جدلية السياسة والدين في علاقة النخب الفاسية خلال القرن التاسع عشر
فئة : مقالات
شهد تاريخ المغرب، خلال القرن التاسع عشر، مجموعة من التحولات الجذرية ارتبطت بتنامي التدخل الأجنبي والصدمة الحضارية التي أثارها هذا التدخل والتي أثّرت على بنيات المغرب الاقتصادية وعلاقة الدولة بنخبها؛ فحاول السلاطين المغاربة التقرب من كبار التجار لخبرتهم في التعامل مع الأوربيين، وللتجربة الكبيرة التي راكموها في التجارة مع هؤلاء الأجانب. وقد بدأت الدولة تتخلى تدريجيا عن بيروقراطيتها التقليدية المكونة أساسا من كبار الفقهاء والعلماء؛ غير أن هذه الأخيرة لم تحتمل هذه التحولات، فشنّت حملة عشواء على كبار التجار ورمتهم بالكفر والفسوق، وهو الأمر الذي يبرز التصادم الكبير بين الفئتين والصراع حول المكانة والنفوذ الذي وصل مداه خلال هذه الحقبة.
نظرا لكونهم حماة الشريعة الإسلامية والمسؤولين عن تطبيقها، فقد انبرى العلماء خلال القرن التاسع عشر لمجموعة من القضايا الجديدة التي ظهرت نتيجة التدخل الأوربي في شؤون المغرب الداخلية، والنتائج الوخيمة التي ترتبت عن ذلك. ونظرا لكونهم ضمير الأمة الإسلامية والمعبر عن رأي الجماعة الإسلامية، فقد كان لزاما على العلماء التصدي لكل ما من شأنه أن يهدد ثوابت المجتمع المغربي التقليدية. ولما كان هذا المجتمع في غضون القرن التاسع عشر مهدد الأركان ومفكك الأوصال ومتعدد الأزمات، فقد رأى العلماء أن المشكل يتمثل في الإخلال بالأسس الدينية؛ على اعتبار أن الإسلام هو إيديولوجية الدولة الجامعة لكل جوانب الحياة، فالإسلام هو خطة سياسية واقتصادية واجتماعية، وصلاح الدولة وإنقاذها من الهاوية التي كانت تسير نحوها بخطى ثابتة رهين بعودتها إلى تطبيق الشريعة الإسلامية.
وبعيدا عن مهمة حفظ الشريعة الإسلامية والحرص على تطبيقها، فقد هاجم الفقهاء الامتيازات العديدة التي كان يتمتع بها التجار؛ بعد أن أصبح هؤلاء التجار "يتطاولون" على مهمات كانت إلى عهد قريب من اختصاصات العلماء، لا سيما بعد اشتداد وطأة التدخل الأجنبي واستشارة المخزن للتجار في التطورات الجديدة، فاتهموهم بالكفر والمروق، ولم يدخروا جهدا في إهانتهم وتحميلهم مسؤولية ما وقع بالبلاد، فعارضوا امتيازاتهم، وعابوا عليهم احتماءهم بالأجنبي؛ بل إن الفقيه مولاي أحمد العراقي رأى أن تجار مدينة فاس "جبلوا على الجبن، واستولى حب الدنيا على قلوبهم، واشتاقوا إلى معاشرة الروم".
ومن هذا المنطلق، تتحدد إشكالية هذه الورقة في محاولة الكشف عن الحملة الشعواء التي شنّها العلماء على هاته الفئة والمرتبطة أساسا بارتمائهم في أحضان الحماية القنصلية، ومعاملاتهم مع "بلاد الكفر"، فضلا عن رأيهم في أهم المعاملات التجارية الجديدة والتي ارتبطت في أغلبها بظروف المتاجرة مع أوربا.
كما يعد البحث عن أسباب هاته المعارضة هدفا رئيسيا وجب التطرق إليه للوقوف على أهم المبررات التي كانت وراء هذا الرفض، سواء تعلق الأمر بمهمة تطبيق الشريعة التي طالما دافع العلماء عنها أو لخوفهم الشديد من وقوع مزيد من التفكك والتدهور أو أن الأمر أكبر من ذلك ويرتبط ارتباطا كبيرا بخوفهم من ضياع امتيازاتهم وسحب البساط من تحت أقدامهم.
1- موقف العلماء من انسياق التجار نحو الحماية القنصلية:
استنكر العلماء ظاهرة الحماية القنصلية التي انطلقت من مبدأ حماية التاجر الأوربي ومن يتعلق به بالعمل، ثم انسحبت على من يتعلق به بالتعامل مع التجار المغاربة.
وبغض النظر عن الأضرار المادية التي ألحقتها هاته الظاهرة بخزينة الدولة وهو ما كان يثير حنق السلطة المركزية، فإن العلماء نظروا إليها على أساس أنها مساهمة جادة في تسهيل مأمورية الأوربيين الطامعين في احتلال البلاد والقضاء على شخصيتها، عن طريق محو عقيدتها ونشر الأفكار والتقاليد الأوربية.[1]
وقد بدأت تهمة مهادنة الأوربيين توجه إلى التجار عموما وتجار فاس على وجه الخصوص منذ 1860م، حيث كان العراقي أول من أطلق عليهم تلك التهمة صراحة حين قال: "... ومشاورتنا للسفهاء من التجار الذين لم يباشروا الحرب ولا قاربوا ساحتها لكونهم جبلوا على الجبن. وقد استولى حب الدنيا على قلوبهم واشتاقوا إلى معاشرة الروم وأرضهم، كما تعلن بذلك ألسنتهم لدى الخاص والعام".[2]
وتوالت، بعدها، الصيحات الداعية إلى مقاطعة المحميين من التجار؛ بل إن العلماء من كفّر أفراد تلك الفئة، كما ورد عن العربي المشرفي في مؤلفه "الرسالة في أهل الباسبور الحثالة" الذي جاء فيه: ".... وبعد، فقد توجه سؤال لأهل العلم، حفظهم الله بحفظ أهل السنة، وفي حادثة حدثت في قرننا هذا في حدود السبعين والمائتين والألف، وهي دخول المسلمين تحت كلمة الكفر ويعبرون عنها بالحماية معتذرين بها عن تحصين أموالهم من ثقل المغارم؛ مع أنهم يجعلون حظا وافرا لمن يحميهم بإذلال وطيب نفس، فهل يكون المحتمي بالحماية على هذه الحالة مسلما عاصيا، أو خرج عن دينه بالكلية، وللإمام أن يحكم فيه بالاجتهاد؟".[3]
وينتهي المشرفي بالجواب عن ذلك السؤال بوجوب مقاطعة المحميين مقاطعة نهائية؛ لأنه يرى أنه السبيل الوحيد لوقف انتشار هذا الداء بين الآخرين، حيث إن رجال الحكم لم يقدموا على اتخاذ إجراءات ضد المحتمين بالأجانب.. فإن هؤلاء الآخرين قد طغوا وعتوا؛ وهو ما شجّع الآخرين على اقتفاء أثرهم ومساندتهم نتيجة إهمال السلطة.[4]
وأضاف المشرفي أن الشر قد استفحل وأخذ ينذر بكارثة؛ لأن الشك بدأ يسري إلى عقول العامة، حيث ينظرون إلى أصحاب الحمايات وحالتهم، فيتصورون أن دين الكفار أحسن من دينهم؛ "لأن هذا المنكر من أعظم المفاسد في الدين الذي يتعين فيه الزجر والتغليظ...".
من جانبه، لا يرى أحمد بن المامون البلغيثي مبررا لاحتماء التجار بالأجنبي لصيانة أموالهم وحمايتها، حيث يقول: "وما صار، أيضا، شعارا لكل أعيان التجار احتماؤهم –لحفظ دنياهم- بالكفار الفجار؛ بل صار بعضهم بالاحتماء المذكور يستطيل ويظلم، ويستضعف ولاة المسلمين، ولجانب الشريعة يحقر ويهضم، وكثر السؤال في حكم هذا الاحتماء، وهل يجوز؟ فأردتُ أن أذكر هنا، على سبيل التقريب والاختصار، في ذلك"[5].
كما خطب أبو الحسن علال بن عبد الله الفاسي في هذا المضمار، وهاجم تجار فاس الذين "أصبحوا يتخذون دين الله هزوءا ولعبا، ويميلون إلى أهل الشرك والضلال... يرضون بهم أولياء وأعوانا وجيرانا وأحبابا، ويعلنون باتخاذ حمايتهم ويجهرون بالاتقاء لموالاتهم"[6]. ومن أهم خطبه التي خصصها للموضوع، نذكر: "إيقاظ السكارى المحتمين بالنصارى"، و"الويل والثبور لمن احتمى بالباسبور"[7].
أما الشيخ جعفر بن إدريس الكتاني الفاسي، الذي يعد تأليفه "الدواهي المدهية للفرق المحمية" أكبر وأكثر تأليف جمعا في هذا الباب؛ فقد أكد أنه "... إذا علمت هذا، فاحتجاج الموالين للعدو لجواز موالاتهم له بظلم الولاة لهم وتعديهم عليهم باطلٌ، ويكفي في رده مصادمته للآيات القرآنية والأحاديث النبوية وكلام أئمة الملة الحنفية، ودلالته على ضعف الإيمان، وقلة ألا يقل بترجيح عرض دنيوي محتقر على بهاء دين أخروي يدخر..."[8]
وقد أورد أحمد بن خالد الناصري حادثة مقتل أحد تجار فاس جراء احتمائه بالأجنبي؛ فـ "في سنة اثنتين وثمانين ومائتين وألف حدثت فتنة بفاس، وذلك أن الناس كانوا في صلاة الجمعة بمسجد القرويين، وكان فيهم التاجر الأمجد أبو عبد الله حبيب بن هاشم بنجلون الفاسي.. فلما سجد مع الناس شرخ بعض اللصوص رأسه بحجر كبير من أحجار التيمم التي تكون بالمسجد، ثم انحنى عليه بخنجر كان بيده، فقطع به بطنه".[9] أفلا يمكن اعتبار هذه العملية تهديدا لتجار المدينة المتعاملين مع الأوربيين؟
2- ردود فعل العلماء من انفتاح التجار على الغرب:
لقد أثارت مسألة الاتجار مع الأوربيين جدلا كبيرا دفع الكثير من العلماء إلى تناولها بالدراسة والتحليل لما أثارته من إشكالات عدة، سواء لدى العامة أو الخاصة. وقد ارتبطت معظم النوازل الفقهية بالجهة مصدر السلعة. وهكذا، سنجد أن التبغ مثلا لكون بعضه يرد من الجنوب، فقد وجد في بداية الأمر من يقول بجوازه. ولما توالى وروده من الغرب تشدد الفقهاء في منعه، إلى أن قام المخزن بتسريح أمره؛ بيد أنه بقي مثار جدل، بحيث ما زال يعامل من التقبيح أكثر مما يحمل من الرفعة داخل المجتمع المغربي[10].
ونظرا لأهمية التجارة الخارجية، فقد وضع عدد من العلماء قواعد التبادل التجاري مع الأوربيين؛ ومن بينهم نجد الفقيه التسولي، الذي ذكر بأسس المعاملات التجارية مع الغرب. هذه الأسس التي تعتبر أن السياسة التجارية وطريقة المبادلات لها ضلع كبير في تطوير العلاقات الدولية، وفي طبيعة العلاقة بين المسلمين وأوربا. ويمكن أن نستنتج مما أورده التسولي أن المبادلات التجارية مع غير المسلمين يجب أن تقوم على شروط معينة؛ وهو ما ينفي الاتهام الأوربي وغيره الذي يتحدث عن الرغبة في العزلة وعدم مخالطة الأجانب، ولو بالتجارة.[11]
وقد اتخذ العلماء موقفا حاسما من الامتيازات التي منحت للتجار الأوربيين، واعتبروها عنصرا أساسيا للإخلال بالتوازن الاقتصادي للبلاد في مرحلة أولى؛ ثم الأدهى من ذلك هو أنها أصبحت مسؤولة عن الإخلال بالتوازن العقائدي بالبلاد بين السلطة والسكان، حينما انسحب مفعولها على التجار المغاربة عن طريق الحماية.
أدانت فئة العلماء المعاملات التجارية مع أوربا والتي أدت إلى تفاحش الحمايات القنصلية، كما أدانت طائفة التجار المتعاملين مع الأوربيين وحللت أهمية علاقة هذه الفئة في فتح المجال أمام التسرب الأوربي وتوطيد الأطماع الأوربية، حيث اعتبر التاجر إليهم قريب من الأوربي أو عينه؛ لأن الغالب عليه أن النصارى يسألونه عن أحوال المسلمين، ولا يجد بدا من جوابهم.
ولأن الموقف من الاتجار مع الآخر لدى المغاربة كان مرتبطا بمسألة السيادة، فإننا سنجد أنه كلما ارتبطت التجارة بالغرب كلما تشدّد الناس في العزوف عنها. ومن بين المؤلفات التي حرّرها أصحابها في هذا الموضوع تلك التي كان أساسها الرد على نوازل المتاجرة مع الخارج؛ من قبيل: "كتاب معراج الصعود إلى نيل حكم مجلب السود" أو "الكشف والبيان لأصناف مجلوب السودان" لأحمد بابا التنبكتي المالكي، و"هداية من حار في أمر النصارى" للشيخ ماء العينين بن الشيخ محمد فاضل القلقمي، و"الرسالة الوجيزة المحررة في أن التجار إلى أرض الحرب وبعث المال إليها ليس من فعل البررة" للفقيه محمد الرهوني، و"حكم صابون الشرق وشمع البوجي وصندوق النار المجلوب من بلاد الكفار لعنهم الله، وحكم خياطة أهل الذمة قبحهم الله" لمحمد بن جعفر الكتاني...
ونظرا لكونهم صلة وصل بين المغرب وأوربا، فقد هوجم التجار الفاسيون وغيرهم من لدن العلماء الذين عدّوا انفتاحهم على الغرب والمتاجرة معه مصدر البلوى التي عمّت البلاد والعباد.
ويرى البلغيثي أن ما يفعله التجار، أيضا، السفر إلى أرض الحرب للتجارة؛ وهو أمر ممنوع لأنه يؤدي إلى مشاهدة مناكر الكفار والتذلل لهم، والدخول تحت حكمهم. وقد شدّد الإمام مالك الكراهية في التجارة في بلاد الحرب لجري حكم المشركين عليهم، وينبغي للإمام أن يمنع ذلك ويتشدد فيه، ويجعل الرجعة عليه، وعلى الحكم بالمنع والكراهية، فالتجارة إلى أرض الحرب من المحرمات[12].
لم يكتف العلماء بمنع التجار من السفر إلى أرض "الحرب"؛ بل منعوا كذلك "وسق" السلع إلى بلاد الكفار. وقد شمل هذا المنع خاصة المواد الرئيسية، كالقمح والتمر والخيول وغيرها؛ فقد رأى البلغيثي أن "مما شاع، الآن وقبل، وهو من المحرمات، شراء التمر الجيد والتغالي فيه وتوجيهه إلى بلاد الكفار من أهل الحرب لبيعه لهم في مواسمهم وغيرها بالثمن. وقد تقرّر عند الفقهاء والأئمة الخلاف في بيع الطعام للكفار الحربيين في زمن الرخاء والهدنة، والمشهور هو مذهب ابن القاسم وهو المنع، ولو في الهدنة والرخاء... وشمل المنع بيع البقر ونحوها لهم، بما في ذلك من إغلائه على المسلمين وتقوية للكفار على كفرهم حتى بالنسبة للجلود والحديد والخيل ونحوه، وخاصة آلة الحرب... أو آلة سفر وغيرها مما يتفوقون به في الحرب"[13].
فما مبررات عدم التعامل مع الأجانب؟ قد نجد، في كثير من النوازل الفقهية، ما يوضح أن أسباب منع التصدير إلى أوربا ومنع التجار المسلمين من التعامل معها هو الخوف من تقوية العدو واستيلائه على البلاد نظرا لعدم تكافؤ ميزان القوة، سواء من حيث العدة أو العتاد؛ ففتاوى العلماء لم تعد تبحث عن الحلال والحرام بالمعنى الديني، وإنما السياسي والقانوني، فهؤلاء الأجانب أصبحوا يريدون النفاذ إلى النسيج الاجتماعي المغربي من خلال إقامة علاقات تجارية تؤدي إلى إحداث أضرار مادية تتيح لهؤلاء المتطلعين استعمار البلاد، واتخاذ التجارة ذريعة لتدخلهم العسكري[14].
لقد كان الخوف من التجارة الخارجية مدعاة للخوف من تحالف التجار مع مصادر تمويلهم في أوربا على احتلال البلاد، وتدمير قوتها وخلخلة تنظيماتها. وفي هذا الإطار، يمكن إدخال نصائح ابن عزوز للسلطان المندرجة في إقامة جيش حديث من بين ما يعتمد في تجهيزه، ومصادرة أموال التجار. جاء في رسالة حول تجار فاس وكيف يمكن مصادرة أموالهم: "وانظر إليهم بعين السخط والغضب، وقل لهم: افتخرتم باللباس وتدريج الكاس، وكثرة الأكل والنعاس، وشيدتم البنيان، واتبعتم الشيطان.... تجولون في أقطار الأرض لجمع الأموال... وما من مدينة في بلاد النصارى والمسلمين شرقا وغربا إلا وأنتم تتجرون فيها، وبلغتم بلاد السودان وضيّعتم الأعمار في طلب الدرهم والدينار"[15].
ولكن هذا الموقف لم يكن رفضا من أجل ذاته، ولا رفضا ناتجا عن الجهل بحقائق الأمور، ولم يكن رفضا إيجابيا؛ لأنه استطاع، من جهة، أن يلتمس بوادر الأزمة ويترقبها ويتحسس مواضع الخطر والانفجار فيها، ويتعرض لأسبابها. ولأنه، من جهة أخرى، لم يكن الرفض الناقص المتفرج، بل عرض البديل للخروج من الأزمة[16].
ويرى نورمان سيكار أن موقف العلماء يمكن أن يبرر كذلك بتعارض مصالحهم مع فئة كبار تجار فاس؛ "فمصالح التجار ووجهة نظر الدين غالبا ما كانت بعيدة في فاس عن التطابق، وقد انطبق هذا أكثر على التجارة مع أوربا"[17]. ويضيف سيكار أنه كان يمكن أن تنشأ مصالح ووجهات نظر متباينة؛ حتى عندما كان لبعض العلماء أقرباء من التجار، انحدروا من الوسط المجتمعي نفسه. وإذا أخذنا الإطار الديني للمجتمع بعين الاعتبار، فقد كان لهذا بعض الأثر على الأقل في توجيه نمو الرأسمالية بطرق كانت تختلف عما كان سيكون عليه الأمر في غياب مقلد هذا القانون الوضعي الذي هو فطريا فوق المجتمع، والذي لا يمكن أن تهمله أية جماعة ذات مصلحة، مثل الجماعة التجارية[18].
وقد سبقت الإشارة إلى أن التجار في فاس كانوا ينفردون تقريبا بوظيفة الأمناء دون العلماء، بخلاف ما كان عليه الحال في باقي الحواضر المغربية؛ وهو ما جرّ عليهم نقمة العلماء. وإن بوادر الاندماج بين النخبتين الاقتصادية والدينية حدثت في ما بعد، مع الدخول المتزايد إلى إدارة الحكومة والتجارة، ليس للعلماء أنفسهم؛ ولكن لأفراد من العائلات التي كانت معروفة سابقا بعلمها أساسا، وبتوافر عامل آخر مهم، وهو المصاهرة واسعة النطاق[19].
3- موقف العلماء من الأساليب التجارية الجديدة:
اعتبر عمر أفا أن تناول العلماء لهاته الأساليب والمعاملات التجارية يدخل في إطار المقارنة بين مستجدات العصر والقضايا الفقهية التقليدية، حيث إن آراءهم الفقهية قابلت بالرفض كلَّ ما هو مخالف لتعاليم الإسلام، سواء خصّ المعاملات أو استهلاك المواد الأجنبية[20]. ومن القضايا المهمة التي تناولها العلماء في فتاواهم ومؤلفاتهم، نذكر:
- موقفهم من المعاملات التجارية: كالمعاملة بالسفتجة وانتشار المعاملات الربوية، وانتشار ظاهرة إعطاء القروض بفائدة أو ما سمي بالطالوع، فضلا عن حكم بيع المفتاح قياسا على بيع الجلسة، وهي المواقف التي حاولت جميعها وضع هاته المعاملات في مقابلة الشرع ومحاولة إعطاء رأيهم فيها، والذي غالبا ما يكون أقرب إلى التقليد منه إلى التجديد.
- موقفهم من المواد التجارية الأجنبية: فقد تنوعت آراء العلماء مثلا في سكر القالب والشاي والقهوة، وفي حكم التبغ و"طابا"، وفي الدجاج الرومي، وفي الخميرة الرومية... فضلا عن البضائع الأخرى المصنعة، كالتجارة في البضائع المستوردة التي كتب عليها اسم الله واسم الرسول صلى الله عليه وسلم بدافع الإشهار، وحكمهم في صابون المشرق المجلوب من بلاد الكفار، وصابون أهل الذمة وغير ذلك. ونظرا لكون مصدر هاته البضائع هو "دار الحرب"، فقد كانت جل آراء العلماء معارضة لها.[21]
وقد ورد في إحدى نوازل المهدي الوزاني، التي خصصها للإطرة[22]، ما يلي: "الحمد لله، وقعنا مذاكرة وهي أن هذا الذي يروج اليوم بين التجار ويسمونه الليطرة؛ وهو كاغد مكتوب فيه بالعجمية عدة من الدراهم أو الدنانير على المخزن أو على جماعة معينة من التجار لفلان، فيشتري فلان سلعة بذلك العدد الذي فيه، ويدفع هذا الكاغد فيها على أنه ثمنها فيقبضه البائع منه، ثم يشتري هذا البائع سلعة أخرى، ويدفع فيها وهلم جرا. فإن أراد أحد البائعين أخذ العدة التي احتوى عليها هذا المكتوب باعه بمثلها أو بأقل منها أو بأكثر؛ فتارة تكون ثمنا، وتارة تكون مثمنا أو أعطاه للمخزن أو لتلك الجماعة، فيعطيه المخزن أو الجماعة تلك العدة المكتوبة فيه، فهل يحكم بأن المبيع هو هذا المكتوب المسمى بالإطرة لتضمنه العدة المذكورة، لأنه الذي في اصطلاح التجار، إذ يقولون: باع الليطرة بكذا ولا يقولون: باع ما تضمنته العدة، ولأنه لا يقضى على رب الدين بقبضه أن امتنع، ولو كان محكوما له بحكم العين لأجبر على قبضه. وعليه، فيجوز البيع بأكثر، وتبديله بالعدة التي احتوى عليها التاجر، ولا مانع في ذلك، إذ هو كبيع العرض، أو المبيع حقيقة إنما العدة المكتوبة في الكاغد. وهذا كرسم الدين لا غير. وعليه، فلا يجوز البيع بالجنس إلا بالمثل مع القبض الناجز وبغير الجنس ولو بأكثر مع القبض الناجز أيضا"[23].
ويجيب المهدي الوزاني، في ردّه عن تلك النازلة، بالقول: "قلتُ: زعم بعض من لا تحقيق عنده أن الصواب هو الثاني وأفتى به، وليس بصحيح، إنما المبيع هو تلك الورقة المكتوبة بالعجمية، المتضمنة لتلك العدة، وليس كرسم الدين في شيء. وهب أن العوام ينزلونها منزلته فلا عبرة بهم، إذ لا شهادة للعدول فيها ولا لغيرهم ولا إقرار مقر، وإنما فيها زمام على دار من ديار التجار أو على المخزن بحيث لا يحكم به شرعا على أحد"[24].
وعموما، فقد اختلف موقف العلماء في الموضوع؛ فمنهم من يحكم لها بحكم الذهب والفضة في المعاملات، لأن ما سجل عليها مضمون، في حين يرى آخرون أن تلك الأوراق كالعروض المبيعة ولا تعطى حكم الذهب والفضة. "وقد تحصل عندهم أن الإطرة حكمها حكم الفلوس؛ فهي كالنقود في باب الصرف، ولكنها كالعروض في باب الزكاة والقرض. أما الشيك، فالظاهر فيه أن حكمه حكم الدين، يشترط في بيعه ما يشترط في بيع الدين، ومبلغ الشيك يعتبر دينا على دار من دور التجار، فإذا أتى به إليهم أن يردون إليه ما سجل فيه كدين، والله أعلم"[25].
أما التعامل بـ"السكورطة"، فقد تناوله الفقهاء بقدر من التفصيل وأصدروا فيها فتاوى كثيرة: مسألة التأمين المرتبط بالتعامل مع الأجانب في المجال التجاري، وتبادل السلع بواسطة ما يعرف بـ"السكرطة". وتصورها هو أن "التاجر إذا أراد أن يوجه سلعة إلى جهة ما، يذهب إلى دار أعدت لجماعة من النصارى، يعلمهم بالجهة التي يوجه إليها سلعته، ويبين لهم نوع السلعة، ويعطيهم قدرا معلوما من المال، على أنها إذا ضاعت في بر أو بحر يضمنونها له في ضوء ضوابط وقواعد معروفة عندهم في ذلك؛ فإذا سلمت السلعة ووصلت إلى محلها استبد الآخذ بما أخذ، وإذا ضاعت يسلمون ضمانها إلى ربها بما كانت ذكر أولا من قيمتها[26].
وقد أفتى محمد بن الحسن الحجوي بجواز الضمان التجاري المسمى "لاسورانس" في تأليف له بهذا العنوان، كما صدرت الفتوى نفسها للفقيه محمد الراضي السناني في الموضوع نفسه؛ غير أن هناك من يعارض هذا الرأي ويحرمه، فقد أجاب عبد الرحمان النتيفي ردا على فتوى الحجوي السابقة الذكر وأثبت أن الضمان التجاري لا يجوز إلا للضرورة، ووافقه على تحريم التأمين فقهاء آخرون.[27]
خاتمة:
إن المتأمل لمختلف النوازل الفقهية المتعلقة بالتجارة يستنتج أن آراء الفقهاء قد توزعت بين مؤيد ومعارض للمستجدات. ويعزى هذا التعارض إلى كون المغرب اندمج في نمط من الحياة الجديدة اقتصاديا وفكريا، وتعاملت النخبة المغربية من الفقهاء والعلماء مع هذه المظاهر الطارئة إيجابا وسلبا حسب طبيعة الحدث، ملتزمين بالأمر الواقع في الأحكام[28]؛ غير أن أهم المبررات التي كانت وراء رفض العلماء للمعاملة مع الأجانب ترجع إلى كون هؤلاء قاموا بدور أساسي في تفكيك أواصر المجتمع وخلخلة بنياته، وصار كل تعامل معهم كفيلا بإحداث تغييرات عميقة لم يكن البلد آنذاك بقادر على تجاوزها. وفي هذا المضمار، يرى عبد الله العروي أنه كلما كثر المجون وكبر خطره، خرجت الرعية عن المخزن، وتحوّل السلطان إلى مجرد زعيم ديني لا نفوذ له، وكان المخزن مكتوف الأيدي أمام المحميين؛ فلا يمكن للقاضي أو القائد أو المحتسب أن يتدخل في شؤونهم دون إخبار القنصل. ورأى العلماء والنظار والأئمة والمفتون أن نطاق الشرع يضيق سنة بعد سنة، وهم في هذه الحالة السيئة المتردية التي يعيشونها[29].
وإذا كان العلماء قد عبّروا عن معارضتهم ورفضهم في كثير من المرات، سواء من خلال خطبهم أو مؤلفاتهم المتعددة، فإن المعاملات التجارية مع الغرب لم تتوقف، بل زادت وتيرتها؛ وهو ما يفسح المجال لإثارة تساؤل جوهري يتعلق بعدم نجاح العلماء في وقف هاته المستجدات أو "البدع" والتصدي لها: فهل يتعلق عدم النجاح بتطور الأنساق الثقافية والبنية الفكرية للمجتمع؟ أم أنه يتعلق بمصالح فئة اجتماعية تبوأت مكانة بارزة وأصبح من الصعب التراجع عنها؟ أم أن الأمر يتجاوز الاعتبارين السالفين معا ويرتبط بالتطورات التاريخية المتسارعة التي كانت أقوى من كل مقاومة وتصدٍّ؟.
[1] لطيفة بناني سميرس، جوانب من مواقف علماء المغرب في القرن التاسع عشر، مجلة كلية الآداب والعلوم الإنسانية- ظهر المهراز، فاس، العدد 2، 1985، ص 221
[2] نفسه، ص 200
[3] محمد المنوني، مظاهر يقظة المغرب الحديث، مكتبة المدارس، 1985، ج 1، ص 256
[4] لطيفة بناني سميرس، مقال سابق، ص 222
[5] محمد المنوني، مرجع سابق، ج2، ص 395
[6] لطيفة بناني سميرس، مقال سابق، ص 223
[7] محمد المنوني، مرجع سابق، ج1، ص 257
[8] محمد المنوني، مرجع سابق، ج1، ص 260
[9] أحمد بن خالد الناصري، الاستقصا لأخبار دول المغرب الأقصى، دار الكتاب، الدار البيضاء، 1965، ج9، ص 115
[10] إدريس كرم، العلاقات الاجتماعية من خلال النوازل الفقهية بالمغرب، الطبعة الأولى، 2005، ص 210
[11] لطيفة بناني سميرس، مقال سابق، ص 209
[12] أحمد بن المامون البلغيثي، بيان الخسارة في بضاعة من يحط من مقام التجارة، مخطوط.خ.ع.رقم 1233، ص 102
[13] نفسه، ص ص 103-104
[14] إدريس كرم، مرجع سابق، ص 222
[15] لطيفة بناني سميرس، مقال سابق، ص 221
[16] لطيفة بناني سميرس، مقال سابق، ص 202
[17] نورمان سيكار، البنى المجتمعية الاقتصادية ونشوء برجوازية حضرية في المغرب قبل الاستعمار، مجلة كلية الآداب والعلوم الإنسانية، الرباط- عدد 20، 1995، ص 193
[18] نورمان سيكار، مرجع مذكور، ص 194
[19] نفسه، ص 195
[20] عمر أفا، التجارة المغربية في القرن التاسع عشر، دار الأمان، 2006، ص 198
[21] لمراجعة آراء العلماء فيما يخص هاته المواضيع، ينظر: عمر أفا، مرجع سابق، الصفحات من 177 إلى 121
[22] الإطرة أوراق تروج بين التجار، وهي نوعان: نوع يسمى بالفرنسية billet de banque، وهي تضمن لمن يحملها أن يتقدم بها إلى بعض المؤسسات أو الأشخاص، ويأخذ بدلها ما سجل عليها من نقود، وهذا النوع يروج روجان العين المسكوك من الذهب والفضة، ولا يختص باسم من هو في يده. أما النوع الثاني فيسمى الشيك chequeغير أنه لا يروج روجان الأول، بل إذا دفعه شخص إلى غيره يكتب عليه أنه سلمه له، بحيث إذا سقط من صاحبه ووجده غيره، فلا يمكن أن يتعامل به واجده، لأن صاحبه يعرف رقم شيكه. وتختلف الإطرة عن السفتجة بكون الأولى من النوازل الجديدة، والثانية كلمة فارسية بمعنى رسالة، ومضمونها أن التاجر يعطي مالا لرجل، فيعطيه سفتجة يطلب بمقتضاها من عميل له في بلد آخر أن يدفع له ذلك المبلغ. وتقابلها بالفرنسيةlettre de change. عمر أفا، مرجع سابق، ص 201
[23] المهدي بن محمد الوزاني، النوازل الجديدة الكبرى فيما لأهل فاس وغيرهم من البدو والقرى المسماة بالمعيار الجديد الجامع المعرب عن فتاوى المتأخرين من علماء المغرب، المحمدية، مطبعة فضالة، 1996ـ2000- ج12، ص 591
[24] المهدي بن محمد الوزاني، مرجع مذكور، ص591
[25] أحمد بن المامون البلغيثي، مصدر سابق، ص ص 97-103
[26] أحمد بن المامون البلغيثي، مصدر سابق، ص 105
[27] عمر أفا، مرجع سابق، ص 210
[28] عمر أفا، مرجع مذكور، ص 231
[29] Laroui. A, Les origines sociales et culturelles du nationalisme marocain, 1830-1912, p236