حداثة في الشكل... رجعية في المحتوى
فئة : مقالات
لا يغرنّك قَصّة الشَّعر الحديثة، والسالفان الطويلان، وبنطال الجينز "الساحل"، ولا تخدعنّك الأساور البلاستيكية الملوّنة في معصمه الأيسر، ولا يخلبنّ لُبّك حديثه بلغات أجنبية، وتصرفاته العصرية، فخلف ذلك كله يتوارى إنسانٌ قديم ينتسب إلى العصور الوسطى بعقليته وتفكيره.
وتعكس هذه الصورة السوادَ الأعظم من الشباب العرب، وربما نضيف إليهم أيضاً الفتيات العربيات الشابات. فالطرفان ينهلان من مستنقع أفكار بالية فيما خصّ منظومة الأخلاق أو مسطرة القيم الاجتماعية. لكنّ الصورة تتبدى أكثر لدى الشباب، باعتبارهم ذكوراً ورثوا "جينات" التفوّق الأبله التي منحها لهم مجتمع مصاب بالكساح.
الشباب "العصريون" شكلاً والمتابعون أرقى صيحات الحداثة الظاهرية، يفكّرون بطريقة كان أجداد أجداهم أكثر تحضّراً منها، فهم يعتقدون أنّ المرأة موطنها المنزل، ووظيفتها الطبخ والكنس وإنجاب الأطفال ورعايتهم. وهؤلاء يخجلون من الإفصاح عن أسماء أمهاتهم، أو شقيقاتهم، لأنّ ذلك مجلبة للخزي. كيف لصديقي أن يعرف اسم أمي، وكيف لصديقتي (هم لديهم صديقات وجريلز فرندز) أن تكلّم أحداً سواي، حتى لو كنّا في جامعة راقية تعمل بالنظام الفرنسي أو الكندي أو الأمريكي. كيف لها أن ترتدي فستاناً قصيراً يعلو الركبة بسنتمترين اثنين، أو يكشف عن أطراف الكتف، ولا يرغب لصديقته (التي يطارحها الغرام ربما) أن تتأخر في العودة إلى منزلها. وإن هي سألته لماذا يحق لك أن تتأخر حتى مطلع الفجر، أجاب: أنا شاب، ويجوز لي ما لا يجوز لكِ. لكن من الذي أعطاه هذا الجواز، ومن منحه هذا التفويض؟!
إنه نظام المجتمع البطريركي، كما وصفه وحلّله المفكر هشام شرابي الذي يعلّل، في كتابه "النظام الأبوي وإشكالية تخلف المجتمع العربي" الصادر عن مركز دراسات الوحدة العربية في بيروت، 1992، نشأة هذا النظام بالصدمة التي تعرض لها المجتمع العربي عند التقائه بالحضارة الغربية منذ نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، لكنّ تلك الصدمة لم تؤد إلى تغيير القديم، بل "أدت إلى تجديده دون تغييره جذرياً".
هذا النظام الأبوي الجديد يغطي التشكيلة الاجتماعية بما هي كلية ذات أبعاد متعددة؛ اجتماعية، سياسية ونفسية في آن. يتجلى هذا النظام على المستوى الاجتماعي في البنى الاجتماعية المختلفة انطلاقاً من العائلة إلى الدولة، وعلى المستوى السياسي في نظام الحكم الاستبدادي الجاثم على المجتمع، وعلى المستوى النفسي في طبيعة الذهنية أو العقلية السائدة، كما يتجلى في الخطاب المهيمن وفي الممارسات الفردية والاجتماعية.
ويلاحظ شرابي أنّ أهم سمات النظام الأبوي عموماً، وأنموذجه الجديد خصوصاً هو قيامه على علاقة السيطرة والخضوع، أو الهيمنة والتبعية بين الرجل والمرأة، أي علاقة "استعباد المرأة"، هذه الظاهرة تشكل العمود الفقري للنظام ومن دونها يفقد جوهره الفعلي. فالمجتمع الأبوي مجتمع ذكوري، ولا يستطيع تحديد ذاته وهويته سوى من منطلق كهذا. نعم، أنا ذكر ويحقّ لي أن أفعل ما أشاء، فالمجتمع يحميني، والقيم تؤيّدني، والعادات تزوّدني بصولجانها.
لذلك نجده صاحب هذا الخطاب مفعماً بالعداء المتجذر للمرأة وكل ما يتصل بها لدرجة أنه ينفي وجودها الاجتماعي ككائن له ذاته وخصوصيته. فالمجتمع الأبوي لا مكانة ولا دور فيه للمرأة سوى لتأكيد تفوق الذكور وهيمنتهم.
ولا ينسى شرابي أن يذكّر بأنّ الأمر على المستوى الذهني أو الفكري أشدّ انغلاقاً؛ فالنظام الأبوي يتصف بالشمولية والاستبداد ورفض النقد والحوار، حتى إنّ إحدى مميزاته، على هذا المستوى، هي الادّعاء بامتلاك الحقيقة المطلقة التي لا سبيل إلى رفضها، أو الشك فيها، أو مراجعتها ونقدها. هناك، إذاً، حقيقة واحدة مطلقة يمتلكها الأب، سواء في صورته البيولوجية أو الاجتماعية (على مستوى العائلة/ الأسرة)، أو الرجل عموماً في مقابل المرأة، أو الأب في صورته السياسية ممثلاً في شخص الحاكم. وفي كل الحالات، نحن في مجال تسود فيه حجة القوة على حساب قوة الحجة.
ويقود هذا التحليل إلى الكشف عن مركّبات النقص في الشخصية الذكورية العربية التي تعاني من "شيزوفرينيا" حادة. فالرجل المتخرّج من أرقى جامعات العالم، والحاصل على درجة علمية متقدّمة، والمرتدي بذلة من أرقى دور الأزياء، لا تبدو على تفكيره أية مسحة من توهج حداثوي، فهو ينكر على الفتاة أن تحادث زميلها (مجرد محادثة) ويُرغم ابنته الصغيرة التي ما تزال تلهو بلعبتها البلاستيكية، أن ترتدي الحجاب، وأن تمتنع عن ملاعبة الصبيان، والأمر ذاته يمارسه مع زوجته، آمراً إياها (وبالإنجليزية) أن تفعل ذلك!
والفتاة الشابة التي تحرص على اقتناء كل ما هو جديد وحديث في الأزياء والهواتف، حتى لتبدو كأنها عارضة أزياء، تثرثر بأفكار عفّى عليها الزمن، ولا تجد في قلبها أي طموح باستثناء اقتناء سيارة فاخرة، والعمل ربة منزل تشرف على خادمة آسيوية تطهو الطعام، وتحرس قطعان الأسرة وترعاها، مردّدة أنّ "مملكة المرأة بيتها"، وأنّ فساد المجتمع سببه خروج المرأة إلى العمل ومزاحمتها الرجال، وفي اعتقادها الراسخ أنّ المرأة خلقت للسرير والمطبخ!
والمرأة هذه بالطبع عدوّة المرأة. وهذا ما يلمسه الناس في المناسبات التنافسية. فلو قيّض لامرأة من هذا "الطراز" أن تختار بين مرشحة أنثى ماهرة ومتفوقة ونموذج خلاق في النجاح، وبين ذكر لا مأثرة لديه، لاختارت الثاني، كأنها تعادي جنسها لغيرة أو لحسد أو لإقناع نفسها بأنّ النساء عاجزات مثلها عن القيادة والريادة وصناعة المستقبل.
وقد قارب هذه المسألة، تحليلاً وتفكيكاً، الباحث النفسي والاجتماعي مصطفى حجازي في الطبعة التاسعة من كتابه "التخلف الاجتماعي: مدخل إلى سيكولوجية الإنسان المقهور" الصادرة عن المركز الثقافي العربي، حيث يعزو تصرفات المرأة، التي تعادي جنسها وذاتها، إلى ما يُفرض على كيانها من الاستلاب من خلال ما تتعرض له من تسلط، وما يُفرض عليها من رضوخ وتبعية وإنكار لوجودها وإنسانيتها. هذه المرأة المستلبة اقتصادياً وجنسياً في البلدان النامية تعاني من استلاب أخطر بكثير وهو "الاستلاب العقائدي" ويقصد بهِ تبني المرأة لقيم سلوكية ونظرة على الوجود تتمشى مع القهر الذي فرض عليها، وتبرّره جاعلة منه جزءاً من طبيعة المرأة. وبذلك هي تقاوم تحررها وترسخ البنى التسلطيّة المتخلفة التي فرضت عليها. وأكثر من هذا أنها تعممها على الآخرين من خلال نقلها إلى أولادها؛ تنقلها إلى البنات منهم حين تفرض عليهن عملية تشريط من أجل الرضوخ للرجل "الأب والأخ والزوج" وتفرضها على الصبيان من خلال غرس النظرة الرضوخية للسلطة، والتبعية لسيادة القلة ذات الحظوة.
وبلا ريب، فإنّ هذه الترسبات الطبقيّة الكثيفة في قيعان وعي الإنسان العربي هي ما تكبّله، وتكبح تطلعاته نحو التغيير، فهو مشدود بوثاق حديدي متين إلى منظومة من الأفكار الماضوية، ولا يملك أية رؤية إلى المستقبل. هو أسير النصوص والتقاليد والأعراف، وهو رهين الخليط العجيب بين القيم والدين، ما يجعل تفكيك هذه المنظومة أمراً عسيراً، لأنّ هيمنة الأيديولوجيا والعقائد تحجب المنطق، وتحبط محاولات التفكير العقلاني. فإن أنتَ جادلت أحداً من هؤلاء، وهم الكثرة الكاثرة، أخبرك على نحو ببغائي: قال الله، وقال الرسول، وقال الخليفة الراشدي، وقال الصحابي المبشّر بالجنة. ولو أخبرته بأنّ للنصوص سياقها الزمني الذي لا يتعين، بالضرورة، أن ينسحب على سائر الأزمان والأمكنة، لما استجاب لرأيك، ولألقى عليك القول: "إن القرآن صالح لكل زمان ومكان" وهو لا يدري أنه بذلك يسيء إلى النص المقدّس ويحمّله فوق طاقته، خصوصاً إذا زاد على رأيه السابق رأياً آخر بأنّ القرآن ليس كتاباً دينياً وحسب، بل هو كتاب علمي "لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه".
وهذه وأخرى كثيرة تصطف جميعها لتشكل عوائق كأداء أمام مشوار التنوير، ولتفصح عن تجذّر التخلّف في البنى الغوريّة للنفس، ما يجعل إعادة البناء أمراً شاقاً، لكنه ليس مستحيلاً.
التغيير، إن شئناه حقيقياً، يحتاج إلى ثورة معرفية تعيد غربلة كل المؤثرات الثقافية التي تسهم في إنتاج التفكير. التغيير كذلك ميدانه العقل، وإبداع آليات مبتكرة تعيد صياغة برمجة عصبية وعقلية تفضي إلى خلاصات جديدة تقدّم أسئلة أكثر ما تعطي إجابات، وتنشغل في المستقبل أكثر من إقامتها في الماضي والراهن، وتدرك أنّ المجتمع بمثابة قارب في عُرض البحر، وأنه لا يتحرك إلا بمجذافين قويين هما المرأة والرجل، وإن تخلّف أحدهما عن الآخر، أو استقوى عليه اهتزّ المركب، ونهشته الأمواج!