ثيوقراطية إسلامية
فئة : مقالات
ثيوقراطية إسلامية
بقلم هشام شعبان
تعرف الثيوقراطية، بأنها "حكم رجال الدين أو الحكومة الدينية أو الحكم الديني". تتكون كلمة ثيوقراطية من كلمتين مدمجتين في اللغة اليونانية هما ثيو، وتعني الدين، وقراط وتعني الحكم. وعليه، فإن الثيوقراطية هي إرجاع سلطة الدولة إلى الله، حيث توجد تطبيقات متعددة للثيوقراطية؛ فهناك نظرية أولى تعد الحكام آلهة، ونظرية ثانية تعد الحكام نوابًا للإله، ونظرية ثالثة تقول بأن الحكام هم خلفاء الله على الأرض، وفي إطار كل تلك النظريات يمنع منعًا باتًا كل معارضة للحكام أو مخالفة لأوامرهم.(1)
للوهلة الأولى، قد يتبادر إلى الذهن تساؤل عن سر ربط "الثيوقراطية" بالدين الإسلامي، علما بأنه الدين الذي جاء ليهدم الأصنام التي يتقرب بها البشر للإله، ويؤكد في أكثر من موضع أن لا حواجز ولا واسطة بين العبد وربه، وأنه الدين الذي لا يعترف بالسلطة الدينية. هذا هو المفترض. وهنا لابد من العودة إلى الوراء قليلا.
كان أول من سك مصطلح "ثيوقراطية" هو جوزيفوس فلافيوس في القرن الأول الميلادي لوصف الحكومة القائمة عند اليهود. يقول جوزيفوس، إنه حين كان اليونانيون يعترفون بثلاثة أنواع من الحكم: الملكية، الأرستقراطية، والفوضوية، كان اليهود فريدون في كون نظام الحكم لديهم لا يندرج تحت أي من أنظمة الحكم الآنفة. لقد فهم جوزيفوس الثيوقراطية على أنها شكل رابع من أشكال الحكومة - وهو في رأيه شكل إيجابي - يكون فيه ما يقوله الله في كتابه المقدس هو فقط مصدر الحكم(2). استمر هذا الشكل الثيوقراطي وتجلى في عصور أوروبا الوسطى والمظلمة حين تحكمت الكنيسة في كل شيء، ومع حلول حقبة التنوير في القارة الأوروبية، بدأت الثيوقراطية تأخذ دلالة سلبية بشكل كبير.
والسؤال هو: هل شكل الحكم الثيوقراطي بالمعنى المذكور يختلف عن نظام الحكم بالشريعة الإسلامية الذي ينادي به أبناء التيارات الدينية في البلاد العربية؟ لا أعتقد؛ لأنه حتى ولو أن الأصول الثيوقراطية غير إسلامية، فهي تتفق في المضمون مع فكرة الحاكمية الإسلامية؛ "أي لا حكم إلا لله".
لقد كان الخوارج أول من رفع شعار الحاكمية الإلهية، إذ قالوا: "لا حكم إلّا لله" مكفرين بهذا من ارتضى التحكيم البشري في قضية سياسية، وهي معركة صفين، وحينها، ردّ عليهم الإمام عليّ بن أبي طالب: "إنّها كلمة حقّ يراد بها باطل.. نعم، إنّه لا حكم إلّا لله، ولكن هؤلاء يقولون لا إمرة إلّا لله"(3). ورغم أن هذا الشعار طوي عن الفكر الإسلامي قرونًا طويلة، إلا أنه بُعث من مرقده ودبت فيه الحياة من جديد على يد أبي الأعلى المودودي (25 سبتمبر 1903 - 22 سبتمبر 1979)، ثمّ نقلها عنه وتأثر بها سيّد قطب (9 أكتوبر 1906 - 29 أغسطس 1966)، وأضحت من أدبيات الجماعات الدينية التي لا ترى في معنى "إن الحكم إلا لله" غير السلطة السياسية.
حتى حين أراد الإمام محمد الغزالي نقد فكرة الحاكمية عند المودودي وسيد قطب، ووصف تلك الكلمة "الحاكمية" بأنها "دخيلة على الإسلام". أكد في الوقت ذاته أن الإسلام دين ودولة: "إن الإسلام عندي دين ودولة، إذا أرجع إلى نصوصه وإلى تطبيقات النبي صلى الله عليه وسلم وإلى فقه رجاله؛ فالأصول الفقهية عندنا ثروة أصلية، ويجب أن يؤخذ الفقه من علمائه ومن أئمته"(4). وليس هذا فقط، بل إنه أكد على الحاكمية في كتابه "هذا ديننا"، فيقول: "لماذا نعطي بشرا ما حق منازعة الله في أمره ونهيه، وتحليله وتحريمه؟ لماذا يملك إنسان ما أن يدع كلام الله جانبا، وأن يطرحه وراءه ظهريا، ثم يأتي لنا من عند نفسه بأحكام يزعم أنها أولى بالاتباع من أحكام الله؟ أهو أصدق من الله؟ أهو أبصر منه بمصالح الخلق؟ أم هو أذكر لما نسي رب العالمين من حاجات الناس؟! إن إهمال التشريع الإلهي، واعتناق القانون الأرضي عبث شائن وجاهلية منكرة"(5).. والسؤال: أليست هذه الأفكار تطابق المعنى الثيوقراطي أو الحاكمي!؟
وإذا كانت أوروبا قد نجحت بعد جهد جهيد في التخلص من إرث الثيوقراطية عبر "العلمانية" التي تفصل الدين عن الدولة وتضع حدا للسلطة الدينية، فإننا في عالمنا العربي لانزال نعيش هذا الارتباط الوثيق، حتى وإن بدا في كثير من الأحيان "غير مباشر" مثلما هو الحال في مصر حاليا. للأسف، إن هؤلاء الذين ينادون بـ"التشريع الإلهي" ويسخفون من "القوانين الأرضية"، لم يراجعوا أنفسهم لحظة ليطلعوا على التاريخ؛ فـ"قراءة موضوعية للإسلام التاريخي وليس الإسلام المجرد، يقودنا إلى الاستنتاج الراسخ بأن طوال التاريخ الإسلامي احتل الدين موقعا لغير مصلحته في علاقته بالسياسة؛ فهو خضع دائما لها ولمتطلباتها"(6). أليس هذا سببًا أدعى لإعادة النظر في ثيوقراطيتنا الإسلامية الحديثة، ولتنحية الدين حتى لا يصبح مطية للساسة على اختلاف أهوائهم؟
في كتابه "الإسلام بين العلم والمدنية"، يقول الإمام محمد عبده ردًّا على المفكر ووزير الخارجية الفرنسي جابرييل هانوتو (19 نوفمبر 1853 - 11 أبريل 1944) الذي ربط تقدم أوروبا بتطبيقها العلمانية: "يقول مسيو هانوتو إن أوروبا لم تتقدم إلا بعد أن فصلت السلطة الدينية من السلطة المدنية، وهو كلام صحيح. لكن على مستوى العالم الإسلامي لم يعرف المسلمون السلطة الدينية التي كانت للبابا على الأمم المسيحية، وعندما كان يعزل الملوك والأمراء ويقرر الضرائب ويصنع لها القوانين الإلهية. والشريعة الإسلامية قررت حقوقا للحاكم ليست للقاضي صاحب السلطة الدينية"(7). إن ما قاله الإمام محمد عبده كلام سليم، فدولنا لم تشهد نموذجا كنموذج الكنيسة الأوروبية. لكن حين ندقق في واقعنا المعيش، ستتبدى لنا الصورة أكثر وضوحا، ستتبدى لنا سطوة رجال الدين، على سبيل المثال؛ في الفتاوى التي تغمرنا بشكل يومي حول سفاسف الأمور، حتى إن الفرد أصبح يجد نفسه مكبّلا لا يستطيع أن "يستخدم الشطاف في دورة المياه أثناء الصيام" دون أن يسأل وليه أو شيخه! ستتبدى لنا الثيوقراطية الإسلامية في مشاريع القوانين التي يحتكم فيها المشرعون إلى فهم بعض رجال الدين لـ"النصوص الشرعية"، وآخرها مشروع قانون الأحوال الشخصية في مصر، والذي يسلب المرأة أهليتها ويجعلها عاجزة عن تزويج نفسها مثلا، حتى وإن كانت حاصلة على أرفع الشهادات العلمية، وحتى إن بلغت من العمر ما بلغت! لابد لها من ولي!
إن الثيوقراطية الإسلامية في عصرنا ليست في وجود مؤسسة دينية بالمعنى الصريح تمارس الحكم مع الحاكم - رغم أنها في الواقع موجودة وممثلة في دار الإفتاء وفي مؤسسة الأزهر وهيئة الأمر بالمعروف في السعودية وغيرها - ولكن في ساحات القضاء المدني التي تستند في بعض الأحيان لآراء الفقهاء والمذاهب الأربعة كما حدث في قضية فتاة بمدينة المنصورة شمالي القاهرة.
لقد نبهني منشور على موقع "فيسبوك" للمحامي المصري أحمد قناوي للمسألة التي أتحدث فيها هنا، عندما انتقد فكرة "الاستبداد باسم الدين في أمور اجتهادية متروكة للعقل الإنساني"، واستشهد في نقده المنطقي بقضية فتاة من مدينة المنصورة، خدعها شاب بالحب، فحملت وأنجبت لكن المحكمة رفضت نسبة الابن لأبيه استنادا لمذهب الإمام أبي حنيفة، دون النظر إلى أن ذلك الحكم مكافأة لزانٍ وحطًّا من مولود، ودون النظر إلى أن ذلك يمكن أن يصل بالأمر إلى زواج المحارم، ودون التفكير ولو للحظة بأن هناك تحليلا اسمه DNA".
مؤخرا شاهدت مقطع فيديو لأفراد من الشرطة المصرية يلقون القبض على متسول، وقد تجمع نفر من المواطنين ليشاهدوا الواقعة، حيث اكتشف أن ذلك الرجل العجوز المتسول يحمل معه زجاجة بيرة... لقد سمعت في الفيديو من المواطنين المحتشدين ما يشبه المحاكمة الدينية للرجل؛ لأنه يشرب البيرة، حتى إنه صاح فيهم وتساءل مستنكرًا "هل شرب البيرة محظور؟". ومسألة تحليل أو تحريم شرب البيرة ليست معرض كلامي في هذا المقال، لكن ما أريد قوله هو أن تلك الواقعة وغيرها من الوقائع كالتي تبيح للذكر هتك الفتاة بسبب زيها مثلا، وتجعل منا كمواطنين نسير في الطرقات ولدينا الحق في توزيع الأحكام الإلهية على الغير، ألا يمكن اعتبارها ثيوقراطية إسلامية في ثوب جديد؟ ثيوقراطية ناتجة عن تغلغل آلاف الفتاوى والأحاديث وخطب التخويف والاستغلال في العقل الجمعي للبسطاء؟! ثيوقراطية تلخصها في رأيي عبارة صموئيل هانتنجتون، حين قال: "المسلمون يسعون لأسلمة الحداثة بدلا من السعي لتحديث الإسلام"(8).
المراجع
(1) موسوعة المفاهيم الأساسية في العلوم الإنسانية والفلسفة - محمد سبيلا ونورا الهرموزي
(2) Against Apion by Flavius Josephus, Book II, Chapter 17
(3) "نهج البلاغة - علي بن أبي طالب - خطبة 40"
(4) الحاكمية بين الغزالي وسيد قطب - مقال محمد عمارة
(5) هذا ديننا - محمد الغزالي
(6) مقدمة كتاب الدين في الديمقراطية لمارسيل غوشيه - شفيق محسن
(7) الإسلام بين العلم والمدنية - محمد عبده
(8) صراع الحضارات وإعادة بناء النظام العالمي - صموئيل هانتنجتون