جدلية الثورة والديمقراطية عند ألكسيس دو طوكفيل
فئة : مقالات
أ- في الحاجة إلى طوكفيل:
محاولة منا قراءة التحولات التي عرفها العالم العربي في الآونة الأخيرة، ارتأينا العودة بالتمحيص والتحليل إلى أعمال ألكسيس دوطوكفيل، الذي لا يمكن الحديث عن الديمقراطية والحرية بالمفهوم الليبرالي للكلمة دون الرجوع إليه. فطوكفيل سوسيولوجي الحرية والديمقراطية معاً، وعلى الرغم من مواقفه السياسية واصطفافاته الإيديولوجية التي أثارت ضده حفيظة مفكرين وسياسيين جايلوه، فإنه فتح باب النقاش واسعاً حول جدلية الثورة والديمقراطية بنوع من المسافة النقدية أكسبته بعداً وعمقاً فكريين، وأعطت لقراءته السوسيولوجية تماسكاً نظرياً ومنهجياً.
والعالم العربي اليوم يحتاج أكثر من أي وقت مضى وعلى أكثر من مستوى إلى إعادة تدقيق مفاهيمه ولاسيما السياسية منها. والمثقف معني أولاً بهذه المساءلة، مساءلة الأفق الديمقراطي عبر مساءلة الذات وهي التجربة التي يقدمها لنا طوكفيل عندما يسائل الديمقراطية الأوروبية عبر مساءلة شقيقتها الأمريكية، ويبحث للثورة الفرنسية عن هويّة ضاعت أحياناً وسط زحمة الأفكار وعويل البنادق.
صحيح أنّ اسم طوكفيل قليلاً ما يثار كأحد المؤسسين الفعليين لعلم الاجتماع، وقليلاً ما يتمّ الرجوع إلى أعماله من أجل إعادة قراءة المسار المعقد الذي قطعه هذا العلم. إنّ الجهل بأعمال مفكر وسوسيولوجي من عيار طوكفيل أصبح غير مبرر منذ أن تمّت العودة إليه من أجل تلمس تعثرات المسار الديمقراطي للعديد من الدول الأوروبية، إلى حد أنّ رايمون آرون يعتبره بأنه سوسيولوجي المقارنة بامتياز، لأنه حاول أن ينسج أهم خيوط المجتمعات الحديثة عن طريق مقارنة أنماطها، رغم انتمائها في نهاية المطاف إلى نفس النوع والجنس من المجتمعات.
فتركيز طوكفيل على طبيعة النظم والمؤسسات السياسية جعله ينأى عن الإرث الذي راكمته السوسيولوجية الفرنسية منذ أ. كونت، التي انحصرت في البحث عن البنى الاجتماعية، الشيء الذي جعل اسم طوكفيل، على حد تعبير آرون دائماً، يبهت أمام لائحة باقي المفكرين العظام[1]، على الرغم من انتشاره الواسع في الولايات المتحدة الأمريكية، والتي ألف حولها كتاباً رصيناً ما زال يُسيل الكثير من المداد سمّاه "الديمقراطية في أمريكا".
في هذا الصدد يتساءل كل من بودون وبوريكو بنوع من الإحباط إذا لم يكن طوكفيل ضحية لمنهجه المعتمد على الملاحظة والتأمل الدقيقين والثاقبين في احترام تام للمسافة اللازمة بين الباحث وموضوع دراسته، بعيداً عن كل نزعة راديكالية أو نبوءة تبشيرية تجعل منه مؤسساً لطائفة دينية أو عقدية[2].
من خلال كتابيه الأكثر شهرة "الديمقراطية في أمريكا"، و"النظام القديم والثورة"، يحاول طوكفيل أن يتلمس إشكالية الديمقراطية والحرية، بحيث كان الكتاب الأول إجابة أو محاولة لفهم طبيعة الديمقراطية الأمريكية التي تأسست على المذهب الليبرالي. أمّا الكتاب الثاني فإنه يتساءل أساساً عن الصعوبات التي اعترضت مسيرة الديمقراطية في فرنسا، التي أعاقت تثبيت دعائم نظام سياسي مبني على الحرية والليبرالية الفكرية والسياسية.
ب- طوكفيل والثورة الفرنسية
يرى طوكفيل أنّ بوادر الثورة الفرنسية لم تفهم في إطارها السوسيو تاريخي. فالجميع اعتبرها مجرد أحداث عابرة تعبّر عن غليان الشعب وتذمره من أوضاعه. وإنّ السياسيين والمفكرين الأكثر حنكة لم يروا في تلك التطورات سوى الشكل الطبيعي من أشكال الاحتجاج الذي تمارسه الشعوب، أو بتعبيرهم مجرد مرض من الأمراض التي تصيب الشعوب في طور تشكلها[3].
لم يتوقع أحد أن تأخذ هذه الأحداث شكل ثورة حقيقية، وحتى الذين قاموا بتهيئة أجوائها ونظّروا لها لم يتلمسوا قوتها وإيقاعها (فريديريك الأكبر). وعندما اجتمع جيران فرنسا لفهم ما يجري فإنهم لم يكونوا يتخوفون سوى من انتشار موجة الثورات ضد الملكيات الأوروبية من ألمانيا إلى إنجلترا.
لم تكن الثورة مجرد حدث سياسي بقدر ما كانت مسلسلاً من التغيرات همّت كل القطاعات وشملت مختلف المؤسسات. يقول طوكفيل في هذا الصدد: "بينما كانت الثورة في طريقها، كلما ظهر رأس هذا المخلوق، واتضحت معالمه الفريدة والمخيفة وبعد تدمير المؤسسات السياسية، يمسح المؤسسات المدنية، بعد القوانين، يغير الأعراف والعادات وحتى اللغة لم تسلم من ذلك. بعد تحطيم أطر الحكم، يزعزع دعائم المجتمع وينوي على ما يتضح أن يواجه قوة الله نفسه، الشيء الذي ألب ضدها قوى الدين والنبلاء[4]. فإذا كان البعض قد نعتها بأنها "قوة شيطانية ماردة" فإنّ البعض الآخر اعتبر أنّ نهاية الإنسانية ستأتي على يدها حيث يجهل مصدرها ولا تعرف موارد قوتها.
يعتبر طوكفيل أنه ومن موقعه الخاص المتميز بالبعد والقرب النسبيين من الثورة جعل مشاعره تتأثر أو تتقوى عند رؤية روادها وفي الوقت نفسه جعله قربه النسبي يتمكن من الغوص في الفكر الذي جاء بها وفهمه بعمق. فالثورات الكبيرة والناجحة على حد تعبير طوكفيل غالباً ما تمحي حتى الأسباب التي جاءت بها لتصبح غير مفهومة حتى بنجاحاتها وإنجازاتها[5].
يعتبر طوكفيل أنّ ما جاءت الثورة لمحاربته هو أولاً المؤسسة الدينية المتمثلة في الكنيسة. فأولى خصائص الثورة هي لادينيتها. ولكنّ مشاعر الغضب لم تتأجج تجاه المسيحية بصفتها ديناً، بقدر ما تأججت ضدها باعتبارها أصبحت مؤسسة سياسية؛ ليس لأنّ الرهبان يدعون حل مشاكل العالم الآخر ولكن لأنهم أصبحوا سادة مالكين ومسيّرين في هذا العالم.
وأخيراً كما يضيف طوكفيل، لم تصبح قوى المسيحية هدفاً للثورة لأنّ الكنيسة لا تملك موقعاً في المشهد المجتمعي الجديد، ولكن لأنها كانت تملك أهم موقع وأكثرها تميزاً في المجتمع الذي جاءت الثورة من أجل القضاء عليه[6].
تمكنت الثورة أن تؤسس "إطاراً قيمياً" بالمفهوم الحديث للكلمة، بالشكل نفسه الذي تنتشر به الديانات الكبرى. لم تكن الثورة إذن مجرد حركة سياسية بقدر ما كانت مجتمعية تسعى إلى تقويض دعائم المجتمع القديم ونظامه لبناء مجتمع جديد يتأسس على مبدأ التقريب بين مستويات الأفراد. وهنا يشير طوكفيل إلى الانطباع الذي خلقته هذه الثورة حتى عند ضحاياها، ويحيلنا على الرسالة السرية التي بعثها ميرابو Mirabeau إلى الملك، التي يقول فيها إنّ الثورة استطاعت أن تقوم بما لم تستطع عهود من الحكم الاستبدادي القيام به. وهذه القوة الشاملة والعميقة هي التي مكنت شخصاً كميرابو من تلمس معالم الثورة وسط الغبار الذي تركه سقوط المؤسسات العتيقة[7].
الثورة في حقيقتها لم تكن موجهة لشعب بعينه، وإنما لجميع الشعوب، فعندما تحدثت عن حقوق الإنسان الطبيعية لم تكن تقصد حقوق المواطن الفرنسي وحده، كما أنها لم تكن محددة في المكان، فانطلاقتها في فرنسا لا تعني أنّ الحدود الجغرافية لهذه الأخيرة هي حدود الثورة. فاعتمادها على ما هو طبيعي ومشترك في المجتمعات الإنسانية سهّل فهمها في مجتمعات أخرى ومكّن من تكرار تجربتها.
لم تكن الثورة إذن، كما يدّعي معارضوها، تسعى إلى تعميم الفوضى والحفاظ عليها بشكل ممنهج، ولكن على العكس من ذلك كانت الثورة تهدف إلى الرفع من قوة وحقوق السلطة العمومية[8]. لم تكن الثورة تسعى إلى هدم أسس الحضارة الغربية وقيمها، ولكنها كانت تتوق إلى تقويض تلك المؤسسات السياسية التي حكمت أوروبا بشكل مستبد طيلة قرون.
يطرح طوكفيل سؤالاً هاماً حول شروط ولادة الثورة ومهدها، مندهشاً كيف لم تندلع في الأماكن التي كانت فيها مؤسسات القرون الوسطى أكثر قوة وإكراهاً للناس؛ على العكس من ذلك اندلعت الثورة في الأماكن التي كانت فيها تلك السلطة أقل حضوراً وضغطاً، وكأنه يقول إنّ الإحساس بثقل المؤسسات القروسطوية يرتفع في المواقع التي تكون فيها قوة هذه المؤسسات أضعف[9].
يقدم طوكفيل مثال ألمانيا حيث إلى حدود 1788 كان المزارع أداة طيعة في يد الإقطاعي، فإذا ما حاول الإفلات من قبضته تابعته المحاكم بدعوى تقاعسه عن العمل. لا يمكنه الزواج أو تغيير مهنته وتدبير شؤونه بدون موافقة سادته.
إذا ما حصل القن (serf) على ملكية فإنّ سيده له الحق في مراقبة واقتناء محاصيلها، وله جزء منها عند تقسيمها على ورثة مالكها الحقيقي. هذه الوقائع تؤكدها كذلك النصوص القانونية لفريدريك الأكبر، وفي المرحلة التاريخية نفسها كانت هذه الوضعية بالذات قد زالت في فرنسا منذ عهد طويل، حيث يمكن للمزارع اقتناء وبيع ممتلكاته والتحرك بحرية تامة كيفما شاء[10].
وهنا يفند طوكفيل مزاعم الذين يعتبرون أنّ تقسيم الملكية العقارية كان مكسباً من مكاسب الثورة الفرنسية، حيث ذكرت الكتب والمذكرات شهادات حول تقسيم الملكية العقارية في فرنسا وآثارها على مستوى العيش ووحدة الأسر والعائلات الكبيرة. وهنا يستشهد طوكفيل بشهادة آرثر يونغ عند زيارته الأولى إلى فرنسا، حيث أثار انتباهه تقسيم الملكية بين المزارعين، إلى حد أنه اعتبر نصف الأراضي الفرنسية في ملكيتهم[11].
ت- ترابط السياسي والاجتماعي
على الرغم من الاستعمال الكثيف لكلمة "ديمقراطية" في كتابات طوكفيل إلا أنّ القارئ لأعماله قلما يجد تعريفاً لما يعنيه الكاتب بهذا المفهوم. كل ما يمكننا فعله هو أن نستشف أو نستبطن هذا المفهوم من خلال وصف طوكفيل للمجتمع الديمقراطي.
تجمع فكرة الديمقراطية عند طوكفيل بين المساواة الاجتماعية وبين مسلسل التقريب بين المستويات المعيشية للمواطنين. من هنا تصبح الحكومة الديمقراطية أكثر تعبيراً عن إرادات المواطنين وأكثر تمثيلية لرغباتهم وطموحاتهم ما دامت تنتمي إلى مستواهم الاجتماعي نفسه، الشيء الذي يجعل من المجتمع الديمقراطي بهذا الشكل مجتمع المساواة بامتياز على حد تعبير رايمون آرون[12].
فطوكفيل لا يتحدث عن الديمقراطية في شقها السياسي فقط، بل هو يربطها بنظام مجتمعي أشمل، معتبراً أنّ الديمقراطية هي تساوي الشروط، بحيث أنّ المجتمع الديمقراطي لا يعرف تفاوتات وفروقات موروثة بين الطبقات والفئات، الشيء الذي لا ينفي اختلاف القدرات العقلية والذهنية وتباين المستويات الاقتصادية للأفراد والمجموعات.
إنّ المساواة الاجتماعية التي يتحدث عنها طوكفيل هي أنّ كل المهن والوظائف وكل المستويات الاجتماعية والرمزية مفتوحة في وجه الجميع بدون استثناء[13].
المجتمع الديمقراطي بهذا المفهوم لا يبحث عن القوة والنصر بقدر ما يبحث عن الرفاه والسلم. يتأسس هذا المجتمع على الحرية التي لا يمكنها أن تتعايش مع اللامساواة. فالحرية تبدأ عند نهاية التعسف، حيث تبنى السلطة على مبدأ تطبيق القوانين واحترامها، الشيء الذي من شأنه أن يشعر المواطنين والأفراد بالأمان.
لكن ونظراً للإغراء القوي الذي تمارسه السلطة على الأفراد لا بدّ أن نحد السلطة بالسلطة عن طريق تنويع مصادر القرار وتوزيع الأدوار بين إدارات ومؤسسات سياسية مختلفة تستمد قوتها من الشعب وتتأسس على قاعدة حكم الشعب لنفسه. فالخطر الذي يمكن أن يتهدد الديمقراطية هو انشغال الأغلبية بقضاياها الخاصة، وهو الشيء الذي يعطي الإمكانية لفئات قليلة للسيطرة على تدبير الشأن العام وتوجيهه. "لا يصعب إذن على الساحة الدولية أو داخل مسارحنا، رؤية آراء متعددة ممثلة في ثلة قليلة من الرجال. هؤلاء يتحدثون وحدهم باسم عامة غائبة أو غير آبهة. وحدهم يتحركون وسط جمود الكل ويتمتعون حسب نزواتهم بكل شيء، يغيرون القوانين ويتسلطون حسب هواهم على الأخلاق. كيف إذن يصيبنا الذهول ونحن نرى كيف يمكن لشعب كبير أن يسقط بين أيادي ضعيفة لا تستحقه"[14].
إذا كانت الحرية هي الإطار الحقيقي الذي تتعبأ فيه مختلف الإرادات من أجل تقوية دعائم المجتمع الديمقراطي، فإنّ السعي إلى المساواة في شقها الاجتماعي هي الآلية التي تحمي هذا المجتمع من الأزمات والصراعات. فالاجتماعي حسب وجهة نظر طوكفيل هو الذي يحمي الاقتصادي والسياسي. هذه الجدلية هي التي تضمن للمجتمع الديمقراطي توازنه وترسخ فيه ذلك الإحساس بالرضا والاطمئنان. "لا أحد يختلف عن الآخرين، ولا أحد يمكن أن يمارس سلطة مستبدة عليهم. فالرجال سيصبحون أحراراً تماماً لأنهم سيصبحون متساوين بشكل تام، وسيصبحون متساوين لأنهم سيصبحون أحراراً. نحو هذا النموذج المثالي ستنحو الشعوب نحو الديمقراطية"[15].
يرى طوكفيل أنّ السعي إلى مراكمة الثروات، كأهم سمات المجتمعات الصناعية الحديثة، لا يتعارض في شيء مع مسلسل التقريب بين مستويات الأفراد لسببين أساسيين:
1) لأنّ الثروة متحركة في المجتمع الصناعي وليست متركزة في أيادي عائلات تحتفظ بها لعدة أجيال متعاقبة.
2) لا تشبه علاقة المقاول بالعمال في شيء تلك العلاقة البائدة التي سادت بين السادة والعبيد أو بين الإقطاعي والمزارعين.
من هنا فالثروة أو الفقر ليسا قدراً يلازم الفرد ويخضعه لتراتبية اجتماعية يستحيل الانعتاق من قيودها، فهي وإن ميزت طفولة الفرد لا يفترض فيها أن تلازمه طيلة حياته. فهذه الحركية الاجتماعية تسمح للفقراء بأن يصبحوا أثرياء، بالشكل نفسه الذي يمكنها أن تجعل الأثرياء فقراء.
ج- بعض العوامل المساعدة على انتشار الديمقراطية في أمريكا:
يعتبر طوكفيل أنّ هناك ثلاثة عوامل أساسية تجعل من الديمقراطية الأمريكية نموذجاً ليبرالياً بامتياز وهي: الوضع الجغرافي والتاريخي الخاص، والقوانين، والعادات والأخلاق.
فالوضع الجغرافي والظرف التاريخي الذي ميّز قيام الولايات المتحدة الأمريكية باعتبارها لم تكن لتخضع لشروط دبلوماسية أو لإكراهات عسكرية من طرف جيرانها.
وبالكيفية نفسها فإنّ شساعة مجالها الجغرافي جعلت من المهاجرين القادمين إليها من أوروبا يشيدون البنيات التحتية ويدخلون عالم المغامرة المالية، الشيء الذي يفسر إلى أي حد تغيب الطبقة الأرستقراطية وإلى أي حد هيمنت الأنشطة الصناعية.
يركز طوكفيل على منظومة القيم لتفسير التميز الأمريكي حيث يربط طابع الحرية والمساواة الذي ساد في أمريكا بالأصول الدينية والقيمية التي استقدمها المهاجرون معهم.
من زاوية أخرى استطاع طوكفيل أن يقدم قراءة متميزة للدستور الأمريكي وأن يدرس إلى أي حد سمح هذا الأخير بقيام نظام ديمقراطي مبني على الحرية والليبرالية.
إنّ الطبيعة الفيدرالية للدولة الأمريكية ساهمت بشكل كبير في تثبيت دعائم الليبرالية بحيث يتميز هذا النظام بجمعه بين محاسن الدول العظمى والصغرى على الحياة قائلاً: "ما أهمية أن يعيش شعب الرفاه والحرية إذا كان يخشى كل يوم أن يدمر أو أن يستعمر؟ ما أهمية أن يكون صانعاً أو تاجراً إذا كان غيره يهيمن على البحار ويفرض قوانينه على كل الأسواق؟ إنّ الأمم الصغيرة ليست بئيسة لأنها كذلك ولكن لأنها ضعيفة، والأمم الكبيرة تعيش في رفاه ليس لأنها كبيرة ولكن لأنها قوية. إنّ القوة بالنسبة للأمم هي أول شرط للسعادة والوجود، من هنا، وبغض النظر عن بعض الظروف الاستثنائية، فإنّ الشعوب الصغيرة تنتهي دائماً بالتوحيد عن طريق العنف مع الشعوب الكبيرة أو عن طريق التوحيد بعضها مع بعض، لا أعرف ظروفاً أكثر رثاء من حالة شعب لا يقدر لا على الوحدة ولا على الاكتفاء[16].
يرى آرون أنّ طوكفيل كغيره من الفلاسفة الأوائل مقتنع بأنّ الدولة الكبرى قادرة على حماية نفسها، وبأنّ الدولة الصغيرة تتوفر على القوانين التي تراعي اختلاف الظروف والأماكن، هذه التركيبة المزدوجة لا يوفرها سوى النظام الفيدرالي أو الكنفدرالي.[17] هذا النظام الفيدرالي كما تبنته الولايات المتحدة الأمريكية يضمن حرية نقل الممتلكات والسلع والأفراد والرساميل. بهذا المعنى فإنّ النظام الفيدرالي في غنى عن نظام الجمارك لكي يضمن الوحدة الاقتصادية لكل مكوناته[18]. يضمن هذا النظام كذلك حرية الأحزاب، لكنّ الأحزاب في أمريكا كما لاحظ ذلك طوكفيل ليست كنظيرتها في فرنسا، فهي لا تعتمد على قناعات إيديولوجية، كما لا تتبنى مبادئ مختلفة في الحكم، ولكنها عبارة عن تجمع للمصالح تسعى بشكل براغماتي إلى حل المشاكل التي يطرحها المجتمع. هذا الحس البراغماتي هو الذي يفسّر إلى أي حد يتميز المجتمع المدني الأمريكي بطابع التطوع، إن على المستوى الفيدرالي أو المحلي.
وعندما يتحدث طوكفيل عن الصحافة الأمريكية فإنه يلاحظ مجموعة من الانحرافات، ولكنه أكد بالمقابل أنّه إذا كان هناك عمل أكثر بشاعة من الترخيص للصحافة فهو منعها[19].
ومن بين ما تميزت به الديمقراطية الأمريكية هو جمعها بين العقيدة والحريّة، بين السياسة والدين بشكل متناسق وعميق. وبنبرة أقرب إلى الشاعرية يحاول طوكفيل أن يصف هذا الترابط بين قوتين: قوة الإيمان، وقوة العقل.
يرى الدين في الحرية تسخيراً شريفاً لملكات الإنسان، وفي عالم السياسة مجالاً قدمته الإرادة الربانية لخدمة قوى الذكاء. أمّا الحريّة فترى في الدين رفيق الصراعات التي خاضتها والانتصارات التي حققتها، فهو مهد طفولتها والمصدر القدسي لحقوقها. فالحرية ترى في الدين ضامن القيم وفي القيم ضمانة للقوانين وعربون ترسخها[20].
والمساواة عند طوكفيل تنبني بدورها على عدة معتقدات دينية تسمح بالحفاظ على توازن المجتمع وترابط أفراده. وللمساواة علاقة قوية بتمثلاث الشغل، حيث تنتمي كل المهن إلى الدرجة نفسها من القيم، بحيث أنها كلها تمكن صاحبها من تقاضي أجر، الشيء الذي يختلف كثيراً عن الفكرة التي تشكلت لمدة عقود في المجتمعات الأرستقراطية التي تحتقر العمل من أجل الحصول على أجر. يصور طوكفيل ما تعيشه أمريكا والأمريكيون بقوله: "إنهم لا يحسون بنقص عندما يتقاضون أجراً، لأنّ رئيس الولايات المتحدة يشتغل هو كذلك مقابل أجر، نعطيه أجراً لكي يحكم، كما نعطيهم أجراً من أجل أن يقدموا خدمة. المهن في الولايات المتحدة شاقة ومربحة نسبياً، ولكنها لا يمكن أن تكون غير راقية وغير دنيئة. كل المهن نزيهة وشريفة[21] .
[1] Aron, Les étapes de la pensée sociologique, Paris, PUF, p224
[2] Boudon et Bourricaud, Dictionnaire critique de la sociologie, p 624
[3] A. de Tocqueville, L’ancien régime et la révolution, Paris, Gallimard, 1967, p.85
[4] Ibid, p. 59-60
[5] Ibid, p. 61
[6] Ibid, p. 63-64
[7] Ibid, p. 65
[8] Ibid, p. 79
[9] Ibid, p. 85
[10] Ibid, p. 86
[11] Ibid, p. 88
[12] Aron, Les étapes de la pensée sociologique, Paris, PUF, op, cit, p. 226
[13] Ibid , p. 225
15 A. de Tocqueville, de la démocratie en Amérique, Tome II (Cf. la version électronique dans les Classiques des sciences sociales), p139
[15] المرجع نفسه، ص 93
[16]. A.d Tocqueville, La démocratie en Amérique, Tome 1, 1er vol, p-164-164 cité par R. Aron, Les étapes, p231.
[17]. R.Aron, op. cit p. 232
[18] Ibid, p232
[19] Ibid, p232
[20] A.D Tocqueville, De la démocratie en Amérique, tome1 1er vol, p-42-43 cité par R. Aron, Les étapes, p234.
[21] Ibid, O.C, T, I ,2°vol, p159