة بفقه وفهم الواقع المتجدد.
القارئ للكتاب، سيجده غنيا بمختلف النصوص والإحالة على مختلف كبار العلماء في أصول الفقه من بينهم الغزالي والقرافي والجويني.
[1] الشيخ عبد الله بن بية، تنبيه المراجع على تأصيل فقه الواقع، مركز الموطأ، 2018م، ص. 28
[2] نفسه، ص. 58
[3] نفسه، ص. 16
[4] نفسه، ص.17
[5] نفسه، ص. 17
[6] نفسه، ص.28