توكفيل ومعادلة التوازن بين المساواة والحرية
فئة : مقالات
توكفيل ومعادلة التوازن بين المساواة والحرية[1]
مثل مونتسكيو كان توكفيل (1859) حريصاً على عدم المساس بالتقاليد وعلى احترام العقائد، كان أرستقراطياً فرنسياً، ولكنه لم يكن يخفي عدم رضاه عن سلوك أفراد طبقته الأرستقراطية، وهو ما جعلهم ينظرون إليه كمتنطع كثير الكلام بلا فائدة:
«ففي نيو إنجلند، حيث نشأ التعليم ونشأت الحرية في كنف الدين والأخلاق، وحيث المجتمع مستقر قد أنضجته السنون؛ مما أدى به إلى تكوين مبادئ وعادات راسخة اعتاد الناس أن يحترموا الرجال ذوي العقول الكبيرة والأخلاق العالية ويذعنوا لهم في غير تشكك في نياتهم ومقاصدهم، وإن كانوا لا يقيمون وزناً لجميع الميزات التي تضفيها الثروة والنسب على بعضهم. فلا غرو إن أحسنت الديمقراطية في نيو إنجلند اختيار الرجال أكثر مما تحسنه في أي بلاد أخرى»[2].
وقد ساعدته دراسة القانون واختياره ضمن لجنة لصياغة الدستور في تعزيز قناعته بحكم القانون وفي التمهيد لمشروعه الأهم وهو كتابه «الديمقراطية في أمريكا». فعلى خلاف مونتسكيو الذي اعتقد أن الديمقراطية لا تصلح إلا لدول المدن الصغيرة التي يمكن جعل سكانها يعيشون حياة تقشف وفضيلة، وهو ما يجعل الديمقراطية خياراً صعب التحقق إلا في بضع دول أوروبية في القرن الثامن عشر، وعلى خلاف روسو الذي اقترح أن الديمقراطية ليست خياراً حياً كحكم الطبقة الأرستقراطية الانتخابية كشكل من أشكال الحكومة الجمهورية.
على خلافهما، كان توكفيل مقتنعاً تمام الاقتناع أن الأمريكيين يعيشون ديمقراطية حقيقية يحكم فيها الناس أنفسهم بأنفسهم:
«تطور مبدأ سيادة الشعب... في الولايات المتحدة كل تطور عملي يتصوره العقل، فقد تخلص من جميع الأساطير التي حرص الناس على إحاطته بها في البلدان الأخرى. وتجلى في كل شكل من الأشكال بحسب ما تقتضيه الضرورة. فكان الشعب كله يقوم أحياناً بوضع القوانين: كما كانت الحال في أثينا، وأحياناً يقوم بها ممثلوه المنتخبون بالتصويت العام نيابة عنه، فيعملون باسمه وتحت إشرافه، وهو إشراف يكاد يكون مباشراً»[3]، فقد مثل نجاح الفدرالية دليلاً على أن جهاز الاتحاد يمكن أن يؤسس للجمهورية في غياب الفضيلة الجمهورية التي اشترط مونتسكيو وجودها: «لا يعني إذن عدم وجود حكومة مركزية، كما أكده كثيرون هلاك الجمهوريات في الدنيا الجديدة»[4].
وبينما كان الاعتقاد السائد أن المساواة هي ثمن الحرية، ومثال النضال الإنجليزي للقضاء على خطر الاستبداد الملكي مع تجنب الوقع في الفوضى يؤكد قاعدة مقايضة المساواة بالحرية. وإن كان المثال الإنجليزي معبراً عن سياق قبول شعبي بسلوك طبقة أرستقراطية، فإن التجربة الأمريكية تتحدى هذه القاعدة المفترضة، وتثبت أنه من الممكن الحفاظ على حرية المواطنين مع تحقيق أكبر قدر من المساواة في الظروف على الأقل بالمقارنة مع الدول الأوروبية، ويسهب توكفيل في هذه المقارنة بقوله:
«الحق أن في المؤسسات الديمقراطية نزعة خفية تجعل جهود المواطنين تعمل على رفاهية الجماعة، على ما فيهم من رذائل وما يرتكبونه من أخطاء. أما في المؤسسات الأرستقراطية فثم تحيز خفي يدفع المشرفين على الحكم، على الرغم من مواهبهم وفضائلهم إلى أن يعاونوا على زيادة الشرور التي ترهق بني جنسهم»[5].
بصفته ليبرالياً وأرستقراطياً، كان توكفيل مهتماً جداً بالقضايا الأخرى التي تنطوي عليها هذه الأسئلة الكبيرة، فهل يمكن لبلد ما أن يعتز بالحرية بدون أرستقراطية؟ أو هل هناك فرق حاسم بين بلد مثل فرنسا، الذي حقق الحرية عن طريق التمرد بعنف ضد الطبقة الأرستقراطية، وبلد مثل أمريكا، الذي حقق الحرية من خلال أخذ مكوناته من إنجلترا وتكريسها بصورة أبهى في أرض أخرى خلف المحيط؟
كان من المستحيل بالنسبة إلى فرنسي من أي طيف سياسي ألا يتساءل عما إذا كان يمكن الحفاظ على جمهورية على نطاق الدولة القومية الحديثة، وما إذا كان ثمة شيء يمكن أن يلفت النظر في الأصول البروتستانتية للمستعمرين الجدد يمكنهم من أن يتحولوا إلى متمثلين حقيقيين للديمقراطية.
لم يكن توكفيل غافلاً بالطبع عن معاناة سكان الجنوب، ولا عن وجود أناس يعيشون حياة شقاء على هوامش المدن، ولكنه اعتقد أن الصبغة العامة في أمريكا كنظام سياسي تتسم بسمتي الحرية والمساواة[6]. ولقد أثبت له الأنموذج الأمريكي قصور فرضية مقايضة المساواة بالحرية، وإمكانية تماكنهما في حيز واحد، وأنها لا يجب أن تكون -كما افترض مونتسكيو- ذات شكل واحد هو المساواة في المكانة تحت الاستبداد في تفريط صريح بالحرية كما هو الحال في الاستبداد الشرقي.
ولكن المساواة التي تحدث عنها الأرستقراطي الفرنسي لم تكن مساواة في الثروة والعمل، وإنما مساواة في المكانة وغياب التفاضل فيها بعامل الوراثة وتخلي الأرستقراطية عن قناعتها بأنها يجب أن تكون جزءاً من السلطة الحاكمة. ولقد اعتقد توكفيل أن هذه المساواة هي سمة المستقبل في أوروبا والعالم، وأنها لن تقبل أن تنحسر بعد أن تنتشر. وفسر توكفيل عدم نتوج الحرية عن الثورة في فرنسا في خلو المجتمع الذي ورثته الحكومة بعد الإطاحة بالملكية من توازنات كفيلة بصنع الحرية، وهو ما كان فعلاً مقصوداً للملكية التي أجدبت هذا المجتمع وأفرغته من أي شكل من أشكال المؤسسات المدنية التي يمكن أن تكون منافسة[7].
إن المساواة التي تمثلها الديمقراطية في أمريكا لم تتناقض مع الحرية، وهي ما يؤكد الدعاوى الرافضة لاقترانهما، وإن المساواة قد تكون في نظر الأرستقراطي الفرنسي عدوة للمجد الشخصي والعائلي، ولكنها بالتأكيد عدوة للبؤس، وهو ما يرجح تفضيلها ويبرر السعي لأجلها.
[1] - مقتطف من كتاب "في الليبيرالية" مناف الحمد، صدر عن دار مؤمنون بلاحدود للنشر والتوزيع 2023
[2] - ألكسيس توكفيل، الديمقراطية في أمريكا، ترجمة أمين مرسي قنديل، القاهرة: عالم الكتب، 2015، ص. 180
[3] - المرجع نفسه، ص. 62
[4] - المرجع نفسه، ص. 85
[5] - المرجع نفسه، 212
[6] - المرجع نفسه، ص. 279
[7] - ألكسيس توكفيل، النظام القديم والثورة الفرنسية، ترجمة خليل كلفت، ط1، القاهرة: المركز القومي للترجمة، 2010، ص.48