تهويمات "عصر التدوين"
فئة : مقالات
تهويمات "عصر التدوين"*
لمّا شرع محمد عابد الجابري (ت: 2010)، الفيلسوف المغربي، في "نقد العقل العربي"، رامَ – بداية – تحديد "الإطار المرجعي للفكر العربي والثقافة العربية"،[1] وهو ما جعله يتوسل وسائط معرفية من قبيل "العقل المكوِّن" و"العقل المكوَّن" و"النظام المعرفي" و"البنية اللاشعورية" و"الزمن الثقافي"[2] و"الزمن الاجتماعي الطبيعي" و"تداخل الأزمنة الثقافية"[3]. وبالاستناد إلى كل هذه الآليات، تساءل الجابري عن نقطة البداية لدراسة تشكل بنية العقل العربي: "فكيف سنحدد هذه النقطة – البداية؟ إنه سواء رجعنا بهذه البداية "البنيوية" إلى السومريين أو وقفنا عند العصر الجاهلي أو عند قيام الإسلام أو ربطناها بفترة أخرى سابقة أو لاحقة، فإننا سنكون دوماً قد قمنا باختيار".[4]وبعد فحصه صورة العصر الجاهلي،[5] قرر أنه "[قد] تشكلت بنية العقل العربي [...] في ترابط مع العصر الجاهلي فعلاً، ولكن لا العصر الجاهلي كما عاشه عرب ما قبل البعثة المحمدية، بل العصر الجاهلي كما عاشه في وعيهم عرب ما بعد هذه البعثة: العصر الجاهلي بوصفه زمناً ثقافياً تمت استعادته وتم ترتيبه وتنظيمه في عصر التدوين الذي يفرض نفسه تاريخياً كإطار مرجعي لما قبله وما بعده"[6]، "ذلك لأن ما نعرفه وما عرفه أجدادنا عن الجاهلية وصدر الإسلام، إنما يرجع الفضل فيه إلى تلك العملية الشاملة، عملية البناء الثقافي التي تمت خلال عصر التدوين"[7]. وعليه، "[فـ]عصر التدوين بالنسبة للثقافة العربية هو [...] الإطار المرجعي الذي يشد إليه، وبخيوط من حديد، جميع فروع هذه الثقافة وينظم مختلف تموجاتها اللاحقة... إلى يومنا هذا. ليس هذا وحسب، بل إن عصر التدوين هذا [...] هو في ذات الوقت الإطار المرجعي الذي يتحدد به ما قبله (على مستوى الوعي العربي بطبيعة الحال)؛ فصورة العصر الجاهلي وصورة صدر الإسلام والقسم الأعظم من العصر الأموي، إنما نسجتها خيوط منبعثة من عصر التدوين، هي نفسها الخيوط التي نسجت صور ما بعد عصر التدوين. وليس العقل العربي في واقع الأمر شيئاً آخر غير هذه الخيوط بالذات"[8]. وبعده، وبناء على نص للحافظ الذهبي (ت: 1384م) مدرج في "تاريخ الخلفاء" للسيوطي (ت: 1505م)، يحدد الجابري ملامح هذا العصر بالتالي: التاريخ التقريبي لبداية التدوين في الإسلام: سنة 143 ه، تحت إشراف الدولة العباسية، وبشكل جماعي، ولم تنحصر عملية التدوين في "حفظ "الموروث الثقافي، "بل إن العملية كانت في الحقيقة عملية إعادة بناء ذلك الموروث الثقافي بالشكل الذي يجعل منه "تراثاً": أي إطاراً مرجعياً لنظرة العربي إلى الأشياء، إلى الكون والإنسان والمجتمع والتاريخ"[9]. وبهذا يكون تعريف العقل العربي – عند الجابري – هو: "البنية الذهنية الثاوية في الثقافة العربية كما تشكلت في عصر التدوين"[10]. وبهذا أيضا سيمد الجابري الخط على استقامته من أجل الدعوة لـ"عصر تدوين" جديد[11]؛ "فلا سبيل إلى التجديد والتحديث – ونحن نتحدث هنا عن العقل العربي – إلا من داخل التراث نفسه وبوسائله الخاصة وإمكانياته الذاتية أولا، أما وسائل عصرنا المنهجية والمعرفية فيجب أن نستعين بها فعلاً، ولكن لا بفرضها على الموضوع وتطويع هذا الأخير في قوالبها بل بالعمل، على العكس من ذلك، على تطويع قوالبها بالصورة التي تجعلها قادرة على أن تمارس قدرتها الإجرائية، أعني وظيفتها كأدوات علمية".[12]
في إطار نقده لـ"نقد العقل العربي"، توقف جورج طرابيشي أمام إشكالية "عصر التدوين"، وكما هو معتاد أظهر طرابيشي رفضه جل التصورات التي أوردها ناقد العقل العربي[13] عن عصر التدوين؛ يقول ناقد النقد: "[و]إذا كنا نضع "عصر التدوين" بين قوسين فما ذلك إلا على سبيل التلميح إلى أننا لا نعترف بشرعية هذا التعبير؛ فهو يسمى سلفاً العصر بما يريد أن يوحي به في نوع من المصادرة على المطلوب. وبمعنى آخر، إنه تعبير غير بريء ولا محايد إبستيمولوجياً. فهو يوحي، باعتراف الجابري نفسه في معرض تعليقه على عبارة "تدوين العلم وتبويبه" في نص السيوطي/ الذهبي، "أن العلم جاهز وأن مهمة المدون؛ أي العالم، تنحصر أو تكاد في التقاطه وجمعه وتبويبه". ودون أن نتوقف هنا عند الفارق في المدلول بين "التدوين" و"التبويب"، فإننا سنلاحظ أن ما حدث في "عصر التدوين" – بغض النظر ههنا عن حدوده الزمنية – لم يكن عملية تسجيل ولا عملية تفريغ وتظهير، بل عملية إنتاج وبناء وتنظيم للثقافة العربية الإسلامية. فما من شيء كان جاهزاً، بل كان كل شيء برسم الاختراع والتأسيس والتثبيت، ثم التقعيد والتقنين والتسنين. والحال أن كل ما يمكن أن يدل عليه تعبير "عصر التدوين" هو أن ثقافة بعينها – هي هنا الثقافة العربية الإسلامية – قد انتقلت في ذلك العصر من طور شفاهي إلى طور كتابي. والحال أيضاً أننا دون أن ننكر أن شيئاً من هذا القبيل قد حدث، فإننا نؤثر أن نتحدث عن إنتاج وإعادة إنتاج ثقافي. فليست الذاكرة وحدها هي التي نشطت، بل كذلك وأساساً مَلَكة الخلق والإبداع [...] وهذا حيث لو كان لنا الخيار لتحدثنا، بدلاً من "عصر تدوين"، عن عصر تكوين للعقل العربي"[14]. ويبدو لنا أن استدراكات طرابيشي الأكثر توفيقا تتعلق بنقض دعوى شمول "السُنة" للكل الذي هو العصر[15]، كذلك نقضه لدعوى الجابري بأن الذهبي سكت عن تدوين العلم وتبويبه عند الشيعة، من حيث إضاءته للسياق الذي تحرك فيه الذهبي[16]، كذلك حديثة الثري عن التدوين قبل "عصر التدوين"[17].أمّا بخصوص حديثه – فيما بعد (الصفحات من 59 إلى 70) – عن قفز الجابري على الواقعة القرآنية وأنه وضعها في غيتو اللامفكر فيه، فهو كلام حقيقي في حينها، أما بعد تأليف الجابري لـ"مدخل إلى القرآن الكريم"، ثم "فهم القرآن الحكيم" بأقسامه الثلاثة، سواء قرأنا ذلك، باعتباره استجابة غير مباشرة للنقد الذي قدمه ناقد النقد أو لظروف أخرى[18]، فإن هذه الصفحات تبقى مقيدة بوقتها، بما يتطلب تجديد النقد في المشروع الجابري. كما أن حديث طرابيشي عن إجهاض لفظي في عبارة الجابري "الشروع في تدشين عصر تدوين جديد" لا يخلو من طرافة ولاذع الكلام.[19]
هذا النقاش حول "عصر التدوين"، بما يظهر ماهياته وتهويماته، يؤكد مدى تداخل وقائع التاريخ مع المعرفة، وأن المغالطة التاريخية كثيرا ما تستحيل إلى مغالطات معرفية تودي بالحجر الأساس أو تكاد في مشروع فكري كبير كان يُظن له السبق والفرادة. وأن أفكارا كثيرة من تلك التي نؤشكلها - لدواعي التحديث أو المعاصرة أو فتح معقولية جديدة–لا تنبت صلة البحث في مظانها المعرفية عن التاريخية أو الاجتماعية.
*- مجلة يتفكرون، العدد الثالث، شتاء 2014
[1] وعملية تحديد الإطار المرجعي هي نفسها عملية تستند لإطار مرجعي ما، وهو – عند الجابري – عبارة "العقل العربي" التي تعني: "جملة المبادئ والقواعد التي تقدمها الثقافة العربية الإسلامية للمنتمين إليها كأساس لاكتساب المعرفة وتفرضها عليهم كـ"نظام معرفي"، أي جملة من المفاهيم والإجراءات التي تعطي للمعرفة في فترة تاريخية ما بنيتها اللاشعورية". وكما يقول مصطفى رياض فإن "اختلاف المفسرين حول نص ما، ليس اختلافاً حول النتائج بقدر ما هو اختلاف حول الأطر المرجعية". نقلا عن: عبد القادر محمد مرزاق، مشروع أدونيس الفكري والإبداعي – رؤية معرفية (فرجينيا: المعهد العالمي للفكر الإسلامي، 2008)، ص 33. وراجع نقاش جورج طرابيشي لإشكالات العقل وللوسائط المعرفية التي استند إليها الجابري في: نظرية العقل (بيروت: دار الساقي، 1996)؛ انظر كذلك - في مناقشة الآليات التي توسلها الجابري -: طه عبد الرحمن، تجديد المنهج في تقويم التراث (بيروت؛ الدار البيضاء: المركز الثقافي العربي، 2007)، ص ص 29-71، و: يحيى محمد، نقد العقل العربي في الميزان (بيروت: مؤسسة الانتشار العربي، 1997).
[2] ""الزمن الثقافي" لا يخضع لمقاييس الوقت والتوقيت الطبيعي والسياسي والاجتماعي، لأنّ له مقاييسه الخاصة. [فهو] زمن خاص لا يخضع لمفهوم القبلية والبعدية كما ينسحبان على الزمن الاجتماعي الطبيعي". محمد عابد الجابري، تكوين العقل العربي(بيروت: دار الطليعة، 1985)، ص ص 39 -45 و56. وقد أدرجنا تعريف هذا المفهوم على وجه الخصوص لما له من أهمية في الإجابة على سؤال الإطار المرجعي كما يطرحه ويجيب عليه الجابري.
[3] المصدر نفسه، الفصل الأول والثاني.
[4] المصدر نفسه، ص ص 53–54. والتسويد من الجابري.
[5] المصدر نفسه، ص ص 57-61
[6] المصدر نفسه، ص 61. والتسويد من الجابري.
[7] المصدر نفسه، ص 60
[8] المصدر نفسه، ص 62. والتسويد من الجابري.
[9] المصدر نفسه، ص ص 62–64. والتسويد من الجابري.
[10] المصدر نفسه، ص 71
[11] محمد عابد الجابري، بنية العقل العربي – دراسة تحليلية نقدية لنظم المعرفة في الثقافة العربية (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 2010)، ص 555
[12] المصدر نفسه، ص 568
[13] يقول يحيى محمد عن أسلوب طرابيشي في نقده لمشروع الجابري: "لكن السلوك الذي اتبعه الناقد في تجاوز ما أطلق عليه العقبة الابستيمولوجية لم يكن سلوكاً ابستيمياً بقدر ما هو عبارة عن نزعة جدلية اتهامية ايديولوجية [...] [وقد] عمد إلى ذكر شواهد من نصوص الجابري ليفككها ويعرّضها إلى شتى ألوان النقد والاتهام ولو عبر لفيف من الدوران والغوص في سجل التفصيلات الهامشية التي لا علاقة لها بالنقد مباشرة". نقد العقل العربي في الميزان، مصدر آنف الذكر، ص 206، وانظر أيضا ص 245 وما بعدها.
[14] جورج طرابيشي، إشكاليات العقل العربي (بيروت: دار الساقي، 1998)، ص ص 13–14.والتسويد من طرابيشي. وقريب من كلام طرابيشي عن ثنائية الشفهي والكتابي والطبيعة البذرية كلام الجابري عن النقلة من "حالة اللاوعي" إلى "حالة الوعي" أو من "العقلية العامية" إلى "العقلية العالمة"، انظر: بنية العقل العربي، مصدر آنف الذكر ص ص 14-15. والنشاط الحاصل في مَلَكة الخلق والإبداع الذي تحدث عنه طرابيشي لم ينفه الجابري بل أكده.
[15] اشكاليات العقل العربي، مصدر آنف الذكر، ص ص 19-20
[16] المصدر نفسه، ص ص 24–25
[17] المصدر نفسه، ص ص 48–58
[18] يتحدث الجابري عن ظروف تأليفه لكتاب "مدخل إلى القرآن الكريم" فيقول: "من هنا يمكنني القول إن التفكير في تأليف هذا الكتاب قد جاء، بصورة ما، نوعاً من الاستجابة لظروف ما بعد أيلول/ سبتمبر 2001، تماماً مثلما يمكن النظر إلى كتابي نحن والتراث، وبالتالي نقد العقل العربي بأجزاءه الأربعة، كنوع من الاستجابة لظروف "النكسة" التي عاشها العالم العربي بعد 1967 بما في ذلك حرب تشرين الأول/ أكتوبر 1973 وما شاع في ذلك الوقت من استبشار بـ"الصحوة الإسلامية" التي رافقتها، أو تجاوزتها أو حلت محلها، الثورة الخمينية في إيران".محمد عابد الجابري، مدخل إلى القرآن الكريم – الجزء الأول: في التعريف بالقرآن (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 2007)، ص 15
[19] المصدر نفسه، ص 70