حاجة المجتمعات العربية إلى التحديث أولاً
فئة : مقالات
لا نعتقد أن انهيار التجربة الاشتراكية في نهاية القرن الماضي يعني فشل المشروع الاشتراكي الواقعي والطوباوي بالضرورة، والذين تحدثوا بمناسبة الانهيار المذكور عن "نهاية التاريخ" وانتصار التجربة التاريخية والاقتصادية للخيار الليبرالي، لم ينتبهوا للأبعاد المختلفة، التي ساهمت وما تزال تساهم في منح الأفق الاشتراكي شرعيته التاريخية المؤكدة. وعندما نفكر، في ضوء ما سبق، في المشروع الاشتراكي اختيارًا فكريًا تاريخيًا وسياسيًا، ونتعامل معه بمنطق التاريخ، سواء في لحظات صعوده أم في منعطفات تراجعه وانهياره، ندرك أن الأمر يتعلق بجملة من المعطيات القابلة للفهم والتعقل بمنطق التاريخ وآلياته في التفسير والنظر.
ولتوضيح ذلك، نشير إلى أن تبلور المشروع الاشتراكي، سواء في أبعاده الطوباوية الأولى في القرن الثامن عشر، إذ اتخذ صورة مُتخيَّل يتوخّى تجاوز معضلات تاريخية محددة، أم في الصيغ التي أنتج بواسطتها نصوصه في القرن التاسع عشر، إذ تعددت وتمظهرت في خطابات فلسفية اجتماعية واقتصادية جديدة، مما ساهم في التحضير لثورة 1917 وما تلاها، حيث أصبحنا أمام مشروع سياسي تحول من فكرة إلى تجربة وبرنامج يجري العمل بهما في الواقع، وقد شمل بعد ذلك قارات ومجتمعات، كما تجاوب مع طموحات وصراعات محددة، وانتهى إلى المآل الذي انتهى إليه، مُعلنًا تراجُعَ، بل انهيارَ، تجربة معينة في التاريخ، دون أن يعني ما حصل بالضرورة نهاية الأفق الاشتراكي أو نهاية التاريخ.
نحن نعتقد أن روح المشروع؛ الفكرة الاشتراكية القائمة على مبدأ تحقيق العدالة، ما تزال أملاً يغذي آمال البشرية في نظام اجتماعي أكثر عدالة وإنصافًا، لهذا السبب يظل سؤال الاشتراكية سؤالاً مشروعًا، شريطة الانتباه إلى أننا عندما نتحدث عنه اليوم، فإننا لا نتحدث عن وصفة سحرية، ولعلنا نتحدث عن طريق مفتوح على ممكنات الإبداع البشري في التاريخ تحديدًا، وذلك لأن أسئلة التاريخ وتجاربه، تُعدُّ الإطار المناسب لمعاينة طموحات البشر وآمالهم، بل صراعاتهم المتواصلة من أجل بناء مجتمعات أكثر مساواة وتوازنًا.
لكن ماذا يعني التفكير في الاشتراكية في العالم العربي اليوم؟ نطرح هذا السؤال لاعتقادنا بصعوبة التفكير فيه خارج سياقه التاريخي العام، خاصة أن المجتمعات العربية تعرف اليوم متغيرات مهمة، تستدعي مواصلة الجهد في مجال مزيد من تحديث بنيات ومؤسسات المجتمع أولاً، للتمكن من استنبات أصول التحديث وقيمه، الأمر الذي يعزز مشروعية الاهتمام بالموضوع في مختلف أبعاده. ثم إننا نطرحه من أجل إشراك الجميع في العمل على تقوية رصيد الفكر العربي، في التشبع بمبادئ وقيم الحداثة أولاً.
نفترض، ضمن هذه السياق، أن المهمة الأبرز للذين يعنيهم سؤال الاشتراكية اليوم في المجتمع العربي، أعني تيارات اليسار العربي، تتمثل في الانخراط اليقظ في مواصلة عملية تركيب فهم محدد لطبيعة التحولات الجديدة في مجتمعنا وفي العالم، وعلى مختلف الأصعدة والمستويات. وهذا الأمر يضعنا أمام التفكير في البنية الجديدة مباشرة، التي اتخذها ويتخذها المشروع الرأسمالي في زمن العولمة، وذلك لأن العالم من حولنا تغير وما فتئ يتغير. ولن يكون بإمكاننا أن نتقدم في مواجهة قضايانا المحلية والخاصة، إلا بالعمل على معرفة وتعقل ما يجري فيه. وعندما ننخرط في القيام بهذه المهمة، نكتشف أننا بصدد بناء أسئلة جديدة، تتيح لنا تجاوز جملة من المفاهيم التي اعتقدنا زمنًا طويلاً أنها الأنسب والأفضل.
ونفترض أن أنجع السبل للتفكير بواقعية وتاريخية أكبر بالمشروع الاشتراكي والطموح الاشتراكي، لا تحصل إلا بالاستناد إلى مرجعية نظرية منفتحة على معارف العصر الجديد، وثوراته العلمية والتكنولوجية الجديدة. ففي معطيات هذه المعارف التي تتولد اليوم في رحم التاريخ المعاصر، يمكن أن نجد المفاتيح المناسبة لتركيب تصوراتنا القادرة بدورها على ترجمة تطلعاتنا التاريخية. وقبل ذلك نرى، أن التفكير في العدالة الاجتماعية، يقتضي مزيدًا من استيعاب وتمثل الرؤية الحداثية للتاريخ وللعمل السياسي في التاريخ، وأن هذه العلمية المركبة تقتضي بدورها مواصلة الجهد والعمل دون كلل، لتجاوز العوائق التي حالت وما فتئت تحول بيننا وبين انخراط فاعل في العالم، وهو الأمر الذي يساهم في تهيئة الشروط المساعدة على بلوغ المرامي التي سطرناها لأنفسنا منذ ميلاد وعينا النهضوي في الأزمنة الحديثة.
ونؤكد على أهمية العناية بترسيخ القيم الحداثية، وذلك لأن صور التراجع التي حصلت بعد انفجارات 2011 جعلتنا نكتشف هشاشة قيم التحديث ومؤسساته وروافعه النظرية في مجتمعاتنا وثقافتنا. وتتمثل قيمة المشروع السياسي الحداثي في استناده أولاً وقبل كل شيء إلى مقدمات العقل النقدي، ذلك أنّا نعتبر أن الدفاع عن الحداثة السياسية يعني الاحتكام إلى سلطة العقل والنقد والتاريخ، ولهذا السبب نواصل عنايتنا ودفاعنا عن أهمية الاختيارات العقلانية والتنويرية في الفكر السياسي العربي المعاصر، لأنها تملك، أكثر من غيرها، القدرة على إسناد مشروع النهوض العربي، وتطوير مرجعيتنا في النظر والعمل الموصولين في النهضة والتقدم.
لقد ظل التحديث السياسي في واقعنا عبارة عن جملة من المؤسسات المصطنعة، ولم يتحول إلى فعل تاريخي موصول بعمق تربتنا، وذلك لأن استبعاد عمليات استنباته التاريخي بالجرأة والحسم اللازمين لذلك عطَّل إمكانية حصول الاستيعاب الذي نتحدث عنه، وما يزال يعطل تحويل كونية الحداثة من مشروع إلى فعل من أفعال التاريخ، وذلك عندما تنتفض مجتمعاتنا وتعلن مواقفها من الاستبداد والفساد مثلاً. ولا نفكر هنا في موضوع ترسيخ متطلبات الإصلاح السياسي الحداثي بالطريقة التي أصبح يتداول بها في الآونة الأخيرة، إذ يتم الربط بين "برامج الإصلاح ومواجهة الإرهاب"، وذلك في سياق ملابسات الصراع الدائر اليوم في العالم. إننا نتحدث عن الإصلاح السياسي الحداثي في أفق موصول أولاً وقبل كل شيء بإشكالية التأخر العام السائدة في واقعنا، ونطرحه لمواجهة مختلف صور الاستبداد السياسي القائمة في مجتمعاتنا، ونحن نطرحه بصور وصيغ مختلفة، باعتبار أن معاركنا الإصلاحية لم تنقطع طيلة تاريخنا المعاصر، ونفترض أن المتغيرات الجارية اليوم في مجتمعاتنا بما لها وما عليها تندرج في الأفق نفسه؛ أفق مواصلة التمرس بالعمل الهادف إلى تحقيق تطلع المجتمعات العربية للإنصاف والكرامة.