جَعْبة الراعي التي لا تنضب: بول ريكور ورحلة البحث عن المعنى عبر التأويل
فئة : قراءات في كتب
جَعْبة الراعي التي لا تنضب
بول ريكور ورحلة البحث عن المعنى عبر التأويل
محمد محجوب في رحاب بول ريكور
قراءة في كتاب (مقالات ومُحاضرات في التأويليّة)
مبادرة ترجميَّة جديدة أقبل عليها (المركز الوطني للترجمة) في تونس، عندما أصدر كتاب (مقالات ومُحاضرات في التأويليّة) للفيلسوف الفرنسي بول ريكور (1913 - 2005) من مواليد مدينة فالانس الفرنسية، والذي يضمُّ محاضرات ونصوص تمثلُ قيمة معرفية لا يُمكن المرور على فلسفة ريكور من دونها، حتى لو قرأ أحدنا كُل مؤلّفاته الخاصّة بمشروعه التأويلي على مدى عقود مضت حتى رحيله.
تستند هذه الترجمة الرياديّة إلى مطبوع ريكوري صدر بالفرنسية في العاصمة باريس عام 2010، وتجشَّم عناء نقله إلى لغة الضاد الدكتور محمَّد أبو هاشم محجوب، أستاذ التأويليات وتأريخ الفلسفة الألمانية المعاصرة في جامعة (تونس المنار)، ليس بعيداً عن مراجعة زميله الدكتور جلال الدين سعيد، أستاذ الفلسفة في الجامعة نفسها، وهي الترجمة التي أصبحت تسد فراغاً يعانيه القارئ العربي المهتم بشؤون فلسفة ريكور عامّة وفلسفات التأويليّة على نحو خاص، لكون هذه الترجمة تعود إلى متون ريكور حول التأويل في نبتها الأول؛ فنحن نعلم أن رحلة ريكور مع التأويليّة تمتد إلى عقود حتى وفاته، وفي أقل تقدير نشر في 1965 كتابه (في التأويل.. محاولة في فرويد)([1])، ضمَّ مجموعة محاضراته التي ألقاها بـ (جامعة يال) في خريف 1961، تحديداً في فضاء "كرسي الكاردينال - مرْسيه"، إلى جانب محاضراتٍ أخرى له، ألقاها في (جامعة لوفان) حوالي خريف 1962، كان خصّصها لقراءة سيجموند فرويد (1856 - 1939) نفسه بوصفه نصاً. وتبع ذلك، في 1969، إصدار كتابه (صراع التأويلات.. دراسات هيرمينوطيقية)([2])، الذي ضمَّ فصولاً عن الوجود والهرمينوطيقا، والهرمينوطيقا والبنيوية، والهرمينوطيقا والتحليل النفسي، والهرمينوطيقا والظاهراتية، ورمزية الشر المؤول، والدِّين والإيمان، وهي بحوث دالة على اشتغالات ريكور في شؤون التأويل، فهل توقَّف ريكور عند هذه التخوم فقط؟ وهل نضبت جَعْبته عند هذا الحد؟
جَعْبة الفيلسوف
بالطبع كلا، فثمَّ ما لا يعرفه القارئ العربي عن علاقة ريكور بالتأويل والهرمينوطيقا، التي تبدو كعلاقة المحارب بالسيف الذي لا يكُل التأويل عضده، وهيهات أن يتخلى المحارب عن سيفه، ودليلنا ههنا أن ما يضمّه كتاب (مقالات ومُحاضرات في التأويليّة) خير دليل على ما نذهب إليه؛ فهذا الفيلسوف ظلَّ يواصل انشغالاته بالتأويل والهرمينوطيقا خلال مرحلة سبعينيات القرن العشرين، وهو ما تنبّه إليه الدكتور محجوب، فآثر نقل ما كتبهُ إلى العربية لكي يقف القارئ العربي عند مشارف تواصليّة هذا الفيلسوف مع جذوة هذه المعرفة التي شغلت مفاصلها القرن العشرين برمته، لا سيما أن ريكور نفسه يرتبط بعلاقة صداقة شخصية مع محمَّد محجوب.
يضم هذا الكتاب - من الناحية التأريخية - مجموع ما كتبه من نصوص وما ألقاه من مُحاضرات للفترة من 1972 حتى 1988، وإن نُشر بعضها في 2006، وهي مرحلة من مراحل علاقة ريكور الفلسفية التي لم يهدأ لهذا الفرنسي أي بال، عندما ترن كلمة "هرمينوطيقا" بالقرب من أذنيه، فيسارع إلى ملء جُعْبته المعرفية بهدير ما يجود به التأمل والبحث والكتابة الذي تنتجه هذه المفردة "تأويل + هرمينوطيقا" من معرفة فلسفية ظلّت هاجس ريكور طوال حياته.
لقد أنتج ريكور في سبعينيات القرن العشرين ما هو آت من المقالات والمُحاضرات:
1. ما كتبهُ ونشره في إحدى المجلات تحت عنوان "الاستعارة ومُشكل الهرمينوطيقا المركزي"، كان ذلك في 1972. وهنا يعتقد محجوب أن هذه المقالة كانت بقدر ما أصبحت مرجعاً لكتاب مُهم نشره ريكور في 1975 تحت عنوان (الاستعارة الحية)([3]).
2. بعد أربع سنوات، وتحديداً في 1976، كتب ريكور نصاً لافتاً تحت عنوان "تأويليّة فكرة الوحي"، وتم نشره بعد عام، ويعتقد محجوب أن أمر هذا النص "يتعلَّق بمُحاضرة ألقيت في الكُليّات الجامعية بسان لويس - بروكسل في العام نفسه"، لكنها تبقى المادّة الوحيدة في الكتاب التي أشار فيها ريكور إلى "الإسلام" في معرض مروره على الدِّيانات الإبراهيمية.
3. وبعد عامين، وتحديداً في 1978، ألقى ريكور محاضرة مطوَّلة في (المعهد الدولي للفلسفة) بعنوان "منطق هرمينوتيقي"، وهي ذاتها التي نشرها، تالياً، في 1981. (تراني أحافظ على رسم هرمينوطيقي كما استخدمه محجوب بعيداً عن الرسم المعهود هرمينطيقا).
أما في خلال ثمانينيات القرن العشرين، فلم تهدأ حماسة ريكور ليعود ويثري جُعْبته الهرمينوطيقية بالآتي من المُحاضرات والدراسات:
1. كتابته لنص مُحاضرته تحت عنوان "أساطير الخلاص والعقل"، وهي الدراسة/ المحاضرة التي لم تظهر إلّا باللغة الإيطالية في 1988. أما لكونها مُحاضرة؛ فقد ذكر ريكور في متنها ملفوظ "هذه الندوة" (ص 190)، وملفوظ "بقية ملتقانا" (ص 204).
2. وفي منتصف 1988، كان ريكور قد ألقى مجموعة مُحاضرات خلال ندوة عُقدت تحت عنوان (مسيرة فلسفية.. ندوة مع بول ريكور)، والمحاضرات هي: "التأويليّة الرمزية"، و"التأويليّة وعالَم النص"، و"دلاليّات الفعل والفاعل"، و"الاقتضاء الخلُقي لنظرية الفعل"، وهي المُحاضرات التي تسنى لهذا الفيلسوف نشرها تحت عنوان "مشكلات التأويليّة"، ويؤثر الدكتور محجوب ههنا عنوان "مُشكل التأويليّة"، ويفسِّر ذلك بأن ريكور نفسه كان يستخدم تعبير "مُشكل" في بحوثه وكتاباته ومحاضراته على نحو وافر.
فيلسوف عاشق
تكشف لنا عملية إعادة ترتيب اشتغالات بول ريكور حول المعرفة التأويليّة وشؤونها من الناحية التأريخية المتواصلة - في حدود هذا الكتاب - تكشف عن مسارات هذا الفيلسوف العاشق لهذه المعرفة حدَّ الارتماء في أتونها من دون ملل أو جزع، فكان بإمكانه الاكتفاء بما كتبه في ستينيات القرن الماضي، لكنَّ روحه العطش للتأويل تفضح رتابة مجرد الاكتفاء أو التوقف شبعاً عبر مزيد من البحث والدراسة والقراءة التي لا تعرف الاعتكاف لكُل ما يتعلَّق بشؤون التأويل والهرمينوطيقا.
ولعلّ ما أقبلَ عليه محجوب - في هذا الصنيع الترجمي الثري - إنما هو إرواء ظمأ القارئ الراغب بمعرفة وفرة الاشتغالات الريكوريّة في هذين الحقلين المعرفيّين اللذين كثُر الحديث فيهما وعنهما ضمن صيرورة الاختلاف لدى كبار فلاسفة القرن العشرين. فما الذي كان يريد قوله ريكور في هذه المحاضرات؟
بداية سنحافظ - في هذه القراءة التحليلية - على مستوى التواتر التأريخي النسْقي الذي ظهرت به اشتغالات ريكور في فصول هذا الكتاب الذي بظهر - لأول مرّة - بالعربية في متون الُمحاضرات والمنشورات الأصل، وأؤكد ههنا على عبارة "المنشورات الأصل".
ولا بد من الإشارة ههنا، بأن محجوب نبّه القارئ العربي على ضرورة اعتبار المحاضرة الثالثة "دلاليات الفعل والفاعل" لعام 1988، بأنها "يُمكن أن تُقرأ كتأليف للتحليلات المخصَّصة للفعل في كتاب ريكور (الذات عينها كآخر)، الذي تمَّ نشره بالفرنسية في 1990" (محجوب: ص 29، هامش 1)، وهو ما وجدناه في متن كتاب ريكور نفسه الذي ترجمه إلى العربية الدكتور جورج زيناتي، وصدر عن المنظمة العربية للترجمة عام 2005 بعنوان (الذات عينها كآخر)، والذي ضمَّ في فصوله عنوان: "من العمل إلى الفاعل الحقيقي"، والمنشورة ضمن ترجمة زيناتي في الصفحة 207 حتى الصفحة 247. أما صفحاتها في النص الفرنسي، فهي من صفحة 109 إلى صفحة 136. علماً أن الدكتور محجوب يحبِّذ، اقتراحاً، ترجمة العنوان إلى (أنا نفسي غيرا) في مقابل العنوان الريكوري بالفرنسية (Soi – même comme un autre) وليس (الذات عينها كآخر) كما يترجمهُ الدكتور زيناتي. (حوار شخصي مع محجوب جرى في مساء الخميس 3 آب/ أغسطس 2017).
وكذلك ننوِّه إلى ما نبّهنا له محجوب بأن محاضرة ريكور التي جاءت إلى عنوان "الاقتضاء الخلُقي لنظرية الفعل"، إنما يُمكن قراءتها كاستئناف للعناصر التي وردت في الدراسات: السادسة، والسابعة، والثامنة التي ضمّها كتاب ريكور" (ص 42)، ألا وهو (أنا نفسي غيرا) أو (الذات عينها كآخر)، وهي كُل من: "الذات والهُوية السردية"، و"الذات والاستهداف الأخلاقي"، و"الذات والمعيار الأخلاقي الواجبي". انظر: (ص 293 - 456 من النص العربي بترجمة زيناتي)، وانظر: (ص 167 - 278 من النص الفرنسي).
تبدو هذه التنبيهات ذات أهمية قصوى لكونها ترينا بوصفنا قراءً تطوُّرات فكر بول ريكور بين نسج المحاضرات في بداية ظهورها والتطورات الصياغية والإنشائية التي خضعت لها تالياً، وهي تنبيهات يمكن أن تقدِّم للباحث - إلى جانب القارئ - فرصة نفيسة لمتابعة ما هو عليه تفكير ريكور في شؤون التأويليّة وبقية نظرياته الفلسفية في الفعل والعمل وغيرها.
الاستعارة ومُشكل الهرمينوطيقا المركزي
نبدأ بعنوان "الاستعارة ومُشكل الهرمينوطيقا المركزي" الذي يعود إنشاؤه إلى عام 1972؛ إذ يأخذنا ريكور مباشرة إلى حراك التأويل الذي يُعدُّ - بحسب منظوره - "المُشكل المركزي للهرمينوطيقا" (ص 63)، ويُقابل بين التأويل والتفسير مثلما يُقابل بين النص الشفاهي المسموع ونظيره المدوَّن أو المكتوب.
في هذه الدراسة، ينظر ريكور إلى التأويل من زاوية حقل تطبيقه، وكذلك من زاوية مستواه الإبستمولوجي أو المعارفي أو الاستعرافي، ليخلص إلى مقاربةٍ يعتقدُ أنها وقتيّة الطابع، لكنه لا يني يضع "النصوص المكتوبة في مُقابلة اللغة المتكلَّمة، ووضع التأويل في مُقابلة التفسير" (ص 64)، وكُل هذه الترتيبات تبدو للقارئ محاولة لطرْق أبواب البلاغة والأسلوبيّات كما تتجلّى - في هذا البحث - بالاستعارة التي يجد ريكور أن فهمها "يمكِّنه بمَهمّة الدّليل لفهم نصوص أطول في أثر أدبي" (ص 71)، وهو الذي يعتقد أن النص إنما هو "أثر" أو "جُملة مفردة"؛ بل هو "هندسة مِعمار"، ويفترض في هذه الهندسة بأن "العلاقة بين الكُل والجزء هي علاقة دائريّة لا فكاك منها"، ليخلص إلى أن "النص هو بمثابة الفرد حيواناً - مثلاً - أو عملاً فنيا" (ص 76).
ولهذا، سيغوص ريكور في مقاربات فرعية لذيذة المعالجة قوامها النص والاستعارة خطاباً، ومُقاربة التأويل بين الاستعارة والنص أو العكس، وهي مداخل سيجد القارئ المُدقِّق صداها جلياً موسَّعاً في كتابه (الاستعارة الحيَّة) الذي سينشره بعد ثلاثة أعوام على تأريخ نشره لهذا البحث، وهو الكتاب الذي سيأخذ طريقه إلى اللغة العربية مُترجماً في بيروت عام 2017.
تأويليّة فكرة الوحي
في 1976، وبعد عام على صدور كتاب (الاستعارة الحيَّة)، ألقى ريكور محاضرته "تأويليّة فكرة الوحي"، التي يتبدّى فيها - ريكور - جريئاً في تناوله لإشكالية الوحي في النصوص المكتوبة أو ما أسماه محجوب بـ "التأويليّة الكتابيّة" (هامش 2، ص 139)، وهي المُحاضرة التي تمَّت عملية نشرها في 1977؛ ففكرة الوحي قد تبدو مُخيفة بسبب العتمة التي طالتها وفق جدالات كاذبة مرّت؛ ولذلك يستشعر ريكور محنة ما هو مُقبل عليه، لكنّ رحابة صدره وشجاعة همّته جعلاه يمضي بلا تردُّد لما له من حصافة الركون إلى النصوص الدِّينية الكتابيّة حتى يدرس، في محور أول، التعابير الأصلانية للوحي من خلال خمسة خطابات هي: النبوي، والسردي، والأوامر، والحكمة، والنشيد.
أما في المحور الثاني، فيقدِّم إجابة لفلسفة هرمينوطيقية عبر تأمُّل عالَم النص - الجديد، والتفكير المتوسِّط والشهادة حتى ليبدو أن ريكور يروم، في هذه المُحاضرة، الدفاع عن مفهومٍ للوحي مثلما الدفاع عن مفهومٍ للعقل، حيث إن كلاهما ينخرط في "جدلية حيّة" من شأنها توليد ما يُطلق عليه "تعقُّلاً للوحي" (ص 140).
وفي كُل ما سيقوله تفصيلاً، إنه يريد العودة إلى الوحي برؤية عقلانية تزيح التفسيرات والتأويلات التي تفقد بها الجماعة الإيمانية "روح الطابع التأريخي لتأويلاتها، وتضع نفسها تحت سُلطة الملفوظات الجامدة للتعليم" (ص 141). إنه بصدد نقد الفهم المتحجِّر للحقيقة الدِّينية المُنزَّلة من دون إنكار "خصوصيّة العمل المذهبي؛ لا في المستوى الكنيسي، ولا في مستوى العِلم الثيولوجي" (ص 141)، لأنه يميل إلى شهادة الإيمان التي لا بد أن يُمارسها الإنسان المُستنير ذاته الذي يُفسر النصوص المقدَّسة ذاتياً لفهم ذاته، وبذلك نُحقق العودة إلى ما اسماه ريكور "أصل الخطاب الثيولوجي" (ص 142)، ليصدح برؤيته التي يلخِّصها على النحو الآتي، وهي أنه يتوجّب الالتفات إلى "النظر نحو الأشياء المسرودة نفسها بدل الالتفات نحو السارد والهامس في أذنه" (ص 146)، والسارد هنا هو "الوسيط الناقل"، هو "الكنيسة"، التي لا يريد لها ريكور التدخًّل بين النص الدِّيني الموحى به كأصل وقارئه، بين الوحي ومتلقِّيه الكنسي المؤسساتي، إنما يريد من التأويل الانصراف إلى النص المصدر الأصل مباشرة لتحصيل إيمان فرد خالٍ من الوسطاء سوى ذات المتلقِّي مباشرة لأصل قول الوحي في محاولة منه للتوجُّه نحو "أثر الإله في الحدث" (ص 148)، وههنا نجد أنفسنا بصدد مُمارسة لتأويل الوحي ذاتياً كمعاناة، حتى يأتي دور الحكمة التي "لا تعلّمنا كيف نتجنَّب المعاناة، ولا كيف نجحدها بالطلاسم، ولا كيف نغطِّيها بالوهم، هي تعلّمنا كيف نتحمَّل، كيف نُعاني المعاناة" (ص 154) ليصبح الفهم، وبالتالي التفسير والتأويل، ضرباً من التجربة الباطنية وليس مجرد تعامل مع نص موحى بشكل صوري جاف.
ومن هنا يسوق لنا ريكور خلاصة تنظيراته في ضوء "العّتمة الكثيفة" (ص 165) التي يفترضها حول مفهوم الوحي، رغم أنه لا يحبِّذ أن يكون توجّهنا إلى "تحليل الخطاب الدّيني في مستوى ملفوظات ذات الشكل اللاهوتي من قبيل التخريج القضوي: أن الله موجود، وأن الله ثابت، وأن الله قوي على كُل شيء" (ص 159)، بدلاً من ذلك، يعتقد ريكور "أن هرمينوطيقا للوحي مُطالبة بأن تُخاطب على نحو أولي أصل جهات لغة إيمانية؛ تخاطب العبارات التي يتأوَّل بها أعضاء المجموعة أصلانياً تجربتهم لأنفسهم ولغيرهم" (ص 159). وبصدد هذه العبارات "لا بد من اقتلاع هذا الحُكم من جذره، ولا بد لنا من الاقتناع بأن أجناس الكتاب المقدَّس لا تمثل واجهة بلاغية يكون من السهل تهشيمها إجلاءً لمضمون فكري لا يتأثر بالناقل الأدبي" (ص 159)، فهذه قناعة لا بد من اجتثاثها جذرياً عبر الابتعاد عن الاعتقاد بأن لغة الإيمان تلّخصها مجرد عبارات قضويّة باتت سائدة لدى الوعي الإنساني.
إن تبديد عتمة الوحي تتوجب - بحسب ريكور - "إبادة لكُل شكل كُلياني من السلطة التي قد تزعم حيازة الحقيقة التي يعطيها الوحي" (ص 165). وكُل ذلك تمهيد لنسف فكرة "لاهوت عقلي" (ص 165) بالعودة إلى "مستوى خطاب الوحي الأساسي" (ص 165)، لينتقل إلى نقد خطاب أسئلة فلسفية سينبري الدِّين للإجابة عنها (انظر: ص 165)، وهو ما لا يريده ريكور، إنما بدلاً من ذلك، يبتعد عن أيّ مسارات للتعقُّل، ويقترح مفهوم التجلية أو الإجلاء نأياً عن عبارة "التحقُّق"، وسيقترح مسرى قوامه لفهم الحقيقة بالانطلاق من منظور "التجلي"، ليقول إننا لا بد أن ندع فضاء تجلي أن يكون قبل أن نتفلت نحو وعي الذات المفكرة والمتكلِّمة" (ص 167)، وهذا كلام سينحاز إلى قناعتنا بأن تأويليّة ريكور تميل إلى التجربة الباطنية وليس العقلية فقط، ليخلو له جو الكلام، وهو يدعو إلى تفضيل "الالتفات نحو بعض بُنى تأويل التجربة الإنسانية قصد أن نتبيَّن فيها ملامح يُمكن من خلالها لشيءٍ ما أن يُفهم تحت فكرة الوحي في معنىً محايد عن الدِّين" (ص 167). على أن هذا الفهم يُمكن أن يكون تكريساً "للدعوة غير الإكراهية للوحي والكتابي" (ص 167)، إنما التناغم معها.
في سياق التجلي، يقترح ريكور ثلاثة مفاهيم هي: استقلال الكتابة، والإخراج بواسطة الأثر، والإحالة إلى عالَم أو بتوضيح آخر: الكتابة بوصفها علاقة مخصوصة بين الأشياء وليست كتلة مادية للكلمة، ومفهوم الأثر، ومفهوم عالَم النص أو أمر النص، العلَم المستهدف خارج النص، على أن القصد والبنية يشيران إلى المعنى. أما عالَم النص، فيشُير إلى مَرجع النص، وهو ليس ما قيل، إنما ما عنه قيل، وأمر النص هو ذا موضوع الهرمينوطيقا وأمر النص هو العالَم الذي ينشره أمامه. (انظر: ص 169).
تبدو هذه التقسيمات أنها هي نفسها مركز "الوظيفة الكاشفة للخطاب الشِّعري" (ص 169). وما يريد الوصول إليه ريكور عبر هذه التقسيمات، إنما هو عدم اعتبار الحقيقة تحققاً؛ بل "الجلاء؛ أي أنْ تدع ما يظهر يكون، وما يظهر هو كُل مرّة مقترح من العالَم؛ من عالَم يكون، حيث يُمكنني الإقامة به حتى أشرع فيه واحداً من أخص إمكاناتي، وفي معنى الإجلاء هذا تكون اللغة، في وظيفتها الشِّعرية، محل كشف" (ص 172).
تبدو الاستعانة بغير الدِّيني عند ريكور أنها "تُساعدنا على إعادة مفهوم الوحي الكتابي إلى كامل جدارته السالفة" (ص 173)، هذا المعنى غير الدِّيني هو الذي "يخلّصنا من التأويلات ذات المنزع السيكولوجي للإلهام المكتوب، في معنى نفث للكلمة في أذن كاتب ما" (ص 173).
وفي خضم ذلك، سينتهي ريكور إلى القول بأن "هرمينوطيقا الكتاب المقدَّس هي على التوالي هرمينوطيقا جهويّة في هرمينوطيقا عامّة، وهرمينوطيقا فريدة تضمُّ إليها الهرمينوطيقا الفلسفية كأرغونانها المخصوص، هي حالة خاصّة لكون الكتاب المقدّس هو واحداً من كُبريات قصائد الكيان existence، وهي حالة خاصّة فريدة، لأن كُل الخطابات الجزئية تحال على الاسم الذي هو نقطة التأويل والمربّع الخالي لكُل خطاباتنا عن الله، وتحال على اللامُسمى" (ص 174).
منطق هرمينوطيقي
في 1978، عكف ريكور في محاضرةٍ له تحت عنوان "منطق هرمينوتيقي" على دراسة الجانب المعارفي أو الإبستمولوجي الخاص بالتأويل، وفيها سيذكر كتاب هانس ليبس (تحقيقات في منطق هرمينوتيقي)، وهذا تواضع يتحلّى به ريكور تواصلاً أفقياً مع الفلاسفة.
كان ريكور نشر هذه الدراسة في 1981، وهنا نراه يعتقد بأن المشروع الهيدغري الذي مال إلى الوجود ردحاً من الزمن لم يقض كُلياً على الباعث الإبستمولوجي في مشاغل التأويليّة، وإذا كانت مشاركة هيدغر توصف بأنها هرمينوطيقا مُجذَّرة، فإن ريكور يراها بأنها "لا يمكن أن تفلت من مُساءلة النوع الإبستمولوجي" (ص 91). ولهذا يخوض ريكور غمار البحث في أدوار كُل من فلهلم ديلتاي (1833 - 1911) ومارتن هيدغر (1889 - 1976) على نحو مسهب في المنحى التاريخي والوجودي؛ فكلاهما شغل المسألة التأويليّة، ولينظر في مرحلة خطاب الهرمينوتيقا ما بعد الهيدغريّة؟، وما كرسه هذا الخطاب من اتجاه عام نحو "تفكُّر شروط إمكان خطاب الهرمينوتيقا المخصوص، والتموقع، تبعاً لذلك، في علاقة الاهتمامات المنطقية التي بدأت تبرز ضمن التيارات الفلسفية المعاصرة" (ص 88)، ما يعني حضور الباعث الإبستمولوجي، رغم نبو التاريخانية لدى ديلتاي والوجودية لدى هيدغر على نحو واسع ومؤثر في الحراك الفلسفي.
يعتقد ريكور أن مشروع فلسفة ديلتاي سار في اتجاهات ثلاثة هي: 1. الدفاع عن استقلالية علوم الروح بالنسبة إلى علوم الطبيعة. 2 إقامة الفرق بين إجرائها الرئيس؛ بين الفهم والتفسير المستعمل في عُلوم الطبيعة. 3. تأسيس هذا الفرق الإبستمولوجي على خاصيّة أساسيّة في الحياة الروحية هي قوة الذات في الانتقال والنفاذ إلى حياة سيكولوجية أجنبية عنها. (انظر: ص 89). وها هنا يرى ريكور بأن تأويليّة ديلتاي كانت "انخرطت داخل الجدل الأبستمولوجي" (ص 89).
أما اتجاهات مشروع فلسفة هيدغر؛ فقد سارت في: 1. أنها لا تهتم بتبرير خصوصية علوم الروح؛ بل سؤالها أنطولوجي؛ فنحن الذين نسأل سؤال الوجود. إن سؤال المعنى، وهو سؤال هرمينوطيقي بامتياز، هو سؤال معنى الوجود (ص 89 بتصرف). 2. ليس سؤال الفهم، الذي يقتضيه سؤال معنى الوجود، هو نفسه سؤالاً إبستمولوجياً؛ فالفهم هو سمة مميزة للوجود الذي هو نحن، وخاصية من خاصيات الموْجد - محجوب يُترجم مصطلح Dasein الألماني إلى الموْجد - بما هو وجود في العلَم، وليس التأويل إلّا تطويراً للفهم. 3. إن ما تعري عنه تحليلية الموْجد "الدازين" ليس ذات معرفة، وإنما هو موجود مُلقى – مشترع؛ فثمة قبل علاقة المعرفة بين الذات والموضوع، يوجد اقتضاء الفهم في البنية الأنطولوجية للمُقَلوليّة وللاستباق. (ص 90 بتصرف). وههنا يرى ريكور "أن مسألة الوجود تسبق البحث في عُلوم الروح" (ص 90)، وكذلك "وقبل أن يكون التاريخ، موضوع ومنهج، نحنُ تاريخيون من أقصانا إلى أقصانا" (ص 90).
مع ذلك، يعود ريكور ليقول عن الطَّور ما بعد - الهيدغري بأنه: "لم يكن لهذه الهرمينوطيقية المجذَّرة أن تُفلت من مُساءلةٍ من النوع الإبستمولوجي ما دام مُمكناً لنا وواجباً علينا أن نتقصّى شروط الإمكان الخاصّة بالخطاب والتأويلي، وأن نموقع - هذا الخطاب - بالنظر إلى خطابات الفلسفات التي تدّعي المنطق والإبستمولوجيا، لا سيما خطاب الفلسفة التحليلية المعاصرة" (ص 91).
يبدو ريكور حميماً، وهو يؤصل الجذر الإبستمولوجي في فلسفات التأويل، لا سيما لدى هيدغر؛ الذي يعتقد بأنه "ومهما تجذّر التساؤل الهرمينوطيقي المُشتق من هيدغر، فإنه لا يمكن أن يلغي كون الهرمينوطيقا قد تولّدت من إشكالية عُلوم الروح" (ص 92)؛ بل يذهب أكثر من ذلك بقوله إن الهرمينوطيقا "لا تستطيع أن تفلت من السؤال الكنتي لشروط إمكان خطابها المخصوص" (ص 92)؛ ذلك أن "هيدغر يبرّر الدور التأويلي؛ إذ يبين أن وهنه الإبستمولوجي الظاهري مُشتق من قوته الأنطولوجية الحقيقية" (ص 93). وقد يكون هذا التأويل قسوة يبديها ريكور بشأن معاصره مارتن هيدغر! وبلا ملل.
يبدو لي أن ريكور رمى ببعض ثقله الفلسفي في هذه المحاضرة الثرية. ولا بد من التأكيد هنا أن المترجم - الدكتور محجوب - رمى بثقله الترجمي في نقل نصها إلى العربية، لا سيما نحته للمقابلات العربية الموجودة في نص المحاضرة تلك المتعلِّقة بخصوصية ذات منحى ريكوري حَدسَ سرها محجوب بلغة متينة قدم خلالها حدود ريكور المصطلحيّة بحصافة لغوية ثاقبة الأثر، وهو يُترجم مُصطلحات تُحسب له من قبيل (Dasein) إلى "الموْجد"، و(existentiale) إلى "التحليلية الكيانية"، و(ex- siste) إلى "يكون"، و(intra - mondaine) إلى "الإنْترا - دُنيوية"، و(alternative) إلى "إميّة"، و(Verfremdung) الألماني الذي استعمله غادامير في كتابه (الحقيقة والمنهج) إلى "تماسف مُغرب"، والذي يترجمه غيره إلى "عزلة"، و(Sein zum Texte) إلى "الوجود من أجل النص"، و(eschatolohisme) إلى "آخرياتيّة"، ناهيك عن توضيحات وإحالات كل ذلك عبر هوامش أغنت دلالات المتن والمفاهيم الواردة فيه.
التأويليّة والرمزية
بالعودة إلى نص محاضرة "التأويليّة والرمزية"، والتي ألقاها ريكور في منتصف 1988، ونشرها في 2006، نلاحظ وبحرفة الفيلسوف - ريكور - أنه سيتحدَّث عن تجربته الشخصية في قراءة وكتابة المنحى التأويلي بشأن الرمزية، بمعنى حديثه عن "الكيفية" التي اكتشفَ بها "مشاكل الرمزية وتعلَّمها" (ص 5)، وأن كتبه كانت تجيب على أسئلة التأويل باستمرار، ولهذا نراه يشير إلى مؤلّفاته؛ بل يكشف عن بنية حراك تفكيره بإزاء فلاسفة آخرين مثل: بليز باسكال (1623 - 1662)، ورينيه ديكارت (1596 - 1650)، وسيجموند فرويد (1856 - 1939)، وإدموند هوسرل (1859 - 1938)، وموريس ميرلوبونتي (1809 - 1961)، وآخرين، ليعضد رؤاه الذاتية بأصالة فلسفية ليست بعيدة عنهم وتلك لعمري تاريخانية وجود الفيلسوف.
وفي خضم ذلك، سيرصد تحوّلات تفكيره شخصياً بشأن الرمزية، ويعرِّف "الرمز" بأنه "كُل تعبير يتصف بظاهر المعنى المزدوج، هذه الظاهرة التي تحيل الدلالة الحرفية وفقها على معنىً ثانٍ، لا يمكن إدراكه إلّا بهذه الإحالة من معنى أول على معنى ثان" (ص 9)، وهذا ما دعاه يقول بوجود "هرمينوطيقا، أي تأويل، كُلما كان ثمَّ معنى" (ص 11)، فهو يفترض وجود التأويل بوجود المعنى، وهو ما يدعو إلى التفكير - بحسب قوله - بأن "الرمز يدعو إلى التفكير" (ص 11)، كما أكَّد ذلك في كتابه لعام 1960 (رمزانيّة الشر)([4]) ليستظهر كتابه (صراع التأويلات..)، وجُملة العلاقات بين التأويليّة وأظهر المدارس الفكرية في سبعينيات القرن العشرين التي قدَّمت تأويلات متعدِّدة لمشكلة الذات والتاريخ، والنص، والفعل، وعلوم الروح، وجدلية الفهم/ التفسير، وهي التي أدلى بدلوه فيها بوازع من وفرة المعنى، ليبقى باب الفهم عنده مفتوحاً وفق رؤية مفادها "أنْ تُفسِّر مزيداً يعني أن تفهم ِأحسن" (ص 17)، وريكور تغريه هكذا الثنائية فراح يفهم أحسن وفق مسطرة التأويل التي لا تنضب جرته، لكنه يبقى عند مَهمة التأويل القاضية بأن "التأويليّة" هي "بسط المعنى الثاني في العبارات ذات المعنى المزدوج أو الرموز" (ص 17).
في النص الذي يبدو سردية تقولها الذات المؤوِّلة، أتحف محجوب متن محاضرة "التأويليّة والرمزية" بسلسلة من التوضيحات المفاهيمية والمعلوماتية جاءت كأهمية معرفية تواكب المتن الذي أحال، بدوره، على تواريخ، وعناوين كتب، وأسماء فلاسفة، ومقابلات باللغة الفرنسية لا يمكن الاستغناء عنها، واللافت هنا، وعندما يكون حجوب بصدد ريكور، نراه لا يميز في هامش مذكور بالصفحة التاسعة بين "الهرمينوطيقية" و"التأويل"، ويحسبه تمسكاً شبيهاً بالفرق بين "الميتافيزيقا" و"ما بعد الطبيعة"، على أن محجوب هنا يتخيّر هكذا تخريج بحسب المنظومة الريكورية التي تختلف عن المنظومة الهيدغرية التي تميز بين الهرمينوطيقا والتأويل ضمن المنحى الأنطولوجي الذي يشتغل به مارتن هيدغر.
التأويليّة وعالَم النص
في المحاضرة السابقة (الأولى)، أحالنا ريكور على محاضرته (الثانية) التي جاءت إلى عنوان "التأويليّة وعالَم النص"، والتي ألقاها في منتصف 1988، ونشرت، تالياً، في 2006. وسبق وأخبرنا ريكور في خاتمة محاضرته السابقة بأنه سينظر في شأن مُشكل التأويليّة أو في "الامتدادات المتتالية التي طرأت على تصوّره للتأويليّة منذ أطروحته الجامعية (الإرادي واللاإرادي) عام 1950 وحتى كتابه (صراع التأويلات..) 1969" (ص 17). وهذا يعني أن مُحاضراته هذه تتصف بالبعْديّة الزمانية، وتأتي أضافة على ما تناوله في كتابيه السابقين.
انتهى ريكور إلى تعريف مَهمة التأويل بأنها "بسط المعنى الثاني في العبارات ذات المعنى المزدوج أو الرموز" (ص 17). وسيذكّرنا بأنه بلور إلى مسألة "عالَم النص" في كتابيه (الاستعارة الحية) و(الزمان والسرد)، ويؤكِّد على نحو تأصيلي بأنه "ومن التحليل للتجديد الدلالي العامل في الخطاب الشعري بفضل الاستعارة، وفي الخطاب السردي على أساس الحبكة، تصدر تفكُّراته عن عالَم النص" (ص 24)، ما يعني أنه لا جديد كثير الأهمية يمكن أن يذكره ريكور، سوى أنه تطرّق إلى عمل القراءة الذي فاته في كتابه (الاستعارة الحية)؛ فالقارئ "هو الشخص الحقيقي الذي يضع العالَم المُمكن للنص في تقاطع مع العالَم الواقع للقارئ" (ص 27).
دلاليّات الفعل والفاعل
تبدو المحاضرة الثالثة "دلاليّات الفعل والفاعل" التي تم نشرها في 2006، أنها تنصرفُ إلى نظرية الفعل وتفكُّرات ريكور نفسه في مجال "إيثيقا الفعل"، وينصرف إلى شؤون عِلم الدلالة، ولكن سيحيط بحثه بشأن علاقة الفاعل بالفعل من حيث مائية الفعل (le quoi)، ولِميّة الفعل (le pourquoi)، ومنْ الفاعل؟ (le qui). وهنا بدا الدكتور محمَّد محجوب جديراً بالعودة إلى كتاب (الألفاظ المستعملة في المنطق) لأبي نصر الفارابي (260 - 339 هـ) بغية الاقتراب من النص الريكوري في هذا الشأن، لا سيما أن ريكور راح يُفصِّل القول في هذه الملافظ المنطقية أكثر من مجرد أن تكون لغوية في بناء صراح الفعل في فلسفته.
الاقتضاء الخلُقي لنظرية الفعل
ولم يكتف ريكور بذلك فقط؛ بل راح، في المحاضرة الرابعة، يشق طريقه نحو "الاقتضاء الخلُقي لنظرية الفعل"، والتي ألقاها في منتصف 1988 ونشرها في 2006، وسيركِّز فيها على مفهوم "البراكسيس"، التي يعتبرها أكثر من مجرد حركات، فهي "تتمثل في أنشطة تعاونية قواعدها التي تتقوم بها هي قواعد تمأسست اجتماعياً" (ص 44)، وهي تقوم على "قواعد"، وكذلك على "تقليد" (ص 45)، وتأكيده فيها بأن المُمارسة ليست مجرد فعل فردي يقوم به شخص منقطع إلى تجربته فقط. وفي هذا السياق، يؤكّد ريكور بأن الحياة "لا تؤخذ في معنى بيولوجي صرف" (ص 47). إلى جانب ذلك، يؤكِّد على "وحدة الحياة السردية" (ص 47)، وهو ما كان اهتم به من ذي قبل في كتابه (الزمان والسرد) الذي صدر في 1983، كذلك يتطرق إلى تأويل الإنسان نفسه لنفسه ووجوده عبر الفعل، ليس بعيداً عن دلالة الحياة الحقيقية.
ويتحدّث ريكور هنا عن اللغة والفعل، ويعتبر "الوحدات الممتدة من الفعل، والتي نسميها مُمارسات وبرامج حياة شبه نصوص تبتغي أن تُقرأ" (ص 48)، ولا تفوته التفرقة بين "نص texte" و"شبه نص quasi - texte"، ويعتبر هذا الأخير فيما لو كان شبه نص الفعل "كأي نص آخر" (ص 49)؛ إذ "يشتق الفعل مقروئيته من قواعد التسلسل التي تبيح لنا أن نقول إننا إنما نصوِّت عندما نرفع اليد، وإنما نقطع المفاوضة عندما نغادر القاعة، وإنما نشارك في الانتفاضة عندما نهرول في الطريق" (ص 49). لكنه سرعان ما سيذهب إلى التأويل الذي يروق له الحديث عنه أينما حلَّ، فيتحدّث عن الدور الهرمينوطيقي فيما يتعلّق بالشخص الذي "يتأوّل نفسه في تأويله لنص الفعل؛ فالفاعل هو مُحْدث فعله في حدود كونه يتأوَّل نفسه بحسب ما ينخرط فيه من القدرات والفنون والألعاب طبق ما تحدّدهُ قواعدها المقوّمة من الكفاءة ودرجة الامتياز" (ص 49). ولذلك يقترح ريكور الانتقال من مجرد الدلالات إلى التدلال (Signifiance) لتأكيد الفعل البشري، أي "مع دلالة بالنسبة إلى شخص" ما (ص 49) لتأكيد انخراط الإنسان في الفعل وهو انخراط تأويلي في حدِّ ذاته.
أساطير الخلاص والعقل
في "أساطير الخلاص والعقل"، الذي تم نشره باللغة الإيطالية عام 1988، لا يتحدَّث ريكور عن الهرمينوطيقا لكنه ينغمس عملياً في قراءة تأويليّة لهذه المفاهيم الثلاثة؛ أي: الأساطير، والخلاص، والعقل، في دراسة دقيقة تنم عن دراية واطلاع يتميزان بوفرة ريكور ذاته على ثقافة دسمة حول التأريخ الأسطوري والخرافي، ومعرفة نابضة بالأديان الإبراهيمية، خصوصاً اليهودية والمسيحية، فضلاً عن تأريخ الآشوريّات والبابليّات قديمة الوجود، ونراه يذكر أربع من الأساطير هي: الأسطورة النشلاهية، والأسطورة الأورفية، والأسطورة التراجيدية، والأسطورة التراجيدية. لكنّني شممتُ منحاه في هذه الورقة/ الندوة أنه يعود إلى كتابه (رمزانيّة الشر)، وهو يستعيد النظر في "الحال الإنسانية ببؤسها الذي نبكي له تأولاً" كما يقول في الصفحة 192، حتى إنه يستنفر في داخنا الحنين لقراءة كتابه آنف الذكر (رمزانيّة الشر) الذي كان في الأصل أطروحة جامعية له في 1950..
***
وبعد، فما هو معروف عن ريكور أنه نحتَ في كُل بحوثه مجموعة من المفاهيم التي درج على استخدامها، ولذلك لم يدخر الدكتور أبو هاشم محمَّد محجوب استخراج نحو 250 مصطلحاً وردت في فصول هذا الكتاب، ووضعها في مسرد مفتاحي ليعود إليه القارئ بغية فهم صيرورة أفكار ريكور. على أن هذا الثبت الذي يغطي بأغلب المفاهيم الواردة في متن الكتاب، سبق لمحجوب أن تطرّق إليه في سلسلة هوامش كثيرة أضاءت المتن الريكوري المُترجم، من دون ينسى الدكتور محجوب - وهو يختم هذا الكتاب - بتقدم خدمة للقارئ الباحث عن تناصات ريكور نفسه مع فلاسفة وباحثين كانوا ضيوفاً على مائدة نصوصه في هذا الكتاب من خلال تبويب فهرسة للأعلام التي ظهرت في فصوله.
[1]. صدر بالعربية تحت عنوان: (بول ريكور: في التفسير.. محاولة في فرويد، ترجمة: وجيه أسعد، أطلس للنشر والتوزيع، سوريا، 2003).
[2]. صدر بالعربية تحت عنوان: (بول ريكور: صراع التأويلات.. دراسات هرمينوطيقية، ترجمة: د. منذر عياشي، مراجعة: د. جورج زيناتي، دار الكتاب الجديد المتحدة، بيروت، 2005).
[3]. وجد هذا الكتاب ترجمة له: (بول ريكور: الاستعارة الحيَّة، ترجمة: د. محمَّد الولي، مراجعة: د. جورج زيناتي ، دار الكتاب الجديدة المتحدة، بيروت، 2017).
[4]. تجدر الإشارة هنا إلى أن بول ريكور كان نشر كتابه الضخم (فلسفة الإرادة)، والذي ضمَّ: (الإرادي واللاإرادي) - وهو أطروحته الجامعية لسنة 1950 - و(التناهي والإثم)، وهذا الأخير انقسم إلى كتابين هما: (الإنسان الخطّاء)، و(رمزانيّة الشر) = (La Symbolique du mal).