جدلية العلاقة بين التاريخ والتنمية
فئة : مقالات
جدلية العلاقة بين التاريخ والتنمية[1]
بقلم: أحمد ناصر السميط
توطئة
الحديث عن التنمية حديث متشعب ذو مشارب، وهو إذ ينطلق بصفته مبدأ علاجيا، وتطويريا لكافة مجالات الحياة البشرية الصرفة وصولاً إلى المجالات الاقتصادية، والتعليمية، والبيئية...إلخ، فمن هذا المنطلق، نجد أن التنمية قضية تشغل حيزا كبيرا من مساحة التفكير القيادي في العالم، ناهيك أن بيوت الخبرة، ومراكز الدراسات تعتني بقضية التنمية لاعتبارات كثيرة؛ أبرزها أنها القضية الأكثر تأثيراً اليوم على حياة الإنسان؛ وذلك لارتباطها الوثيق في دائرة السيطرة، والنفوذ، وهو ما يصنفه البعض بأنه سلاح قذر يستخدم في سبيل إرساء قواعد التنمية في بلاد ما، أو تجريدها من بلاد أخرى، ولكن يوجد تصور مناقض لمبدأ الهيمنة هذا؛ أي إننا نلاحظ أن الفكر التنموي قد يمارس بشكل إيجابي، لتقديم الدول على أنها راعية لهذه القضية، وأدل مثال على هذا الأمر هو النشاط المميز الذي يزاوله الصندوق الكويتي للتنمية الاقتصادية العربية منذ ستينيات القرن الماضي.
عربياً، تأتي قضية التنمية على رأس أولويات العالم العربي، وهذا جلي وواضح؛ فالدول العربية في الغالب تصنف في إطار الدول النامية، ويجاورها العديد من الدول المصنفة في إطار دول العالم الثالث المتخلفة، فالبعد الإقليمي، والواقعي له أثر يستدعي تبني التنمية بصورة حقيقية، وجادة في مجتمعاتنا، وللقارئ التأمل في واقعه المحيط، وتقييم مدى الجدية في تنفيذ المشاريع التنموية الرامية لانتشال العالم العربي من واقعه المتردي المتفق عليه، والنهوض به نحو مستقبل أكثر إشراقاً، وما دعوى التأمل تلك إلا لكي نعمل بشكل جاد وفعال للدفع نحو الممارسة الحقيقية لتلك القضية التي أصبحت شعارا يردد للأسف الشديد، وحتى نرقى بالمسؤولية المجتمعية يجب على كل فرد أن ينطلق من ذاته متبنياً، ومطالباً، ومتمسكاً، ومنتصراً لمشاريع التنمية، وقضاياها، وما نقترحه في هذه المقالة إلا مبادرة تنصب في سياق التحفيز المجتمعي.
حين نتناول العلاقة الرابطة بين التاريخ والتنمية، فإننا نؤصل لسياق منطقي لأية قضية إنسانية؛ فالمريض لا بد له من وصف تاريخي للمرض يسبق منحه العلاج من قبل الطبيب المداوي، والباحث الاستراتيجي لا بد له من رصد التراكمات التاريخية التي تؤثر في سياق دراساته، لكي يقدمها بصورة منسجمة مع المعطيات التاريخية التي تكونت وفق ممارسات معينة لشريحة مستهدفة، ولكي لا أسهب في التمثيل أدلل على الرابطة ما بين التاريخ، والتنمية بالتأكيد أن قرار تبني التنمية بأي مجال من المجالات ما كان ليكون لولا تراكم تاريخي رسخ الحاجة لتبني هذه القضية؛ وإن الحديث عن الرابطة التاريخية بأية مسألة بشرية هو أمر مسلم به للوهلة الأولى، ولكن يبقى السؤال ما هو شكل تلك الرابطة؟ وأزعم أن العديد خيل له أن الرابطة عبارة عن خطبة رنانة، أو خطاب سياسي بليد يسوق الأمجاد التاريخية، ليتجاوز به واقعه المرير، أو خواطر عاطفية يستدر بها قلوب الناس بشكل شبيه لجمع الهبات منه لتفعيل التنمية! وهذا مدار الخطر، وأس الحذر أن نتعامل مع التاريخ بصفته أداة عاطفية، وليس مجالاً للتوجيه، والتقييم؛ فالغرض الرئيس من الدراسات التاريخية المرتبطة بمجالات أخرى منفصلة عنه هو حفظ، ورصد التجارب، وتوثيقها في سياقات المجال نفسه؛ أي إن التناول التاريخي في المجال الاقتصادي لحركة سوق الأسهم مثلاً، سوف تقدم بصورة رسومات بيانية، ومخططات للمقارنة، وهي مختلفة عن التناول التاريخي في المجال الطبي الذي سوف يرصد تطور مرض ما، وآثاره، وعلاجاته من خلال دراسة عينات الداء، أو الدواء، وهلم جرا كل مجال بخصوصية يوظف المادة التاريخية لتقييم أمر منصرم، ولعقد إرشادات، وتوجيهات لأمر في المستقبل، والعلاقة التاريخية التنموية تأتي في هذا السياق.
توظيف التاريخ
العلوم الإنسانية في عمومها تمنحنا ثراء فكرياً ومعرفياً يسبق بعد التوظيف في تناولها، وهذا في سياقها العام، فتجد المؤرخ يسبر غور العصور، وسوالف الأزمان لا لغاية سوى المعرفة، وهذا أمر حتمي في طلب أية معرفة بتصوري؛ وذلك لأن أسمى الغايات من التناول العلمي هي تحقيق المعرفة بها، والسعي نحو التكامل مع ما بدأه الإنسان، سواء كان ذلك التكامل بنائيا؛ أي بناء على من سبقه من معرفة، أو كان تكاملا نقديا، وهو ما يعني أن الباحث قد فكك ما سبق، وأعاد التشكيل، أو بدد الوهم، وأزال الغم، ليكون صورة جديدة تأخذ بيد من بعده، وتواصل سبيل المعرفة المطلوب، ولكن هذا التناول المعرفي البحت لا ينفي أن نتناول العلم؛ قد يكون لغرض وظيفي نهدف من خلاله توظيف المعرفة الإنسانية لغاية غير المعرفة فقط، والغرض من ذلك التوظيف لكي نتعامل مع الحياة على أساس علمي معرفي، وليس أساسا عفويا عشوائيا.
وقبل الشروع في تحقيق هذه الفكرة، لابد من إدراك أن التوظيف المنشود يقوم على أسس معينة (سوف نتناولها لاحقاً)، وفي حال تم التوظيف العشوائي للتاريخ لغاية ما، فلن نجني منفعة حقيقية من تلك العملية التي سوف تكون مصطنعة، وشكلية لا أكثر، وأدل عشوائية في استخدام التاريخ هو الطرح المتحيز لقضاياه، ومواضيعه، فلا طائل حقيقي من التحيز سوى التحفيز النفسي، والاستدرار العاطفي، وتكريس قناعات مسبقة بناءً على قضايا تاريخية، ومن صور العشوائية في الاستخدام الطرح الانتقائي، الذي يهدف لتبرير واقع، أو سلوك في إطار سياق تاريخي لا أكثر، فلا يعد للتاريخ هنا قيمة تذكر سواء استحضر، أو استحقر!.
وفي سياق الحديث عن توظيف التاريخ لخدمة قضية التنمية التي نحن بصددها، نجد أن هناك من يحذر من عدم جدوى مساقات التاريخ في الجامعات دون ارتباطها في مشروع نهضوي[2]، ولعل هذه التحذيرات مغلفة بغلاف المبالغة، ولكننا متفقون بأن ثمة علاقة أصيلة بين مشاريع النهضة، والبناء، والتي تأتي التنمية في سياقها الجوهري، وبين الدراسات التاريخية، وهذا ما عبر عنه مالك بن نبي رحمه الله في شروطه للنهضة حين قال: "إن مشكلة كل شعب هي في جوهرها مشكلة حضارته، ولا يمكن لشعب أن يفهم أو يحل مشكلته، ما لم يرتفع بفكرته إلى الأحداث الإنسانية، وما لم يتعمق في فهم العوامل التي تبني الحضارات أو تهدمها"[3]، ونجد أن هذه القراءة التأصيلية لابن نبي لها انعكاس واضح في ذهنية الباحث في قضايا التنمية؛ فالدراسة التي قدمها حباسي يشير بها إلى ضرورة دراسة المسائل الحضارية من خلال التوظيف التاريخي، واجتناب الدراسة الوصفية السردية، والانتقال بها إلى دراسات أكثر عمقاً من زاوية التحليل، والتفسير[4]، وما الرابط الذي حققه حباسي في تلك الدراسة إلا مدخل للتأكيد بأن التنمية المنشودة في أي مجتمع لن تقوم إلا على أصل حضاري راسخ، وفهم تاريخي عميق، والهدف من ترسيخ الأبعاد الحضارية، والتاريخية في المشاريع التنموية هو رصد محركات الشعوب، ومواطن التفاعل لديها، وإضافة تقييم حقيقي لتصور الواقع المراد تنميته، فنفهم من خلال دراسة المجتمع تاريخياً كيف تمدد، وتكيف تطور، وكيف تغير، وهذا يمنحنا قاعدة صلبة نؤسس عليها مشاريع بناء الغد.
ولو عدنا إلى عوامل قيام النهضة الأوروبية خلال القرن الخامس عشر، نجد أن قضية إحياء الدراسات القديمة كانت إحدى أبرز السمات التي ميزت تلك الحقبة من التاريخ، وذلك "بحثاً عن فلسفة بديلة لفلسفة العصور الوسطى، التي كانت لا تقدم الحل لمشاكل الإنسان البرجوازي"[5]، وهو ما يقعد لقاعدة أن مخرج أي تغيير ناشئ ينتج في العودة للجذور، وإعادة دراستها، والمصطلح الذي درج عليه دارسي عصر النهضة تسمية هذه العملية بـ (الإحياء)، وهي عملية يفهمها القارئ بمعنى مختلف عن الاستنساخ، والتكرار، ولكنها تشير إلى بعث جديد يتواءم مع معطيات البيئة الجديدة التي بعث فيها، ودلالة ذلك أن عملية الإحياء تلك حين استهدفت تراث الرومان، واليونان فإنها لم تسع لاستنساخه، بل سعت لإيجاد بديل من خلاله، لعلاج أزمة العصور الوسطى التي انحدرت بأوروبا لدركات سفلية متدنية جداً في الركب الحضاري، ومشروع الإحياء أو عصر النهضة، أسهم بصورة فعالة جداً من تأسيس الواقع المنهجي الذي من خلاله انطلقت أوروبا، فجاءت تباعاً بدايات المدارس الفكرية، والعلمية، وسادت عمليات تفاعل متسارعة، ارتقت بأوروبا خلال خمسة قرون من الهاوية إلى القمة، حتى غدت نموذجا يدرس إلى يومنا هذا، والغاية من فهم مركزية فكرة الإحياء في عصر النهضة أن نكتشف قيمة التأصيل التاريخي في سياق مشاريع التغيير المصيرية؛ أي إن التنمية تدفعنا إلى مراجعة التاريخ، وإعادة دراسته بصورة توفر لنا السياق العلاجي الدافع لتحقيق التنمية المنشودة.
وعلى ذات السياق، نجد أن علي شريعتي، وهو أحد مفكري إيران البارزين يقرر "أن الإنسان صاحب دور في مسيرته التاريخية وفي تغيير نظامه الاجتماعي" ثم يشرح هذه العبارة بقوله: "ما نقصده هنا هو الاعتقاد بوعي الإنسان وإرادته، واعتبارهما علة في مسيرة التاريخ الجبرية والتطورات الاجتماعية"[6]، ولا يعنينا الحديث هنا عن كون التاريخ حركة أم مسيرة، بقدر ما يعنينا التأكيد على العلاقة المتأصلة ما بين التاريخ والتغيير، وهي علاقة تفسر لنا طبيعة العلاقة التي نتناولها بين التاريخ والتنمية، والوعي الإنساني بذاته أحد أهم المحاور التي تؤثر على شكل التغيير المنشود، ولسنا نرى من تجارب الشعوب المختلفة أن ثمة تغييرا حدث، وبدأت آثاره تلامس الواقع دون أن يكون هناك وعي مصاحب لهذه العملية؛ فالتجربة التي نسعى من خلالها لإثبات أصالة العلاقة بين التاريخ، ومشاريع التنمية يجب أن تقترن معها جهود حثيثة تكرس وعي الإنسان بضرورة التنمية في سياق تناول معطيات تاريخية تؤكد هذه الحتمية الراسخة.
أهداف التنمية المستدامة الأممية
إننا حين نتطرق للتنمية كاصطلاح وقضية، فإننا نشير إلى موضوع ضخم، مترامي الأطراف، ويشتمل على تفاصيل كثيرة جداً لا يسع نقلها في هذه الدائرة البسيطة التي نهدف من خلالها تقرير العلاقة ما بين التاريخ والتنمية، فكان من المناسب إيجاد نموذج توافقي للتطبيق عليه في هذه المقالة، ومن هذا المنطلق نجد أن أهداف التنمية المستدامة[7] التي أقرتها الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 2015 تمثل عنصرا توافقيا، ونموذجا تفاعليا لمعاجلة الجدلية القائمة حول العلاقة بين التاريخ والتنمية، وأبرز ما يميز هذه الأهداف التنموية أنها لاقت إجماع 193 دولة، وهي دول الأعضاء في الأمم المتحدة، إضافة إلى أن هذه الأهداف تغطي الجوانب الاجتماعية، والاقتصادية، والبيئية، وصولاً للجوانب الخاصة بالعدالة، والسلام، والتفاعل بين المؤسسات[8] (أنفوغرافيك رقم: 2)، ونجد أن هذه الأهداف أجملت في سبعة عشر هدفاً مبينة في (أنفوغرافيك رقم: 1)، وقد فصلت هذه الأهداف في إطار 169 غاية[9]، و"تتسم هذه الأهداف الإنمائية السبعة عشر والغايات البالغ عددها 169 غاية بقابليتها للتطبيق العالمي، مع مراعاة الظروف والقدرات ومستويات التنمية واحترام السياسات والأولويات الوطنية"[10]؛ فالأهداف الأممية المستدامة وضعت في إطار توافقي، وصممت على نموذج متاح تطبيقه في مختلف البيئات، وهذه الأهداف من المؤكد أنها صيغت نتيجة تراكم العديد من القضايا، والهموم الأممية خلال عقود عديدة منذ ولادة الأمم المتحدة بعد الحرب العالمية الثانية، وهو ما يعني أن المؤسسة الحاضنة لهذا المشروع هي بذاتها مؤسسة ناتجة عن إشكالية تاريخية، وهي منذ نشأتها تراقب الواقع الدولي من مختلف الأصعدة، وهو ما ينبئ بمنطقية الوصول لهذا النمط من التخطيط الذي يهدف من خلاله توحيد رؤى العالم أجمع نحو مستقبل أفضل للإنسان والإنسانية.
"وتستند أهداف التنمية المستدامة إلى نجاح الأهداف الإنمائية للألفية وتهدف إلى المضي قدماً للقضاء على الفقر بجميع أشكاله. وتعتبر الأهداف الجديدة فريدة من نوعها من حيث إنها تدعو جميع البلدان، الفقيرة والغنية والمتوسطة الدخل إلى اتخاذ الإجراءات اللازمة من أجل تعزيز الرخاء، والعمل في الوقت نفسه على حماية كوكب الأرض. وتدرك هذه الأهداف أن القضاء على الفقر يجب أن يسير جنباً إلى جنب مع الاستراتيجيات التي تبني النمو الاقتصادي، وتتناول مجموعة من الاحتياجات الاجتماعية بما في ذلك التعليم والصحة والحماية الاجتماعية وفرص العمل، وتتصدى في الوقت نفسه لمعالجة تغيير المناخ وحماية البيئة".[11]
وهذا يجعل من هذه الأهداف (جامعة مانعة) في صورتها العامة؛ فقد جمعت كبريات المشاكل التي حاقت بالبشرية، وقدمت لأهم السبل العلاجية التي بدورها تنهض بالإنسان، والترابط الذي تتبناه هذه الأهداف هو النمط الحقيقي للسلوك التنموي المنشود؛ فالعمل المتوازي المتوافق هو المخرج المنطقي لعلاج الهوة الضخمة ما بين دول العالم المتقدمة، وباقي دول العالم النامية منها، والمتخلفة، وأبرز سبيل لتأطير السياق المطلوب لتفعيل هذا النمط المتوازي المنشود هو تناول هذه الأهداف في سياق تاريخي جاد نفهم من خلاله عمق المشكلات، وجذورها، ونحدد من خلاله أدوات العلاج الجذري لا الشكلي، وذلك حتى نصل لواقعية أكبر تنسجم مع حجم الطموح الذي تشتمل عليه هذه الأهداف؛ فالقراءة الأولية لهذه الاتجاهات التي أعدت بعناية يلمس منها حجم العمل المقترن بمهمة تطبيقها، وهذا التطبيق بكل تأكيد يلزمنا بتكوين قناعات متبنية لهذه الأهداف؛ أي إن البروباغندا ليست خيارا مناسبا في مثل هذه القضايا، وهذا للأسف الشديد يعتبر أحد أبرز تحديات المؤسسة الدولية التي إن نجحت في الوصول لهذه النتيجة من الصيغة النهائية للأهداف؛ إلا أنها بالتأكيد عاجزة عن تجاوز هذه المرحلة إلى مراحل أكثر جدية نحو المساهمة الحقيقية في عمليات التنمية على مستوى العالم، والواقع يعبر عن هذه الحقيقة التي نأمل أن تتجاوزها البشرية نحو الأفضل.
أنفوغرافيك رقم (1)[12]
أنفوغرافيك رقم (2)[13]
أسس العلاقة بين التاريخ والتنمية (قراءة تطبيقية)
قبيل التأسيس لهذه العلاقة وتطبيقها، يرد علينا تساؤل: عن أي تاريخ نتحدث؟ وما هو موضوع التاريخ الذي يرتبط بقضيتنا؟ وللإجابة نعود قليلاً للتأكيد على عامل مهم في مجال الدراسات التاريخية درج الباحثون على تأكيده، وهو عامل الاعتبار، أو الاقتداء، ومن هنا قال ابن خلدون: "اعلم أن فن التأريخ فن عزيز المذهب جم الفوائد شريف الغاية، إذ هو يوقفنا على أحوال الماضين من الأمم في أخلاقهم. والأنبياء في سيرهم. والملوك في دولهم وسياساتهم، حتى تتم فائدة الاقتداء في ذلك لمن يرومه في أحوال الدين والدنيا"[14]، ومن أبرز العوامل التي يجب تأكيدها قبيل الإجابة هو التأكيد أن دراسة التاريخ تهدف لاستخلاص القوانين، والعبر[15]، إذاً حديثنا عن التاريخ الذي يمنحنا البديل عن الواقع المغلق، ألم يكن هذا سبيل الأوروبيين في عصر نهضتهم؟ كانت أمجاد اليونان والرومان مخرجا لمأزقهم الحضاري الذي رزحوا تحت وطأته في عصور الظلام الوسطى، ومن هنا نفهم أن ما يرتبط في قضيتنا هو الذي يتحقق به غرض الاقتداء الذي عبر عنه ابن خلدون، أو ذلك الذي يؤصل لنا العبر، ويقنن لنا القوانين الضابطة لمجرى التاريخ، وحوادثه، وهو إذ ذاك المادة الأصيلة التي نوظفها في علاجنا للجدل الكامن في العلاقة ما بين التاريخ، والتنمية، وفي مثل هذه الأهداف الأممية، نجد أن مسألة الفقر التي تنال حظاً وافراً من المناقشات تعكس لنا العديد من القوانين من خلال دراستها في سياق تاريخي، وأبسطها أن البيئات التي تعاني الفقر تخضع عادةً لعدة مشكلات، فعلى صعيد النظم تجدها عادة نظم منغلقة، ولا تتمتع بالشفافية، وليست خاضعة لنظم رقابية صارمة، ناهيك أنها نظم تعتمد أساليب بيروقراطية معقدة، ومنهكة، ولو تابعنا إشكالية الفقر على صعيد المجتمعات، نجدها تنمو في المجتمعات الأقل تعليماً، وكذلك المجتمعات المضطهدة، أو التي مورس بحقها التمييز، والعنصرية، ودواليك من الاستنتاجات التي تقودنا نحو خيارات علاجية على أصعدة مختلفة، سواء كانت أنظمة، أو مجتمعات، ولا يجب أن يفهم أن التاريخ كلما قدم كلما زادت فائدة الاقتداء به، ولا يجب أن يفهم أن من اللازم مرور قرون حتى تحصل العبرة، أو يتكون القانون المفسر لهذه الحالة التاريخية التي نشأت بمقتضاه؛ فالتجربة الإنسانية بكل ميراثها هي كتاب مفتوح على مصراعيه في حال حديثنا عن أهداف التنمية المستدامة الأممية، فهي مشروع حضاري إنساني لم يسبق له مثيل في الأمم الخالية، وهنا عنصر قوة يعيننا في فهم السياق الذي يجب أن نقرأ به مع مراعاة الخصوصيات التي تميز بين كل مجتمع أو بيئة أو إقليم؛ فالتجارب البشرية كافة متاحة، ولكن على أي أساس نحدد المتوافق من المتنافر مع الحقل الذي يجب أن نطبق عليه الأهداف التنموية؟
كحصيلة عامة عن القراءة العلمية للمادة التاريخية الموظفة في القضية المطروقة، نجد أن أبرز المحددات التي تحدد أسس العلاقة ترتبط بمجموعة من القيم البحثية للدارس، والقيم البحثية التي يجب أن يتميز بها الباحث تقوم ابتداءً بتحديد منهجه، وسلوكه البحثي، وأعني بوضوح أن الباحث الذي يعتمد على بحثه بالجمع لن ينال مراده، ولن يحقق غاية تذكر سوى الحصيلة الجمعية التي بين أيدينا؛ فالجامع للتاريخ لا يدرسه، وإن وظفه، أو فسره تجده لا يقدم ذلك في بناء علمي متناسق، بالقدر الذي نجد فيه استخدام السلوك الانتقائي الفج، ولذلك أجد أن أبرز القيم التي يجب أن يتمتع بها الباحث في مثل قضية التنمية أن يجيد عملية الانتقاء المدروس؛ وذلك ليزاول عملية القياس، والمقارنة السليمة، ويجنب دراسته القياسات الباطلة التي نجدها مليئة بالأعمال التاريخية المنتشرة، فمن النماذج التي يسعى بعض الباحثين لتطبيقها على المحيط العربي مثلاً هي الدعوة لتفكيك الوحدة الأسرية، والتركيز على الذات الفردية، بزعم أن هذا الخيار كان هو سبيل لمجاراة الخيار الغربي في عملية التنمية[16]، وهو القياس الباطل، أو الانتقاء غير المدروس، وذلك لأن هؤلاء لم يراعوا الخصوصيات البيئية، والتكوينات المجتمعية، والفروق بين الإنسان العربي، والإنسان الغربي. فالبيئة الأسرية "تهب الفرد العربي القوة للتأقلم مع التغيرات الاقتصادية والسياسية السريعة دون أن يفقد مع ذلك ملاذه الأمين وسنده الموثوق المتمثل بالجماعات الأولية الشخصية"[17]، هذا المثال يقدم لنا صورة لأبجديات الدراسات التاريخية، وهي قائمة على فهم المجتمع الذي يراد دراسته، ومن منظور تنموي يراد تطويره، فالقفز على السلوكيات المتجذرة بهدف تحطيمها ظناً منا أنه الخيار الأوحد نحو تحقيق الغاية المنشودة هو فهم مغلوط لما يجب أن يكون، ولكن الأصوب هو دراسة ذلك المجتمع، وقراءة تاريخه بصورة تؤهلنا لتقديم الفرضيات المنطقية التي نريد، فلا يصح انتقاؤنا دون دراسة تؤصل لسبب تحديدنا للمسألة التي نقدمها.
وبمنظور آخر لأسس تلك العلاقة بين التاريخ والتنمية، وهو منظور القراءة التكاملية، وهي قيمة رئيسة لأي باحث يسعى في تناول قضية معاصرة ذات امتداد تاريخي، فلا يصح له أن يقرأ قضية تاريخية منعزلة عن عناصر التأثير بها، وعليها، ويلزمه الإحاطة بالتفاصيل المتوفرة لديه لكي يسدد رأيه، ويعزز سلامة مقرراته، وعلى هذا السياق وقفت على دراسة موسعة حول دول المغرب العربي، وهي للأستاذ مصطفى الكثيري، وإن كانت دراسة قديمة نسبياً (نشرت عام 1984) إلا أنها تمنحنا نموذجاً جيداً في تفعيل قيمة القراءة المتكاملة؛ فالظروف التي دعت لكتابة هذه الدراسة كانت متزامنة مع شيوع الدعوة لوحدة دول الشمال الأفريقي المغاربية العربية[18]، وفي خضم الدراسة تناول الباحث الدور الإيجابي من وجهة نظره للدولة الموحدية إبان حكم السلطان يعقوب المنصور، ومن ثم تناول العناصر التي أودت بالمشروع الموحدي، منتهياً بالدور الذي زاولته حروب الاسترداد في التأثير على هذا المشروع[19]، لمحة مثل هذه جاءت في سياق متوسع تناول بها الدارس نمطا للحكم الموحد لدول المغرب، وما هي ثمرة ذلك الحكم، ويسهب فيما بعد في سوق الأمثلة، والنماذج التي تعزز عامل الخصوصية، ويشير لكيفية توظيفها، وفق معطيات ذلك العقد الذي كتبت به الدراسة، وعليها كانت الفرضية المحتمة التي أراد الباحث تأكيدها بأن التنمية الشاملة لن تتم إلا من خلال "إرساء أسس تبادل المعلومات والتجارب الإداري وترشيد العمل الإداري وفق معايير ومناهج ومضامين علمية"[20]، ويؤكد أن منطلقات تلك النتيجة الحتمية التي توصل إليها هي "الخلفيات الفكرية والمذهبية والخصوصيات التاريخية والحضارية التي تتحكم في التوجهات والاختيارات ومنتوجيات المرحلة التاريخية الحالية"[21]، إلا أن هذه الرؤية تنسجم مع معطيات نموذج ظهر في زمان معين، ونجد أن القراءة أمعنت في ترسيخ وحدة النظام في الواقع، وهو أمر غير مطروح في سياق المشروع الذي كان يسوق له، إذاً الحصيلة التي استنتجها الباحث من خلال بحثه هي حصيلة غير مناسبة، كما أن التأكيد بأن الوحدة مشروع يختزل بالعمل الإداري لا ينطبق مع النموذج الذي ساقه؛ فالناظر من هذه الزاوية يلمس تكاملا في التناول، ولكن يفتقد إلى تكامل في الاستنتاج، وهو الأصل، وما يعنينا هنا أنه بقدر الإحاطة بالمعلومات التي تخضع لها المنطقة، نستطيع استنتاج قواعد ترسخ فهمنا للمستقبل الذي نخطط له.
ومن صور التكامل، والشمول في تأسيس العلاقة التاريخية التنموية اليوم فهم ظاهرة (التسرع وصغر الأحجام وتقلص المسافات)[22]، واستيعاب المعادلة القائمة على تجاوز البعد الجغرافي بفضل التطور التقني،
"فنحن لم نعد نفهم الإصلاح التعليمي في الصين، إلا حينما نقارنه بمردودية التعليم في اليابان، ولم نعد ندرك معنى مساحة الاستثمار الفلاحي في الغرب، إلا بما ينتجه بلد صغير جغرافياً مثل هولندا وبلجيكا، إن هذا يعني أن الحقائق الاجتماعية والاقتصادية والعلمية في بلد ما لا تصاغ وتعرف وتفهم على ضوء الأرقام التي تعبر عن حاجات وضرورات البلد فحسب، وإنما أيضاً تسلط عليها الأضواء من الخارج، وتقاس بأرقام ومعطيات تأتي من بلد بعيد، وليس في هذا الاتجاه إلا ضرورة من نوع جديد تعتبر على أن التواريخ أصبحت في كثير من المجالات تتجه نحو تاريخ واحد".[23]
إذن، لا مناص اليوم من تكوين قواعد بيانات عامة تضم أكبر كمية متاحة من المعلومات ذات الصلة ببعضها، وبذلك نستطيع أن نقارن ونلاحظ الفروق ومواطن التمايز والاختلاف؛ فالصراع المعلوماتي اليوم من أعقد الصراعات، لأن من يملك المعلومة يملك اتخاذ القرار الصحيح، فكلما بنينا فكرتنا وفق معلومات متكاملة، ومتصلة نستطيع أن نفهم بشكل واضح ودقيق ما نحتاج أن نصنعه في مستقبلنا، كما أن المعلومات التي تمنحنا أفضلية في القرار تمنحنا من جهة أخرى أفضلية في المراقبة، والتحليل، وهي أدوات تؤسس لعملية تنموية حقيقية لا شكلية كما هو الحال في بعض المناطق العربية اليوم.
وقد يتردد لدى الكثير ممن يدرس التاريخ، وممن يتناوله من متناول توظيفي عبارة (القراءة الناقدة الفاحصة)، وهي عبارة تلقى على عواهنها دون توقف أو تحقيق، وقد يكتفي البعض في نقد الرواية، وآخر ينتقد مضمونها، ولكن الوقوف عند هذا الحد لا يقدم، ولا يؤخر في عملية التأسيس للعلاقة مع التاريخ، فما نطلبه هو تفكيك الأحداث التاريخية بغية تشكيلها من جديد للخلوص بها من العبر، والقوانين، والنأي عن الحكم المنقوص الذي ينتج التصنيف الحكمي غالباً، فتنحصر الغاية الوظيفية من تناول التاريخ من القول أن هذا خير، وهذا شر، وتلك سبيل النجاة، أما تلك فسبيل الهلاك! وما التقييم المدرسي السطحي هذا إلا سلوك بالٍ قد عفا عليه الدهر، وهو لا يواكب الغرض المنشود للبناء التنموي، كما أن التصنيف الحكمي يتناقض مع الحاجة المطلوبة من الدراسة التاريخية؛ لأنه يتناقض مع السلوك الاستنتاجي؛ فالأول يقرر، أما الآخر فهو يفسر، والتفسير هو المطلوب في نهاية الأمر.
ومن نماذج النقد العلمية التي تتناسب مع معطيات، وأدوات بيئتنا العربية وقفنا على دراسة تناولت الأوقاف الإسلامية في الجزائر، وكيف ساهمت هذه الأوقاف بدور تنموي خلال حقب مختلفة، ولكن وجدنا الدارس قد حدد أن النمط التقليدي لإدارة العمل الوقفي في الجزائر لن يكون مناسباً لمعطيات المرحلة الحالية في الجانب التنموي، وأشار لضرورة تجديد أنظمة الوقف، وتحويل الأصول وفق أنظمة متجددة الريع[24]، وقياساً على هذا النموذج البسيط، ومقارنة مع الكثير من الدراسات التي تتناول الوقف التي لا تواجه هذه الحقيقة أن النمط التقليدي لا يواكب متطلبات المرحلة، وكما تعلمون أن الوقف من الوسائل الإسلامية الشائعة في مجتمعاتنا، وهي وسيلة تنظم النشاط الأهلي في إطار مؤسسي، وتكمن أهميته أنه يقوم على مبدأ الديمومة، وهو غرض يسهم في تزويد الجانب الذي أوقف لأجله بصفة مستمرة، وهي من أبرز متطلبات التنمية اليوم من حيث المشاركة الأهلية، واستمرارية الدعم، والعناية.
عطفاً على الجانب النقدي المؤصل، أو ما نسميه النقد العلمي الذي يزاول به النقد بغية التحسين، والتطوير، وليس لذات النقد، نجد في دراسة (من مجموعة علمية إلى مجتمع علمي) التي سبق التطرق إليها أن الغاية الرئيسة المراد إثباتها في هذه الدراسة أن تَكون المجتمعات العلمية عملية منفصلة تماماً عن وجود النخبة العلمية[25]، وتكمن ضرورة هذا الأمر في فهمنا أن المظاهر العلمية المنتشرة في محيطنا العربي اليوم من جامعات، ومؤسسات بحثية لا تعني بالضرورة أن المجتمع انتقل من حالته السابقة إلى حالة علمية، ثم إن الدارس يضع تعريفا للمجتمع العلمي، فيعتبره "أنه تكتل متناسق يترتب عن وجوده وجود ثقافة علمية وبيئة قابلة لاستنبات أسئلة العلم وأجوبته"[26]، فالحصيلة النقدية التي توفرها هذه الدراسة تطرق قضية عميقة جدا، فلسنا نحتاج إلى المزيد من المؤسسات العلمية بالقدر الذي نحتاج به إلى تكوين بيئات علمية تفعل المؤسسات القائمة، وعملية تكوين المجتمعات تستلزم من النخب العاملة في تلك المؤسسات تقديم جهود مضاعفة تستهدف المجتمع، وتسعى لبث الروح العلمية فيه باستخدام كافة السبل المتاحة، وهو ما يناقض واقع النخب المنعزلة بأبراج عاجية، أو تلك التي تغرد خارج سياق التغيير الحقيقي.
ومن اتجاه آخر في إطار التأسيس للعلاقة بين التاريخ والتنمية، نجد أن عامل الاستقراء والمتابعة يعد المدخل الرئيس لتكوين دراسات ذات علاقة موضوعية محددة؛ لأننا في طور الإعداد لمشاريع التنمية نحتاج تحقيق حصيلة استقرائية موسعة تمثل لنا قاعدة صلبة تمنحنا قدرة لتفسير ما سبق، وتقعد لنا عناصر فهم الواقع انطلاقاً نحو استشراف المستقبل، وهي ثلاثية الأبعاد التي يصر عليها الكثير من دارسي التاريخ، ولن نتمكن من تحقيق تلك النظرة الثلاثية إلا من خلال عمل استقرائي جدي، ومن هنا حين نستقرئ التاريخ جيداً نتمكن من إدارة الواقع بشكل سليم، ونقتحم المستقبل بكفاءة عالية، وهو بناء يعتمد بصورة دقيقة على عملية رصد التغير، والتحول في سياقات المجتمعات من منظور تاريخي؛ أي إننا نعمل على قراءة تاريخية لعمليات التطور المجتمعي الإيجابية والسلبية والتمييز بين السلب، والإيجاب خلال عملية الرصد ليست في سياق الحكم عليها بقدر فهمها؛ أي متى نشأت هذه الظاهرة مثلاً؟ وما واقعها في عصرها؟ وما امتدادها في عصرنا؟
ومن النماذج التي تضيف لنا صورة لفهم مناط التأسيس للعلاقة بين التاريخ والتنمية، هو الحديث المستمر عن الموروث الغني جداً في الجانب التربوي، والسلوكي في تراثنا الإسلامي، فقد قدم الأستاذ حسن إبراهيم عبد العال دراسة تناول فيها أبرز القضايا التربوية التي تناولها الإمام يحيى الأنصاري (ت926هـ = 1522م) في رسالته (اللؤلؤ النظيم في روم التعلم والتعليم)، وقد استهدف في دراسته هذه تأصيل بعض القضايا التربوية التي كانت حديث زمان الدراسة (نشرت 1985م) وقراءتها من منظور التراث الإسلامي، وذلك للتأكيد على السبق الإسلامي في هذا الميدان، ولإثبات وجه من التطبيق للدارسين حديثاً[27]، فمثل هذه الدراسة التي استهدفت اقتفاء الإشارات والأمارات التربوية في فكر الأنصاري تعد فصل في إطار القراءة الاستقرائية لقضايا التربية والتعليم على سبيل المثال، ولوضوح الصورة بشكل أكبر نستطيع القول إن الوقوف عندها - الدراسة - يعد إشكالا، والتخلي عنها كذلك يعد إشكالا؛ فالمطلوب هو الإفادة منها، والتأسيس عليها، ولكن قطعاً يجب ألا ينتهي الأمر على هذا النحو، بل يتجه نحو جمع أكبر يضاف لرصيد العملية الاستقرائية لتكريس الوضوح أثناء عملية التكوين ذات الأبعاد الثلاثية في مجال التربية، والتعليم على سبيل المثال، ومن القطعي أن أخبار رجل توفي في القرن السادس عشر لن تقدم أو تؤخر في القرن الحادي والعشرين، إنما القصد من هذا الاستشهاد هو فهم عملية الرصد، وتناول سياقها، وإدراك المرحلة التي حصل بها التعثر، وتقيم محاولات العلاج، والوقوف على متطلبات المستقبل.
إذن، تنشأ العلاقة التأسيسية بين التاريخ والتنمية من خلال الأسس التالية:
_الإحاطة والتكامل _ الانتقاء التخصصي _ النقد العلمي _ الاستقراء والمتابعة
وتطبيقاً على محور أهداف التنمية الأممية، نتوقف قليلاً على الرسم الموضح للنظام الدولي بعد 1991م إلى الآن، وهو رسم تفسيري لقراءة الأستاذ الدكتور عبد الله النفيسي أستاذ العلوم السياسية الأسبق في جامعة الكويت، وأبرز ما يتضمنه هذا الرسم هو اختزال للمشهد العالمي الذي تحاول الأمم المتحدة تحسينه من خلال الأهداف الأممية؛ فالرسم يمنحنا إشارات تؤكد أن الأهداف المتعلقة بعلاج قضية الفقر، والعيش الكريم، والأهداف المتعلقة بالعدالة والسلام، والأهداف المتعلقة بالشراكات والتضامن العالمي تتأثر بشكل مباشر بمدى جدية دول المركز - الولايات المتحدة ودول أوروبا الغربية - التي تتحكم بمصير أو تؤثر على واقع دول الأطراف - أفريقيا وآسيا وأمريكا الجنوبية وأوروبا الشرقية- ناهيك أن حجم العمل الصناعي المؤثر على البيئة، والمناخ متعلقة بشكل كبير بتلك الدول التي يرمز لها النفيسي في الرسم بأنها دول القلب[28]، وهنا نستنتج أن عمق الأزمة البشرية مرتبطة بحقيقة الرغبة لدى هذه الدول؛ ففي إطلاق قدرات الدول الهامشية نحو التطور، والرقي، فمبدأ القوة الذي يمتاز به القلب متصل بمدى تحكمه في خيوط اللعبة إن صح التعبير، ودول القلب تعتمد بصورة رئيسة على عملية إغراق الهوامش بمزيد من التخلف، وتسعى لفرض سياسات تجعل من الدول الهامشية خاضعة بشكل فعلي لمقرراته واتجاهاته، وهي خطوة تعتمد على إعاقة سبل التنمية المستدامة في تلك المناطق لكي لا تكون لها أي نوع من الحراك إلا من خلالها، ولعل هذا الاستنتاج يحمل رؤية قاتمة للمشهد، إلا أنه يبين أن ثمة تواطأ يجعل من الصعوبة بمكان التحرر من قيود النظام العالمي الذي فرض منذ نهاية الحرب العالمية الثانية عام 1945.
ومن هنا نستطيع أن نقول إن هذه الصورة تلخص لنا الكثير من المحاور التي يجب أن يتم علاجها، لكي نرقى في سلم التنمية المستدامة، وما كنا نستطيع لنفهم عمق الجدية الحاصل في صياغة هذه الأهداف دون مراجعة تاريخية، وهذا لا يمنع أن هناك جهودا مضنية تبذل في سبيل نيل هذه الأهداف سبيلها في التحقيق، إلا أننا نجد أن الحل المرتكز في جوانب التحكم في الشرعية الدولية، وعدم إيفاء دول العالم المتقدم بحقوق دول العالم الثالث، والنامي، فإننا أمام أزمة قيم حقيقية تفوق في صورتها أزمة التطبيق التي تنطوي عليها تلك الأهداف الأممية التي أريد لها أن لا تكون ملزمة قانوناً للدول التي أقرتها[29]، ويغلب الظن أن عدم الإلزام ناشئ على عدم القدرة أصلاً على الإلزام، فالمراقب للمؤسسة الأممية اليوم يدرك بأنها تعاني من هيمنة الدول الخمس الدائمين في مجلس الأمن، وهم الذين يحددون مسار السلم الدولي بشكل رئيس، وهو أمر تتعلق به قضايا كثيرة أبرزها قضايا اللاجئين التي تنتج جماعات فقيرة جديدة، كما أنها تتعلق بقضايا الأمن، والاستقرار، وقضايا العدالة الدولية، وهي محاور من دورها أن تؤسس لبيئات قابلة للاستقرار، والتنمية، أو تجعلها بيئات محطمة، ومدمرة.
يعد هذا الرسم نتيجة استقراء موسع، وعمل جاد نجح به النفيسي من اختزال الصورة تمثل نموذج فعال في فهمنا لأبعاد العلاقة بين محوري مقالتنا التاريخ والتنمية، والنموذج الذي تناولناه يحدد لنا أن الصلة بين هذين المحورين بشكل يفرض أن البناء التنموي لن يقوم إلا على أصل دراسات تاريخية معمقة تلخص لنا فهمنا لهذه الأبعاد، وتحيطنا علماً بسبل الطرق التي يجب سلوكها للعلاج، والارتقاء.
رسم النظام الدولي بعد 1991[30]
ختاماً
ما نخلص إليه من خلال هذه الورقات هو التأكيد على حضور الدراسات التاريخية بعمق في إطار القضايا الإنسانية عموماً، وما تناولناه يعتبر مقدمة مبسطة تلزم المؤسسات المعنية بقضايا التنمية لفت الانتباه، والعناية في مجال الدراسات التاريخية، وذلك لتأسيس مشاريع تنموية مبنية على أسس راسخة، ومشتملة على معطيات شاملة تعزز عملية الفهم، وتكرس الوعي في سبيل إنجاز مشاريع تنهض بالمجتمعات، وترقى بالأمم، والمنهجية التاريخية يجب أن تؤسس وفق إطار يعمل على معالجة التاريخية الواقعية للسياق، وتخليصه من كملية الشحن التي أضيفت له، وبذلك تتكون لدينا حصيلة معرفية تاريخية تؤسس لتنمية مستدامة حقيقية.
[1]- مجلة ذوات 36
[2] حباسي، شاوش، قيمة المعرفة التاريخية وسبيل توظيفها في التنمية، مجلة الحكمة، مؤسسة كنوز للنشر والتوزيع، الجزائر، 2009، ص 100
[3] ابن نبي، مالك، شروط النهضة، ترجمة: عبد الصبور شاهين، دار الفكر، دمشق، 1986، ص19
[4] حباسي، قيمة المعرفة، ص100
[5] الشربيني، أحمد، أوروبا من النهضة إلى الثورة، دار الثقافة العربية، مصر، 2003، ص 32
[6] شريعتي، علي، بناء الذات الثورية، ترجمة: إبراهيم دسوقي شتا، دار الأمير، بيروت، 2005، ص17
[7] التنمية المستدامة هي: التنمية التي تلبي احتياجات الحاضر دون المساس بقدرة الأجيال المقبلة على تلبية احتياجاتها الخاصة. ارجع: بيان الأسئلة المكررة حول أهداف التنمية المستدامة الأممية: http://www.un.org/sustainabledevelopment/ar/wp-content/uploads/sites/2/2015/01/faq_sdg.pdf
[8] ارجع: تصريح الأمم المتحدة الصادر عن إدارة شؤون الإعلام في الأمم المتحدة: http://www.un.org/sustainabledevelopment/ar/wp-content/uploads/sites/2/2015/12/SDG.PR_.pdf
[9] نفس المرجع، ويمكن الاطلاع على تفاصيلها في هذا الرابط: http://www.un.org/sustainabledevelopment/ar/sustainable-development-goals/#
[10] ارجع: الرسائل العامة للخطة: http://www.un.org/sustainabledevelopment/ar/wp-content/uploads/sites/2/2015/12/SDG.keyMsg.pdf
[11] ارجع: بيان اللمحة العامة عن الأهداف المستدامة الصادر عن الأمم المتحدة: http://www.un.org/sustainabledevelopment/ar/wp-content/uploads/sites/2/2015/12/SDG.Overview.pdf
[12] ارجع: http://www.un.org/sustainabledevelopment/ar/wp-content/uploads/sites/2/2015/09/09-09-A-SDG-Poster.jpg
[13] ارجع: http://www.un.org/sustainabledevelopment/ar/wp-content/uploads/sites/2/2015/01/Wheel-transp-resized.ar_3.png
[14] ابن خلدون، عبد الرحمن بن محمد (ت: 808هـ = 1406م)، المقدمة، ضبط وشرح وتقديم: محمد الإسكندراني، دار الكتاب العربي، بيروت، 2004، ص16
[15] العروي، عبد الله، مفهوم التاريخ، المركز الثقافي العربي، 2012، ص39
[16] خيري، مجد الدين، إشكالية التنمية والتحديث في العالم العربي، المجلة الثقافية الأردنية، ع6، الأردن، 1985، ص115
[17] خيري، إشكالية التنمية، ص116
[18] الخصوصية الحضارية والتاريخية لدول المغرب العربي ومدى انعكاسها وتأثيرها على مؤسسات التنمية الإدارية من حيث تنظيمها وأداؤها وممارساتها ومن حيث إسهامها في التنمية القومية، المجلة العربية للإدارة - المنظمة العربية للتنمية الإدارية، مج8، ع 4 و3، مصر، ص6
[19] الكثيري، الخصوصية الحضارية، ص7-8
[20] الكثيري، الخصوصية الحضارية، ص33
[21] الكثيري، الخصوصية الحضارية، ص34
[22] الخميسي، محمد، من مجموعة علمية إلى مجتمع علمي: السياق التاريخي والعوامل والأسس، مجلة الواضحة، ع 7، دار الحديث الحسينية، المغرب، 2012، ص242
[23] الخميسي، من مجموعة علمية إلى مجتمع علمي، ص243
[24] كمال، رزيق، نبذة عن تاريخ الأوقاف في الجزائر ودورها التنموي، المؤتمر العلمي الدولي الثاني حول دور التمويل الإسلامي غير الربحي - الزكاة والوقف - في تحقيق التنمية المستدامة - مخبر التنمية البشرية، جامعة سعد دحلب، الجزائر، ص2013، ص13
[25] الخميسي، من مجموعة علمية إلى مجتمع علمي، ص241
[26] الخميسي، ومن مجموعة علمية إلى مجتمع علمي، ص244
[27] مجلة كلية العلوم الاجتماعية - جامعة الإمام محمد بن سعود، ع7، السعودية، ص154
[28] تتكون الدول الصناعية الكبرى من سبع دول، وهي الولايات المتحدة / المملكة المتحدة/ اليابان/ إيطاليا/ ألمانيا / فرنسا / كندا، وجلها من دول القلب بحسب رأي الدكتور النفيسي.
[29] ارجع: بيان الأسئلة المكررة
[30] النفيسي، عبد الله، هل يشكل الإسلام خطراً على الغرب، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، 2003، ص22