جدلية العلاقة بين الاستعمار والهوية الثقافية التراث البرتغالي بمدينة الجديدة المغربية نموذجا
فئة : مقالات
جدلية العلاقة بين الاستعمار والهوية الثقافية
التراث البرتغالي بمدينة الجديدة المغربية نموذجا
ملخص:
تتناول هذه الدراسة علاقة الاستعمار بالهوية الثقافية، وتركز بالخصوص على التراث البرتغالي بمدينة الجديدة المغربية. ولمناقشة هذا الموضوع، اعتمدت الدراسة بشكل أساسي على أدبيات النظرية الما بعد كولونيالية، والتي تعني دراسة الأثر الذي يخلفه الاستعمار على الثقافات والمجتمعات. وقد خلصت الدراسة إلى أن التراث البرتغالي ساهم بشكل أساسي في تشكل الهوية الثقافية المغربية والهوية الثقافية لسكان مدينة الجديدة تحديدا. وتناولت الدراسة مقومات التراث المعماري العسكري الذي تركه البرتغاليون والمتسمة بالقوة والجمال وبراعة البناء. كما أن البرتغاليين لم يغفلوا الاهتمام بالجانب الديني من خلال بناء كنائس بالقرب من مساجد في إشارة واضحة إلى الدعوة إلى التسامح. وفي الأخير، خلصت الدراسة إلى أن صيانة التراث المعماري البرتغالي ضرورية من أجل تشجيع السياحة وخلق فرص الشغل وإنعاش اقتصاد المنطقة ومن أجل إنجاز أنشطة ثقافية تتمحور حول موضوع التراث البرتغالي الذي يشكل جزءا أساسيا من الهوية الثقافية لسكان المنطقة.
مقدمة:
على الرغم من الآثار السلبية المرتبطة عموما بالاستعمار، إلا أن مجموعة من السمات والبصمات الإيجابية قد يخلفها هذا الاستعمار على الأرض التي احتلها في فترة تاريخية معينة. هذه السمات الإيجابية تساهم بقوة في تأسيس وتكوين وبلورة الهوية الثقافية لشعب ما. لذلك، فالتراث الثقافي والعمراني الذي يتركه الاستعمار يستدعي مبادرة من الدولة والمجتمع المدني للقيام بمبادرات ومشاريع جادة من أجل المحافظة عليه، ومن أجل صيانته من التدهور والتلاشي والاندثار. هذا التراث الثقافي الاستعماري يعدّ شاهدا حقيقيا على فترة زمنية بصمت تاريخ هذه الدولة. لهذا، فالهوية الثقافية لشعب ما لا بد أن تحمل في باطنها آثار هذه الحقبة الزمنية بكل تفاصيلها. تتناول هذه الورقة الارتباط الوثيق والطبيعي بين الاستعمار والهوية الثقافية للبلد الذي رزح في فترة ما تحت وطأة الاحتلال. النموذج الذي ستتم دراسته يتعلق بالآثار البرتغالية لمدينة الجديدة المغربية، وتهدف الدراسة إلى الإجابة عن الأسئلة التالية:
1- كيف يمكن تعريف الاستعمار؟
2- ماهي أهم سمات الهوية الثقافية؟
3- كيف يمكن توصيف أوجه الارتباط بين المآثر والمباني الاستعمارية والهوية الثقافية؟
وللإجابة عن هذه الأسئلة البحثية، تعتمد هذه الدراسة بشكل أساسي على النظرية الما بعد كولونيالية.
1. الإطار النظري: النظرية الما بعد الكولونيالية
بشكل عام، يحيل مفهوم ما بعد كولونيالي إلى مرحلة نهاية الاستعمار وتحقيق الاستقلال. وهذا ما يؤكده "بيتر شيلدز Peter Childs" و"باتريك ويليامس R.J.Patrick Williams"1.
تعني ما بعد الكولونيالية دراسة الأثر الذي يخلفه الاستعمار على الثقافات والمجتمعات، ويبقى هدفها الأساسي هو تحليل تمكن الاستعمار من السيطرة على ثقافات العالم الثالث. لهذا، فنظرية ما بعد الكولونيالية هي دراسة مختلف التغيرات الثقافية والسياسية، والتي تستدعي وعيا قويا بالدونية الاجتماعية والنفسية والثقافية التي يخلفها الاستعمار، ثم الرهان على تحقيق استقلال فعلي على المستويات السياسية والإثنية والثقافية.
ومن أبرز رموز نظرية ما بعد الكولونيالية نجد: إدوارد سعيد وهومي بابا وكاياتاري سبيفاك وفرانز فانون وألبير ميمي وآخرين. ويعدّ إسهام بابا في بلورة هذه النظرية كبيرا ومهما، وهو يعتمد بشكل أساسي على التحليل النفسي والتفكيك، وهو مفهوم اعتمده جاك دريدا في مشروعه الفكري.
ويتناول بابا عدة مفاهيم مثل: الهجنة Hybridity والازدواجية Ambivalence والمحاكاة Mimicry. يقول الكاتب والمترجم ثائر ديب:
"أن تقرأ هومي بابا يعني أن تعيش تلك اللحظات من الغرابة المقلقة، على الحدود ما بين الثقافات والأمم والهويات والعوالم، في الممر الفاصل الواصل، على الجسر، في منطقة الهجنة، والتجاذب، والانشطار، في الفترة الزمنية الفاصلة، وما لا يقبل الترجمة، في الخفاء، والعماء، وما لا يدرك؛ وذلك كيفما نستكشف أن هذه اللحظات والأمكنة ذاتها هي زمنيات وفضاءات المعرفة، والإدراك، وقابلية الترجمة، حيث يجري تفاوض الهوية، وتتبع المقاومة، وتدخل الجدة العالم. أن تقرأ هومي بابا يعني أن تمضي حيث تأخذك توني موريسون، ونادين غوردايمر، ومحمود درويش، وديريك والكوت، وعادل جوسوالا والا، ونهضة هارلم...، ويعني أن تتواصل وتقطع- في آن واحد- مع فرانز فانون، وميشيل فوكو، وجاك لاكان، وجاك دريدا، وإدوارد سعيد، وجوليا كريستيفا، وفريدريك جيمسون، وريتشارد رورتي، وجوزيف كونراد، وإ.م فورستر..."2
ويؤكد بابا أن نظرية ما بعد كولونيالية هي في نظره محاولة لتأسيس هوية بديلة منزاحة للمركز. هوية متعددة وهجينة تفكك وتهدم المفاهيم الكونية والأثنية للخطاب الإمبريالي.
ويرى بابا أن الهدف من الخطاب الاستعماري هو محاولة تحليل بنية المستعمر (بفتح النون)، باعتبارها كثلة سكانية مكونة من أنماط اجتماعية فاسدة، وذلك على أساس الأصل العرقي من أجل تبرير الغزو وإنشاء نظم الإدارة والتعليم.
ويعد فرانتز فانون أحد رموز النظرية ما بعد الكولونيالية الأساسيين، ويرتكز مشروعه بشكل أساسي على أن إزاحة الاستعمار لا تتم إلا عبر المواجهة المباشرة المؤسسة على القوة لأن قدومه تم عن طريق القوة بالدرجة الأولى. يقول فرانتز فانون:
"إن العالم الثالث يقف الآن أمام أوروبا كتلة عظيمة تريد أن تحاول حل المشكلات التي لم تستطع أوروبا أن تأتي لها بحلول، ولكن يجب علينا أن لا نتحدث عن وفرة الإنتاج، وأن لا نتحدث عن الجهد العنيف، أن لا نتحدث عن السرعة الكبيرة. ليس معنى هذا أن نعود على الطبيعة وإنما معناه أن لا نشد البشر إلى اتجاهات تشوههم، أن لا نفرض على الدماغ إيقاعا سرعان ما يفسده ويفقده سلامته. يجب علينا أن لا نتذرع بحجة اللحاق فنزعزع الإنسان وننتزعه من ذاته، من صميمه، ونحطمه، ونقتله. لا نحن لا نريد اللحاق بأحد، ولكننا نريد أن نمشي طوال الوقت ليلاً ونهاراً، في صحبة الإنسان، في صحبة جميع البشر. وعلينا أن نجعل القافلة متراصة غير متباعدة، وإلا لم يستطع كل صف من الصفوف أن يرى الصف الذي تقدمه، ولم يستطع البشر أن يعرف بعضهم بعضاً، وأصبحوا لا يلتقون إلا لماماً ولا يتحدث بعضهم إلى بعض كثيراً.
إن على العالم الثالث أن يستأنف تاريخاً للإنسان يحسب حساب النظرات التي جاءت بها أوروبا، وكانت في بعض الأحيان رائعة، ولكنه يحسب حساب الجرائم التي قامت بها أوروبا في الوقت نفسه، وأبشع هذه الجرائم أنها شتتت وظائف الإنسان تشتيتاً مرضياً، وفتتت وحدته، كما أوجدت في المجتمع تحطماً وتكسراً وتوترات دامية تغذيها طبقات، وكما أوجدت على مستوى الإنسانية أحقاداً عرقية واستعباداً واستغلالاً بل ومجزرة نازفة تمثلت في نبذ مليار ونصف مليار من البشر. فيا أيها الرفاق، يجب علينا أن لا ندفع جزية لأروبا بخلق دول ونظم ومجتمعات تستوحي أوروبا. إن الإنسانية تنتظر منا شيئاً غير هذا التقليد الكاريكاتوري، الفاجر على وجه الإجمال. إذا أردنا أن نحول أفريقيا إلى أوروبا جديدة، وأن نحول أمريكا إلى أوروبا جديدة كان علينا أن نعهد بمصائر بلادنا إلى أوروبيين؛ لأنهم سيحسنون التصرف أكثر من أعظمنا موهبة...."3
بالنسبة إلى فانون، فالاستعمار دمر كل شيء عن طريق العنف والبطش كما حاول بشتى الطرق تشويه معالم الهوية المحلية بكل العناصر الثقافية المشكلة لها ولمستقبلها ولصورتها المتعددة. هو "آخر" يستمد جبروته وقوته وحضوره من خلال سحقه للأنا؛ أي البلد المستعمر (بفتح النون) والمجازر والإرهاب بكل أنواعه. ويربط فانون بروز الكفاح المسلح كنتيجة منطقية لبطش النظام الاستعماري، حيث يقول:
"إن الشعب الذي ظلوا يقولون له إنه لا يمكن أن يفهم غير لغة القوة، يعزم أمره الآن على أن يعبر عن نفسه بلغة القوة. والحق أن المعمر قد دله منذ زمان طويل على الطريق التي يجب أن تكون طريقه إذا هو أراد أن يتحرر. والحجة التي يختارها المستعمر إنما دله عليها المعمر، فإذا بالمستعمر هو الذي يؤكد اليوم أن الاستعمار لا يفهم إلا لغة القوة. إن النظام الاستعماري يستمد مشروعيته من القوة، وهو لم يحاول في أي لحظة من اللحظات أن يراوغ في هذا الأمر الذي يتفق وطبيعة الأشياء.
إن كل تمثال من التماثيل، كتمثال فيدرب أو ليوتي أو بوجو أو بلاندا، إن كل تمثال من هذه التماثيل المغروسة في الأرض المستعمرة لا يفتأ يعبر عن شيء واحد بعينه: ((نحن بقوة الحراب..)) وإتمام هذه العبارة أمر سهل...إن كل معمر يفكر، أثناء فترة التمرد والعصيان، على أساس حساب واضح دقيق. ومنطقه هذا لا يستغربه المعمرون الآخرون، ولكن يجب أن نذكر أيضا أن هذا المنطق لا يستغربه المستعمرون أيضا. ونلاحظ أولا أن المبدأ القائل ((إما هم وإما نحن))، ليس في نظر المستعمرين أمرا مفارقا مستغربا؛ لأن الاستعمار، كما رأينا، إنما هو تنظيم عالم ينقسم انقساما ثنائيا."4
ويؤكد فانون أن الاستعمار، رغم جلائه عسكريا، إلا أنه يخلف وراءه بلدا منهكا اقتصاديا واجتماعيا وسياسيا وخاليا من كل الكفاءات والأطر التي يمكنها تحمل مسؤوليات التدبير والتأطير وتدبير الأزمات الآنية والمستقبلية.
وتتميز مساهمة ألبير ميمي Albert Memmi في النظرية ما بعد الكولونيالية في كونها أولا انتقاد للاستعمار، وثانيا بكونها تعتمد على المنهج السوسيولوجي؛ وذلك من خلال تقسيم طبقي للمكونات البشرية للمستعمر وأيضا لتلك المميزة للبلد الذي تم احتلاله واستعماره.
ويعد مؤلفه "صورة المستعمِر والمستعمَر"5 من أهم المرجعيات في أدبيات الدراسات الما بعد كولونيالية. وقد قام بتقديمه الفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر. يرى ألبير ميمي بأن المستعمر يمكن أن يكون مثقفا، ويمكن أن يكون عنصريا، ويمكن ان يكون محافظا. ومن جهته، فالفرد المنتمي للبلد المستعمر (بفتح النون) يمكن أن يكون مقلدا أو ثوريا. وفي نظره، لم يقم المستعمر الفرنسي فقط باحتلال البلد، بل قام أيضا بطرد السكان من أراضيهم. وعامل التونسيين باعتبارهم مواطنين من المرتبة الثانية. ونظرا لكل ما صدر من هذا المستعمر، فقد نعت الكاتب تصرفاته بـ "الوقاحة". ويفند ألبير ميمي ادعاءات المستعمر المتمثلة في نيته بنشر الحضارة والثقافة داخل البلدات التي تطأها قدماه بقوله:
"في المستعمرة الربح أكبر، والكلفة أقل، تذهب إليها لأن الأمور مستتبة فيها، والمردود مرتفع، كما تتوفر فيها سبل النجاح المهني السريع والربح السريع، هناك يجد المتخرج الشاب وظيفة، والموظف مرتبة إضافية، والتاجر بضائع رخيصة، والصناعي المواد الأولية واليد العاملة بأسعار لا تصدق."6
من أجل تأسيس نظريتها، استعارت غاياتاري سبيفاك 7 Gayatri Spivak مفهوم "Subaltern" من غرامشي، وهو مفهوم يحيل في الدراسات ما بعد الكولونيالية إلى الفئات الاجتماعية الدنيا والمهمشة اجتماعيا واقتصاديا وأيضا سياسيا بما أنها بعيدة عن مراكز القرار. وتناولت سبيفاك بالتحليل فئات العمال والمزارعين وأيضا النساء، باعتبارها الفئات أكثر تضررا من الاستعمار وأكثر تعرضا للحيف والظلم.
واختارت الباحثة سبيفاك هذا المنحى العلمي من أجل انتقاد وبشدة الخطاب الإمبريالي الذي مارس قسوته على هذه الفئات المسحوقة على مستوى حقوقها الاجتماعية والاقتصادية وأيضا الثقافية.
الحديث عن نظرية ما بعد استعمارية يعني الحديث عن أهمية الثقافة، باعتبارها مفتاحا أساسيا في تكوين الهوية. وفي هذا الشأن، يؤكد بابا أن خلق ثقافة ما يستدعي إلغاء كل اعتقاد يلبس صفات القدسية والنقاء والكونية بشعب ما أو وطن ما. وبالتالي، فالثقافات في نظره لا تستطيع العيش إلا من خلال العلاقة الثنائية التي تربط الأنا بالآخر.
وعلى غرار الخطيبي، فإن بابا يتحدث عن ثنائيات شرق-غرب وشمال- جنوب مؤكدا أن النظرية ما بعد- كولونيالية تستمد كينونتها ووجودها الأنطولوجي والمعرفي والسياسي من خلال الدول المستعمرة والأقليات في إطار التقسيم الجيو- سياسي بين الشمال والجنوب والشرق والغرب. وتسعى هذه النظرية إلى بناء مراجعاتها النقدية على أساس قضايا الاختلاف الثقافي والسلطة الاجتماعية والتفرقة السياسية؛ وذلك من أجل الكشف عن نقاط الازدواجية أو التناقض والعداء. والحديث عن الثقافة في ظل الدراسات المابعد كولونيالية من منظور هومي بابا هو في حد ذاته غوص عميق في مسألة الهوية بكل تناقضاتها حيث يحتل فيها الآخر موقعا مهما.
وتمثل الهجنة hybridity بالنسبة إلى بابا شكلا من أشكال المقاومة والصمود داخل المنظومة ما بعد –كولونيالية؛ لأنها تفتح فضاء ثالثا يمكن بواسطته إزعاج المنطق الجوهري والثنائي للمشروع الاستعماري. ويؤكد بابا أن "الهجنة hybridity" تقوم بتكسير تطابق وازدواجية الأنا والآخر والداخل والخارج لتحل محلها تلك التي يعمد الخطاب الاستعماري إلى إلغائها والتنكر لها. ويؤكد هوما بابا أن الهجنة هي:
"اسم هذا الانزياح للقيمة من الرمز إلى الدالول، هذا الانزياح الذي يجعل الخطاب المسيطر ينشطر على طول محور قوته كيفما يكون تمثيليا، ومرجعيا موثوقا. والهجنة تمثل ذلك التحول المتجاذب للذات الخاضعة للتمييز إلى موضوع مرعب، وفادح من موضوعات التصنيف البارانوي، تحولها إلى مساءلة مقلقة لصور السلطة وضروب حضورها. لكي نلتقط تجاذب الهجنة، لا بد من التمييز بينها وبين حالة من القلب الذي يشير إلى أن ما هو أصلي ليس- في حقيقته- سوى مفعول من المفاعيل. فالهجنة ليس لديها أي منظور من منظورات العمق أو الحقيقة كيفما تقدمه: ليست حدا ثالثا يحل التوتر بين ثقافتين، أو بين مشهدي الكتاب، في نوع من لعب الإدراك أو المعرفة الديالكتيكي." 8
يرى الخطيبي أن مشروع التخلص من النزعة الاستعمارية Décolonisation مشروع ذو تحديات كبيرة ويحتاج إلى مزيد من الجهد والمثابرة خاصة على مستوى الفكر. وهذه العملية تحتاج في نظره إلى تفكيك كل خطاب يسعى بطرق متخفية إلى تعزيز وتشجيع الهيمنة الإمبريالية. وبالتالي، فالخطيبي يؤكد أنه لا زلنا لم نصل إلى هذه المرحلة من الوعي الذي يمكننا من تخليص فكرنا من النزعة الاستعمارية ليعود قادرا ليس فقط على إسقاط القوة الإمبريالية ولكن أيضا على التأكيد على وجود اختلاف وتخريب مطلق للعقل. يقول عبد الكبير الخطيبي على أن سوسيولوجيا التخلص من الاستعمار تنبني على أساس مهمتين مركزيتين:
1) تفكيك التمركز حول المنطق الذاتي logocentrisme والتمركز حول العرقية؛ أي تفكيك لقول الاكتفاء الذاتي بدرجة أولى، ذلك القول الذي نماه الغرب حول العالم أثناء حركة نموه هو. ويظل مجال التأمل واسعا في هذا الجانب، حول التضامن البنيوي الذي يربط الإمبريالية في كـل منابـرها (السياسية والعسكرية والثقافية) بازدهار ما يسمى بالعلوم الاجتماعية. صحيح أنها مهمة ضخمة: فبين واقعة الاستعمار وواقعة التخلص منه يسير مصير العلم والتقنية بصفتهما قوى وطاقات للهيمنة على كل العالم وفوق العالم أيضا.
2) هذا يفترض بل يستلزم أيضا نقدا للمعرفة والخطابات التي أنتجتها مختلف مجتمعات العالم العربي عن ذاتها."9
وعلى غرار بابا Bhabha، اعتمد الخطيبي على مفهوم التفكيكDéconstruction كآلية منهجية في مشروعه المتعلق بالتخلص من النزعة الاستعمارية Décolonisation. وفي إشارة إلى أعمال جاك دريدا وميشيل فوكو، يوضح الخطيبي بأن تفكيك المفاهيم يتطلب في البداية إخراجها من الأنظمة والقوالب التي تسجنها. وبالتالي، حسب الخطيبي لا يمكن أن يكون البحث فعالا دون أن يكون قادرا على تفكيك المعرفة وخلخلتها ونقدها. وهذا هو دور الباحث الحقيقي والغاية في نظر الخطيبي هي الوصول إلى "فكر مختلف" أو "فكر مغاير". يقول الخطيبي:
"ماذا نعني بالتفكيك وبعبارة أدق تفكيك المفاهيم؟ إن مستوى أول من المعالجة (وأحيل هنا القارئ إلى كتابات جاك دريدا وميشيل فوكو)، يكمن في إبراز عملية تكوين المفاهيم ولحمتها حسب القوانين التي تحكمها، من الظاهر dehors إلى الباطنdedans، من ما هو مجتمعي إلى خطابه الذاتي. إن الباحث "أي باحث" لا يمكن أن يفلت من يفلت من الصرح الأثري لهذه المعرفة، archéologie التي ينوي ممارستها في حدود وعيه وقوله الحر، غير أنه بقدر ما ينغمر الوعي في ذلك الصرح بقدر ما يصطدم البحث بتدرج هرمي من الكتل الاستدلالية، والأحداث المتباعدة، كتل متجلطة، متناثرة على نحو ما على صخرة أسسها."10
وعلى الرغم من تأثر الخطيبي بدريدا واستعماله لمفهوم التفكيك الدريدي، فإن مشروعه يحمل اجتهادات فكرية عميقة ومهمة خاصة في اعتماده على المكونات السياقيةContextual constitutuents؛ بمعنى أن الخطيبي حاول تكييف هذا المفهوم وغيره من المفاهيم الغربية على السياق العربي والإسلامي وما يحمله من علامات وسمات ثقافية واجتماعية مختلفة. وهنا، يأتي البديل الفكري الذي يقترحه الخطيبي والمتمثل في "الفكر المغاير" والذي ليس لا مرتبطا بالأنا أو "النحن" بشكل مطلق ولا مواليا للآخر بطريقة عمياء. يقول الباحث المغربي عبد السلام بنعبد العالي عن الفكر البديل أو الفكر المغاير الذي يقترحه الخطيبي:
"ليس الفكر المغاير نداء إلى التعلق بنموذج فكري جديد بعد أن بليت النماذج "القديمة" بعد أن شاخ النموذج الماركسي و"بلي" نموذج سارتر. إن الفكر المغاير يريد "بناء" عالم بلا نماذج: عالم يتموقع بين-بين. هذه البينية تكاد تطبع الخطيبي في جميع أعماله. وقد كان عبر عنها ربما أحسن تعبير في المحاضرة التي ألقاها سنة 1978 بكلية الآداب في الرباط حيث قال: "حقا، يكون المحاضر غربيا وشرقيا في مسألة المغرب. لماذا؟ لأن وجود المغرب بين الغرب والشرق، بين الغرب والمشرق، بين التاريخ وما قبل التاريخ، بين الميتافيزيقا وما يناقضها، بين العرب والبربر، بين الدين والسحر، بين القبيلة والإقطاعية من جهة، والرأسمالية من جهة أخرى، بين (بين)...". من هنا تلك الدعوة الملحاحة إلى نقد مزدوج يضع نفسه بين عدة "تخصصات" وينهج طرقا متعددة تجد التعبير عنها في كتابة متنوعة الواجهات تتردد بين النقد السوسيولوجي والبحث السيميولوجي والكتابة الأدبية."11
2. المواقع الاستعمارية باعتبارها تراثا ثقافيا: التراث البرتغالي بمدينة الجديدة نموذجا
ينبغي التأكيد بداية أن الاستعمار كما يؤكد على ذلك عبد الكبير الخطيبي يعتبر رافدا مهما ومتينا من روافد الهوية الثقافية المغربية، مثلها مثل أغلب المدن المغربية، عاشت مدينة الجديدة تحت وطأة الاستعمار البرتغالي والاستعمار الفرنسي لمدة طويلة. ستركز الورقة بصفة خاصة على الحقبة الاستعمارية البرتغالية.
1.2. الحي البرتغالي بمدينة الجديدة
خلف الاستعمار البرتغالي لبعض المدن المغربية مثل مدينة الجديدة ومدينة الصويرة ومدينة أزمور ومدينة سبتة ومدينة طنجة ومدينة أكادير وأصيلة تراثا ماديا ضخما ومعالم حضارية ذات هندسة معمارية مميزة. وقد ساهم حضور هذه الآثار في إضفاء قيمة تاريخية للمدن التي تحتوي عليها.
تقع مدينة الجديدة على بعد 100 كلم جنوب مدينة الدار البيضاء العاصمة الاقتصادية للمملكة المغربية.
حملت هذه المدينة العريقة عدة أسماء، فالرومان أطلقوا عليها اسم "روزيبيس"، حسب حكاية "بتوليميوس" عن رحلته لغرب إفريقيا. وفي القرن السادس عشر، احتل البرتغاليون المنطقة لأهمية موقعها الاستراتيجي على الساحل الغربي وشيدوا بها، سنة 1506 قلعة ومدينة سموها "مازكان Mazagão". وبعد حصار طويل ومعاناة قاسية، تمكن السلطان العلوي سيدي محمد بن عبد الله من تحريرها سنة 1769. وقد عمد البرتغاليون إلى بتفجير عدة قنابل بعد مغادرتها فتهدمت معظم بناياتها. وظلت مهجورة وتدعى "المهدومة" إلى أن أمر السلطان مولاي عبد الرحمن بترميمها وإعادة بنائها سنة 1832 ثم أطلق عليها بعد ذلك اسم "الجديدة".
وبعد فرض “الحماية” الفرنسية على المغرب سنة 1912، حملت المدينة من جديد اسم "مازكان"، ووصفها الجنرال "ليوطي" (أول حاكم فرنسي على المغرب) بـ "دوفيل المغرب"، واستعادت المدينة اسم "الجديدة" إثر استقلال البلاد.
تم بناء "مازغان" أو الحي البرتغالي المشتق من الأمازيغية "إيمازيغن" على مرحلتين، الأولى بين 1510-1514 حيث بني الحصن الذي يعرف اليوم بـ "المسقاة البرتغالية"، وسيتم بين 1541-1548 توسيع الحصن ليصبح قلعة، وهو ما يشكل اليوم الحي البرتغالي كاملا. أسوارها ليست مرتفعة ولا تتوفر سوى على الباب الرئيس وباب صغير سمي "باب البقر" لخروج المواشي والدواب وباب البحر من الجهة التي ترسو فيها السفن.
يقول الباحث المغربي أبو القاسم الشبري:
"الجديدة هو الاسم المستحدث والحديث لما كان يعرف زمن الرومان "روزيبيس" وفي العصر الوسيط بـ "مازيغن" و"يمازيغن"، "مازيغان" "مازغان" أو البريجة، برج الشيخ. ومازغان هذه، عكس ما يعتقده كثير من الباحثين المغاربة والأجانب ليست من اكتشاف البرتغاليين، وليسوا هم من أعطوها ذلك الاسم؛ ذلك أنه إذا كان البرتغاليون قد وصلوا إلى مازغان بصفة رسمية سنة 1502، فإن الموقع كان موجودا سلفا".12
هذه المكانة التاريخية ومميزاتها العمرانية القديمة جعلت منظمة اليونسكو تصنف الحي البرتغالي تراثا إنسانيا عالميا؛ وذلك بتاريخ 30 يونيو 2004.
وأهم المعالم التاريخية التي خلفها الاستعمار البرتغالي تتمركز في الحي البرتغالي أو 'الملاح' كما يلقبه غالبية أبناء مدينة الجديدة. فطبعا الملاح أو الحي البرتغالي شيده البرتغاليون وبقيت آثاره بادية للعيان. يقول الباحث أبو القاسم الشبري:
"يبقى إذن أن قلعة مازغان هي بناء برتغالي محض. وقد بنى البرتغاليون مازغان على مرحلتين؛ إذ شيدوا سنة 1514 م الحصن الأول (Cidadela) الذي يضم اليوم ما يسمى بالمسقاة البرتغالية (المطفية) بقاعاتها المحيطة بها، وفي 1541 م شرعوا في توسيع الحصن وبنوا القلعة المحصنة (Fortaleza) وهي ما يسمى اليوم بالحي البرتغالي وما ينعت خطأ بالملاح. وقد تم تحويل الحصن إلى قلعة كبيرة مباشرة عقب طرد البرتغاليين من مواقع سانتا كروز (أكادير) وأسفي وأزمور."13
وتحتوي المآثر التاريخية البرتغالية بمدينة الجديدة أبراجا بديعة الصنع وأسوارا متينة وصلبة لا زالت تقاوم رياح البحر الهوجاء ولا زالت تتصدى لسلطة التهميش. يقول الباحث أبو القاسم الشبري:
"أشرف على بناء الحصن الأول (1514م) الأخوان فرانسيسكو ودييغو دي أرودا (FRANCISCO ARRUDA) مستغلين البرج المغربي الموجود سلفا لبناء حصن مربع أضافا إليه ثلاثة أبراج في الزوايا الأخرى التي حملت اسم برج اللقالق وبرج الرباط وبرج السجن، في حين احتفظ البرج الأول باسمه المغربي أي البريجة، كما أن برج الرباط استمد اسمه من كلمة "رباط" العربية وسمي كذلك لأنه استعمل كبرج رئيس للمراقبة. وكلمة "رباط" دخلت اللغة البرتغالية بفعل الوجود الإسلامي بالأندلس التي كان للمرابطين والموحدين وجود قوي بها. الأسوار التي تربط بين هذه الأبراج الأربعة للحصن تشكل السور الخارجي لثلاث قاعات تمتد على طول الأسوار الجنوبية والشرقية والشمالية. وهذه القاعات تحيط بفناء داخلي مربع أو يكاد (34.60-33.60-34.65-33.55م) نصفه تحت الأرض ويحمل سقفه 25 عمودا منها 12 مربعا و12 دائريا وآخر امتزج فيه الدائري بالمربع. والأعمدة الضخمة هذه كلها من الحجر المنحوت تعلوها تيجان مربعة بسيطة تقع عليها عوارض المحدبات التي تحمل قباب السقف المبنية بالآجور المطهى. وينتمي شكل البناء برمته إلى النمط القوطي أو القوطي المانويلي (gothico-manuelin)، نسبة إلى الملك البرتغالي إيمانويل الأول (1495-1521). ومن دون شك أحيط الحصن بخندق من كل جنباته، والذي تم طمره عقب أشغال التوسيع بين 1541 و1548."14 تتشكل المعالم الحضارية البرتغالية بمدينة الجديدة أيضا من أماكن للعبادة تبرز بشكل واضح ترسيخ الستعمار البرتغالي لقيم التسامح الديني. وهذا ما يشهده الحي البرتغالي من وجود عدة كنائس بالإضافة إلى المساجد طبعا. وفي هذا الصدد يقول الباحث أبو القاسم الشبري:
"فإلى جانب كنيسة الرحمة (Igreja da Misericordia) التي احتفظ بها فوق سطح الحصن الأول، تم بناء عدة كنائس جديدة خلال القرنين السادس عشر والسابع عشر، منها ما اندثر، بينما بقيت منها إلى أيامنا هذه كنيسة الصعود كاملة (الكنيسة الأم) مباشرة عند مدخل القلعة والتي تسميها الساكنة المحلية "الكنيسية" أو "دار الثقافة"، وكنيسة سان سباستيان الملتصقة ببرج سان سباستيان وكنيسة النور التي وصلتنا أغلب أجزائها، مبتورة، وهي توجد على يمين الداخل إلى الحي بالزقاق المؤدي إلى سيدي البطاش وكانت تستند إلى برج الروح القدس."15
جدير بالذكر أن الهندسة المعمارية البديعة للبنايات البرتغالية بمدينة الجديدة نالت إعجاب المخرج السينمائي الأمريكي أورسن ويلز ORSON WELLES فقام بتصوير بعض مشاهد شريطه السينمائي "OTHELLO" سنة 1952.
هذه البنايات التاريخية شاهدة على حقبة هامة من تاريخ مدينة الجديدة الطويل والممتد لآلاف السنين.
الحي البرتغالي بمدينة الجديدة هو استعارة لهوية ثقافية يطبعها التنوع والاختلاف.
لا بد من التذكير على أن هذه المآثر التاريخية البرتغالية تم ترميمها من أجل إنقاذها من التلاشي والغياب والاندثار كما حدث لبعض البنايات التاريخية الأخرى. الهوية الثقافية أو لنقل تشكل الهوية الثقافية لبلد ما أو لمدينة ما يحمل في طياته وتفاصيله وعمقه الوجودي أزمنة مختلفة ومتنوعة. الهوية الثقافية لا يمكن اختزالها في الحاضر فقط. بل إن الهوية الثقافية تتشكل من خلال أحداث وعلامات ورموز تنتمي إلى الحاضر والماضي والمستقبل. الاحتكاك والتواصل البصري مع مثل هذه البنايات التاريخية الحاملة لبعض الأسرار لا شك أنها تدفع الذاكرة لتخزين هذه المشاهد وخلخلتها إبستمولوجيا وأنطلوجيا. في نهاية الأمر الإنسان هو كائن متفاعل مع محيطه وملحاح على طرح الأسئلة لمعرفة تاريخ مدينته. وبالتالي، فالاستعمار البرتغالي لمدينة الجديدة هو بطبيعة الحال جزء أساسي من تاريخه ورافد مهم من روافد هويته.
الذاكرة ليست شيئا جامدا بل هي شيء متحرك كما يقول عبد الكبير الخطيبي. وهي في نظره:
"كالحاضر في المستقبل. فالماضي متغير، ليس هناك ماض مطلق ولا منتهي، هو كالهوية مجموعة من الآثار والبصمات تكون الذات وتكون الموجود كخريطة من آثار هي مرة أخرى مستقبلية."16
في هذا الإطار، يقول هومي بابا:
"إذا ما كان الآخر، بوصفه مبدأ لتعيين الهوية، يسبغ درجة من الموضوعية، فإن تمثيله – سواء كان سيرورة القانون الاجتماعية أو سيرورة الأوديب النفسية- متجاذب على الدوام، يزيح النقاب عن ضرب من العوز والافتقار. وعلى سبيل المثال، فإن التمييز الشائع في الكلام بين حرفية القانون وروحه ينم على آخرية القانون ذاته، فتلك المنطقة الرمادية الملتبسة بين العدالة والإجراء القضائي هي، بالمعنى الحرفي، منطقة تنازع في الأحكام. فإن قانون الأب أو الاستعارة الوالدية لا يمكن أن تؤخذ حرفيا. فهي سيرورة استبدال وتبادل تنقش مكانا للذات منضبطا، وفارضا للضبط، غير أن ذلك النفاذ الاستعاري إلى الهوية هو على وجه التحديد مكان التحظير والكبت، وصراع السلطة. وبذلك يكون تعيين الهوية، كما تعبر عنه الرغبة في الآخر، هو على الدوام مسألة تأويل، ذلك أنه تحديد مراوغ ومتملص لذاتي على أنها ذات ما، وحذف لشخص ومكان."17
بيد أن هذا الآخر من خلال ما خلفه من بنايات ومعالم هو جزء لا يتجزأ من الهوية الثقافية المغربية ومن هوية مدينة الجديدة بطبيعة الحال. وبالتالي، فبعض المثقفين وغير المثقفين الذي يطالبون بهدم كل المعالم التاريخية ومنها الآثار البرتغالية بمدينة الجديدة وإجلائها كليا عن المدينة باعتبارها تمثل استمرارا للاستعمار قد خانهم التقدير. هو لا يستطيعون استيعاب أن هذه المعالم تؤرخ لتاريخ المدينة وتشكل بالتالي مصدرا مهما من مصادر الهوية الثقافية لمدينة الجديدة بل وللمغرب عموما. الخطيبي مثلا لا يرفض الآخر رفضا مطلقا كما فعل فرانتز فانون ويعتبر الخطيبي مثل هذه الدعوة بمثابة "اختلاف وحشي" أو "اختلاف ساذج". يقول الخطيبي:
"أطلق فانون قبيل موته هذا النداء: هيا أيها الرفاق، لقد انتهت اللعبة الأوروبية، ولابد من البحث عن شيء آخر". التخلي عن أوروبا، والابتعاد عنها إلى الأبد؟ أليس هذا وهما، مادامت أوروبا تقيم في كياننا؟ زد على ذلك أن الكائن العربي هو، في مشكلته القصوى، كما نعتقد، غرب صعب المعالجة أكثر من أي وقت مضى في اختلافه. إذا كان الغرب فينا، لا كشيء مطلق، بل كاختلاف نقارنه بدقة مع اختلاف آخر يدعونا هو نفسه إلى التفكير فيه كما هو رهان الفروقات (فروقات الوجود)، إذا لم يعد الغرب إذا وهم تبلبلنا الخاص، فإن كل شيء يبقى آنذاك للتأمل حتى الموت. لنسم "الاختلاف الوحشي" بالانفصال الزائف الذي يقذف بالآخر إلى خارج مطلق. الاختلاف الوحشي يؤدي بشكل حتمي إلى ضلال الهويات المجنونة: الثقافوية، التاريخوية، القوموية، التزمتية الوطنية، العرقية... كانت هذه الدعوة إلى الاختلاف الوحشي (الوحشي والساذج) السخط الذي لم نتأمله، في مرحلة زوال الاستعمار، ويظل نقدها للغرب أسير العداوة وأسير هيغيلية منحطة. وما نزال نتساءل: ما الغرب المعني؟ ما الغرب الذي نعارضه بنا، فينا نحن؟ ومن نحن؟."18
فعلا، فكما يقول الخطيبي الهوية ليست منغلقة وترفض الخطاب الشعبوي والمتزمت والرافض لكل السمات التاريخية، ومنها آثار الغرب البادية للعيان وإن كان هذا المستعمر طاغيا مستبدا. هذه الآثار والبنايات البرتغالية تحكي عن حقبة تاريخية لن يمحوها الزمن. هذه الفضاءات الاستعمارية تسرد روايات عن المعمار البرتغالي الراقي والهندسة المعمارية الفاتنة وكذا عن المواد المستعملة في البناء وفي الزخرفة. معمار فاتن ومتين لا يزال صامدا أمام عنف الزمن ولا زال يذكر الأجيال الحالية والقادمة بتاريخ مدينة الجديدة وبهوية السكان وبالاستعمار البرتغالي وبحكاية تحرير المدينة من قبضة هذا الاستعمار.
يقول الباحث "روميو كارابيللي Robeo Carabelli" بأن التراث المادي الحالي لم يعد برتغاليا فقط، بل هو مغربي أيضا. هو تاريخ مشترك بين المغرب والبرتغال.19 وبطبيعة الحال، فالتاريخ المشترك هو إغناء للهوية الثقافية الفردية والجماعية وعامل أساسي في بناء شخصية الإنسان المغربي والجديدي بصفة خاصة المتسمة بالتنوع والاختلاف الثقافي واللغوي والحضاري.
خاتمة:
نستنتج في الأخير أن الهوية الثقافية ليست شيئا جامدا، بل إن ديناميتها لا تعرف التوقف وتتفاعل مع الأحداث التاريخية ومع الصور والرموز ومع الآثار بشكل تلقائي وعفوي ومباشر. التراث المعماري البرتغالي العسكري منه والديني أيضا من خلال الكنائس المشيدة في المدينة الجديدة المغربي يترجم بجلاء مقومات حقبة تاريخية مهمة شكلت إحدى اللبنات الأساسية في الهوية الثقافية المغربية. التراث المعماري البرتغالي ينبغي صيانته وترميمه والمحافظة عليه؛ لأنه جزء أساسي من الهوية الثقافية المغربية التي تتميز بالتنوع والاختلاف. ومن جهة أخرى فالتراث المعماري البرتغالي لمدينة الجديدة بإمكانه أن يشكل مشروعا ثقافيا غنيا يساهم في جلب السياح وفي جلب العملة الصعبة للمدينة وتشغيل الشباب. بالإضافة إلى كل ذلك، فقد يكون قبلة لتصوير أفلام أخرى ومسلسلات تلفزيونية وندوات ومؤتمرات دولية حول التاريخ الاستعماري لمدينة الجديدة والتراث العسكري البرتغالي.
هوامش ومراجع
1 Childs, Peter and R J Patrick Williams.1997. An Introduction to Post-Colonial Theory. London; NewYork: Prentice Hall/Harvester Wheatsheaf.p.1
2 هومي، بابا. موقع الثقافة. ترجمة ثائر ديب. القاهرة: المجلس الأعلى للثقافة، 2004
3 فانون، فرانز. معذبو الأرض. ترجمة سامي الدروبي وجمال أتاسي. بيروت والجزائر: دار الفارابي ومنشورات أنيب، 2004، ص.151
4 المرجع نفسه، ص.52
5 ميمي، ألبير. صورة المستعمِر والمستعمَر. تعريب جيروم شاهين. بيروت: دار الحقيقة للطباعة والنشر، 1980
6 المرجع نفسه، ص.34
7 غاياتري سبيفاك هي ناشطة ومنظرة وناقدة أدبية أمريكية ازدادت بكالكوتا بالهند، تشغل منصب أستاذة في جامعة كولومبيا بـ نيويورك. عرفت بترجمة De la grammatologie للفيلسوف الفرنسي جاك دريدا إلى اللغة الإنجليزية كما أن مقالها "هل يستطيع التابع أن يتكلم؟" المنشور عام 1985 يعد من النصوص المؤسسة لـ ما بعد الكولونيالية.
8 هومي، بابا. موقع الثقافة. ترجمة ثائر ديب. القاهرة: المجلس الأعلى للثقافة، 2004، ص.219
9 عبد الكبير الخطيبي، "تخليص السوسيولوجيا من النزعة الاستعمارية"، المجلة المغربية للاقتصاد والاجتماع، العدد 7 (1984)، ص.8
10 المرجع نفسه، ص.9
11 الخطيبي، عبد الكبير. نحو فكر مغاير. ترجمة عبد السلام بنعبد العالي. الدوحة: وزارة الثقافة والفنون والتراث، 2013، ص.10
12 الشبري، أبو القاسم. دكالة وإيالتها جهة دكالة- عبدة: تاريخ وآثار. الجديدة: مطبعة بسمة برينت، 2012، ص.95
13 المرجع نفسه، ص. ص.98-99
14 المرجع نفسه، ص ص.99-100
15 المرجع نفسه، ص.104
16 مجلة كتابات، حوار بين عبد الكبير الخطيبي وبختي بنعودة، العدد الخامس، 1990، ص.10
17 هومي، بابا. موقع الثقافة. ترجمة ثائر ديب. القاهرة: المجلس الأعلى للثقافة، 2004، ص.120
18 الخطيبي، عبد الكبير. النقد المزدوج. ترجمة أدونيس وآخرون. بغدادـ ;بيروت: منشورات الجمل، 2009، ص.10
19 Carabelli, Romeo. (2012). L'Héritage Portugais au Maroc: Un patrimoine d'actualité. (Marie-Anne Marin, Trans.). Tours: Mutual Heritage, p.6