حاجة العرب إلى الحكم الرشيد

فئة :  مقالات

حاجة العرب إلى الحكم الرشيد

حاجة العرب إلى الحكم الرشيد[1]

الأصولية والسياسة:

بعيداً عن طبيعة المواقف والقناعات من ظاهرة الربيع العربي وتحوُّلاتها المختلفة، من الضروري الالتفات إلى حقيقة عميقة في مسار هذه التحوُّلات الكبرى التي جرت ولا زالت تداعياتها قائمة في أكثر من بلد عربي. ويمكن بيان هذه الحقيقة كالآتي: إن ما سُمِّي بالربيع العربي هي عبارة عن ظاهرة سياسية-مجتمعية عميقة جرت في بعض المجتمعات العربية، وهي وليدة عوامل وأسباب عديدة، ولها جوانب مختلفة، ولا يمكن اختزالها في بُعد أو جانب واحد؛ فهي كأيِّ ظاهرة سياسية-مجتمعية، لها عواملها المتعدِّدة وأسبابها المختلفة، وإن هذه الظاهرة في تأثيراتها المباشرة وغير المباشرة لا زالت قائمة، ومن الصعب اختزال هذه الظاهرة وأمثالها في برهة زمنية وجيزة. وإن طبيعة المآلات التي وصلت إليها هذه الظاهرة، ليست نهاية المطاف، بل ثمَّة تحوُّلات قيمية ومجتمعية عديدة تحتاج إلى تظهير تشهده مجتمعات الربيع العربي.

ونودُّ في هذا السياق، الالتفات إلى طبيعة الخيارات والمآلات التي وصلت إليها جماعات الإسلام السياسي في بلدان الربيع العربي.

وقبل توضيح هذه الخيارات والمآلات، من الأهمية بمكان الإشارة إلى أن جماعات الإسلام السياسي ليست على رأي واحد أو قناعة سياسية ومجتمعية واحدة، بل هي طيف من القوى والمجموعات التي تتبنىَّ المرجعية الإسلامية، وتتطلَّع إلى سيادة الإسلام والشريعة الحياة العامة للمسلمين، إلَّا أن هذه المجموعات متفاوتة ومتنوِّعة في خطابها السياسي ومقارباتها الاجتماعية وطبيعة نظرتها وقناعاتها إلى طبيعة اللحظة الراهنة وكيفية التعامل مع الأطراف والأطياف الأخرى. وبالتالي، فإننا لا نتحدَّث عن مجموعات متجانسة في كل شيء، بل هي مجموعات متنوِّعة ومتعدِّدة، إلَّا أنها جميعاً تتبنىَّ المرجعية الإسلامية. ولكونها جماعات غير متجانسة وتعيش التعدُّد في أكثر من مجال؛ لذلك لا يصح إطلاق أحكام ومواقف واحدة، على مجموعات متمايزة فكريّاً وسياسيّاً.

لذلك، فنحن نودُّ تركيز الحديث حول القوى السياسية الإسلامية التي تصدَّرت المشهد العام في دول الربيع العربي؛ فالأداء السياسي لحزب النهضة في تونس مغاير للأداء السياسي لحركة الإخوان في مصر.

فالأولى تعاملت بواقعية مع مشروع التحوُّل نحو الديمقراطية، وابتعدت في خطابها السياسي عن النزعة الدعوية التي تخلط بين إدارة ما هو كائن مع ما ينبغي أن يكون. وجماعة الإخوان في مصر تعاملت -في أدائها وخطابها السياسي- بنزعة دعوية طاغية، وصنعت للناس أوهاماً وآمالاً غير قادرة على تحقيقها في أقل التقادير في المدى المنظور، كما هيمنت على علاقاتها مع الأطراف والأطياف السياسية نزعة الهيمنة والسلطة. فالأطراف التي لا تتَّفق معها في الخطاب أو الأولويات أضحت من الفلول، ولا تتناغم مع خطابها وأدائها؛ لا موقع له في الخريطة السياسية.

وبالتالي، فإن التباين والاختلاف في الخطاب والأداء بين المجموعات الإسلامية، ليس ادِّعاءً يُدَّعى، وإنما هو حقيقة قائمة وشاخصة في كل بلدان الربيع العربي.

وعلى ضوء هذه الحقيقة، نعمل على الاقتراب من تقويم الأداء السياسي لهذه الجماعات من خلال النقاط التالية:

1- ليس من ينجح في مشروع الدعوة قادر على النجاح في مشروع العمل السياسي وإدارة التنافس السياسي مع مختلف الأطياف في المجتمع.

فأغلب هذه الجماعات استطاعت -عبر أدوات وآليات عديدة- النفاذ لدى شرائح المجتمع المختلفة، وتمكَّنت من تحقيق منجزات ومكاسب عديدة، سواء على مستوى الدعوة وإقناع الناس بالخطاب والمشروع الإسلامي، أو على مستوى الخدمات ومشروعات الحماية الاجتماعية والاقتصادية للفئات الاجتماعية المهمَّشة. ولكن هذا التميُّز في الحقل الدعوي والاجتماعي، لم يؤدِّ إلى تميُّز في الحقل السياسي، بل على العكس من ذلك نتمكَّن من القول: إن بعض هذه الجماعات ارتكبت خطايا في عملها وأدائها السياسي، مما أربك قاعدتها الاجتماعية، وأدخلها في أتون المقارنة مع المجموعات السياسية الأخرى. وعلى ضوء هذه الحقيقة، يمكن الوصول إلى نتيجة أخرى، ومفادها: أن الجماعات الإسلامية في مرحلة الدعوة والأنشطة الاجتماعية والخدمية المختلفة، تتَّسع قاعدتها الاجتماعية وتزداد شعبية، وإن انخراطها السياسي ووصولها إلى الحكم يخسرها شعبيّاً، ويسحب من رصيدها الاجتماعي. وبالتالي، فإن هذه الجماعات بحاجة إلى لياقة إذا صحَّ التعبير في العمل السياسي مختلفة عن لياقتها في العمل الدعوي. وإن النجاح والتميُّز في الحقل الاجتماعي لا يساوي النجاح المضمون في الحقل السياسي.

فجماعة الإخوان في مصر في مرحلة الدعوة والأنشطة الاجتماعية والخدمية المختلفة، تتصدر المشهد العام، ويشار إليها بالبنان في التميُّز وحسن الأداء.

ولكن حينما وصلت إلى الحكم وإدارة جمهورية مصر العربية من موقع السيطرة على الحكومة والرئاسة، فإنها ارتكبت الكثير من الأخطاء التي ساهمت في تبديد بعض مكاسبها في الحقلين الدعوي والاجتماعي.

وإذا استمرت هذه الجماعة من دون تصحيح أخطائها الفادحة، فإنها ستستمر في التراجع وخسارة بعض قاعدتها الشعبية.

2- أبانت الجماعات الإسلامية عن خلل حقيقي في مشروع بناء التحالفات السياسية مع الأفرقاء الآخرين، وقدرة هذه التحالفات على البقاء في ظل صراعات سياسية واجتماعية. وينعكس هذا الخلل بشكل أساسي في رفض هذه الجماعات التعامل مع الحقل السياسي والمنافسين السياسيين بعقلية تسووية، تدفع هذه العقلية جميع الأطراف للتنازل من أجل بناء أوضاع سياسية أكثر استقراراً وقدرة على الصمود أمام التحوُّلات السياسية المتسارعة.

فالإخوان مثلاً في مصر تمسَّكوا بنتائج الانتخابات البرلمانية، واعتبروها هي النتيجة التي تُخوِّلهم ممارسة السلطة بمفردهم أو من دون منافسين حقيقيين. لذلك - وبفعل هذه العقلية- خسروا بعض حلفائهم، كما خسروا جرَّاء التباين في مشروع الترشيح لرئاسة الجمهورية بعض قياداتهم وكوادرهم الفاعلة. ولعل ما تمتاز به جماعة النهضة في تونس هو قدرتها على بناء التحالفات السياسية وعدم استعجالها الوصول إلى القمة السياسية؛ فهي تتحرَّك بواقعية سياسية، وتعمل على بناء حياة سياسية مستقرِّة وملتزمة بمقتضيات الدستور. وإن هذا العمل يستحق من الجميع التنازل حتى لا تفشل العملية السياسية برمَّتها.

فالمهم ليس أن تصل جماعتي إلى السلطة، المهم بناء واقع سياسي جديد، يعرقل أيَّ نزعة استبدادية، أو يحول دون استفراد أيَّ قوة سياسية بالمشهد السياسي. وإن هذا الهدف الاستراتيجي يستحق من جميع الأطراف التنازل وإنجاز تسوية سياسية-تاريخية لصالح التحوُّل نحو الديمقراطية والاستقرار السياسي العميق.

فطبيعة تحوُّلات الربيع العربي ومحطاتها المختلفة، تجعلنا ندرك أن هذه التحوُّلات لا يمكن أن ينتصر فيها طرف انتصار كاسح مهما أوتي من قوة شعبية أو إرث تاريخي ونضالي، فالتحوُّلات لا تفسح المجال لطرف واحد للتحكُّم في الساحة والمشهد.

من هنا، فإن طبيعة التحوُّلات والقوى الفاعلة فيها تقتضي -أيضاً- بناء التحالفات، والذهاب بعيداً في مشروع التسويات السياسية. والقوى السياسية التي ترفض هذا النهج والخيار، فإنها ستخرج شيئاً فشيئاً من المعادلة القائمة. وهذا ليس تبريراً لبعض المآلات، وإنما للقول: إن طبيعة المرحلة تقتضي التقاطع مع القوى السياسية المنافسة، وتنمية المساحات المشتركة معها، من أجل الخروج من المرحلة الانتقالية بأقل خسائر ممكنة.

3- لا يمكن لمن يتوسَّل وسائل العمل السياسي المختلفة أن يُحقِّق إنجازات وانتصارات كاسحة، حيث تُغيِّب جميع المنافسين أو المناوئين. فطبيعة العمل السياسي أنه يُحقِّق الغايات والأهداف على مدى زمني طويل ومتدرِّج في آن.

ولعل من الأخطاء البارزة التي وقعت فيها التيارات الإسلامية، أنها انخرطت في العمل السياسي بذهنية «لنا الصدر دون العالمين أو القبر»، وبالتالي، فإن هذه الذهنية تفتح حالة المغالبة مع المنافسين إلى أقصى حالاتها، مما يُهيِّئ المناخ لصناعة الخصوم وخسارة الأصدقاء.

لهذا من الضروري أن تلتزم هذه الجماعات -وهي تنشط في الحقل السياسي- بمقولة الفلاسفة: «الوجود الناقص خير من العدم المطلق».

لذلك، فإن العمل السياسي لا يوصل إلى انتصارات كاسحة، وإنما يوصل إلى بناء شراكه واسعة مع بقية القوى، لإنجاز ما يمكن إنجازه.

وإن الكثير من الأخطاء والخطايا التي ارتكبتها جماعات الإسلام السياسي، يعود -في تقديرنا- إلى تلك الذهنية التي تحكَّمت في هذه الجماعات التي عاشت فترات طويلة من النضال السلبي، وترى فيما سُمِّي بالربيع العربي فرصة استثنائية، ممَّا يدفعها نفسيّاً وسلوكيّاً للاستعجال في مشروع التمكُّن. ومن المؤكد أن نزعة الاستعجال مع قصر التجربة وقلَّة الخبرة، يقود إلى ارتكاب خطايا أساسية، تضر بسمعة هذه التيارات وصدقيتها في العمل العام.

وخلاصة القول: إن السياسة لا يمكن أن تُمارس وتُدار بذهنية الدعوة، وإن الانخراط فيها بنسق ما ينبغي أن يكون، يجعلها ترتكب أخطاء تصل في بعض الأحيان إلى حماقات تحرق بعض أجزاء التاريخ النضالي لهذه التيارات والجماعات.

العالم العربي ودولة المواطنة:

لعلَّنا لا نأتي بجديد حين القول: إن أغلب المجال العربي بكل دوله وشعوبه يعاني من تحدِّيات خطيَّة وأزمات بنيويَّة، تُرهق كاهل الجميع، وتُدخلهم في أتون مآزق كارثية.

فبعض دول هذا المجال العربي دخلت في نطاق الدول الفاشلة التي لا تتمكَّن من تسيير شؤون مجتمعها، ممَّا أفضى إلى استفحال أزماتها ومآزقها على كل الصعد، سواء الاقتصادية أو الأمنية أو السياسية. والبعض الآخر من الدول والمجتمعات مهدَّد في وحدته الاجتماعية والسياسية، حيث هي قاب قوسين أو أدنى من اندلاع بعض أشكال وصور الحرب الأهلية.

ودول أخرى تعاني من غياب النظام السياسي المستقر، ولا زالت أطرافه ومكوِّناته السياسية والمذهبي، تتصارع على شكل النظام السياسي، وطبيعة التمثيل لمكوِّنات وتعبيرات مجتمعها.

إضافة إلى هذه الصور، هناك انفجار للهويات الفرعية في المجال العربي بشكل عمودي وأفقي، ممَّا يجعل النسيج الاجتماعي مهدّداً بحروب وصراعات مذهبية وطائفية وقومية وجهوية. ونحن نعتقد أن اللحظة العربية الراهنة مليئة بتحدّيات خطيرة، تهدّد استقرار الكثير من الدول والمجتمعات العربية، وتدخل الجميع في أتون نزاعات عبثية، تستنزف الجميع وتُضعفهم، وتُعمِّق الفجوة بين جميع الأطراف والمكوِّنات.

وفي تقديرنا، إن المشكلة الجوهرية، التي ساهمت بشكل أو بآخر في بروز هذه المآزق والتوترات في المجال العربي، هي غياب علاقة المواطنة بين مكوِّنات وتعبيرات المجتمع العربي الواحد.

فالمجتمعات العربية تعيش التنوُّع الديني والمذهبي والقومي، وغياب نظام المواطنة كنظام متجاوز للتعبيرات التقليدية، جعل بعض هذه المكوِّنات تعيش التوتُّر في علاقتها، وبرزت في الأفق توتُّرات طائفية ومذهبية وقومية؛ فالعلاقات الإسلامية-المسيحية في المجال العربي، شابها بعض التوتُّر، وحدثت بعض الصدامات والتوترات في بعض البلدان العربية التي يتواجد فيها مسيحيون عرب.

وفي دول عربية أخرى، ساءت العلاقة بين مكوِّناتها القومية، حيث برزت توتُّرات وأزمات قومية في المجال العربي. وليس بعيداً عنا المشكلة الأمازيغية والكردية والأفريقية.

وإضافة إلى هذه التوتُّرات الدينية والقومية، هناك توتُّرات مذهبية بين السنة والشيعة، وعاشت بعض الدول والمجتمعات العربية توتُّرات مذهبية خطيرة تُهدِّد استقرارها السياسي والاجتماعي.

فحينما تتراجع قيم المواطنة في العلاقات بين مكوِّنات المجتمعات العربية، تزداد فرص التوتُّرات الداخلية في هذه المجتمعات. لهذا، فإننا نعتقد أن العالم العربي يعيش مآزق خطيرة على أكثر من صعيد، وهي بالدرجة الأولى تعود إلى خياراته السياسية والثقافية. فحينما يغيب المشروع الوطني والعربي، والذي يستهدف استيعاب أطياف المجتمع العربي، وإخراجه من دائرة انحباسه في الأطر والتعبيرات التقليدية إلى رحاب المواطنة.

فإن هذا الغياب سيدخل المجتمعات العربية في تناقضات أفقية وعمودية، تهدّد استقرارها السياسي والاجتماعي.

وإن نزعات الاستئصال أو تعميم النماذج لا تُفضي إلى معالجة هذه الفتنة والمحنة، بل توفّر لها المزيد من المبررات والمسوغات.

فدول المجال العربي معنيَّة اليوم وبالدرجة الأولى بإنهاء مشاكلها الداخلية الخطيرة، التي أدخلت بعض هذه الدول في خانة الدول الفاشلة، والبعض الآخر على حافة الحرب الداخلية التي تُنذر بالمزيد من التشظِّي والانقسام.

فما تعانيه بعض دول المجال العربي على هذا الصعيد خطير، وإذا استمرت الأحوال على حالها، فإن المجال العربي سيخرج من حركة التاريخ، وسيخضع لظروف وتحدِّيات قاسية على كل الصعد والمستويات.

وإن حالة التداعي والتآكل في الأوضاع الداخلية العربية لا يمكن إيقافها أو الحد من تأثيراتها الكارثية، إلَّا بصياغة العلاقة بين أطياف المجتمع على قاعدة المواطنة المتساوية في الحقوق والواجبات.

وإن غياب مقتضيات وحقائق المواطنة في الاجتماع السياسي العربي سيُقوِّي من اندفاع المواطنين العرب نحو انتماءاتهم التقليدية، وعودة الصراعات المذهبية والقومية والدينية بينهم، وسيُوفِّر لخصوم المجال العربي الخارجيين إمكانية التدخُّل والتأثير في راهن هذا المجال ومستقبله.

فالمجتمعات العربية كغيرها من المجتمعات الإنسانية التي تحتضن تعدُّديات وتنوُّعات مختلفة، لا يمكن إدارة هذه التعدُّديات على نحو إيجابي إلَّا بالقاعدة الدستورية الحديثة (المواطنة) كما فعلت تلك المجتمعات الإنسانية التي حافظت على أمنها واستقرارها.

فالاستقرار الاجتماعي والسياسي العميق في المجتمعات العربية، هو وليد المواطنة بكل حمولتها القانونية والحقوقية والسياسية. وأيّ مجتمع عربي لا يفي بمقتضيات هذه المواطنة، فإن تباينات واقعه ستنفجر وسيعمل كل طرف للاحتماء بانتمائه التقليدي والتاريخي، مما يصنع الحواجز النفسية والاجتماعية والثقافية والسياسية بين مكوِّنات المجتمع الواحد.

وفي غالب الأحيان، فإن هذه الحواجز لا تُصنع إلَّا بمبرِّرات ومسوِّغات صراعية وعنفية بين جميع الأطراف، فتنتهي موجبات الاستقرار، ويدخل الجميع في نفق التوتُّرات والمآزق المفتوحة على كل الاحتمالات.

لهذا، فإن دولة المواطنة هي الحل الناجع لخروج العالم العربي من مآزقه وتوتُّراته الراهنة. فدولة المواطنة هي التي تصنع الاستقرار وتحافظ عليه، وهي التي تستوعب جميع التعدُّديات وتجعلها شريكة فعليَّة في الشأن العام، وهي التي تجعل خيارات المجتمع العليا منسجمة مع خيارات الدولة العليا والعكس، وهي التي تُشعر الجميع بأهمية العمل على بناء تجربة جديدة على كل المستويات، وهي التي تصنع الأمن الحقيقي لكل المواطنين في ظل الظروف والتحدِّيات الخطيرة التي تمرُّ بها المنطقة.

والمجتمعات لا تحيا حق الحياة إلَّا بشعور الجميع بالأمن والاستقرار؛ لهذا فإن الأمن والاستقرار لا يُبنى بإبعاد طرف أو تهميشه، وإنما بإشراكه والعمل على دمجه وفق رؤية ومشروع متكامل في الحياة العامة.

وهذا لا تقوم به إلَّا دولة المواطنة، التي تُعلي من شأن هذه القيمة، ولا تُفرِّق بين مواطنيها لاعتبارات دينية أو مذهبية أو قومية، فهي دولة الجميع، وهي التمثيل الأمين لكل تعبيرات وحراك المجتمع.

فالمجال العربي اليوم من أقصاه إلى أقصاه، أمام مفترق طرق، فإما المزيد من التداعي والتآكل، أو وقف الانحدار عبر إصلاح أوضاعه وتطوير أحواله، والانخراط في مشروع استيعاب جميع أطرافه ومكوِّناته في الحياة السياسية العامة؛ فالخطوة الأولى المطلوبة للخروج من كل مآزق الراهن وتوتُّراته، في المجال العربي، هي أن تتحوَّل الدولة في المجال العربي إلى دولة استيعابية للجميع، حيث لا يشعر أحد بالبعد والاستبعاد، دولة المواطن بصرف النظر عن دينه أو مذهبيه أو قومه، حيث تكون المواطنة هي العقد الذي يُنظِّم العلاقة بين جميع الأطراف؛ فالمواطنة هي الجامع المشترك، وهي حصن الجميع الذي يحول دون افتئات أحد على أحد.

وجماع القول: إن دولة المواطنة المتساوية في الحقوق والواجبات هي خشبة الخلاص من الكثير من المآزق والأزمات.

[1] - مقتطف من كتاب ما بعد الإسلام السياسي، مؤسسة مؤمنون بلاحدود.