حركة الترجمة في الحضارة الإسلاميَّة
فئة : مقالات
إنَّ المترصِّد للترجمة في الحضارة الإسلامية يتبين أنَّ قوة هذه الحضارة وحضورها بالشكل الذي هي عليه اليوم، كانت الترجمة منبعه الثاني بعد الإسلام، فهي التي ضخَّت فيها الطاقة التي جعلتها حاضرة بقوة عبر التاريخ. والجدير بالملاحظة هو أنَّ الترجمة في محطاتها الكبرى دائماً تأتي بعد مرحلة ضعف أو انقطاع في التقدم لتردم الهوَّة بين الماضي والحاضر، أو لتبني حاضراً جديداً، وباعتماد هذا المعيار أو ذاك يتضح أنَّ الحضارة الإسلامية مرَّت بتجربتين هامتين وأساسيتين في الترجمة، شكلتا دوراً أساسياً في شكلها كما يحضر اليوم:
1ـ حركة الترجمة في العصر العباسي:
وهي التجربة الأولى التي ابتدأت على يد العباسيين وخاصة على يد المأمون، وكان المسلمون في البداية يعتمدون على طريقة الترجمة الأمينة؛ أي الترجمة الحرفية التي تركز على الشكل كثيراً، والمعنى ينساب منها. وكانت آنذاك الكتب المنقولة كتباً فلسفية في الأساس، على اعتبار أنَّ التخصص وفطام العلوم عن الفلسفة لم يتم إلا ابتداء من القرن الخامس عشر، فكان المسلمون قد "اهتموا بنقل علوم اليونان وترجمتها [...] بواسطة علماء السريان"[1]، ممَّا جعل النصوص تأخذ صبغة غامضة، لأنَّ الوسط الذي نشأت فيه هو غير الوسط الإسلامي، وبالتالي فلغتها وشواهدها وحتى الأمثلة التي سترد فيها ستكون غريبة عن الجو الإسلامي، ممَّا سيشكل عسر الفهم. وأعتقد أنَّه السبب نفسه الذي دفع ابن الصلاح إلى إطلاق قولته الشهيرة: «من تمنطق تزندق»، التي كانت نتيجة لمحنته الطويلة في محاولته فهم المنطق التي انتهت بالفشل. فكان الفارابي ـ ولو من ناحية فلسفية ـ هو أول من تجاوز الترجمة الحرفية إلى الترجمة التقريبية، وهناك من يعتبر ترجمات الفارابي مؤلفات في حد ذاتها، لأنَّ الرجل هضم كتب أرسطو وأعاد ترجمتها إلى اللغة العربية بصيغة تحفظ منطق المعنى كما ورد عند اليونان، وتصون منطق الفهم كما هو وارد في اللغة العربية.
وما يسوِّغ إمكان هذا الطرح هو قول أحد كبار المترجمين باعتماد مبدأ التقريب التداولي، وهو ابن حزم الأندلسي الذي كتب يقول: "إنَّ سلفاً من الحكماء قبل زماننا جمعوا كتباً رتبوا فيها فروق وقوع المسميات تحت الأسماء التي اتفقت جميع الأمم في معانيها، وإن اختلفت في أسمائها التي يقع بها التعبير"[2]. بذلك تصبح الترجمة هي محاولة الاقتراب من الشيء باقتصاد في القول واستغناء عن اللغو، باستعمال ما هو متداول بين الناس، لأنَّ كلَّ ما يلحق الترجمة من سوء فهم ويجعلها تُنعت بالفساد، إنَّما هو آتٍ من إيراد المعاني "بألفاظ غير عامية ولا فاشية الاستعمال"[3]، فيما الترجمة التداولية تقتضي توظيف مصطلحات سهلة وبسيطة يستوي في فهمها العامة والخاصة من الناس، كما يقدر على استيعاب معانيها العامّي والعالِم.
إنَّ الأندلس حين فتحتْ من طرف المسلمين ساد فيها علم الفقه واللغة، باعتبارهما من أساسيات الدين الإسلامي، وكانا هما مقياس العلم ومعيار العالِم، وليس لغير المتمكن منهما أن يكون عالماً، إذ كان للفقيه سلطة، وابن حزم كان فقيهاً، فخولت له سلطته الإطلاع على كتب اليونان وعلومهم وتحديداً المنطق الأرسطي، بالرغم من أنَّه يُعتبر زندقة، وذلك بهدف التمكن من مجال اشتغاله وحاجته إلى تطوير نظرية العدالة التي شغلت التفكير الديني الإسلامي، وستستمر على الحال نفسها إلى حدود ابن رشد، الذي عُرف بالمترجم أو الشارح الأكبر لأرسطو، فإنَّ ترجمتَه إلى لغة الغرب قد بعثت فيهم نهضة غربية.
2ـ حركة الترجمة في العصر العربي الحديث:
وهي التجربة الثانية للحضارة الإسلامية في الترجمة، فكما هو معلوم "أنَّ حركة الترجمة في العصر الحديث من مطلع القرن التاسع عشر، وهو القرن الذي شهد بداية النهضة الفكرية العربية الحديثة"[4]، وانتقال الذات العربية من العصر العباسي إلى العصر الحديث، هو أكبر تعبير عن عملية الترجمة باعتبارها انتقالاً للمعنى من لغة إلى أخرى، وأكبر تعبير عن أنًّ الذات العربية تبحث عن ذاتها مرة أخرى، محاولة ردم الهوَّة التي خلفها الزمن في الذات العربية ما بين العصر العباسي والعصر الحديث، في محاولة لمواكبة التطور الحاصل في العالم والتغيرات التي تطرأ عليه.
إنَّ حركة الترجمة في العصر الحديث ولدت مجموعة من المترجمين والشراح الذين كان لهم الفضل في النهضة العربية، بدءاً من رفاعة الطهطاوي، وأحمد فارس الشدياق، وسلامة موسى، وأديب إسحاق، وفرح أنطون وغيرهم في تأثرهم بالغرب، وخاصة عصر النهضة والأنوار الأوروبية. وقد أثر ظهور المطبعة في حركة الترجمة في ذلك الوقت، وإن كانت الترجمات في البداية ذات طابع ديني، أو هي كتب دينية مثل: تاريخ المسيح والسيف القاطع والتعليم المسيحي، التي كانت تطبع في أوروبا ثمَّ تُصدَّر إلى العالم العربي والمشرقي على الخصوص، إلا أنَّ ظهور أول مطبعة في لبنان والشرق العربي وهي مطبعة دير ما قزحيا[5]، كان له الدور الكبير في تنشيط عملية الترجمة وتطوير المترجمين من خلال توفير الكتب وتسهيل عملية القراءة، وبالتالي بعث التفكير من جديد.
إنَّ الترجمة هي تجديد دائم للحاضر الذي نوجد فيه، إذ هي الجسر الذي يجعلنا مواكبين لكلِّ التطورات العلمية في كلِّ العصور، وإن حصلت في ثقافة غير الثقافة العربية، فالحضارة الإسلامية تطورت وانتعشت بفعل ممارسة الترجمة، لكن ربما عندما أحسَّت بقوتها العلمية تخلت عن الترجمة لأنَّها لم تعد في حاجة إليها، فقد كانت تترجم ما تدعو إليه الحاجة فقط، لكن من زاوية أخرى نلاحظ أنَّه بتخلي الحضارة الإسلامية عن الترجمة غابت المنافسة العلمية وبدأت في الانكماش والتهلهل العلمي. وهذا ما يؤكد أنَّ الترجمة قوة، وقوة الحضارة من قوة ترجمتها ومترجميها، وأعتقد أنَّ هذا ما انتبه له الغرب الذي يترجم اليوم حتى بعد أن صار قوياً، فمازال يترجم كلَّ شيء ويطلع على جميع الأشياء. لأنَّ الممارسة والمراس كافيان في نظري لأن يحول التطبع إلى الأصل؛ وهو ما حصل بالنسبة إلى الحضارة الإسلامية في عصرها الذهبي، وهو ما حصل للحضارة الغربية في حقبتها الحديثة، وهي كلها تجارب تاريخية حقيقية تؤكد إمكانية تحويل التطبع إلى طبع، أي أكثر أصالة وأقرب إلى الحقيقة.
إنَّ المستعصي في الترجمة يُحوِّل المترجم إلى شاعر ومبدع، حيث تتجاوز الترجمة إبلاغ الكلمات والمعاني إلى صناعة الأفق، لأنَّ الترجمة في حقيقتها تتجاوز مستوى اللغة إلى اللحظة التاريخية التي تعجز الأنا عن إدراكها، ومن هنا أصبحنا كما يرى فالتر بنيامين نتحدث عن العلاقة الحميميَّة بين اللغات، وهو القول الذي لا يختلف كثيراً عن قول ابن حزم الأندلسي الذي استشهدنا به فيما سبق. وهذا ما يؤكد ضرورة العودة إلى النصوص الأصلية، إلى جانب ما جدَّ في العلم الذي ينتجه الآخر، باعتبارها نصوصاً دوماً آتية وكأنَّ الزمن يسقيها ذهباً حتى تصبح ذهبية، فأصبح كلُّ تقدُّم في الزمن يتقدَّم النص الأصلي نحو شبابه.
ومن منظور الزمن أصبحت الترجمة تتجاوز النقل من لغة إلى لغة، إلى ترجمة للحظة تاريخية بلحظة تاريخية أخرى، لأنَّ الوعي لا يتمُّ مرَّة واحدة وإلى الأبد، لهذا ففعل الترجمة دوما آتٍ، وقوة وعي الحضارة دوماً متوقفة على الترجمة، بما في ذلك الحضارة الإسلامية. فأن نترجم تحمل معنى أن نفكر نفسه، وأن نفكر بمعنى الترجمة فهي جمع لما بين التراث العربي الإسلامي وما أنتجه الغرب من العلوم، وعملية الجمع هذه هي تشكيل الذات العربيَّة التي طال البحث عنها فيما بين الغرب وتراث الحضارة العربيَّة الإسلاميَّة.
المصادر والمراجع
- ابن حزم الأندلسي، التقريب لحد المنطق والمدخل إليه بالألفاظ العامية والأمثلة الفقهية، تحقيق أحمد فريد المزيري، لبنان، دار الكتب العلمية.
- بول ريكور، عن الترجمة، ترجمة حسن خمري، الطبعة الأولى، الجزائر، الدار الغربية للعلوم ناشرون، 2008.
- طه عبد الرحمن، روح الحداثة، الطبعة الأولى، المغرب، المركز الثقافي العربي، 2006.
- لطيف زيتوني، حركة الترجمة في عصر النهضة، لبنان، دار النهار، 1994.
- نصر الدين جار النبي سليمان، «حركة الترجمة وأثرها الحضاري في عصر العباسيين الأول (132-232هـ)»، مجلة جامعة شندي، العدد الأول، يناير 2004.
[1] نصر الدين جار النبي سليمان، «حركة الترجمة وأثرها الحضاري في عصر العباسيين الأول (132-232هـ)»، مجلة جامعة شندي، العدد الأول، يناير 2004، ص 83
[2] ابن حزم الأندلسي، التقريب لحد المنطق والمدخل إليه بالألفاظ العامية والأمثلة الفقهية، تحقيق أحمد فريد المزيري، لبنان، دار الكتب العلمية، ص 12
[3] المصدر نفسه، ص 14
[4] طه عبد الرحمن، روح الحداثة، الطبعة الأولى، المغرب، المركز الثقافي العربي، 2006، ص 148
[5] لطيف زيتوني، المصدر نفسه، ص 15