جاك بيرك: السوسيولوجي المشاغب الذي ناهض المخطط الاستعماري بالمغرب
فئة : مقالات
جاك بيرك: السوسيولوجي المشاغب الذي ناهض المخطط الاستعماري بالمغرب
على سبيل البدء
يعدّ جاك بيرك من الباحثين الكولونياليين القلائل الذين بصموا على مرور جيد ضمن السوسيولوجيا الاستعمارية بالمغرب، حيث توزعت أعماله بين علم الاجتماع وعلم الاجتماع السياسي، والتاريخ الاجتماعي والقانون وعلم الاجتماع القانوني والتاريخ، هي أعمال فكرية تشهد على غنى وتنوع إنتاج جاك بيرك.
حياة جاك بيرك
من مواليد سنة 1910 بالجزائر، تابع دراسته في ثانوية بيجو Bugeand، وكلية الآداب التي حصل منها على الإجازة في الآداب، ليلتحق بعد ذلك بجامعة السوربون بفرنسا، طامحا في الالتحاق فيما بعد بالمدرسة العليا للأساتذة، غير أنه عاد إلى الجزائر بعد أن تخلى عن التدريس، ليعين مراقبا مدنيا في المغرب بعد نجاحه في مباراة الالتحاق بالسلك الإداري، وهو شاب لم يتجاوز ربيعه الثالث والعشرون، سافر بيرك إلى باريس لمتابعة دراساته العليا في جامعة السوربون بغية الالتحاق في ما بعد بالمدرسة العليا للأساتذة. وبعد سنتين من مقامه في باريس، قرر التخلي عن مهنة التدريس، ليعود من جديد إلى الجزائر، حيث عهده أبوه إلى المسؤول الإداري لمركز بوسعادة قصد التدريب لمزاولة مهام إدارية، وفي السنة نفسها (1932)، غادر بيرك إلى المغرب في إطار الخدمة العسكرية، ثم عين مراقبا مدنيا بعد نجاحه في مباراة الالتحاق بالسلك الإداري، ومكث في المغرب إلى حدود سنة 1953.[1]
أعمال جاك بيرك
يعدّ جاك بيرك من الباحثين الفرنسيين القلائل الذين عمدوا إلى إدخال طرائق ورؤى جديدة في دراسة المناطق المغاربية، والمنظومة الإسلامية عامة؛ فقد عمد الرجل وهو المتأثر بمدرسة الحوليات مع مارك بلوك ولوسيان لوفيبر إلى المزاوجة بين فضائل السوسيولوجيا والتحليل التاريخي في دراسة المنطقة العربية والمغاربية، والمغربية بشكل خاص.[2]
سينجز جاك بيرك أول بحث له حول المواثيق الرعوية في قبيلة بني مسكين، بعد تعيينه في مركز البروج سنة 1934 كمراقب مدني، ويعتبر هذا العمل أول تجربة ميدانية خاضها بيرك، والتي اعتمد فيها على بعض النظريات والمفاهيم المدرسة الفرنسية، التي كانت معروفة آنذاك، وعلى وجه الخصوص تلك التي تمتح من أعمال لويس جيرنيه Louis Gernet ومارسيل موس Marcel Mouss، فكان لهذه التجربة الأثر البالغ، في تعميق الحس السوسيولوجي والأنثروبولوجي لبيرك.[3]
ثاني بحث أو عمل لبيرك، هي أطروحته حول "البنيات الاجتماعية في الأطلس الكبير"، وتعتبر هذه الأطروحة ثاني أكبر عمل سوسيولوجي في المرحلة الكولونيالبية، ومن أبرز الإشكالات التي عالجتها هذه الدراسة العميقة، تطرقها لعلاقة العرف بالشرع، بعد أطروحة مونتاني "البربر والمخزن".
التجربة المغربية؛ سنوات التكوين الأولى
حين وصل جاك بيرك إلى مركز البروج في يونيو 1934، لم يكن قد تجاوز الثالثة والعشرين بعد، وكانت خبرته محدودة نسبيا، إذا قسناها بحجم المسؤولية التي أنيطت إليه كمراقب مدني يمثل السلطة الاستعمارية، في منطقة تسكنها قبائل بني مسكين المعروفة بنزعتها التحررية، ورفضها لكل أشكال السيطرة والاستغلال. لقد كان المراقب المدني يمثل في أعين السكان "المخزن الجديد"، وكانت مهامه كثيرة، بما فيها الفصل في النزاعات بين الأفراد والجماعات، والإشراف على التسيير الإداري والمراقبة السياسية للقبائل.[4]
لقد استوعب جاك بيرك خلال مقامه في البروج، نوعية العلاقات التي تتأسس عليها السلطة في الوسط القبلي، وفهم الأسباب التي جعلت الحماية تغض الطرف عن الممارسات القرسطوية لهذه الفئة من الأعيان الذين وسعوا دائرة نفوذهم مقابل ولائهم للنظام الاستعماري.[5]
لقد كانت تجربة جاك بيرك في مركز البروج، رغم قصر الفترة التي قضاها في هذه المنطقة ذات تأثير كبير في تكوينه المعرفي والمهني. فخلال هذه الفترة التي قضاها في المغرب جمع أهم المعطيات السوسيولوجية التي سيعتمد عليها لإنجاز دراسته الأولى حول الوسط القروي المغربي، ويتعلق الأمر ببحثه حول المواثيق الرعوية عند قبيلة بني مسكين.[6]
جاك بيرك مهندس عصرنة الفلاحة في عهد الحماية
يعتبر بيرك صاحب مشروع عصرنة الفلاحة في عهد الحماية (المغرب) ولو أن الحماية نفذته تنفيذا صادقا لكان من أعظم حسناتها. إن كان من الممكن أن تكون للحماية حسنات؟ ولما أخذ المراقبون الفرنسيون ومن لف لفهم من ضباط ومعمرين وغيرهم يدبرون مؤامراتهم ويكيدون للمغرب شر كيد، انسل جاك بيرك من صفوفهم معبرا بذلك عن تبرئته من أساليبهم الدنيئة، وعن يقينه بأنهم يحاولون رد المستحيل؛ لأن رد السبيل عن مجراه أهون من رد شعب يستفيق، وسيبقى موقفه النبيل هذا صفحة ناصعة من ترجمة حياته.[7]
رفض بيرك الانصهار مع العقيدة الاستعمارية، وهذا الأمر ليس بالغريب عن هذا الرجل، الذي أعطى إشارات مبكرة عن حسن نوياه (رفضه للسياسة الاستعمارية بالمغرب)، عندما أبتكر فكرة مشروع لتحديث القطاع الزراعي، مبتغيا وطامحا بأن يساهم بالتوليف، بين التقنية العصرية وتقاليد العمل الجماعي. هذا الأخير يقف حجر عثرة أمام تطور الفلاح المغربي، ولخصها بيرك، أي تقنية التحديث بـ"الجماعة فوق الجرار" (مع تسكين جم الجماعة).[8] إلا أن المعمرين نجحوا في إجهاض هذا المشروع وهو في مرحلته الجنينية؛ ذلك أنه ليس في صالحهم تنمية الفلاح المغربي، حتى يبقى يعمل في مزارعهم المستعمرة. الأمر الذي دفع الإقامة العامة إلى التخلي عن المشروع بحجة ارتفاع تكاليفه المالية.
كان إفشال مشروع التحديث الزراعي من طرف الإقامة العامة بالنسبة لبيرك (صاحب المشروع)بمثابة الصفعة التي أزالت الحجاب عن الإيديولوجية الاستعمارية للسياسة الفرنسية بالمغرب لجاك بيرك، باعتباره (الاستعمار) يحمل للمغرب مشروعا لإصلاح المجتمع باستخدام المعرفة العلمية، وخصوصا السوسيولوجيا والأنثروبولوجيا، من أجل الرقي والسير بالمجتمع نحوى التقدم والتنمية، هكذا أراد أن يسوق الاستعمار أيديولوجيته للباحثين الكولونياليين.
ساهمت هذه الحقيقة في التأثير على فكر جاك بيرك، حيث وعى بأهداف الكولونيالية التي جاء بها النظام الفرنسي بالمغرب الذي تتناقض مصالحه وأهدافه الاستعمارية وتحسين وضعية السكان المحليين، الأمر الذي دفع بجاك بيرك إلى الاستقالة من منصبه كمراقب مدني سنة 1953 وهو التاريخ الذي رحل فيه نهائيا من المغرب معارضا للسياسة الفرنسية بالمغرب.[9]
وإذا كانت خيرة ملاحظي العالم الكولونيالي العسكريين كما الإداريين، في الغالب، أعوان الاستعمار، فإن آخرين اتخذوا مسافة تجاه النظام الكولونيالي. كان هذا وضع جاك بيرك الذي كان ذا سيرة فريدة قادته من منصب حاكم استعماري إلى منصب أستاذ في كوليج دوفرنس. لقد كان متأثرا في الآن ذاته، بأفكار إميل دوركايهم، وماركس فيبر.
وتتمتع أبحاث جاك بيرك حول البنيات الاجتماعية في الأطلس الكبير 1955، وحول التمثلات، وتأويلات الإسلام (الزوايا، الرباطات، الأضرحة، الأولياء...إلخ) اليوم، بسلطة على المستوى الأكاديمي. ويعتبره البعض، بمثابة رائد لـ "أنثربولوجيا التحرر من الاستعمار". افتتح جاك بيرك، بمقاله: "ما القبيلة الشمال- أفريقية". من منظور دوركهايمي، براديغما جديدا: "النظرية الانقسامية" التي تبتها الأنثربولوجيا الاجتماعية الأنغلوسكسونية في الستينيات من القرن العشرين.[10]
لقد نجحت الدراسات الكولونيالية في ترسيخ تقاليد سوسيولوجية خاصة، غير أن روادها الأوائل تحولوا إلى منظرين استعماريين، وتحولت أطروحتهم في كثير من الأحيان إلى مخططات عسكرية، وإيديولوجيا للسيطرة والهيمنة، إذ تميزت دراستهم في الغالب الأعم بحدس أنثروبولوجي أكثر منه سوسيولوجي يعتمد على الملاحظة أكثر منه على تقنيات البحث الميداني الأخرى، حيث امتلأت كتاباتهم بالوصف الدقيق لحياة الإنسان المغربي في مأكله وملبسه وطقوسه، الشيء الذي كان له تأثير واضح على النتائج النظرية التي توصلوا إليها.[11]
على سبيل الختام
إذا كان مونتاني قد شارك في السياسة الاستعمارية، من خلال مشاركته في صناعة الظهير البربري، وتوظيفه المعرفة السوسيولوجية لخدمة المصالح الكولونيالبية، وهذا ليس بالأمر الغريب، فإن جاك بيرك لم يقبل الاندماج بسهولة في الإيديولوجيا البربرية الكولونيالية، وهذا يتضح من خلال أطروحته.[12]
[1]. محمد الدهان، جاك بيرك والمغرب، إضافات المجلة العربية لعلم الاجتماع، العدد السابع - صيف 2009، ص:55
[2]. عادل المساتي، سوسيولوجيا الدولة بالمغرب، إسهام جاك بيرك، سلسلة المعرفة الاجتماعية السياسية، طبعة 2010، ص:23
[3]. الحسين الإدريسي، "ملامح تطور السوسيولوجيا في المغرب" مجلة إضافات، العدد 7، صيف 2009، ص:55
[4]. محمد الدهان، جاك بيرك والمغرب، مرجع سابق، ص:57
[5]. محمد الدهان، نفس المرجع، ص:57
[6]. محمد الدهان، نفس المرجع، ص:57
[7]. عادل المساتي، سوسيولوجيا الدولة بالمغرب، إسهام جاك بيرك، سلسلة المعرفة الاجتماعية السياسية، طبعة 2010، ص:25
[8]. إدريس حسين، مرجع سابق، ص:62
[9]. إدريس حسين، مرجع سابق، ص:64
[10]. محمد مادوي، السوسيولوجيا المغربية: من الرفض إلى إعادة الاعتبار، مرجع سابق، ص:195
[11]. خالد عاتق، هيمنة المتن القروي على السوسيولوجيا المغربية: الدواعي والأسباب، بول باسكون، أو علم الاجتماع القروي، مجموعة من الأساتذة، مطبعة دار القرويين - الدار البيضاء 2013، ص:222
[12]. عبد الصمد الديالمي، القضية السوسيولوجية، نموذج الوطن العربي، افريقيا الشرق، سنة 1989، ص:49