حاشية على متن: رسالة أضحوية في أمر البعث والمعاد

فئة :  مقالات

حاشية على متن: رسالة أضحوية في أمر البعث والمعاد

حاشية على متن: رسالة أضحوية في

أمر البعث والمعاد

يعد هذا الكتاب على صغر حجمه، -رسالة أضحوية في أمر البعث والمعاد- من أهم كتب الفيلسوف العربي الحسين بن عبد الله بن الحسن بن سينا، الملقب بالشيخ الرئيس (٩٨٠-١٠٣٧)؛ وذلك لوضوح شخصيته الفلسفية فيه بلا مواربة، ولا مداهنة اعتاد الفلاسفة المسلمون على ممارستها، هذا أولا، وثانيا لأنه دفع فيه بعربة التأويل إلى مستوى معرفي متقدم، قفز فيها على أسوار الفهم العقائدي التقليدية، في تفسير البعث، وطبيعة الثواب، والعقاب الأخروي.

والملاحظة الأولية التي تتبادر إلى الذهن عند مناقشة الرسالة الأضحوية، هو وجود رأيين متناقضين لابن سينا نفسه في هذه المسألة، فإذا كان ابن سينا هنا يترافع عن رأيه في نفي البعث الجسماني، وإثبات معنوية الثواب والعقاب ولا حسيتهما، فإنه سبق وخالف هذا الرأي في كتابه الشفاء؛ إذ أقر فيه بالأدلة النقلية، والعقلية جواز البعث الجسماني، ووجود عذاب، ونعيم حسي فعلي.

فهل نحن أمام خلل معرفي، في البنية الإبستمولوجية عند ابن سينا؟ أم إن الرجل يعرض رأيه في هذا الكتاب، في سياق مراجعاتي لأفكاره وتطورها؟

والحقيقة أنه لا هذا ولا ذاك، فخطاب ابن سينا المزدوج هو جزء مؤسف من أزمة الفكر الفلسفي العربي والإسلامي. جزء شارك في صنعه الفلاسفة أنفسهم، عن طريق تبني خطابات تصاعدية متعددة، ومتناقضة في الكتابة أحيانا، حسب طبيعة واستعداد المتلقي، هذه الخطابات التصاعدية جعلت من الفلسفة، والتفلسف علم سري نخبوي مغلق، يدور داخل انتلجنسيا معرفية، ما حال دون صنع تراكم كمي، يؤدي إلى تغير كيفي، في بنية العقل العربي والإسلامي المعرفية، تغير كان من المفترض أن يؤدي الي تحرير هذا العقل، ودفعه إلى تبني رؤى مستقبلية، تتخذ التأويل المتولد دائما من رحم النص منهجا، بدلا من الرؤية الماضوية الدائرية للفقهاء، والمفسرين، والمحدثين، الذين أبدوا صلابة أمام الخطاب الفلسفي، وشغبوا على الفلاسفة، فحشروهم في شعاب جبال النرجسية الفكرية.

وهذا هو مكمن الخلل من وجهة نظري، فمما يثير الغيظ أن فلاسفة أوروبا في القرون الوسطى، كانوا أشجع من الفلاسفة المسلمين في عرض آرائهم، وبسطها للجمهور عامة بلا تمييز بين عامة وخاصة، الثنائية الفكرية المدمرة في بنية العقل الإسلامي، كما أنهم جابهوا دوائر الرفض الدينية، والفكرية بصلابة هائلة، انتهت بانتصار قيم العقل والتنوير، وحرقت مراحل هائلة في تاريخانية التطور.

أما الفلاسفة المسلمون، فقد وضعوا شروطا قاسية في عدم البوح بسهولة بما فتح الله به عليهم من تأويلات للجمهور، هذه الشروط الصعبة، صنعت مشكلة ليس فقط خارج الخطاب الفلسفي، بل في داخله أيضا. فالموضوع المطروح هنا في هذا الكتاب، كان مثار إشكالية شديدة، هذه الإشكالية ناقشها الأستاذ "سليمان دنيا" رحمه الله في تحقيقه لهذا الكتاب باستفاضة.

فبينما يؤكد أبو حامد الغزالي (١٠٥٨-١١١١)، في كتابه تهافت الفلاسفة على إنكار ابن سينا للبعث الجسماني، والعذاب الحسي، ينبري ابن رشد (١١٢٦-١١٩٨) مدافعا عن ابن سينا، منطلقا أولا من تجهيل الغزالي؛ لأن ابن سينا يقر بالعذاب الحسي، والبعث الجسماني في كتابه الشفاء، ثم ومع الفرضية الجدلية بقول ابن سينا بالبعث الروحاني، والحساب المعنوي، فإن ابن رشد يترافع عنه بوصفه زميلا متأولا لم يخرج من الملة؛ لأنه يؤمن بالبعث والحساب بشكل عام، ويتأول معناهما، وهي مسألة -بحسب ابن رشد- المؤول فيها خير من المقلد.

وهذا يعد دليلا واضحا على عدم وصول هذا الرأي لابن رشد، الذي يقر فيه ابن سينا في رسالته الأضحوية بمعنوية البعث والحساب، للسبب المذكور أعلاه "التواصي بالكتمان، وتعدد الخطابات".

ومن العجيب أن الفرقاء الثلاثة، ابن سينا، وابن رشد، وأبو حامد الغزالي، لم يتوافقوا توافقا تاما سوى في التواصي بالكتمان، الذي ضاع بسبه الكثير من العلم والتأويل.

فابن سينا يقول في كتابه "منطق المشرقيين" (وما جمعنا هذا الكتاب لنظهره إلا لأنفسنا -أعني الذين يقومون مقام أنفسنا-، وأما العامة، من مزاولي هذا الشأن، فقد أعطيناهم في كتاب الشفاء ما هو كثير).

ويقول الغزالي في كتابه مشكاة الأنوار (ليس كل سر يكشف ويفشى، ولا كل حقيقة تعرض وتجلى).

أما ابن رشد، الذي عاني من التكفير حيًّا وميتا، فإنه ذهب في كتابه فصل المقال، إلى حد تكفير المصرح للجمهور بالتأويل (وأما المصرح بهذه التأويلات لغير أهلها- أي للجمهور- فكافر).

لهذا صار الخلوص إلى رأي أحدهم النهائي في المسألة الواحدة، مشقة بحثية هائلة، تقع على عاتق الباحثين الجادين، وقليل ما هم.

وإذا كانت زاوية المعالجة في هذا المقال-إن جاز لنا هذا التعبير هنا - قائمة على التنديد بحالة الغموض، والكتمان التي مارسها الفلاسفة المسلمون، والتي حالت دون إنتاج آليات، وقيم فلسفية، تفضي مآلاتها إلى حالة تحديث دائمة، تراهن على المستقبل، لا الماضي كأغلب نصوص الفكر العربي الماضوية.

وهو ما فسح الساحة للفقهاء، والأصوليين، والمفسرين الذين ما فتئوا يعيدون إنتاج نفس الخطابات الشرعية القديمة عينها، وبهذا عانى الفكر الإسلامي من دائرية، جعلته حبيس القرون الأولى، حتى اللحظة الراهنة.

وعليه، فإن التبسط في عرض هذه الآراء، وإشاعتها للجمهور، يصبح أحد الفرائض الفكرية الغائبة، وهو ما سنحاول فعله هنا، ولو ببتسرة تتجنب الإخلال ما استطاعت إلى ذلك سبيلا.

في هذه الرسالة، يطرح ابن سينا رأيه في قضية البعث والحساب، التي يرى أولا أن الأجساد، ما هي إلا أوعية عابرة، ووقتية، وفانية، وأن الجسد متحول لثابت؛ هى الروح. وعليه، فإن الأصل أو الثابت هو الأحق بالبعث وحده، وأن الجسد لا لزومية له، تبعا لهذا الرأي.

أما العذاب، والنعيم، فهما معنويان لا حسيان، فيهما ترتقي النفس الخيرة، وتتدرج في معارج الكمالات، حتى تبلغ الغاية، وهذا هو قمة نعيمها. وتتردى النفس الشقية في مهاوي الشقاء، والضيق حتى المنتهى وهذا هو قمة عذابها.

فالسعادة الأخروية: (عند تخلص النفس عن البدن، وآثار الطبيعة، وتجرده كامل اللذات، ناظرا نظرا عقليا إلى ذات من له الملك الأعظم -الله عزوجل- وإلى الروحانيين-الملائكة- الذين يعبدونه، وإلى العالم الأعلى-الملكوت-، وإلى وصول كماله إليه -أي وصول الأنفس الخيرة إلى هذه الحضرة والمعية-، فاللذة الجليلة عند ذلك، والشقاوة ضد ذلك).

والأنفس الخيرة (تزداد لذات وخيرات بالتلاحق، والأنفس الشريرة، تزداد ألما وشرا بالتلاحق، فإن كل طبقة تتصل بشكلها كيفية وهيئة، اتصالا معقوليًّا، وإن لذة وألم التلاحق غير متناهية) ويقول: (نعني بهذا أن النفوس الفاضلة إذا اتصلت بها نفوس فاضلة تلذذت بها والشريرة ضد ذلك).

أما عن الآيات، والنصوص التي تحدثت بشكل مباشر، وواضح، سواء عن نعيم حسي ملموس، وعدت فيه بأنهار الخمر، واللبن، والعسل، وممارسة جنسية دائمة مع الكواعب الأتراب الأبكار، أو الآيات التي توعدت الخطاة بالنار، وبالسلاسل، والأغلال، فإنه يرى أن هذه النصوص -وكذلك فعل ابن رشد من بعده- خاطبت العرب الذين نزلت فيهم الرسالة، بخطاب واضح ومباشر يفهمونه، من باب ضرب الأمثال ليس أكثر؛ لأنهم كانوا أهل فصاحة ووضوح، لا استنباط وتفلسف، ولم يكونوا مؤهلين لتلقي علوم التأويل، التي تتجاوز الحسي إلى المجرد.وهذا هو مناط التأويل المختلف كليا عن التفسير.

والحقيقة أن الطرح التأويلي لميتافيزيقا الخلود هذا، صار الآن ضرورة لأسباب راهنة عدة؛ منها مثلا؛ أنه يجيب عن الإشكالات النسوية المثارة دائما عن مكافأة الرجل الجنسية الأخروية دون النساء (الحور العين)، ويرد على النصوص التقليدية الشارحة للنص المقدس، والتي تحمل في ثناياها وتضاعيفها نظرة ذكورية خالصة للدين والتدين بشكل عام، سواء دنيويا، أو أخرويا، كما أنه يجيب أيضا، عن أسئلة القطاعات الفئوية العريضة المهتمة بالشأن الفكري والحالة الدينية، والتي باتت تطرح أسئلة وجودية، سواء عن هائلية العذاب الأخروي وصيرورته الممتدة للأبد، أو النعيم الحسي، المفرغ من أي نشاط سواء عقلي أو بدني.

هذه القطاعات الفئوية، التي تشكلت معارفها في ظل ثورة سيبرانية منفتحة على العقائد، والأفكار بلا قيد ولا شرط، لم تعد ترضيها الإجابات التقليدية الخالية من العمق على ما تبديه من تساؤلات.

لكن يظل على رأس الأسباب التي تدعونا إلى تبني هذا الطرح، هو أن؛ التوظيف الميتافيزيقي لحسية النعيم الجسدية -الحور العين مثلا- صارت تتكيء عليه الجماعات الإرهابية في شحن أفرادها ملغمين إلى الآخرة، تلك الجماعات التي أضحت في الآونة الأخيرة شديدة الفتك، وشديدة التنظيم، ولديها قدرة عجيبة في توظيف البعد الأخروي الحسي، في خدمة أعمالها التخريبية.

لذلك، فإن التجاسر على تفكيك -ليس فقط أدبيات فقه العنف- بل الأفكار الميتافيزيقية التي توظف مآلاتها للتخريب، هو الحل.