جدل الطبيعيات والإلهيات بين ابن رشد وابن سينا للدكتور محمد مزوز
فئة : قراءات في كتب
1 ـ مقدمة
صدر مؤخرا (2017)عن مؤسسة مؤمنون بلا حدود للدراسات والأبحاث، كتاب للدكتور: محمد مزوز، يحمل عنوان: جدل الطبيعيات والإلهيات بين ابن رشد وابن سينا. ويتكون هذا الكتاب من 277صفحة من الحجم المتوسط، كما يتوزع على ثلاثة أقسام: القسم الأول حول مفهوم العلم. ويتمفصل إلى ثلاثة فصول: الأول حول مفهوم الواحد في الثقافتين الإسلامية واليونانية، والثاني حول نظرية العلم. أما الفصل الثالث، فيرتبط بممارسة العلم. وفيما يخص القسم الثاني، فهو حول موضوع العلم، ويتوزع على فصلين: هما تصنيف العلوم، وبراهين العلوم. أما القسم الثالث، فيتخذ كموضوع له العلاقة بين الإلهيات والطبيعيات، ويتوزع على فصلين يحيلان على نوعين من هذه العلاقة: العلاقة الوجودية، والعلاقة المنطقية.
وبموجب أقسام هذا الكتاب وفصوله، والتي تحيل على البحث في سؤال الأنطولوجيا في الفلسفة العربية الإسلامية عموما وفلسفة ابن سينا وابن رشد خصوصا، يتبين بأنه يتأطر ضمن ذلك المشروع الفلسفي الذي أطلق عليه محمد مزوز اسم الأنطولوجيا الإسلامية[1]، وهو مشروع يروم من خلاله إعادة قراءة التراث العربي الإسلامي، غايته في ذلك، كما يقول، المساهمة في تجديد الوعي الإسلامي، كتجديد قوامه "الدفع بمكونات الثقافة العربية-الإسلامية في اتجاه فتح ثغرات عميقة للنفاذ إلى الوجود الشامل والاقتراب من مخاطر العدم"[2]، وما يمكن أن يؤدي إليه هذا الفتح من تقعيد نظري لمجموعة من العلوم، كالرياضيات، والفيزياء، والفلك، والطب، وعلم النفس .... كما كان الأمر مع أنطولوجيا أرسطو.
وهكذا ومن منطلق هذه القراءة للتراث، سيعمل محمد مزوز في هذا الكتاب على اختيار نموذجين من التراث الفلسفي العربي الإسلامي هما: ابن سينا وابن رشد. وهذا الاختيار لم يكن اعتباطيا، بل استند على معطيين أساسيين هما: الأول كون هذين الفيلسوفين يختزلان الفلسفة الإسلامية برمتها، لأن كلا منهما يشكل قمة تطور: ابن سينا بالنسبة إلى الفلسفة المشرقية، وابن رشد بالنسبة إلى الفلسفة المغربية.[3] أما المعطى الثاني، فيتجلى في كون هذين الفيلسوفين قد انخرطا في علاقة حوار، دشنها ابن رشد. حوار يرى محمد مزوز أن له خلفياته الثقافية الإسلامية / اليونانية؛ أي لا يمكن فصله، في نظره، عن موقف هذين الفيلسوفين مما ترتب عن التقاء وتداخل هاتين الثقافتين، منذ عصر الترجمة، من إثارة لإشكالات حول قضايا أنطولوجية/ إبستيمولوجية، تمثلت أساسا في ثلاث إشكاليات هي: إشكالية مفهوم العلم، وإشكالية موضوعه وإشكالية علاقة العلم بالميتافيزيقا؛ وجوديا ومنطقيا، باعتبارها هي الإشكالية الأم في هذا الكتاب مادام موقف هذين الفيلسوفين من هذه الإشكالية الأخيرة سينظر إليه كحصيلة منطقية لموقفهما من الإشكاليتين الأوليتين.[4] وهو موقف سيعمل محمد مزوز على الكشف عن دوره في الارتقاء، بهذه الدرجة أو تلك، كما يقول، إلى مستوى امتطاء مسلك الأنطولوجيا كوعي حضاري إبداعي، وكسبيل مؤدي إلى الكشف عن قناع الوجود عبر "المسير من الكل إلى الأجزاء: من الأنطولوجيا إلى العقيدة والسياسة والاجتماع والعلم ..."[5]
هذا، وقد استند صاحب الكتاب في هذا الحوار على فرضيتين: الأولى، هي أن الحوار الذي دار بين ابن رشد وابن سينا حول علاقة الطبيعيات بالإلهيات، لا يمكن فصله عن حوار الثقافة الإسلامية مع الثقافة اليونانية حول مفهوم العلم. أما الفرضية الثانية: فهي اعتبار المشروع الفلسفي لكل من ابن سينا وابن رشد يقوم على مصادرات ومسلمات لا تسمح بالوصول إلى النتائج نفسها فيما يخص موقفهما من علاقة الطبيعيات بالإلهيات، هذا على الرغم من قراءتهما لنفس النص الذي هو النص الأرسطي.[6]
2 ـ إشكالية مفهوم العلم في الثقافتين الإسلامية واليونانية
ترتبط إشكالية مفهوم العلم بتحديد مفهوم الواحد، وبنظرية العلم وممارسته. وهذا ما يجد مسوغه، حسب محمد مزوز، في كون هذا الواحد "هو المحور العام الذي تدور حوله الثقافات الكبرى، وصيغة ذلك الواحد هي التي تحدد طبيعة الاجتهاد النظري في هذا الحقل الثقافي أو ذاك."[7] ومن بين مظاهر هذا الاجتهاد، النشاط العلمي. وهذا ما ينطبق على الثقافتين الإسلامية واليونانية، فهما كثقافتين كبيرتين قد تمركزتا حول مفهوم الواحد.
يرى صاحب الكتاب بأن الثقافة الإسلامية قد منحت صيغة غيبية لمفهوم الواحد، وهي صيغة ستنعكس على مفهومها للعلم، حيث إنه هو بدوره سيتخذ صبغة غيبية ستعبر عن نفسها في مظهرين رئيسين عبر تاريخ هذه الثقافة: المظهر الأول ويتجلى في ربط العلم بمعرفة الله الواحد الأحد والدفاع عنه، كذات متعالية ومنفصلة عن العالم. وهذا ما سيتقاسم البحث فيه كل من النص القرآني والمذاهب والفرق الدينية، والكلامية. هذا مع الإشارة إلى أهمية هذه الفرق الكلامية في توسيع مفهوم العلم، حيث لم يعد يعني استخلاص الأحكام الشرعية، أو البحث عن الأدلة الشرعية كما كان مع الفرق الدينية الأخرى، بل أصبح يعني البحث في المبادئ الأولى التي تتحكم في بناء العلم ذاته كعلم للواحد المجرد الذي لا يقبل الانقسام والمنزه من كل الصفات التي تحيل على الاتصال بالعالم.[8]
أما المظهر الثاني لمفهوم العلم في الثقافة الإسلامية، فيتجلى لدى مجموعة من الفرق العرفانية والشيعية والباطنية المتشبعة بالمعتقدات القديمة، كالغنوصية، والهرمسية، والفلسفة الأفلاطونية المحدثة المتسربة إلى المجتمع الإسلامي بفعل اتساع رقعته الجغرافية، وهي فرق ستعمل على إلباس هذه المعتقدات والأفكار لبوسا إسلاميا[9]، مما سيجعلها تبني تصورها الخاص للواحد أو الله، باعتباره ليس متعاليا عن العالم الذي صدر عنه، كما يدعي الفقهاء وعلماء الكلام. ومن هنا سينبني مفهومها للعلم على البحث في علاقة الاتصال بين الله والعالم، باعتبارها هي العلاقة التي تصون جوهر التوحيد الحق وتحافظ على تنزيه الواحد، كتنزيه لا يتحقق إلا بالكشف عن حضور الله في العالم وتجلي الخالق في المخلوق.[10]
أما الثقافة اليونانية، فإن مفهوم الواحد فيها قد ابتعد عن الصيغة الدينية ليتخذ صيغة طبيعية. وهذا ما سينعكس على مفهوم العلم. فالعلم في هذه الثقافة سيحيلنا على البحث في الواحد في دلالته الطبيعة. وهذا ما تجلى لدى الفلاسفة الطبيعيين اليونان، مثل طاليس وأنكسامنس وهيرقليط ...فهم قد استندوا على الواحد في دلالته هاته لتفسير الوجود[11] (الماء الهواء النار...) كما أن هذا ما تجلى لدى أرسطو الذي، سيغير المعنى الأخلاقي الذي كان العلم يسخر من أجله مع أفلاطون وسقراط؛ وذلك عبر توضيح العلاقة الدقيقة بين ما هو علمي وما هو أخلاقي. معتبرا بأن المعرفة تصبح علمية عندما تكتشف الطبيعة الكلية السارية بين الجزئيات الحسية؛ أي عندما تصبح معرفتنا معرفة بما هو كلي.[12]
وهكذا وبرصد صاحب الكتاب لهذا الاختلاف في تحديد مفهومي العلم والواحد في الثقافتين اليونانية والإسلامية، سيعتبر بأن تلاقي هاتين الثقافتين على أرض المجتمع العربي الإسلامي بفعل عملية الترجمة، سيؤدي إلى تكريس خلط معرفي سيطال مفهوم العلم. وهذا ما اقتضى ضرورة من الفلاسفة المسلمين إعادة بناء هذا المفهوم، وذلك بالاستناد على شرح الفلسفة الأرسطية، لتحديد معايير، وأدوات، وشروط، وموضوعات هذا العلم. كل هذا في أفق الفرز في الخطابات السائدة في المجتمع العربي الإسلامي، بين ما ينتمي للعلم وما يتناقض معه.[13]
وهكذا وتماهيا مع الفلسفة الأرسطية سيميز ابن سينا وابن رشد بين خمسة أشكال من الخطابات هي: الخطاب البرهاني، والخطاب الجدلي، والخطاب السفسطائي، والخطاب الشعري والخطاب الخطابي[14].
فبالنسبة إلى الخطاب البرهاني، يرى الأستاذ محمد مزوز بأن ابن سينا وابن رشد يتفقان إجمالا على كونه وحده يجسد العلم، في مقابل الخطابات الأخرى، باعتبارها غير علمية ممثلة في الخطابين الجدلي والسفسطائي. لكن اشتراك هذين الخطابين مع الخطاب البرهاني في البحث في موضوع واحد، هو ما بعد الطبيعة، أو الوجود المطلق، ولجوء صاحب البرهان، في حالات معينة، إلى الاستعانة بالجدل، باعتباره أقرب الخطابات للخطاب البرهاني[15]، مثلا في البحث لإبراز الاحتمالات الممكنة لحل معضلة ما، كل هذا سيجعل العلاقة بين هذه الخطابات علاقة ملتبسة. فالعالم أو صاحب الخطاب البرهاني، قد يستعين بالقول الجدلي للوصول إلى اليقين أو الحقيقة العلمية، وذلك في مواضع دقيقة يستعصي فيها الحل، أو تلك التي لم يترك حولها القدماء حلا معينا. كل هذا سيفتح المجال للاختلاف بين هذين الفيلسوفين حول شروط الممارسة العلمية. فابن رشد، سيظل حذرا من استعمال الجدل والسفسطة من طرف صاحب الخطاب العلمي، وذلك تجنبا لعدوى اللاعلم التي تأتي إلى الخطاب العلمي من هذين الخطابين[16]. وهكذا سيعتبر فيلسوف قرطبة بأن القياس الجدلي عندما يستعان به في الخطاب البرهاني العلمي، فيفترض أن يوظف كمجرد وسيلة فقط وليس كغاية. فـ "الهدف من الاستعانة بالفحص الجدلي هو إبراز الاحتمالات الممكنة للحل، وتنتهي مهمة هذا النوع من الفحص بالكشف عن هذه الاحتمالات ليبدأ الفحص البرهاني بعد ذلك."[17]
أما ابن سينا، فعلى عكس ابن رشد، فإنه سيوظف الجدل كغاية في الخطاب البرهاني. ومن هنا كانت النتيجة، في نظر ابن رشد، هي تسرب علم الكلام لفلسفة ابن سينا[18]، فانتهى بذلك إلى تخريب القول العلمي. ومن مظاهر هذا التسرب القول بنظرية الفيض، والتي تعتبر الوجود ممكنا بأسره؛ أي خاليا من الضرورة، لأنه لا يوجد نفسه بنفسه. فهو يحتاج لمن يخرجه من الإمكان إلى التحقق.[19]
ويرى محمد مزوز بأن هذا الاختلاف حول مناهج العلم بين ابن سينا وابن رشد، سينعكس على تصورهما لموضوع العلم. وهذا ما سيخصص له القسم الثاني من هذا الكتاب.
3 ـ إشكالية موضوع العلم بين ابن سينا وابن رشد.
لقد شكل موضوع العلم، حسب صاحب الكتاب، مجالا للنقاش الساخن بين ابن رشد وابن سينا حول تصنيف العلوم وبراهينها، وخاصة منها العلوم النظرية. هذا رغم إحالتهما على نفس المرجعية النظرية، والتي هي الفلسفة الأرسطية. فبموجب هذه المرجعية سيقران بأن الخطاب العلمي النظري مهما كان خطابا واحدا، فإن موضوعاته متعددة، وهي تنقسم أيضا إلى ثلاثة أقسام: الظواهر الطبيعية، كظواهر متحركة ومتغيرة ويدرسها علم الطبيعة، الوجود الطبيعي المجرد ذهنيا عن التغير، وهو موضوع علم التعاليم. الوجود البريء أصلا من التغير، أو العرضي فيه، وهو موضوع علم ما بعد الطبيعة[20]. وهذه العلوم النظرية بحكم اختلاف موضوعاتها، فهي تنقسم إلى علوم كلية؛ وهي التي تنظر في الكليات العامة، أي الموجودات المطلقة. وهذا ما يتجلى في علم ما بعد الطبيعة. ثم علوم جزئية وتتمثل في العلوم الطبيعية والرياضية. وهذه العلوم النظرية بحكم موضوعاتها هاته، فإنها تتدرج تصاعديا مما هو أدنى إلى ما هو أعلى؛ أي مما هو مادي حسي ومتغير وغير مجرد، وهو العلم الطبيعي، إلى ما هو مادي مجرد وهو الرياضيات، وصولا إلى الميتافيزيقا، باعتبارها الأكثر تجريدا[21].
لكن ورغم هذا الاتفاق بين ابن سينا وابن رشد حول تصنيف العلوم تبعا لخصوصية موضوعاتها، فإنهما مع ذلك سيختلفان في مجموعة من القضايا التي لها علاقة بهذا التصنيف، ترتبط بتحديدهما للعلوم النظرية استنادا إلى خصائص موضوعاتها من جهة، ومناهجها أو براهينها من جهة أخرى.
فبالنسبة إلى علم الطبيعة، فهو في نظر ابن سينا علم يدرس الطبيعة باعتبارها مرادفة للوجود المادي الخارجي كوجود ممكن بذاته وواجب بغيره. وبهذا، فالطبيعة في نظره لا تحمل المقومات الضرورية لبقائها وثباتها الدائمين، ومن هنا فهي طبيعة جائزة وليست ضرورية. كما أن وجودها غير واضح، لأنه وجود متغير وفاسد، مادام أنه مجموعة من الجزئيات. وبما أنه لا علم بما هو جزئي، فلا برهان على الجزئيات، لذلك يتدخل العلم الإلهي ليبيّن هذه الطبيعة لعلم الطبيعة.[22]
وفيما يخص ابن رشد، فإنه، واستنادا على أرسطو، يعتبر أن موضوع علم الطبيعة هو ما يوجد في الطبيعة، وهو يميز في هذه الطبيعة بين الوجود الهيولاني والخارجي، وبين "الطبع" أي تأثير الأسباب في المسببات، أو ما يدعى (...) بـ "الطبيعة السارية بين الأجسام"[23] وهذا معناه أنه لا يختزل الطبيعة في مفهومها الضيق؛ أي باعتبارها تغيرا محضا وحركة فقط، كما ابن سينا، بل إنه علم يتجاوز هذا ليبحث في الأسباب العامة، ممثلة في السبب المادي، والصوري، والفاعل، والغائي، كأسباب لا تخضع للحركة؛ لأنها ليست أجساما، وإنما هي مجرد مفاهيم. فموضوع علم الطبيعة إذن لا يقتصر على الموجود المتغير، بل يمتد إلى طرفيه؛ أي إلى الأسباب ولواحق هذا الموجود، مثل الزمان، والمكان، والاتصال، والانفصال، والتناهي، واللاتناهي ...[24]
أما علوم التعاليم ممثلة في: علم العدد، علم الهندسة، علم المناظر (البصريات)، علم النجوم، علم الموسيقى، علم الأثقال، علم الحيل، فهي علوم خاضعة لتراتبية تصاعدية من الأقل تجريدا ممثلا في علم الحيل، إلى الأكثر تجريدا ممثلا في علم العدد. وهذه التراتبية ستثير إشكالا لدى ابن سينا وابن رشد، يتجلى في ذلك اللبس الذي يثيره موضوع علم العدد، والمتمثل في الواحد. إنه موضوع جعلته طبيعته المفارقة للمادة يطرح نفسه كموضوع مشترك بين علم العدد وعلم ما بعد الطبيعة[25]. ومن هنا، ستطرح مسألة الحدود بين الواحد في بعده العددي، وبين الواحد في بعده الوجودي الميتافيزيقي. صعوبة ستعبر عن نفسها في حضور مفهوم الواحد بدلالتين مختلفتين في تصورهما لعلاقة الإلهيات بالطبيعيات كما سوف نرى في القسم الثالث من هذا الكتاب.
وفي إطار تعريفه لعلم ما بعد الطبيعة، فإن ابن سينا يرى بأن موضوع هذا العلم يتوزع على ثلاثة أقسام: الأول هو معرفة المبدأ الأول الذي يفيض عنه الوجود بأسره، وهو الله. القسم الثاني: يبحث في أعراض هذا الوجود؛ أي لواحقه العامة التي هي: الواحد، والكثير، والقوة، والفعل، والكلي، والجزئي، والواجب، والممكن. القسم الثالث: ويفحص مبادئ العلوم الجزئية وموضوعاتها حتى إذا بلغ درجة من التخصيص سلمها إلى العلوم الجزئية، إما من جهة ماهي موجود متحرك، كموضوع لعلم الطبيعة، وإما من جهة ما هي موجود متكمم أي كموضوع الرياضيات. وهكذا، فالميتافيزيقا هي التي تسلم للموضوعات الجزئية موضوعاتها، لأنها علوم عاجزة عن النظر الإبستيمولوجي في مبادئ موضوعاته.[26]
أما ابن رشد، فيرى بأن علم ما بعد الطبيعة، بالرغم من تفريعات موضوعاته، هو علم يتمحور موضوعه حول البحث في مبادئ الموجود بما هو موجود؛ أي مبادئ الجوهر المحسوس بقسميه السرمدي والأفلاك، والطبيعي الفاسد، والنظر في مبادئه أو علله الأربعة: الفاعلة، والمادية، والصورية، والغائية[27]. وهكذا، فإن مبادئ الوجود في منظور فيلسوف قرطبة، لا يمكن أن تختزل إلى مبدأ واحد، هو الفاعل للكل، كما يدعي ابن سينا، لأن الموجود له مبادئ غير فاعلة مثل الغاية والصورة والمادة. ولهذا، نجد الموجود مرة ينسب لفاعله، ومرة لغايته، ومرة لصورته، ومرة لمادته. ولا يمكن أن تكون له نسبة واحدة متواطئة.[28] وعلم ما بعد الطبيعة بالإضافة إلى نظره في علل الجوهر، فإنه يبحث في أعراضه التسعة؛ أي المقولات؛ إذ لا يعقل موجود ما يقع خارج المقولات العشر.[29]
هكذا إذن يخلص بنا صاحب الكتاب إلى أن ابن سينا وابن رشد قد اختلفا في تحديد خصائص موضوع كل علم من العلوم النظرية الثلاثة، وهو اختلاف يكشف لنا عن صعوبة إيجاد تصنيف موحد للعلوم لديهما. ومن هنا ولمواجهة هذه الصعوبة سيلجأ هذان الأخيران إلى المقاربة البرهانية، حيث سيتساءلان عن أنماط البراهين التي تستعملها هذه العلوم في تبيان الموجود الذي تبحث فيه، أو سببه، أو هما معا.[30] وبهذا سنكون أمام ثلاثة براهين تفرضها طبيعة موضوعات هذه العلوم النظرية: برهان الوجود، برهان السبب، البرهان المطلق؛ أي برهان الوجود والسبب. سيعمل صاحب الكتاب على الوقوف عندها بشكل معمق في النقاش الذي دار بين الفيلسوفين حول هذه العلاقة، وذلك في القسم الأخير من هذا الكتاب؛ والمتعلق بالبحث في إشكالية العلاقة بين الطبيعيات والإلهيات.
4 ـ إشكالية العلاقة بين الطبيعيات والإلهيات
بانتقال صاحب الكتاب لإشكالية العلاقة بين الطبيعيات والإلهيات، سيضعنا أمام البؤرة الإشكالية لهذا الكتاب ممثلة في إشكالية تعاون هذه العلوم. إنها إشكالية ستجسد العمق الفلسفي في الحوار الذي دار بين ابن سينا وابن رشد، إذ سيتم فيه توظيف الرؤية الفلسفية لكل منهما للعالم، والتي وفقها كانا يقرآن النص الأرسطي. وهذا ما جعل هذا الحوار يرتقي إلى مستوى تقليب النظر في مختلف أبعاد هذا التعاون، ممثلة بالخصوص في البعدين الوجودي المنطقي. كما سيتم تقليب النظر في مفاهيم أرسطية دقيقة ممثلة في: الجوهر، الواحد، الأسباب.
فعلى مستوى البعد الوجودي لعلاقة التعاون بين العلوم، سيعمل ابن سينا وابن رشد على إعادة قراءة تلك القاعدة الموروثة عن أرسطو، والتي قوامها أن العلم الأكثر تجريدا يقوم بالبرهنة على موضوعات العلوم الأقل تجريدا. فوفق هذه القاعدة، فإن اختلاف موضوعات العلوم النظرية الجزئية عن موضوعات علم ما بعد الطبيعة، لا يحول دون العثور على جسر رابط بينها؛ يتجلى في كونها تبحث في موضوعين مشتركين هما الجوهر والواحد.[31] لكن لكل من الرجلين فهمه الخاص لهذين الموضوعين؛ هذا رغم انطلاقهما من التصور الأرسطي له، والذي ينبني على التمييز فيه بين جوهرين، جوهر محسوس وآخر غير محسوس. فالأول ينقسم إلى قسمين: جوهر كائن وفاسد يتمثل في النبات والحيوان والإنسان، وجوهر سرمدي من طبيعة مفارقة يتمثل في الأفلاك السماوية. أما الجوهر الثاني، فهو جوهر واحد غير محسوس ويشكل موضوع علم ما بعد الطبيعة.[32]
فابن سينا، حسب الأستاذ محمد مزوز، سيعمل على تطويع هذا التصور الأرسطي للجوهر، ليصبح منسجما مع فلسفته المشرقية، حيث سيستثمر شروحات المفسرين الأفلوطينيين المحدثين لفلسفة أرسطو، من أجل إدخال تعديلات عليه لتتلاءم مع فلسفته هاته. تعديلات بموجبها سيميز بين ثلاثة جواهر: جوهر مفارق، صورة، مادة. فالجوهر المفارق (الواحد) هو الأشرف، لأنه هو الفاعل الأول. أما الصورة، فتأتي في الوسط. ويليها الجوهر المحسوس الفاسد ممثلا في الهيولى، باعتبارها قابلة للصور التي تأتي بها الرسوم التي تفيض عن العقول والأفلاك[33]. وهكذا سيخضع هذه الجواهر لتراتبية تنازلية لكي تتحمل مفعول الفيض الصادر عن الجوهر المفارق. فبموجب هذا الفيض، فإن كل المعارف الطبيعية حول الجوهر المحسوس المفارق؛ أي حول الأفلاك السماوية ستستمد من المعارف الإلهية؛ أي من الواحد كمصدر للفيض. ومعنى هذا أن "الفيلسوف الأول هو الذي يبرهن مبادئ الجوهر السرمدي، بينما يتسلمها منه العالم الطبيعي، ويضعها وضعا"[34]
وهكذا، وبلجوء ابن سينا لنظرية الفيض الأفلوطينية، فإنه بذلك سيثير إشكالية الواحد. فهو سينظر لهذا الواحد كجسر ثاني، إضافة للجوهر، يربط بين الإلهيات والطبيعيات. فالواحد وفق هذه النظرية سيحضر بحمولته الغيبية التي اكتسبها من الإسلام والفرق الكلامية والباطنية. فابن سينا سينظر إليه كسبب فاعل من خارج الكون؛ لأنه هو الذي يوجد الكائنات العلوية والسفلية. وعملية الإيجاد تبدأ بواسطة اشتغال فعل مفارق بدوره، هو التعقل والذي تتولد عنه مبادئ أو أسباب الموجودات الجزئية، وهو فعل من طبيعة الواحد النوعية كوجود مفارق. ومن هنا، فإن هذه الموجودات، من حيث هي موضوعات للعلوم الجزئية، هي، في نظر ابن سينا، ناتجة عن المبادئ، والمبادئ تتولد عن تعقل الواحد لذاته. ومن هنا، فإذا كانت عملية التعقل بالنسبة إلى الإنسان يشترط فيها وجود الكائنات أولا، ثم انطباع صورها في أذهاننا ثانيا، فإن الأمر على العكس من ذلك بالنسبة إلى الواحد، أو العقل الأول في نظرية الفيض السينوية.[35] وابن سينا بهذا يبدأ من الواحد في صيغته الميتافيزيقية وينتهي إلى الطبيعة.
وفيما يخص موقف ابن رشد من إشكالية الجوهر، فإنه سيعبر عنه في رفضه للتمييز الذي وضعه ابن سينا بين الجوهر المحسوس والجوهر السرمدي. فالعلم الطبيعي كما رأينا فوق لا يختص بالبحث في الجوهر المحسوس الفاسد، بل يبحث أيضا في الجوهر المحسوس السرمدي، والذي يشكل في نظره موضوعا لأحد العلوم الطبيعية وهو الكسمولوجيا.[36]
أما على مستوى إشكالية الواحد، فإن ابن رشد سيعمل على تكثيره من أجل نسف نظرية الفيض الذي هو منبعها عند ابن سينا. وهكذا سيعتبر بأن الواحد ليس جوهرا، أو مبدأ واحدا هو أصل جميع الموجودات، كما يدعي ابن سينا. فالواحد لا يشكل كيانا مستقلا بذاته وأمرا زائدا على الوجود أو غير قابل للتجزئة، فهو يقال على الموجود في تعدده؛ أي إنه ليس جوهرا قائما بذاته، ومن هنا طابعه المتعدد.[37] وبهذا يتضح كيف أن ابن رشد يستبدل "الواحد / الأصل بأنواع الوجود الكبرى ومبادئه القصوى التي هي المادة الأولى والمحرك الأقصى، ثم الصورة والغاية".[38] كما يتضح أن أبا الوليد وعلى خلاف من ابن سينا، يبدأ من الطبيعة وينتهي إلى المحرك الأول والمادة الأولى كموضوع، مما يعني أن هذا العلم هو الذي يمنح للعلم ما بعد الطبيعة موضوعه وليس العكس.
هكذا، فإن جوهر الخلاف بين ابن سينا وابن رشد فيما يخص البعد الوجودي لمسألة تعاون العلوم يتجلى في كون ابن سينا يسير من الميتافيزيقا إلى العلم، بينما ابن رشد يسير من العلم إلى الميتافيزيقا. وهذا الاختلاف بينهما في السير سينعكس على تصورهما لعلاقة التعاون بين العلوم في بعدها المنطقي بما هو تعاون منهجي إبستيمولوجي وأنطولوجي.
فعلى مستوى التعاون المنهجي الإبستيمولوجي بين العلوم يرى ابن سينا، بأن العلم الطبيعي يتسلم مبادئه من علم ما بعد الطبيعة، كمصادرات ومسلمات. وما هذه المبادئ سوى العلل الأربعة (المادية والصورية، والفاعلة والعئية)، مأخوذة كموجودات أو كائنات، والتي ليس لعالم الطبيعة الحق في النظر فيها، لأنها كلية وخالية من الحركة، أي خارجة عن مجال الطبيعيات.[39] كمجال لما هو متحرك ومتغير، وعرضي وصادق نسبيا، في مقابل ما هو كلي وثابت وصادق بشكل مطلق وعلمي.[40] ومن هنا يرى ابن سينا بأن البرهان في العلم الطبيعي مستحيل. فهذا العلم غير قادر على إعطاء سبب وجود موضوعه، بل هو قادر على بيان وجوده فقط وليس أسبابه.[41]
أما ابن رشد، فهو يرفض هذه الدعوى السينوية؛ وذلك لأنه لا يصنف العلم الطبيعي كعلم أدنى في مقابل تصنيف علم ما بعد الطبيعة كعلم أعلى. كما يرفض القول باستحالة قيام معرفة برهانية ثابتة على موضوعات عالم الحس، بدعوى أنها متغيرة وفي صيرورة دائمة؛ كما تدعي ذلك الفلسفة الأفلاطونية [42]. فموضوعات علم الطبيعة يمكن استقراء جزئياتها من طرف عالم الطبيعة عن طريق المقارنة واستنتاج التشابهات ورصد الاختلافات، باعتبارها هي التي تؤسس الكلي وتسمح باستنتاج القوانين التي تخضع لها هذه الموضوعات. كما تسمح بالكشف عن تلك الطبيعة السارية بين جزئيات هذه الموضوعات كطبيعة محايثة، وليس كطبيعة مفارقة كما يدعي ابن سينا. وهذه الطبيعة السارية تظل ثابتة على الرغم من تغير مظاهر الأشياء وصيرورتها وهذا ما أغفله ابن سينا بإلهام من أفلاطون.[43]
وفيما يخص البعد الأنطولوجي لعلاقة التعاون المنهجي بين الطبيعيات والإلهيات، يرى ابن رشد بأن علاقة التعاون بين العلوم الجزئية، لا تصح إلا بين موضوعات العلم التعاليمي وموضوعات العلم الطبيعي. وهذا راجع إلى كون علم ما بعد الطبيعة ليست له براهين يمكنه أن يقدمها للعلوم السفلى (علم الطبيعة وعلم التعاليم)، وإنما يستعمل براهين منطقية عامة. لذلك، فإن كانت هناك علاقة ما تجمع بين هذا العلم والطبيعيات، فلا يمكن أن تكون علاقة تعاون بين براهين، وذلك لأن العلم الإلهي لا يمكنه أن يبرهن مبادئ العلم الطبيعي بالأسباب؛ لأن موضوع هذا الأخير إنما تتبين مقدماته ومبادئه ببراهين الوجود. فالعلم الإلهي هو العلم الوحيد الغير القادر على بيان مبادئه وموضوعاته، نظرا لأن علم التعاليم يبرهن على موضوعاته ببراهين قوية، هي براهين الأسباب والبراهين المطلقة. أما العلم الطبيعي، فيبرهن على موضوعاته بالدلائل. ولهذا يستحيل أن تتبين موضوعات العلم الإلهي إلا انطلاقا من هذين العلمين. فالعلم الطبيعي يعطي لهذا العلم موضوعاته. أما العلم التعاليمي، فيبين له عدد حركاتها.[44] وهكذا يقلب ابن رشد علاقة التعاون بين العلم الأعلى والعلم الأدنى، فهذه العلاقة ليست نازلة بل صاعدة. وقلب هذه العلاقة سيؤدي إلى قلب وظيفتها القديمة أيضا؛ والتي كانت تقوم على تقديم البرهان لعلم من طرف علم آخر، بل أضحت تقوم بوظيفة تقديم الموضوع نفسه، أو جزءا منها. وهذا ما يحصل بين العلوم الجزئية والعلم الإلهي كعلم كلي. فهذا الأخير لا يبرهن، وإنما يقيم علاقات منطقية لا غير. فهو لا يعطي للعلم الطبيعي سوى مبادئ الأسباب، لأنه غير قادر على البرهنة حتى على موضوعاته فبالأحرى على موضوعات العلم الطبيعي.
وهكذا سيتجنب ابن رشد، حسب محمد مزوز، ذلك الخلط لدى ابن سينا، والذي لم يميز بموجبه بين الأسباب الأنطولوجية والأسباب الإبستمولوجية. فالأسباب التي ينظر فيها صاحب علم ما بعد الطبيعة (الأسباب الأربعة) والتي تنسجم مع طبيعة موضوعه، الذي هو الوجود المطلق، هي أسباب ينظر إليها في بعدها الأنطولوجي المطلق، أي من حيث هي أحد موجودات العالم التي تتقوم بجوهريتها المطلقة، والتي يسلمها إلى العلوم الطبيعية. هذا بينما هذه العلوم تنظر لهذه الأسباب الأربعة في بعدها الإبستيمولوجي؛ أي من جهة أنها أسباب خاصة ومفاهيم إجرائية، وبالتالي من حيث هي علل للجسم الطبيعي كجسم متحرك ومتغير. وهكذا تعتبر هذه العلوم بأن طريق الحركة والتغير (موضوع للعلم الطبيعي) هي الطريق الوحيدة التي يمكن أن تفضي إلى المادة الأولى والمحرك الأول كموضوع للعلم الإلهي. أما الطريق الإلهي، فهو عاجز عن إيصالنا إلى هذين المبدأين إلا إذا قلنا بالفيض وتسلسله كما فعل ابن سينا.[45]
خاتمة
هكذا إذن، يخلص بنا صاحب الكتاب إلى أن جدل الطبيعيات والإلهيات بين ابن سينا وابن رشد، جعلنا أمام مصير مزدوج للثقافة الإسلامية؛ لأنه جدل كان يسير على خطين متوازيين لا يلتقيان أبدا، هما الطريق الإلهي مع ابن سينا، والطريق الطبيعي مع ابن رشد. وابن سينا عندما سلك مسلكه الإلهي هذا، فإنه قد اعترض على الوجود الطبيعي وعلى الدراسة العلمية المستقلة لهذا الوجود، وتبنى رؤية ميتافيزيقية وصوفية للعالم خلط فيها بين مذاهب فلسفية وعقائدية إسلامية وغير إسلامية كثيرة انتهت به إلى تأويل النص الأرسطي تأويلا ميتافيزيقيا قوامه تكريس تبعية الطبيعيات للإلهيات، والعلم للميتافيزيقا. ومن هنا كانت فلسفته، حسب الأستاذ مزوز، فلسفة فروع مشرعة الأبواب اتجاه العلم والغيب على السواء. بينما ابن رشد فإنه، باختياره لمسلكه الطبيعي، فهو قد تبنى رؤية علمية قائمة على الفصل بين العلم واللاعلم أو الغيب وعدم الخلط بينهما، انتهت به إلى تأويل النص الأرسطي تأويلا ملتزما بقواعد المنطق وأصول المعرفة العلمية. وبموجب هذا التأويل دافع عن استقلالية العلم عن الميتافيزيقا. وبهذا كانت فلسفة ابن رشد فلسفة أصول أغلقت أبوابها أمام الغيب في مختلف تجلياته الفقهية والكلامية والصوفية، فانتصرت بذلك لأصول المعرفة العلمية.[46]
وبهذه القراءة لحوار ابن رشد مع ابن سينا، يوحي الأستاذ محمد مزوز بأن فيلسوف قرطبة، وعلى عكس ابن سينا، قد ساهم في عصره في تجديد الوعي الإسلامي، من خلال امتطائه لمسلك الأنطولوجيا كوعي حضاري إبداعي مكنه من النفاذ إلى الوجود الشامل والكشف عن قناعه، وذلك عبر انحيازه للعلم ومحاربة هيمنة الميتافيزيقا عليه، والمسير من الكل إلى الأجزاء: من الأنطولوجيا إلى العلم[47]. وهو بهذا إنما أراد أن يجدد الدعوة، التي هي قوام تاريخ التوحيد، لتصبح هذه المرة دعوة للتمسك بالجذور الصلبة للتفكير الفلسفي والعلمي، والتي بموجبها سيعمل على نقل المجتمع العربي الإسلامي من حالة لاهوتية إلى حالة علمية.[48]
وهكذا، فإن الصورة التي سيكونها الأستاذ محمد مزوز عن ابن رشد هي صورة ذلك الفيلسوف المعادي للميتافيزيقا بشكل مطلق والمنتصر للعلم الطبيعي بشكل مطلق. في مقابل صورة معاكسة لابن سينا، والتي بموجبها يغدو خصما عنيدا للعلم، وهي صورة، في الحالتين معا، لا تخلو، في نظرنا، من مبالغة. قد يعترض علينا صاحب الكتاب بأنه قد استند في بناء هذه الصورة على نصوص الرجلين، وتلك فضيلة علمية تحسب له، وذلك تجنبا منه لما يشوش عليه هذا البناء. لكننا نعتقد مع ذلك أن قراءته لهذه النصوص ظلت موجهة في الخفاء برؤية وضعية جعلته، في نظرنا، يختزل هذين الفيلسوفين في وجه واحد: الوجه العلمي بالنسبة إلى ابن رشد، والوجه اللاهوتي بالنسبة لابن سينا. هذا مع العلم أن المنطق الذي حكم تأليف هذا الكتاب هو اعتبار حوار الرجلين حول علاقة الطبيعيات بالإلهيات كان محكوما بخلفيتين ثقافيتين متفاعلتين، هما الثقافة اليونانية والثقافة الإسلامية، والتي انطلاقا منهما سيقرآن النص الأرسطي، كما يؤكد ذلك الأستاذ محمد مزوز في القسم الأول من هذا الكتاب. وهذا من شأنه، في نظرنا، أن يجعل الخطاب الفلسفي لهذين الفيلسوفين ذا وجهين: علمي وإلهي. ونحن بهذا لا نعني توازن هذين الوجهين عندهما، وإنما نعني حضورهما معا عند كل منهما، لكن بدرجات متفاوتة. وهكذا فنحن وإن كنا لا ننكر مع الأستاذ مزوز انتصار ابن رشد للعلم ضدا على الميتافيزيقا، لكن لا لدرجة، كما يقول محمد المصباحي، نفي الوجه الآخر لابن رشد، ممثلا هنا بالخصوص في الوجه غير العلمي والميتافيزيقي، والذي هو من بين ما سيعبر من خلاله عن انتمائه للثقافة الإسلامية كثقافة قروسطية ذات أفق غيبي وميتافيزيقي. وهذا ما يفسر مثلا، كما يقول الأستاذ المصباحي، ذلك الولع الرشدي بـ "البحث عن الأول في كل شيء على مستوى العلل والمقولات والمحركات والعقول والمواد (كبحث) .... جعل أنطولوجيته تنتهي إلى أفق تيولوجي."[49] كما أن هذا ما يفسر قول ابن رشد بوحدة العقل، والذي قاده "إلى فصله عن الأفراد مما يحرمهم من ملكية عقلهم الخاص أي من أناهم، لقاء مشاركتهم في عقل عام"[50]، هو العقل الفعال كعقل مفارق وميتافيزيقي منه تستمد الذات مددها المعرفي العلمي[51]. كما أننا في نفس الوقت لا ننفي طغيان الوجه الميتافيزيقي على الخطاب السينوي، ولكن هذا لا يعني أنه كان جاحدا بشكل مطلق للعلم، وإلا كيف نفسر إسهاماته الكبيرة في علم الطب؟ كما أن نظرية الفيض، والتي كانت حسب صاحب الكتاب، هي ما من خلاله سيكرس تبعية الطبيعيات للإلهيات، سواء على مستوى الموضوع أو المنهج، فهي نظرية لو أدركناها في سياقها الذي وردت فيه، والمتمثل في مواجهة نظرية الخلق من عدم الكلامية، لتأكد لنا أن لها وجهها الآخر الغير الميتافيزيقي. فهي نظرية قد استندت على الفيض للدفاع عن قدم العالم، كمبدأ علمي، تشبث به أرسطو ومن بعده ابن رشد.
[1] هذا هو موضوع بحث محمد مزوز في كتابه، من أجل أنطولوجيا إسلامية، منشورات الملتقى، مطبعة النجاح، الدار البيضاء، الطبعة الثانية 2004
[2] من أجل أنطولوجيا إسلامية، م س، ص 10
[3] محمد مزوز، جدل الطبيعيات والإلهيات بين ابن رشد وابن سينا، مؤسسة مؤمنون بلا حدود، الطبعة الأولى، 2017، ص 11
[4]وهذا ما سيجعل هذا الكتاب خاضعا لأسلوب منطقي برهاني في الكتابة ينسجم مع الأسلوب الرشدي.
[5] من أجل أنطولوجيا إسلامية، م س، ص 10
[6] جدل الطبيعيات والإلهيات، م س، ص 170
[7]نفسه، ص 88
[8]نفسه، ص 28
[9] نفسه، ص 23/24
[10] نفسه، ص 33
[11] نفسه، ص 35
[12] نفسه، ص 37
[13] نفسه، ص 43/44
[14] نفسه، ص45
[15] نفسه، ص 59/60
[16] نفسه، ص 69
[17] نفسه، ص69
[18] نفسه، ص 74
[19] نفسه، ص 81
[20] نفسه، ص 96/97/ 98
[21] نفسه، ص 101/102/103/104
[22] نفسه، ص 111
[23] نفسه، ص 111
[24] نفسه، ص 109
[25] نفسه، ص 125
[26] نفسه، ص 137/138
[27] نفسه، ص 136
[28] نفسه، ص 143
[29] نفسه، ص 143
[30] نفسه، ص 156
[31]نفسه، ص 175/176
[32] نفسه، ص182
[33] نفسه، ص 184/185
[34] نفسه، ص 183
[35]نفسه، ص 187
[36] نفسه، ص 183/184
[37]ومن هنا سيتعدد الواحد عند ابن رشد، ليتجلى في أربعة أصناف: الواحد المتصل بالطبع، الواحد الكل والتام، الواحد كجوهر، الواحد الصوري، جدل...، ص 198
[38] نفسه، ص 258
[39] نفسه، ص 218
[40] نفسه، ص 215
[41]نفسه، ص 217
[42] نفسه، ص 219
[43] نفسه، ص 221
[44] نفسه، ص 229
[45] نفسه، ص 233
[46] نفسه، ص 256/257
[47] هذا دون أن يتساءل محمد مزوز عن درجة هذا النفاذ الرشدي إلى عمق الوجود، كما فعل في كتابه السابق: من أجل أنطولوجيا إسلامية، م س، ص 138
[48] جدل الطبيعيات والإلهيات ....، ص 76
[49] محمد المصباحي، الوجه الآخر لحداثة ابن رشد، دار الطليعة، بيروت، الطبعة الأولى، 1998، ص 34
[50] نفسه، ص 31
[51] هذا الغياب للذات هو ما آخذ عليه محمد مزوز أونطولوجيا ابن رشد في كتابه، من أجل أونطولوجيا إسلامية، م س، ص 140