ثامر الغزي: السبيل إلى إرساء علاقة تحاوريّة تجاذبيّة بين الأديان
فئة : حوارات
غبّ يوم مطير، فكان اللّقاء فيه مع الدّكتور ثامر الغزي في مدينة المنسير، على مرمى بصر من تمثال الزّعيم الحبيب بورقيبة، حوار لم يتسنّى لنا إجراؤه قبل ذلك اليوم.
الدّكتور ثامر الغزي: أستاذ محاضر في الجامعة التّونسيّة، متعدّد الاهتمامات؛ تناول بالبحث قضايا النّقد الأدبيّ والنّظريّات اللّسانيّات، والمدارس النّقديّة، وعلم الأديان المقارن، ومن أهمّ أعماله المنشورة: كتابه المميّز "كاريزما الشّيطان بحث في تمثّل الإنسان لأصل الشّرّ".
محمّد إدريس: يُوجد اختلاف بين مؤرّخي الأديان في توصيف المبحث المقارن بين الأديان، هل هو علم مستقلّ بذاته أم أنّه فرع من فروع علوم أخرى؟
د. ثامر الغزّي: نعم، توجد معضلتان - على الأقلّ - في هذا العلم، أقول علمًا تجوّزًا، تتمثّل المعضلة الأولى: في أنّ هذا البحث يقع في ملتقى مجموعة علوم؛ فالبحوث المقارنة تستعير آليّاتها من علوم عديدة، وهو ما يجعل علوم الأديان المقارنة ليست لها آليّات محضة، وإنّما هو علم يستأنس باللّسانيّات التّطبيقيّة، والأنتربولوجيا، وعلم الاجتماع، وعلم النّفس، وغيرها من العلوم، وذلك قصد إرساء أسس لهذا العلم، من هنا تأتي إشكاليّة تصنيف هذا العلم وتسويره.
ونحن نعرف أنّه من الصعب تسوير علم متحرّك، ذلك أنّ علم الأديان المقارن هو علم غير ثابت - لا أقصد بغير الثّابت المعنى السّلبيّ للكلمة - فهو يستفيد من تطورات علوم الاجتماع والأنثروبولوجيا واللّسانيّات، ليرسي تصوّراته ويرسم آفاقه.
أمّا المعضلة الثّانية بالنسبة إلى علم الأديان في الغرب: أنّ تطوّره قد تعلّق بمفهوم العلم في ذاته، فالعلم مفهوم متطوّر في الغرب، وهو ما يعني؛ أنّ المشكلة تتجاوز علم الأديان وعلم الاجتماع، فالحديث اليوم يدور على ضرورة هدم الحدود بين العلوم، فبعد أنْ حرص الغرب على تسوير العلوم ورسم الحدود بين العلوم، أصبحنا نتحدّث عن كسر الحواجز، فكلّ علم يستفيد ويفيد، يأخذ من غيره ويعطي لها آليّاته.
محمّد إدريس: دارت أغلب الدّراسات المقارنة الكلاسيكيّة في فلك ثنائيّة الأصل والفرع، اقتداء بعلم اللّغات المقارن (اللّغة الأم/ اللّغات الوليدة)، وقد انتهى ذلك بمؤسّسي علم الأديان –وهم من المستشرقين أمثال ماكس مولر وإيميل لويس برنوف - إلى العجز عن الخروج من دائرة المفاضلة بين الأديان من ناحية، ومن ناحية أخرى؛ وجد المؤسّسون أنفسهم يفسّرون النّصوص والظّواهر بطريقة واحدة متجاهلين الخصوصيّات الّتي تميّز بعضها من بعض.
د. ثامر الغزّي: المسألة تعود إلى عاملين أساسيَّين؛ عامل أوّل يخصّ نشأة هذا العلم، وعامل يتعلّق بعمره؛ ففي ما يتّصل بالعامل الأوّل، يجب أن ننتبه إلى أنّ هذا العلم قد نشأ لغايات غير بريئة، وللتّدقيق؛ فإنّ علم الأنتربولوجيا - بصورة عامّة - لم ينشأ لغايات علميّة محضة، وهي مسألة ثابتة تاريخيًّا، فالأبحاث المتعلقة بأديان الشّعوب الّتي عزم الغرب على استعمارها تتنزّل في صلب تلك الغاية، وهي - في تقديرنا - ما خلق عقدة أولى عقدة الأصل، وليس من اليسير تجاوز تلك العقدة؛ أي عقدة النّشأة، زد على ذلك ما يترتّب على العامل الثّاني أي عمر هذا العلم من نتائج، فالقرن ونصف القرن في فكر علم من العلوم ليست مرحلة طويلة، وإذا ما عاضدنا هذا الأمر (الولادة المتأخّرة) بالنّوايا السّيّئة، اتّضح لنا أنّه من العسير أن يتطوّر هذا العلم على النّحو الصّحيح، وهذا ما يتطلّب بذل جهد مضاعف لتجاوز مشكلة التأسيس، وحسب اعتقادي؛ فإنّ ذلك يقتضي الخروج من دائرة الغايات الأولى لإرساء غائيّات جديدة من جهة، ومن جهة أخرى؛ فإنّ أغلب الحضارات والثّقافات تبحث في نفسها عن لحظة التّأسيس؛ فترى في نفسها الأصل الذي يُحاكى من الآخرين، ومثال ذلك: عدّ النّصّ القرآنيّ آدم وموسى وعيسى من المسلمين، وداخل الدّائرة الإسلاميّة يتحدّث الشّيعة عن أنّ عليًّا هو أصل الخلق، فنطفته هي الأصل، ولا تخلو من ذلك أغلب العقائد والمذاهب (الأيزيدية، ..إلخ).
إنّ المركزيّة - لسوء الحظّ أو لحسن الحظّ - لا أعرف، لأنّ غياب المركزيّة يعني اندثار الحضارة الّتي تتمثّل في شعورنا بأنّنا نحن الأصل، تجعل من محاولات فهم كيف تكون أنت امتدادًا واستنساخًا لي؛ وهي الّتي تجعل من هذا العلم حيًّا ومتحرّكًا، ولكن ينبغي أن نلاحظ أنّ علينا تنسيب تلك الأشياء، فعلى كلّ باحث أنْ يخرج من دائرة الإطلاقيّة إلى التّنسيب؛ فالتنسيب سيؤدّي إلى جعل جميع العقائد أصولًا، وجميعها فروعًا - في الآن نفسه - بالتّالي، ننتقل إلى علاقة تحاوريّة تجاذبيّة يكون فيها الاقتراض أساس العلاقة بين الأديان، وبذلك نكسر تلك الثّنائيّة؛ أي ثنائيّة الأصل والفرع الّتي أعاقت نموّ هذا العلم لمدّة طويلة.
محمّد إدريس: إلى أيّ مدى تكون المقارنة قادرة عن تقيم قراءة موضوعيّة؟ بمعنى هل المقارنة أسلوب محايد في البحث يجنّبنا الوقوع تحت تأثير المرجع الفكريّ والإيديولوجيّ؟
د. ثامر الغزّي: علينا أنْ نفهم أنّ المرجعيّة ضرورة إيديولوجيّة كانت أم غير ذلك؛ لأنّ غيابها يبطل كلّ مشروع، فليس ثمّة بحث إلّا وخلفه إيديولوجيا، وهذا ليس عيبًا، لكنّ المشكل الرّئيس هو تضخّم حيّز الإيديولوجيا على حساب الحيّز العلميّ الموضوعيّ؛ أي وضع النّتائج قبل البحوث، فالخوف - كلّ الخوف - من أنْ يقع جرّ النّصوص للغايات الّتي يريد الباحث تحقيقها، ونحن إذا ما تحدثنا عن تاريخيّة البحث المقارن، وجدنا بذور هذا العلم قديمة، وقد قامت البحوث القديمة – ولا أَعني القديمة زمنًا بالضّرورة - بمجادلة عقائد الآخر، وهو مسلك عقيم وغير مفيد، أمّا الأمر الثّاني في تقديري؛ فيتمثّل في ضرورة الاستئناس بالبحوث الجماعيّة، أريد - هنا - فتح باب آخر يتعلّق بالجامعة ودورها العلميّ الرّيادي في هذا المبحث؛ فعلى سبيل المثال: لماذا يعرف الطلبة في جامعاتنا ابن حزم ولا يعرفون أبا الرّيحان البيرونيّ؟
المسألة تعود إلى وجود نزعتَين إيديولوجيّتَين تحكمان البحث: نزعة مغرقة في السّلفيّة، وأخرى تريد ضرب المنظومة القديمة بغثّها وسمينها، والتّوجّهان فيهما تضخّم إيديولوجيّ.
محمّد إدريس: كيف تنظرون إلى واقع الدّراسات العربيّة المقارنة بين الأديان؟
د. ثامر الغزّي: أنت تطرح إشكاليّة لها أكثر من مستوى؛ فقبل الإجابة عن سؤالك، أشير إلى أنّنا نعيش عزوفًا عن القراءة، ليس في مجال الدّراسات الدّينيّة المقارنة فقط، فنحن مع جيل لا يقرأ، ولعلّ الحلّ المناسب هو الإفادة من الحوامل الرّقميّة ومن الأنترنات وغيرها، والمستوى الثّاني يتعلّق بدور الأكاديميّ المسلم الّذي بقي دورًا معدومًا.
وللمسألة سببين: أوّلهما: وجود توجّس من تلك العلوم، ويعود ذلك إلى النّشأة؛ فالبدايات - كما أشرت سابقًا - تسيطر على عقولنا، وثانيهما: أنّنا شعوب لا تحسن العمل الجماعيّ، فأين المخابر وفرق البحث ووحداته، فأنا لا أتحدّث عن ضرورة إقامة أقسام علم الأديان في المؤسّسات الجامعيّة، لكن كان بالإمكان إنجاز بحوث جماعيّة بإشراف وحدات بحث مختصّة، زد على ذلك؛ أنّنا لم نستوعب أهميّة الاختلاف، فنحن دائمو البحث عمن يشاركنا أفكارنا ومقارباتنا ولا نحسن التعامل مع من يخالفنا الرؤى من جهة، ومن جهة أخرى لم نستطع إقامة شراكة مع وحدات ومخابر في الغرب. أقول ذلك لأنّ هذه المسألة مهمة لإعادة صياغة رؤية جديدة تساعد على تمثّل واضح للأديان. وأرى في الحقيقة ضرورة أنْ نُعوّد الباحثين والطّلاب على سلك تلك المسالك، علّنا نظفر بعد عقد أو أكثر على جيل من الباحثين المتمكّنين من آليّات البحث المقارن، ولا يعني في ذلك أنّ الجامعة العربية لا تحتوي على باحثين مميّزين، لكنّ ما يقلقني أنّه لا يُوجد نسيج متناسق يضمن النّجاح لتلك الجهود الفرديّة.
محمّد إدريس: ولكن الجهود الفرديّة القيّمة قليلة؟
د. ثامر الغزّي: نعم، إنّ الأعمال الفرديّة الجدّيّة قليلة، ويعود ذلك إلى نقطتَين: تتمثّل الأولى في أنّنا لم نخرج من دائرة الانفعال إلى دائرة الفعل، فنحن نجيد القراءة، خذ على سبيل المثال؛ مجال النّقد الأدبيّ الّذي نمتلك فيه تراثًا قيّمًا ومهمًا، ورغم ذلك لم نستطع بناء رؤية نقديّة جديدة تقطع مع الرّؤى التّقليديّة أو الرّؤى الغربيّة، أمّا النّقطة الثّانية؛ فهي الخوف من ردود الأفعال، فعادة ما نطلب السّلامة، ومن تجليّات ذلك جعل الباحث يستنسخ ما هو موجود (تأليف القواميس/ التّعريف بالمفاهيم والمصطلحات)، لأنّ الدّخول في الجانب الإجرائيّ محفوف بالمخاطر المنهجيّة - وهو أمر مشروع - ومخاطر التكفير أيضًا، فتنسيب الحقائق يزعزع الثّوابت، وفيه مخاطر كثيرة، وهو عامل له أهميّة، تدفع النّاس عن تلك المباحث، لذلك؛ يخيّر الباحث إلجام نفسه قبل أنْ يُلجم، زد على ذلك ما يترتّب على البحث المقارن في العقائد من صعوبات معرفيّة، تقتضي تمثّل تلك العقائد بعيدًا عن البحث الوصفيّ التّاريخيّ، فالبحث المقارن يتطلّب - بالضّرورة - التعمّق في القضايا بطريقة نقديّة لا تعترف بالثّوابت.
محمّد إدريس: قطع الغرب أشواطا مهمّة في تأصيل علم الأديان المقارن، في حين مازلنا في العالم العربيّ خارج دائرة هذا العلم في أغلب الأحيان.
د. ثامر الغزّي: الغرب له ميزة تتمثل في تخلّصه - منذ الثّورة الفرنسيّة - من هيمنة المقدّس–ولا يعني ذلك غياب المقدّس - هذا ما يعطيهم حريّة أكبر، وهذا عامل أوّل، يرفده عامل ثانٍ يتمثّل في تطوّر العلوم المختلفة، فظهور اللّسانيّات البنيويّة في أوروبا، وترسّخ العلوم الاجتماعيّة، وظهور المدارس الجديدة في علم الاجتماع، وظهور تصّور جديد ينادي بهدم الحواجز بين العلوم، كلّها أعطت علم الأديان نفَسًا جديدًا، وفتحت له آفاقًا جديدة، فضلًا عن عامل آخر؛ يتمثل في تفطّن العالم الغربيّ إلى أنّ علم الأديان لم تعد لها نفس الوظيفة السّابقة، ففي البداية كان علمًا استشرافيًّا يهدف إلى فهم الآخر، بمعنى أوضح؛ كان علمًا أقرب إلى السّرد والوصف، أمّا الآن؛ فهو يبحث في خفايا الأشياء، وهو ما أحوجه إلى نقلة نوعيّة في مستوى الآليّات والغايات والرّؤى، ولعلّ المبحث الأهمّ في هذا المجال هو الهرمينوطيقا، وهي الّتي تسمح بدخول مجالات لا نهائيّة، فالغربيّ له هذه الإمكانيّات المعرفيّة، وله الحرّيّة الذّهنيّة، ذلك أنّه تخلّص من الكثير من القيود، لا سيّما قيود المقدّس وقيود المجتمع، أمّا الباحث العربيّ - لسوء الحظّ - ما يزال مكبّلًا بتلك القيود، وذلك ما يجعل مهمّته أعسر، وتكفي الإشارة إلى أنّ الباحثين العرب اللذِين قدّموا إضافات شبّوا في الغرب، مثل: أركون الّذي لو عاش في الجزائر، من المؤكَّد أنّه سيكون أركون آخر غير الّذي نعرفه.
محمّد إدريس: والحلّ؟
د. ثامر الغزّي: في تقديري، لا بدّ من وضع رؤية واضحة، والخطوة الأولى الّتي يجب أن نفكّر في إنجازها: هي التّعامل اللّين.
أنا لست من دعاة التثوير، فنحن - عمليًّا - في مجتمعات متديّنة، وإذا قمنا بثورة بالمفهوم العميق للثّورة، فإنّنا سنخسر كلّ شيء، وأظنّ أنّه يجب جرّ المجتمع إلى الرّقيّ - شيئًا فشيئًا - وعبر جرعات لتحقيق تمثّل إيجابيّ وموضوعيّ ونسبيّ للتّأويلات الّتي ستنجز، ولكسر الوثوقيّة، لأنّه لا معنى للحديث عن التّأويليّة في ظلّ المعرفة المطلقة اليقينية الثابتة، وبهذا المعنى، لا بدّ من زرع المعرفة التّأويليّة في المجتمع شيئًا فشيئًا.
ثمّة خوف يسيطر على الباحث المقارن المسلم، وهو خوف من المؤسّسة في أغلب الأحيان، وفي اعتقادي؛ إنّ ذلك يعود إلى الخوف من ردّة فعل العامّة، لأنّ المؤسسة تشتغل بهذه العقائد، وتستمدّ مشروعيّتها– على الأقل أغلب الأنظمة العربيّة– من هذا المتكرّس الموجود في عقائد النّاس، حتّى الأنظمة الّتي لا تستغل تلك العقائد، فإنّ وجود صوت يخرج عن المتداول ويثير النّاس يحرجها، لأنّه يزعزع استقرارها، لكن - من منظور البراغماتيّة السّياسيّة - تجد تلك الأنظمة المعتدلة نفسها تتصدّى إلى البحث المقارن، لأنّها تحاول مسايرة السّائد والمحافظة عليه، وذلك ما يجعل جلّ الباحثين يحبّذون الصّمت ويعدّون خطاهم، فما حصل بنصر حامد أبو زيد ماثل أمام أعين الباحثين؛ فالسّلطة لم تتردّد في محاكمته عندما زعزع الثّوابت، ومن قبله علي عبد الرّازق وطه حسين كلّ هذا يمثّل رعبًا في ذهن الباحث، وإن تحرّرت بعض الأفكار فإنّ المجتمعات العربيّة الإسلاميّة ما تزال وثوقيّة.
محمّد إدريس: أفهم من كلامكم أنّنا مازلنا نبحث عن طور التّأسيس؟
د. ثامر الغزّي: طبعًا، نحن مازلنا نمهّد الطّريق لعلم الأديان؛ ففي العالم العربيّ نحن بصدد العتبات، ووضع لبنات هذا العلم الّذي نتمنى أن يرى النّور في عالمنا العربيّ، ويرتكز على ثوابت واضحة وصحيحة، وتسير في طريق واضح، وإلّا فإنّه سيظل يدور في دائرة مفرغة، ويعجز عن تجاوز الإرث القديم الذي لم نحسن استغلاله الاستغلال الجيّد، فنحن - في أغلب الأحيان - نرتدّ إلى ما قبل الماضي، وفي أحسن الحالات نمارس التّعتيم على الدّراسات الحديثة، ويكفي الإشارة إلى البحوث التي أُنجزت في علم الكلام الجديد، فلو قمنا بإحصاء الجامعيّين اللّذين اطّلعوا على كتابات محمّد مجتهد شبستري، وعبد الجبّار الرّفاعي، والحبيب عيّاد؛ سنجد في أحسن الأحوال أكثر من (90) - بتفاؤل - لا يعرفون ما أنجزه أولئك الأعلام، وأتساءل - في هذا السّياق - عن أسباب هذا التّعتيم؛ ما غائيّاته، ففي تقديري يوجد خوف من التّجديد، ورفض له لأنّه استقرّ في وعينا، أنّ التجديد هدم للقديم وللعقيدة.
محمّد إدريس: ألا تعتقد أنّ علم الأديان المقارن يساعد على بناء رؤية جديدة لذواتنا ولعلاقتنا بالآخرين؟
د. ثامر الغزّي: دون شكّ، إنّ ما نعيشه الآن من صعود للتّيارات المتشدّدة (داعش وغيرها)، هو ناتج عن حالة فراغ في مستوى التّكوين الفكريّ لهذه الشّعوب.
حالة الإسلاموفوبيا وما شابهها من حالات دالّة على عداء للآخر، هي نتيجة الجهل؛ فالإنسان عدوّ لما يجهل، وناتج عن ملء فراغ الجهل بالآخر بعقائد مغلوطة عن الآخر.
اانظر صورة المسلم لدى الكثير من الغربيّين؛ فالمسلم يُختزل في شخص أشعث يحمل حزامًا ناسفًا أو خنجرًا أو كلاشينكوف، فهل هذا هو الإسلام، واليهوديّ ألَا يُختزل في ذلك المحتال المرابي الذي يستغل مآسي النّاس؟ وكذلك صورة المسيحيّ؛ هل هي الصّورة الحقيقيّة؟ العقائد كلّها شُوّهت من أجل تكريس المركزيّة، لكنّ هذا التّمشّي خاطئ يؤدّي - في نهاية الأمر - إلى صراع الحضارات والأديان، وعُدّ تدريس مختلف الأديان - في هذا السّياق - أمرٌ مفيدٌ، لكن يجب أنْ يكون باحتراز .
محمّد إدريس: في كتابكم "كاريزما الشّيطان: بحث في تمثّل الإنسان لأصل الشّرّ" تجاوزتم دائرة الأديان الكتابيّة، واهتممتم بالإيزيديّة، ما هو الرّهان المعرفيّ الّذي رمتَ تحقيقه؟
د. ثامر الغزّي: كسر الحواجز بين الأديان الإبراهيميّة وغيرها؛ هو شرط ضروريّ وأساسيّ من شروط تعديل المفهوم، ففي دراستي عن الشّيطان عند الإيزيديّة، وجدت - في البداية - كتابات كثيرة حول منزلة الشّيطان في هذه الدّيانة، ومنهم من نعت الإيزيديّين بعبدة الشّيطان، إلى غير ذلك، ولكن تبيّن لي - في ما بعد - عندما درست المسألة من داخل الدّيانة الإيزيديّة؛ أنّ بعض التوجّهات لا تختلف عن العقائد الإبراهيميّة، فالمعرفة بالآخر تؤدّي إلى التّقريب بيني وبينه، فتجد لديهم تمثّلًا موجودًا داخل الدّائرة الإسلاميّة - أعني التّمثّل الصّوفيّ - وأتساءل هنا: ما الّذي يجعل التّصوّر الصّوفيّ يحظى بالقبول داخل الدائرة السّنّيّة، ويُوضع الإيزيديّ موضع عابد الشّيطان؟ والحال أنّهما ينطلقان من نفس المنظومة، في تقديري المسألة تتعلّق بالفراغ الّذي ترك في تكويننا حول تلك الأديان، ولا أعرف هل ذلك الجهل كان مقصودًا أم عن حسن نيّة؟! لكنّ ما أعرفه جيّدًا أنّ ذلك الجهل أدّى إلى مجازر ومآسي؛ فإلى الأمس القريب وفي التّاريخ البعيد مرّت بالإيزيدية بمجازر راح ضحيتها عشرات ومئات والآلاف من الأرواح.
محمّد إدريس: عودة إلى ما كنتم بصدد ذكره، هل تعني أنّ لا معرفة لنا بالإسلام؟
د. ثامر الغزّي: نعم دون شكّ، واسمح لي بتسيس المسألة؛ ففي فترة من الفترات ظهرت دعايات مفادها أنّ ما يقوم به الدّواعش هو من صلب ما دعا إليه الإسلام، هل قيل ذلك من أجل غائيّات مبيّتة أم عن جهل؟ وهي مسألة لا أرغب في الخوض فيها، هذا - في اعتقادي - ينمّ عن جهل بالنّظرة الكلّيّة للإسلام، صحيح أن تاريخ الإسلام شأنه شأن كلّ دين - فيه المذابح والظّلم، ولكن توجد - بالتّوازي - جوانب إيجابيّة كثيرة جدًّا؛ ففي اعتقادي، كان يمكن أن تكون نظرتنا إيجابيّة نتجاوز بها الكثير من الصّراعات، وأن نكون في وضع أفضل، فحتّى من النّاحية البراغماتيّة يؤدّي التّغاضي عن المساوئ إلى إرساء روح السّلم، ولنأخذ المسيحيّة - على سبيل المثال - ما نعرفه عن المسيحيّة، أنّها: ديانة محبة الله، ديانة السّلام، لكن هل تاريخ المسيحيّة تاريخ محبّة؟ لنتذكر القرون الوسطى والحروب الصّليبيّة، والحروب العالميّة، والمدّ الاستعماريّ؛ ألم تشنّ أغلب تلك الحروب باسم المسيحيّة، أو إنّها عمدت إلى استغلالها؛ فهل تلك هو المسيحية حقًّا؟! أقول: لا، في كلّ الحالات - حتى لو وجدنا أديانًا تدعو إلى العنف - يجب أن نتغاضى عن ذلك تغليبًا للشقّ الإيجابيّ، ومن يتحدّث عن إلغاء المسلمين، أو إلغاء اليهود، أو إبادة المسيحيّين أو الإيزيديّين، هو واهم؛ فالعيش في ظلّ اللّون الواحد أمر مستحيل، بالتّالي، أَوْلَى بنا أنْ ننظر إلى الآخر نظرة إيجابيّة، ونستلهم من ذواتنا الجوانب الإيجابيّة من أجل إرساء تصوّر كونيّ يخدم الإنسان.