حركات الإسلام السياسي في محاربة الصّوفيّة
فئة : مقالات
تتّسم علاقة حركات الإسلام السّياسي الحديثة والمعاصرة بالصوفيّة بكثير من التوتّر والتشنّج والعداء لأسباب دينيّة وسياسيّة؛ إنّ استقراء تاريخ الصّلة بين الطيفين أفضى إلى حقيقة واضحة جليّة مفادها أنّ هذه العلاقة المتوتّرة ليست وليدة اليوم، بل إنّ لها جذورا ضاربة في الماضي، منذ نشأة التصوّف الإسلامي مع نهاية القرن الثّاني من الهجرة. ومنذ ذلك التّاريخ، ما فتئت تلك العلاقة تتطوّر نحو الأسوأ، حتّى إنّها تلطّخت في مناسبات عدّة بكثير من الدّماء.
1- ومضات من مواقف العلماء والسّاسة من الصّوفيّة:
كان الصّوفيّة منذ نشأتهم محلّ رفض وإدانة من ممثّلي الإسلام السّنّي علماء وساسة بتعلّة أنّ التصوّف بدعة وضلالة، وأنّ أهله يستحدثون عقائد وطريقا في المعرفة ومظاهر في السّلوك ما أنزل الله بها من سلطان.
وفي المقابل، كان الصّوفيّة الرّوّاد يدافعون عن عقائدهم ومواقفهم بإثبات صدورها عن الكتاب والسّنّة واتصالها الوثيق بتعاليم الإسلام وعقائده، مثلما كان يردّد إمام الطّائفة الجنيد البغدادي (ت 298 هـ): "من لم يحفظ القرآن الكريم، ولم يكتب الحديث لا يقتدى به في هذا الأمر، لأنّ علمنا مقيّد بالكتاب والسنّة"[1].
وبالرّغم ممّا أبداه الصّوفيّة من حرص على تأصيل عقائدهم ومقالاتهم في الإسلام، فإنّهم كانوا غالبا متّهمين في دينهم، ومن ثمّ عرضة لصنوف من المعاقبة المعنويّة والمادّيّة، ولعلّ هذا الشّاهد من كتاب "اللّمع" من أحسن الأدلّة على ما كابده الصّوفيّة من محن جرّاء موقف العلماء والسّاسة منهم، يقول السّرّاج الطّوسي واصفا مواقف الفقهاء والسّاسة من الصّوفيّة واعتداءاتهم عليهم: "لو ذكرت قصص هؤلاء (الفقهاء والسّاسة خصوم الصّوفيّة) وما أعلم من اعتدائهم على هذه الطائفة قديما وحديثا يطول (كذا)، ولكن نذكر من ذلك طرفا إن شاء الله. فمنها ما وقع لذي النّون المصري، حيث شهدوا عليه بالكفر والزندقة ورفعوه إلى السّلطان (..) وأمّا عمرو بن عثمان المكّي: كان عنده حروف فيه شيء من العلوم الخاصّة. فوقع في يدي بعض تلامذته فأخذ الكتاب وهرب، فلمّا علم بذلك عمرو بن عثمان قال: سوف يقطع يديه ورجليه ويضرب عنقه (..) وأمّا أبو العبّاس أحمد بن عطاء مع جلالته وسعة علمه وحسن ألفاظه رفع إلى السّلطان ونسب إلى الكفر والزندقة فدعاه الوزير، وهو "علي بن عيسى" فزجره وجفا عليه في الكلام. فقال له ابن عطاء: ارفق يا رجل، فغضب عليه، كما بلغني، فأمر حتّى نزعوا خفّه وصفعوه به، وكان ذلك سبب موته"[2].
لقد كان التّحالف قائما بين الفقيه والسّلطان في محاربة الصّوفيّة؛ فالأوّل يكفّر، والثّاني يقتّل.
ومع نهاية القرن الثّالث من الهجرة، سيتشدّد موقف الفقهاء ورجال السّلطة من الصّوفيّة أكثر فأكثر، وستكون محاكمة الحلاّج ثمّ قتله علامة فارقة في تاريخ معاداة ممثّلي الإسلام السّنّي من علماء وساسة لأعلام التصوّف، ولا سيّما أنّ الحلاّج قد اتّهم بضربين من الخروج: خروج عن الدّين، وخروج عن طاعة السّلطان، فقد كان الحلاّج مناهضا لنظام الحكم القائم، فكان يدعو إلى حكومة أرواح بدل حكومة الأشباح الموسومة وقتها بالضعف والتشرذم الدّيني والسّياسي في عهد الخليفة المقتدر بالله العبّاسي[3].
ولقد مثّل الحلاّج، وقد أعدم بسبب أفكاره سنة 309 هجريا، أوّل ضحيّة من ضحايا الموقف المتشدّد من الصّوفيّة، ولن يتوقّف الأمر عند هذا الحدث الجلل وغير المسبوق في تاريخ العلاقة بين المتصوفة وخصومهم بما أنّ موجة الإدانة ستتنامى على مرّ القرون، وسيكون ممثّلو المذهب الحنبلي أكثر ضراوة في معاداة الصّوفيّة، فرأس المذهب أحمد بن حنبل (ت241 هـ/ 780م) نهى عن حضور مجالس الحارث المحاسبي الصّوفي (ت 243هـ/857م) بتعلّة خوضه في جدل عقائدي. واعتبر ابن الجوزي (ت 597 هـ/1201م) الصّوفيّة مبتدعةً[4] وكفارا فقتل السهروردي وتلميذه عين القضاة الهمذاني سنة 586 من الهجرة بتهمة الكفر. ونعتهم ابن تيمية (728هـ/1328م) بـ"أهل الوحدة من الملاحدة"[5].
وبالرّغم من بعض الدّعوات إلى ضرورة رأب الصّدع بين أهل السّنّة والصّوفيّة، والتي تزعمها بالخصوص أبو حامد الغزالي، إلاّ أنّ تلك الدّعوات لم تزد عن كونها صيحة في وادي. فما إن هلّ عصر النهضة مع بداية القرن الثامن عشر للميلاد، حتّى ظهرت الحركة الوهّابيّة، سليلة الحنبليّة، فاتّخذت من الصّوفيّة عدوّها اللّدود، ومن مقاومتهم واجبا دينيّا مقدّسا، على خلفيّة أنّ التصوّف بدعة وضرب من الشّرك، إذ يقدس الصّوفيّة الأولياء أحياء وأمواتا ويتخذونهم وسطاء بين الله وعباده. وحصل الأمر نفسه مع "جمعيّة العلماء الجزائريّين" التي أسّسها ابن باديس، وجعل من أهمّ بنودها مقاومة التصوّف.
وكان معظم مفكّري عصر النّهضة من السّلفيّة المحافظة أعداء ألدّاء للصّوفيّة، فقد كان جمال الدّين الأفغاني (1838/1897) شديدا عليهم، إذ وصفهم بأنّهم "الذين يتّخذون الإيمان بالقضاء والقدر سبيلا إلى القعود عن طلب الرّزق"، وأصدر حكمه بأنّ "هؤلاء الذين لا يفهمون من التوكّل إلاّ معنى التواكل يستحبّ إزالتهم وتنقية الهيئة الاجتماعيّة من درنهم؛ لأنّ آراءهم ليست على وفاق مع الدّين"[6].
وقد تابع محمّد رشيد رضا (1865/ 1935م) مسيرة أستاذه في الاحتراز من التصوّف وإدانته والدعوة إلى مقاومته؛ لأنّه لا يزيد عن كونه بدعة وضلالة وخروجا عن ظاهر النّصّ وسنّة السّلف[7].
لقد حاولنا في هذا المدخل المطوّل الإبانة عن الموقف من الصّوفيّة من النّشأة إلى العصر الحديث؛ لأنّ الحديث في موقف الحركات الإسلاميّة المعاصرة من المتصوّفة، لا يمكن أن يكون واضح المعالم نشأةً وتطوّرًا ومآلاً، ما لم تتّضح جذور ذلك الموقف ومساراته عبر الأزمنة، ولا سيّما أنّ المواقف الرّاهنة مازالت تحكمها أسباب وملابسات قديمة ظلّت تتكرّر وتستعاد على أنّها من الثّوابت التي لا يمكن فصلها عن التّصوّف قديما وحديثا، فبعض الحجج التي استند عليها خصوم التصوّف القدامى في إدانته ومعاداته ومحاربة أعلامه، مازالت سلاح المعاصرين في حربهم مع أهل التصوّف، وسيتبدّى ذلك جليّا من خلال تعقّب مواقف مختلف روافد الإسلام السّياسي من الصّوفيّة من حركة الإخوان المسلمين إلى تنظيم الدّولة الإسلاميّة.
2- الإسلام السّياسي والصّوفيّة:
2-1 - حركة الإخوان والصّوفيّة:
لقد تربّى حسن البنّا (1906/1949) مؤسّس حركة الإخوان المسلمين في أحضان التصوّف، إذ كان من مريدي الطريقة الحصافيّة، وتذكر بعض المصادر أنّ حسن البنّا حينما عزم على تأسيس "جمعيّة الإخوان المسلمين الخيريّة" قبل أن تتحوّل إلى حركة سياسيّة، وجد معارضة من شيخه وأستاذه عبد الوهاب الحصافي، حتّى إنّه أطرد لاحقا من الطريقة، ما يعني أنّ علاقة حسن البنّا بالطّرق الصّوفيّة انتهت إلى القطيعة النّهائيّة، وعلينا أن نفهم أنّ مأتى هذه القطيعة ليس لأسباب شخصيّة أو ذاتيّة، بل لأسباب موضوعيّة متمثّلة أساسا في الاختلاف في المنهج وفي الأهداف لكلّ من الطّريقة الصّوفيّة الحصافيّة وحركة الإخوان المسلمين التي ستغلّب تدريجيّا الرّهان السّياسي على الرّهان الدّعوي، وهو ما يتنافى والتّصوّر الصّوفي لمهامّ الطّريقة.
لقد نشأت جماعة الإخوان أوّلا على أنّها جمعيّة خيريّة على غرار الجمعيّات الخيريّة التي كانت منتشرة وقتها، ولكن بعد ما يربو عن العقد من الزّمن، استبدّ البعد السّياسي بتوجّه الجمعيّة في ظروف تاريخيّة عصيبة مرّت بها مصر، لعلّ أهمّها الاحتلال العسكري وسعي المصريّين لنيل استقلالهم. هذا التّوجّه السّياسي الغالب أفضى إلى تصادم مع السّلطة السّياسيّة. وفي الوقت نفسه، كان موقف الحركة الإسلاميّة من الصّوفيّة شبيها بموقفهم من السّلطة، فالإخوان لم يكونوا ينظرون إلى المشهد السّياسي الصّوفي بعين الرّضا، فالصّوفيّة إمّا أن يكونوا معرضين عن السّياسة على أساس أنّها من شواغل الدّنيا ورغبات النّفوس الغافلة عن ذكر الله، وإمّا أن يكونوا مهادنين للسّلطة موالين لها مدافعين عن توجّهاتها. ثمّ إنّ الإخوان يرون في التّوجّه الصّوفي عائقا أمام تحقيق مشروعهم الهادف إلى توحيد الصّفّ الإسلامي والقضاء على دابر الخلاف بين أطيافه، وعليه فلن يقبلوا تعدّدا خارج رحاب الجماعة.
ونظرا للتغلغل الصّوفي في صفوف العامّة ولثقل حضورهم في المجتمع، كان الصّوفيّة دائما في مرمى سهام الحركة الإخوانيّة. وليس غريبا أن يعتبر سيّد قطب (1906/1966) الصّوفيّة جزءا من المجتمع الجاهلي الذي دعا إلى محاربته.
إنّ موقف حركة الإخوان من الصّوفيّة، وإن كان في ظاهره دينيّا فهو بالأساس موقف سياسيّ، ولا سيّما أن التّاريخ يشهد أنّ الطّرق الصّوفيّة كانت في معظم الأحيان الملاذ الذي يلوذ به السّاسة في محاربة الإسلام السّياسي المتطرّف. ولنا في ما كان يلقاه حكّام مصر، عبد النّاصر ثمّ السّادات وحسني مبارك، وأخيرا السّيسي الذي قوّض سلطة الإخوان، من دعم الصّوفيّة وموالاتهم.
وبالرّغم من مناهضة الإخوان للصّوفيّة، فإنّ موقفهم لم يكن بالغلوّ الذي سيسم مواقف بعض أطياف الإسلام السّياسي الجهادي مثل جماعة التكفير والهجرة والجماعة المسلّحة، وخاصّة تنظيم الدّولة الإسلاميّة الذي يقف مع الصّوفيّة على طرفي نقيض، ويشنّ عليهم ضربات متلاحقة. ويهمّنا في هذا العنصر أن نتعقّب موقف تنظيم الدّولة من الصّوفيّة ودواعي هذا الموقف ونتائجه.
2-2 - تنظيم الدّولة والصّوفيّة:
مهما اختلفت التسميات والمشارب والرّهانات، فإنّ حركات الإسلام السّياسي الجهاديّة مجمّعة حول تبديع الصّوفيّة وتكفيرهم، ومن ثمّ تكون محاربتهم وتقتيلهم واجبا دينيّا مقدّسا. ولعلّ موقف تنظيم الدّولة (داعش) من الصّوفيّة وطريقة تعامله معهم أحسن مثال على العداء المستفحل بين الطّائفتين.
لنتّفق أوّلا أنّ هذا التنظيم السّياسي الجهادي يتغذّى بالأيديولوجيا الحنبليّة المعروفة بتشدّدها وغلوّها معتقدا ومسلكاً، وعليه سنتبيّن أنّ داعش ترمي الصّوفيّة اليوم بالتّهم نفسها التي سبق أن رماهم بها السّابقون من أمثال ابن الجوزي وابن تيمية ومحمّد بن عبد الوهاب مؤسّس الحركة الوهّابيّة، وجمال الدّين الأفغاني ومحمّد رشيد رضا وغيرهم، يقول أميرهم في "مجلّة النّبأ" الدّاعشيّة عن صوفيّي مصر اليوم: "الشّرك بالله انتشر في أوساط الطّرق بشكل كبير، حتّى هرم عليه الكبار ونشأ عليه الصّغار فعظمت البلوى واشتدّت المصيبة، فهم يعتقدون النّفع والضّرر في الأموات، ويصرفون لهم شتّى أنواع العبادات كالدّعاء والاستغاثة والتّوكّل والذّبح والطّواف، واتّخذوهم وسائط بينهم وبين الله –سبحانه وتعالى- ولذلك فإنّهم يتبعون طواغيتهم وشيوخهم في باطلهم، ويؤدّون لهم السّمع والطّاعة العمياء في كلّ الأقوال والأفعال"[8].
فالصّوفيّة، من منظور تنظيم الدّولة الإسلاميّة، مشركون بما أنّهم يعبدون أولياءهم ويطيعونهم طاعة عمياء، هذا من النّاحية الدّينيّة، أمّا سياسيّا فجرم الصّوفيّة الأعظم "اتّباع الطّواغيت"؛ أي إنّ السّلوك الصّوفي مختزل في "عبادة القبور ومن في القصور". وهذا يعني أنّ شطط الحركة الإسلاميّة الجهاديّة في إدانة الصّوفيّة والسّعي إلى استئصالهم مردّه سببان رئيسيّان: سبب أوّل دينيّ، نشأ مع نشأة التّصوّف وظلّ إلى اليوم يطاردهم، ومفاده أنّ التّصوّف شرك وضلالة. أمّا السّبب الثّاني فسياسي، وهو طارئ فقد ظهر في الوقت الذي تغوّل فيه البعد السّياسي على توجّه تلك الحركات، ومفاد هذا السّبب أنّ الصّوفيّة - من منظور الإسلام السّياسي- مهادنة للسّلطة الحاكمة موالية للطّواغيت – حسب تعبير الحركات الجهاديّة – بل هي متحالفة مع السّلطة في استهدافها بشتّى ضروب الأسلحة المتاحة، ولا سيّما أنّ بعض الأنظمة العربيّة الرّاهنة في مصر والجزائر والمغرب وغيرها، اتّخذت من "الإسلام الوسطي" سلاحا لمحاربة الإسلام السّياسي العنيف.
إنّ الحكم بإدانة الصّوفيّة لم يتوقّف عند البعدين الدّيني والسّياسي فحسب، بل إنّ ثمّة جانبا آخر خلافيّا على غاية من الأهمّيّة في تقديرنا، وهو المسألة الفكريّة والمتمثّلة أساسا في تمثّل كلّ طرف لمفهوم الجهاد الوارد في النّصوص الدّينيّة.
إنّ الجهاد في قاموس الحركات الدّينيّة الجهاديّة يعني بصورة عامّة مقاتلة الآخر المختلف في العقيدة والتفكير والسّلوك[9]، وهو الوسيلة الأنجع في مقارعة العدوّ السّياسي والوصول إلى السّلطة، سواء كان هذا العدوّ داخليّا أو خارجيّا؛ فالمهمّ أنّ كلمة "جهاد" الواردة في القرآن تعني لدى الحركات الإسلاميّة المعاصرة -كتنظيم الدّولة الإسلاميّة- الفعل الحربي العنيف. أمّا عند الصّوفيّة، فالجهاد الحقيقي هو الفعل المرتدّ نحو الذّات قصد تهذيبها وتقويمها وفطمها عن المعاصي وتوجيهها نحو التقرّب من خالقها. أمّا مقاتلة الآخر، فلا تجوز إلاّ إذا كان غازيا محتلاّ.
يضاف إلى هذا الاختلاف العميق في تصوّر مفهوم الجهاد، ما يسوّقه الخطاب الصّوفي من قيم دينيّة وإنسانيّة عامّة مثل نبذ العنف والدّعوة إلى التّسامح والمحبّة والزّهد. وإذا كان العنف هو سلاح معظم حركات الإسلام السّياسي المعاصرة، فإنّ الزّهد والمحبّة والتّسامح ثالوث الصّوفيّة المقدّس في مواجهة العنف الصّادر عن تلك الحركات.
إنّ هذه الاختلافات الحادّة في القناعات والمسلّمات العقديّة والفكريّة هي التي أسهمت في تغذية عداء حركات الإسلام السّياسي للصّوفيّة، وهو عداء لم يتوقّف عند حدّ التّكفير والإخراج من الملّة، بل ترجم بممارسة أقصى ضروب العنف وأشدّها تجاههم. فقد عمدت بعض حركات الإسلام السّياسي من أمثال القاعدة وأنصار الشّريعة وتنظيم الدّولة الإسلاميّة (المعروف بداعش) إلى مقاومة الوجود الصّوفي، فتنامت عمليّات الخطف والتّقتيل والتّفجير مع موجة "الرّبيع العربي"؛ ففي تونس وقع الاعتداء على عديد الأضرحة والزّوايا الّصوفيّة بتعلّة أنّها من رموز الكفر والضلالة. وكذا الشّأن في ليبيا وسوريا، حيث تعرّضت عديد المقامات والأضرحة إلى عمليّات هدم وتخريب. وكان تنظيم الدّولة قد طالب، أيّام سطوته على مدينة سرت اللّيبيّة بعد سقوط نظام القذّافي، الصّوفيّة بوجوب إعلان التّوبة والرّجوع إلى ما يسمّونه "جادّة الصّواب" وإلاّ أهدر دمهم.
وتبقى صوفيّة مصر أكثر من تلقّى ضربات موجعة من الحركات الجهاديّة وخاصّة تنظيم الدّولة، علما أنّ الطّرق الصوفيّة المصريّة كانت دائما مهادنة للسّلطة مدعّمة لها، متحالفة معها في مواجهة العنف الجهادي، وحسبنا أن نذكّر بمشهد لقاء السّيسي مقوّض نظام حكم الإخوان في مصر بوفد الطّرق الصّوفيّة أثناء حملته الانتخابيّة في مايو 2014، وإعلان زين العابدين فهمي سلامة خليفة خلفاء الطّرق دعم أعضاء الطّرق للمشير عبد الفتّاح السّيسي؛ لأنّه "صوفي" حسب زعمهم. وفي الوقت نفسه، أوضح أنّ الإخوان يهاجمون الطّرق الصّوفيّة بشكل مستمرّ؛ لأنّهم لا يحبّون أولياء الله الصّالحين.
لم يغفر تنظيم الدّولة الإسلاميّة لصوفيّة مصر وقوفهم مع السّلطة، ودعمهم للمشير عبد الفتّاح السّيسي العدوّ اللّدود للإخوان، ولحركات الإسلام السّياسي والجهادي عامّة. والدّليل أنّ هذا التّنظيم قد قام بهدم عديد الأضرحة والزّوايا وخطف بعض شيوخ الطّرق وقتلهم من أمثال الشّيخ سليمان أبو حرّاز أكبر شيوخ سيناء والبالغ من العمر 98 عاما، وقد أعلن تنظيم الرّايات السّود الدّاعشي ذبحه في نوفمبر سنة 2016. كما وقع ذبح الشيخ أقطيفان المنصوري في السّنة نفسها. ويبقى تفجير مسجد الرّوضة في شمال سيناء أشدّ ما تعرّض إليه الصّوفيّة من اعتداء على مرّ التّاريخ. هذا المسجد التّابع للطريقة الصّوفيّة "الجريريّة" أسفرت عمليّة تفجيره عن مقتل مائتين وخمسة وثلاثين شخصا وإصابة ما يزيد عن المائة والعشرين. كان ذلك يوم الرابع والعشرين من نوفمبر سنة سبع عشرة وألفين (2017).
ويتعرّض الصّوفيّة في سوريا والعراق إلى اعتداءات متكرّرة من مختلف تشكيلات الإسلام السّياسي على خلفيّة معتقداتهم ومقالاتهم ومواقفهم السّياسيّة المهادنة للسّلطة.
الخاتمة:
يبدو أفق العلاقة بين الإسلام السّياسي والصّوفيّة مسدودا، واستصفاء الحساب بين الطّرفين مرشّح للمزيد من العنف وإراقة الدّماء، ولا سيّما إذا علمنا أنّ قوى خارجيّة تدخّلت على الخطّ لتصبّ المزيد من الزّيت على النّار الملتهبة أصلا. فعديد المؤشّرات تثبت أنّ أوروبا وأمريكا بدأتا تعوّلان على الإسلام الصّوفي "المتسامح والمرن والمنفتح" في معركتها مع التنظيمات الإسلامويّة المتطرّفة، والتي سبق أن وجّهت لأوروبا وأمريكا ضربات موجعة، لعلّ أهمّها هجوم الحادي عشر من سبتمبر 2001على مقرّات سياديّة في أمريكا، وعديد الهجمات الإرهابيّة على دول أوروبيّة كفرنسا وألمانيا.. وممّا يثير حنق الإسلام السّياسي، ويضاعف جهوده في محاربة الصّوفيّة محاولة الكيان الصّهيوني نفسه ركوب موجة الإسلام الصّوفي "السّلمي" في مواجهة الحركات الفلسطينية المناضلة.
ويوجد عامل آخر مهمّ في تعميق هوّة الخلاف والصّراع بين الطّيفين، وهو تنازع الحقيقة الدّينيّة؛ ذلك أنّ كلّ طرف يدّعي أنّه الممثّل الوحيد للحقيقة والمؤهّل الوحيد، ليكون الجهة التي تنطق بها.
هذه المعطيات وغيرها تشكّل ذرائع حركات الإسلام السياسي والجهادي في سعيها الدّؤوب لقطع دابر المتصوّفة أنّى وُجدوا.
قائمة المصادر والمراجع:
- محمد علي أبو ريان: كيف أبيح دم السهروردي الإشراقي: مجلة الثقافة، العدد 702، حزيران / يونيو، 1952
- جمال الدّين الأفغاني: الأعمال الكاملة، تحقيق محمّد عمارة، المؤسّسة المصريّة العامّة للتأليف والنشر، ط1، 1968
- أبو العباس أحمد بن تيمية: مجموع الفتاوى، مكتبة المعارف، الرباط، د. ت.
- أبو الفرج عبد الرحمان بن الجوزي: تلبيس إبليس، إدارة الطباعة المنيريّة، ط3، 1368 هـ.
- توفيق بن عامر: موقف الفقهاء من الصوفية في الفكر الإسلامي، حولية الجامعة التونسية، العدد 39، 1995
- عبد الكريم الخطيب: التصوف والمتصوفة في مواجهة الإسلام، دار الفكر العربي، 1980
- عبيد الخليفي، الجهاد لدى الحركات الإسلاميّة المعاصرة من جماعة الإخوان إلى تنظيم الدّولة الإسلاميّة.
- محمد رشيد رضا: تاريخ الأستاذ الإمام، 3ج، مطبعة المنار، ج1، 1931
- أبو نصر السّرّاج الطّوسي: اللّمع، دار الكتب الحديثة بمصر ومكتبة المثنّى ببغداد، ط1، 1960
- أبو القاسم القشيري: الرّسالة القشيريّة، دار الخير، ط2، 1995
- لويس ماسينيون: آلام الحلاّج، ترجمة الحسين مصطفى حلاج، دار قدمس للنشر، دمشق 2004
- مجلة النّبأ الألكترونيّة، عدد58، ديسمبر 2016
- نورالدين المكشر: الولاية في التراث الصوفي، بحث في الأبعاد النظرية والوظيفية، مؤمنون بلا حدود للأبحاث والدراسات، ط1، 2018
[1] أبو القاسم القشيري: الرّسالة القشيريّة، دار الخير، ط2، 1995، ص 431
[2] أبو نصر السّرّاج الطّوسي: اللّمع، دار الكتب الحديثة بمصر ومكتبة المثنّى ببغداد، ط1، 1960، ص 497-501
[3] راجع ما كانت تشكّله أفكار الحلاّج من خطر محدق برجل السّياسة في: ماسينيون: آلام الحلاّج، ترجمة الحسين مصطفى حلاج، دار قدمس للنشر، دمشق 2004
[4] ابن الجوزي: تلبيس إبليس، إدارة الطباعة المنيريّة، ط3، 1368 هـ.
[5] ابن تيمية: مجموع الفتاوى، مكتبة المعارف، الرباط، د. ت.
[6] جمال الدّين الأفغاني: الأعمال الكاملة، تحقيق محمّد عمارة، المؤسّسة المصريّة العامّة للتأليف والنشر، ط1، 1968، ص 297
[7] راجع بالخصوص الفصل الذي عقده في "تاريخ التصوّف الإسلامي"، ضمن كتاب: تاريخ الأستاذ الإمام، 3ج، مطبعة المنار، ج1، 1931، ص ص 109- 126
[8] النّبأ الإلكترونية، عدد58، ديسمبر 2016
[9] لمزيد من الاطّلاع على مفهوم الجهاد لدى الحركات الإسلاميّة، يمكن الرّجوع إلى كتاب عبيد الخليفي، الجهاد لدى الحركات الإسلاميّة المعاصرة من جماعة الإخوان إلى تنظيم الدّولة الإسلاميّة.