حسن العطار... وصدمة المعرفة
فئة : مقالات
تحددت بدايات ما سمي بعصر النهضة والإصلاح في المجال العربي والإسلامي الحديث، مع تشكل وعي نهضوي جديد، ظل يتسع ويتنامى ويأخذ مداه مع مرور الوقت، ويترك أثره وتأثيره في ساحة الأمة، وخاصة بين النخب الفكرية والدينية.
وجاء تشكل هذا الوعي الجديد، على خلفية التعرف على تجربة مدنية متقدمة في ميادين العلوم والمعارف الحديثة، نبهت العقل المسلم على إمكانية المقارنة والموازنة بين عالم الغرب المتقدم وعالم الشرق المتأخر، ووضعت حالنا وأحوالنا في دائرة النظر والانتباه، وتكشفت الفروقات والمفارقات بين حالنا وحال غيرنا من الأمم التي سلكت طريق التقدم، الوضع الذي كشف وجود فجوة حضارية متعاظمة، باتت تفصلنا نحن العرب والمسلمين عن عالم الغرب وعلومه ومعارفه الحديثة.
لعل أوضح وأبلغ من عبر عن هذا الوعي النهضوي الجديد آنذاك، هو الشيخ الأزهري حسن العطار (1180-1250هـ/ 1766-1835م)، حين أطلق مقولته الشهيرة: (إنّ بلادنا لا بد أن تتغير أحوالها، ويتجدد بها من المعارف ما ليس فيها).
هذه المقولة التي ظلت تتردد منذ ذلك الوقت إلى اليوم، لا شك أنّها ليست من نمط المقولات العادية أو العفوية أو العابرة، ولا ينبغي النظر إليها والتعامل معها بهذه الطريقة، وذلك لكونها من نمط المقولات الواعية، التي لها وزنها واعتبارها الدلالي والتاريخي.
وسجلت هذه المقولة، لحظة تاريخية جعلتها في دائرة التذكر دائمًا عند الكتاب والباحثين والمؤرخين عربًا ومسلمين وحتى أوروبيين ومستشرقين. لحظة وجد الدكتور فهمي جدعان أنّها جعلت من حسن العطار أول معبر أصيل لفكرة التقدم في القرن التاسع عشر، وحسب قوله في كتابه (الماضي في الحاضر.. دراسات في تشكلات ومسالك التجربة الفكرية العربية): (بات لزامًا أن نعتقد بأنّ فكرة التقدم قد وجدت في حسن العطار أول معبر أصيل عنها في القرن التاسع عشر).
وتتأكد قيمة هذه المقولة الواعية، أنّها لم تمر وتمضي هكذا، من دون أن تترك أثرًا وتأثيرًا واضحًا وفعليًّا، حالها كحال غيرها من المقولات التي مرت وعبرت وخرجت من دائرة التذكر إلى دائرة النسيان، بخلاف هذا الحال تمامًا، فإنّ هذه المقولة تركت أثرًا واضحًا وكبيرًا وممتدًّا مع الزمن، وأثمرت مكاسب وإنجازات كبيرة وعظيمة، بقيت في ذاكرة التاريخ، وفي سجل المؤرخين.
وحين توقف الدكتور غالي شكري (1935-1998م)، أمام هذه المقولة في كتابه (النهضة والسقوط في الفكر المصري الحديث) أعطاها بعدًا تربويًّا عميقًا وبعيد المدى، إذ اعتبر أنّ كلماتها ستربي رموزًا متعاقبة من رموز النهضة التي لم يكن الأزهر بعيداً عنها.
ومن ثمرات هذه المقولة وإنجازاتها، البعثات العلمية إلى أوروبا في عهد محمد علي باشا (1769-1849م)، الذي تسلم السلطة في مصر سنة 1805م، وعاصره الشيخ العطار وكان على تواصل معه، وجاءت هذه البعثات لتحصيل العلوم والمعارف الحديثة من أجل أن يتجدد في البلاد من المعارف ما ليس فيها، وذلك أثرًا وعملاً بمقولة الشيخ العطار.
ويرى الدكتور فهمي جدعان في كتابه (أسس التقدم عند مفكري الإسلام في العالم العربي الحديث) أنّ هذه البعثات ربما حصلت بتأثير من الشيخ العطار نفسه، الذي وجه بضرورة إرسال البعثات العلمية إلى الديار الأوروبية وإلى فرنسا بالذات، التي رأى العطار طرفًا من علومها الحديثة عند الفرنسيين الغزاة.
وعدت هذه البعثات العلمية في نظر المؤرخين لاحقًا، بوصفها من أهم الأعمال والمنجزات في عهد محمد علي باشا، ومن شدة أهميتها أصبحت حدثًا يؤرخ له بعناية، ويجري تذكره باهتمام في الدراسات الفكرية والتاريخية، خاصة وأنّه اتصل بمحاولة مبكرة في بناء دولة حديثة كادت تغير صورة العالم العربي ووجهته، أو بعضًا من هذه الصورة.
ومن ثمرات تلك المقولة أيضًا، أنّها أسهمت في بزوغ عقل مميز ترك أثرًا وتأثيرًا واضحًا وكبيرًا في بلورة اتجاهات التجديد والإصلاح وتدعيمها في المجالين العربي والإسلامي، هو الشيخ الأزهري رفاعة الطهطاوي (1216-1290هـ/1801-1873م)، تلميذ الشيخ العطار، والمقرب عنده، وهو الذي ظل يقدمه ويعرف به، وسعى من أجله لدى محمد علي، ليشغل بعض المهام الدينية، فعين إمامًا في الجيش، ومن ثم إمامًا واعظا لأول بعثة علمية إلى فرنسا.