حروب "مانعي الزكاة": ردّة سياسية وليست دينيّة
فئة : مقالات
تشكّل الإسلام في الزمن والتاريخ، وحمل توتراته، ونسبيته وتحولاته، وانتمى إلى بيئة ومجتمع خاض داخلهما جداله، لكنّه ظلّ في بناء صاعد وحركي، يحقّق على خريطته الاجتماعية والطبقية، ممارساته، ويختبر رهاناته الجديدة؛ فيعيد بناء القيم والأفكار، ويصوغ المنظومة المعرفية والسلوكية للأفراد، بالتعديل والتغيير تارة، أو تجديد الشرعية والهيمنة، تارة أخرى.
وبما أنّ ظاهرة العنف المقدس، وتنامي التنظيمات المسلحة، التي تمارس "الجهاد" عبر تأويلات دينية وتفويض إلهي؛ تستدعي فحص مرتكزاتها الفكرية والعقائدية؛ التي تستمد شرعيتها منها، والشروط التي تؤسّس عليها عملياتها العدوانية، من خلال التماهي، مع حوادث العنف والحروب في التاريخ، المرتبطة به عضوياً؛ إذ تعيد شحذ طاقتها المعنوية، وحماسها الأيديولوجي والعقائدي، وبناء دعايتها، من خلال هذا الاتصال المقلوب، الذي يجعل رأس التاريخ، يندفع فيه الدم باستمرار، وتضطر الأعضاء المتصلة به، إلى الوقوع في حالة تشنج مستمر.
في بنية كلّ حضارة، يتعيّن العنف ويترافق ومسيرة المجتمعات، ونشوء الدولة ومؤسساتها، للدفاع عن الجماعة والأيديولوجيا والطبقة، والدفاع عن مصالحهم، كما يتوجه العنف بآليات ومستويات متفاوتة، ويعبر نحو الآخر، من خلال الحروب والعدوان المباشر، وتفعيل الأنشطة العقابية بالسجن وغيرها، أو بشكل غير مباشر، وبصورة غير مرئية، تكون منتشرة في نسيج الجسم الاجتماعي الذي يقمع المعارضين والمختلفين، وينبذهم، فيشكل ضدّهم ما يشبه "الوصمة"؛ التي تجعل وجودهم قلقاً ومشوهاً، فينزاح باستمرار خارج الكتلة "الرسمية"، التي تظل تحفر، بالدرجة نفسها، داخل ذواتهم ووجودهم الاجتماعي، بما يشبه التعرية والعزل.
توتر التاريخ وصراع السياسة
تحمل حروب الردّة، التي خاضها الخليفة أبو بكر الصدّيق، أثناء توليه حكم المسلمين، عقب وفاة الرسول، أكثر من إشكالية، يتسبب فيها الخلط بين الديني والسياسي، المتسبِّب فيه موقع الصدّيق الذي احتله، وعدم تحديده بدقة، وتحريره من الالتباس نتيجة خلافته للرسول، وحصاد مشروعية دينية، تبعاً لذلك، تتماهى مع نبوته، وهو ما يحتاج إلى فضّ المسافة التي تجعل دوره سعياً مغايراً، باتجاه بناء الدولة وتقويتها وتوسيع حدودها، وتعزيز قيمها التي تأسست على الإسلام.
تحمل حروب الردّة أكثر من إشكالية، يتسبب فيها الخلط بين الديني والسياسي
الدولة التي تحولت قيمها إلى أيديولوجيا، تتحدد صحة التأويلات العقائدية فيها والممارسة الدينية، بناء على سلامة ومتانة العلاقة مع السلطة، ونظام الدولة ومؤسساتها، دون استنزافها أو سحب القوة منها، وتقاسم أطراف أو جماعات أخرى منها تلك الهيمنة.
ماذا يعني مصطلح "الردّة"؟
ورد مصطلح "الردّة" في عدة سور قرآنية، منها: "البقرة والمائدة ومحمد؛ ويعني: الانتكاث عن الدين. وتاريخياً؛ كان المصطلح الذي يؤدي ذلك المعنى هو "الصابئ"، الذي لحق بالرسول، بمجرد أن بدأت تظهر عليه إرهاصات الوحي، والأمر نفسه تكرّر مع إعلان الصحابي عمر بن الخطاب، الإيمان بالرسالة المحمدية.
إذن، الردّة لغة: الرجوع عن الشيء لغيره، وشرعاً: الرجوع عن الإسلام، والكفر به والتشكيك في صحته، أو إبدال دين بدين آخر.
ولمصطلح الردّة، الذي وصفت به الحرب، معناه المباشر، في السياق التداولي للحظة خاصة، ودلالة استعمالاته، ما يطرح سؤالاً حول مدى صحة ذلك الوصف، ومطابقته للحدث وظروفه.
ثمة إشارة ينبغي أن نعرج عليها، وهي أنّ النصوص التأسيسية، لتشريع حد الردّة، كمثل حديث النبي: "أًمِرتُ أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله وأني محمد رسول الله، فإذا قالوها فقد عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله"[1].
وحديث آخر هو "من بدل دينه فاقتلوه"، الذي ورد في صحيح البخاري، نقلاً عن أبي بكر الجزائري فى "منهاج المسلم".[2]
وحديث أخير؛ "لا يحل دم امرئٍ مسلم إلا بإحدى ثلاث: الثيب (المتزوج الزاني) والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة"، في صحيح البخاري.[3]
هذه النصوص التأسيسيّة، عبّرت عن حضور النص الديني، في دعم شرعية دولة يثرب، في ظل واقع حربي وصراع عسكري، بين معسكري النبي، من ناحية، وقريش وحلفائها، من ناحية أخرى، وبالتالي، تبرز العلاقة العضوية بين الظاهرتين الدينية والسياسية، التي تجعل من الأولى بمثابة وحدة دينية وأيدولوجية، تستدعي القبول بسلطة النبي والولاء لدولته الجديدة، في آن معاً.
بيد أنّ المحرّض الرئيس في حروب الردّة أو "مانعي الزكاة"، على وجه الدقة، كما يرد ذكره في العديد من مصنفات التاريخ الإسلامي التي بحثت في الموضوع، كان بخصوص رفض بعض القبائل، تقديم الزكاة إلى الخليفة أبي بكر، رغم أنّ الزكاة، كان يدفعها المؤمنون طواعية للرسول، دون أن يسجل التاريخ، طول عهد النبي، حادثة اعتراض أو عصيان مشابهة.
كان المحرض الرئيس في حروب الردّة رفض بعض القبائل تقديم الزكاة إلى الخليفة أبي بكر
نشوء الدولة في الإسلام وأدلجة الدين
بعد وفاة النبي، ارتدّت أحياء كثيرة من الأعراب، بحسب تعليق ابن كثير في تأريخه، واشتدّ النفاق في المدينة، وكان خطر الأعراب حول المدينة هائلاً، وانضمت إلى مسيلمة، قبائل حنيفة واليمامة، وانضمّ إلى طليحة الأسدي قبائل أسد وطيء، وآخرون، فادّعى النبوة مثل مسيلمة.
نفذ أبو بكر وصية الرسول، عند الموت، بإرسال حملة أسامة بن زيد، فأصبحت المدينة بلا جيش قوي يحميها، ما شجع الأعراب المحيطة بالمدينة، فتجمعوا حولها، ما جعل أبا بكر يكوّن مجموعات حراسة حول المدينة، يقودهم علي والزبير وطلحة وسعد بن أبي وقاص وابن مسعود وعبد الرحمن بن عوف.
يضاف إلى ذلك أنّه "في ذلك الوقت العصيب، جاءت وفود القبائل التي رفعت راية العصيان، تفاوض الصدّيق، على رفض الزكاة وعدم تأديتها، وقد أشار الصحابة، ومنهم عمر بن الخطاب على أبي بكر الصديق، بأن يصالحهم على ذلك، إلى أن تتحسن أحوال المسلمين، فرفض الصديق، وقال: "والله لو منعوني عقالًا كانوا يؤدونه إلى رسول الله لقاتلتهم عليه"[4].
ويبدو أنّ الإشارات السياسية، التي تمخض عنها لقاء أبي بكر مع وفود القبائل واضحة في دلالاتها وصريحة، بأنّ هؤلاء إنّما ينشقون بأنفسهم عن مركزية الدولة، ويهدّدون سلامتها، فليس ثمة تلميح، إلى كفرهم ومراوغتهم في الإيمان والعقيدة، لكنّ الردّة كانت على سلطة الدولة الإسلامية الناشئة.
جدل الوحدة الدينية والسياسية بين القبائل
يقول الباحث المصري، الدكتور أحمد صبحي منصور، في كتابه "حد الردّة": "إنّ حروب الردّة هي مجرد حركة مسلحة استهدفت القضاء السياسي على الدولة الإسلامية، وقد واجهها أبو بكر الصديق بالسلاح نفسه، ليدافع عن الدولة الناشئة، وبعد إخمادها دخل أبو بكر الصديق بالعرب، عصراً جديداً بالفتوحات في العراق والشام".[5]
ويشير، في المصدر نفسه، إلى أنّ ما فعله أبو بكر الصديق، ليس مصدراً للتشريع، ولذلك خالفه عمر وبعض الصحابة، في اجتهاده السياسي؛ رغم أنّه أصاب في موقفه السياسي والحربي، واستطاع أن ينقذ المسلمين من تلك الهجمة القبلية المتخلفة[6].
إذن يتضح أنّ النبي، في تاريخية ممارسته للنبوة، لم يخرج عن الإطار المنوط به من تبليغ الدعوة، دون تدخل منه، وتعدٍّ عن كونه مخاطباً في الوحي، ومبلِّغاً للرسالة، دون أن تكون له يد أخرى مباشرة ورئيسة، استهدف من خلالها، إعادة بناء وتركيب الواقع الاجتماعي والسياسي، بحسب ما يتلاءم مع دعوته.
فالوحدة العربية، التي كانت موجودة، لم تكن وحدة سياسية؛ لأنّ النبيّ لم يؤسس لدولة ذات كيان سياسي، ونظام قضائي وإداري، كما لم يغير من أساليب حكمهم، القائمة في شيء، ومن ثم لم يمسّ صلاتهم الاجتماعية والسياسية، بينما ظلّت الوحدة الدينية العروة الوثقى والشيء الجامع بينهم.
النبي والصديق: خضوع الإيمان وهيمنة السياسة
حين جاء أبو بكر الصديق، وحدث ذلك الصراع الذي واجه حكمه الجديد، ورفضت بعض القبائل دفع الزكاة له، كانت وراءه مجموعة من العوامل والاعتبارات، المتمثلة في النفور الطبقي بين الكيانات غير المتآلفة معاً، لجباية الأموال منهم، وهو ما يعبّر عنه بوضوح "مالك بن نويره"، من قبيلة تميم، الذي عبّر عن أسباب رفض تأديته الزكاة لأبي بكر "القرشي"، بما يفصح عن صراع اجتماعي وهوياتي، بالأساس؛ حيث أعلن، في المقابل، أنّه رغم ذلك، ما يزال على دين الإسلام، قبل ضرب عنقه، ومن ثم، كان خضوع الناس للنبي، خضوع إيمان ليس مردّه سلطان سياسي.
القتال بسيف الله
يوضح الدكتور عاصم حفني، أستاذ العلوم الإسلامية، في معهد الدراسات الشرق أوسطية، في جامعة فيليبس بمدينة ماربورغ، أنّ الردّة تعني في اصطلاح الفقهاء: "الكفر بعد الإسلام"، وذلك فعل منبوذ قرآناً وسنة، ويرجع تاريخ المصطلح إلى ما عرف بـ "حروب الردّة" التي قام بها الخليفة الأول، أبو بكر الصديق، ضدّ من عرفوا بالمرتدين، لكن المفارقة أنّ رسالة أبي بكر التي حملها جنده لم تذكر كلمة "ردّة"؛ بل خاطبتهم بـ "بلغني رجوع من رجع منكم عن دينه"، بحسب تاريخ الطبري، الذي عنون هذه الرسالة بـ "كتاب أبي بكر إلى القبائل المرتدة"[7].
وبحسب حفني؛ فإنّ خلاف أبي بكر مع عمر بن الخطاب، حول شرعية قتال من يشهد بالشهادتين، يوحي بأنّ سبب القتال لم يكن العقيدة؛ بل التدابير السياسية والاقتصادية الضرورية لقيام دولة الإسلام، ويمكن استنتاج ذلك من الرسالة نفسها، التي أمر فيها أبو بكر جنده، بعدم قبول غير الإسلام، ممن رجع عنهـا، ثم ربط ذلك بآدائهم "ما عليهم"، وليس متصوراً أن يقصد بذلك ما لم يؤدونه من صيام وصلاة، مدة رجوعهم عن الإسلام، بل المتصور عقلاً، هو أداء ما امتنعوا عنه من زكاة، هي التي كانت سبباً في قتالهم.
إنّ خلاف أبي بكر مع عمر بن الخطاب، حول شرعية قتال من يشهد بالشهادتين، يوحي بأنّ سبب القتال لم يكن العقيدة؛ بل التدابير السياسية والاقتصادية الضرورية لقيام دولة الإسلام
وقد أردف حفني قائلا: "ثمة خلط نشأ بين الديني والسياسي، بناء على نظرة الفقيه لعلاقة الدين بالمجتمع؛ حيث كان ينظر إلى الدين بوصفه الرابط الجديد، بين أتباعه بعد أن كانت تربطهم القرابة الأسرية "المصاهرة"، أو التحالفات القبلية، وكما كان الانضمام للقبيلة والخضوع لرأي زعيمها، يمثل نوعاً من الحماية، كانت مخالفة ما يراه أتباع الدين، كرابط جديد فقداناً لحماية هؤلاء الأتباع، الذين تولَّد لديهم خوف من هذا المارق، الذي قد ينضم إلى العدو بحثاً عن الحماية".
وإلى ذلك، يقول حفني، إنّ الفقه الإسلامي لم يكن يعرف مصطلح الدولة، كأرض وشعب ونظام حكم دستوري، يسري على جميع المواطنين، دون النظر إلى عقيدتهم، فمصطلح الدولة كان يشير إلى الأسرة الحاكمة؛ كالدولة الأموية والعباسية، والكلمة مشتقة من الدوران والتعاقب؛ أيّ التداول، بمعنى: تداول الأسر الحاكمة للحكم فيما بينها، ومن ثم ربط الفقه والدولة أو الأمة برباط الدين، قسَّم الأرض إلى "دار إسلام" و"دار حرب".
ويؤكّد أستاذ الدراسات الإسلامية، أنّ القرآن لا يذكر عقوبة دنيوية للمرتد، بحسب نص الآية: "من شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر"، في حين أنّه يذكر عقوبات دنيوية لذنوب أقل درجة، كالسرقة مثلاً، لأثرها في سلامة المجتمع، ممّا يوجب التفريق بين المعتقد الشخصي، وفعل يضرّ الغير. أمّا الحديث النبوي، فهو بشريّ المصدر، ويأتي في سياق التجربة الاجتماعية والسياسية والتاريخية؛ فيتعاطى مع واقع الجماعة آنذاك، ويضع عقوبة دنيوية لمن يعرف بالمرتد، على اعتبار أنّ الخارج عن الدين، ليس خارجاً من الجماعة فقط، بل عليها أيضاً؛ أي أنّ عقوبة المرتد المعروفة، لا تتعلق بالعقيدة من الأساس؛ بل هي عقوبة سياسيّة أشبه بالخيانة العظمى، رأى الحاكم أنّها مناسبة في حينها، ومن حقّ أيّ حاكم، أو مشرِّع آخر، تعديلها أو تقييدها أو إسقاطها.
[1] صحيح مسلم وصحيح البخارى نقلاً عن الواقدى فى كتاب "الردّة". دار الفرقان. عمان/ الأردن. الطبعة الاولى 1991. ص 32، 36
[2] نفس المصدر، ص 28
[3] نفس المصدر، ص 85
[4] حد الردّة. احمد صبحي منصور. دار الانتشار العربي- بيروت/ لبنان، 2008، ص 42
[5] حد الردّة. احمد صبحي منصور. دار الانتشار العربي- بيروت/ لبنان، 2008، ص 42
[6] حد الردّة. احمد صبحي منصور. دار الانتشار العربي- بيروت/ لبنان، 2008
[7] ما ورد عن الباحث عاصم حفني خصّ به الكاتب أثناء الردّ على أسئلته أثناء إعداد المادة.