حضور "الديني" في رواية "ابن القبطية"
فئة : مقالات
1. الرواية
صدر حديثا عن “دار الكتب خان” للنشر، رواية “ابن القبطية” للأديب المصري المتعدد المواهب وليد علاء الدين.
عالج فيها الكاتب موضوعَيْ التعايش الديني والنفاق الاجتماعي، وهما من القضايا المطروحة للنقاش بحدة في مجتمعاتنا. وقد تجرّأ وليد علاء الدين بشجاعته الأدبية وروح المبادرة على طرحهما، في وقت يحجم فيه كثير من الكتّاب على ملامسة مثل هذه الموضوعات الشائكة. ومن خلال الموضوعين أبرز كثيرًا من الظواهر الشائنة التي يعانيها المجتمع، فوجّه لها سهام النقد من خلال كلام شخوص الرواية وتعليقاتها ونقاشاتها: يوسف وأمه ومنذر وجورج وراحيل، وغيرهم.
يوسف ابن القبطية شاب ذو ميول أدبية مرهف الحس، منحدر من أم مسيحية وأب مسلم، فعلى الرغم من أنّ جده مسيحي، إلا أنّه وافق على اقتران أمه بأبيه المسلم. ومراعاةً لعقيدة الزوجة، علق الزوج في غرفتهما الصليبَ بجوارِ آيةِ الكرسي. إلا أنّ صراع الهوية ظل مهيمنًا على تفكير يوسف مؤرقًا له، يترجمه تنازع البطل يوسف بين تيارين إسلامي يمثله منذر وجماعته الإسلامية ومسيحي يمثله جورج. إنّها الصورة التي يحدق فيها في مجتمعنا المتخلف. وعلى الرغم من الدور الإيجابي البارز لأمه التي تحرص على دعمه نفسيًّا واجتماعيًّا وعقليًّا، فهي تمثل أنموذجًا هامًّا للتسامح، وتحرص على توفير ظروف الاستقرار النفسي والعاطفي لابنها يوسف.
وفي مقاربة هذا النص الروائي الجديد، أمكن رصد تضخّم لـ"الديني" الذي بدا مهيمنًا على سائر مظاهر الحياة الاجتماعية والفردية للشخوص الذين يحيون في صفحات الرواية ويحرّكون أحداثها ووقائعها.
2. حضور الديني المتضخّم
نقصد بتضخّم الديني في هذا المقال، الاستعمال الزائد عن الحد للخطاب الديني من ناحية، والتأويل الحرفي الخارج عن مكتسبات المعارف، سواء منها الإسلامية القديمة أو الإنسانية الحديثة، في قراءة الخطابات، من طرف أيّ كان، من ناحية ثانية. وعندما يسود تضخّم الديني، في الممارسة والتأويل، ينفصل الدين عن التديّن.
في الرواية كما في الحياة، بسط الديني سيادته على ما سواه. ولم يقف الأمر عند هذا الحدّ. بل إنّ الأسرة وهي المؤسسة الاجتماعية التقليدية، شجعت على التمسّك بالمعنى الحرفي للنص الديني، بما يتعارض مع تاريخ الفكر الإنساني الذي يزخر به الركام الثقافي في كل الحضارات الإسلامية والمسيحية واليهودية وغيرها.
فالدين يظل على حاله الأول، لا يتضخم ولا يتقزّم، إنّما التديّن هو الذي يَضْعُف أو يتضخم متأثرًا بعوامل وأسباب اقتصادية وسياسية واجتماعية شتى، يضيق المجال بذكرها في هذه المقالة.
تضخّم الديني اليوم أفضى إلى إفراغ الأديان من قيمها التي بنت الحضارة الإنسانية في الماضي، وتعطيها في الحاضر فرصة التجدد والاندماج في الحركية الكونية للمعتـقدات الدينية.
حضور "الديني" طاغ في الرواية، يشرئبّ برأسه بَدْءًا من عنوانها، ويواصل الحضور في ثناياها بشكل متكرر وكثيف ومتعدد الأوجه، من خلال أهم الشخوص، يوسف ورث الإسلام عن والده المسلم الصوفي، منذر داعية مسلم، جورج مسيحي يتصدى للأسلمة، راحيل يهودية رافضة ليهوديتها التقليدية.
عبر يوسف بطل الرواية بوضوح عن تضخم الديني خلال ارتساماته حول صومعة مسجد حيّه: (يشرئبّ إليه صوت الأذان، يبثه ميكروفون الجامع المثبت على مئذنته المنتصبة نهاية الحي، وتساءل عن جدوى هذا الارتفاع الكبير والإعلان المبالغ فيه عن الوجود، الحي صغير، والجميع يعرفون الطريق إلى المسجد ولن يضيع أحد)[1].
الديني المتضخم يبدو أيضًا من الحرص الشديد لمنذر على أسلمة مجتمع متعدد الهويات الدينية واللغوية والإثنية والثقافية، يجتهد منذر في سبيل إدماج قسري للطوائف الأخرى واختراق لعوالمها الخاصة بها. فهو لا يكف عن تضييق الخناق على يوسف ومحاصرته لأجل دعوة أمّه إلى الإسلام.
جورج يحذّر يوسف كل حين حتى لا ينساق وراء دعوة منذر التي يعدّها يوسف خديعة، ويقول له جورج (جئت لأحذّرك يا يوسف؛ المجتمع الذي يُسمّي ما يفعله منذر ورفاقه دعوةً وعملاً خيرياً، يسمّي ما نقوم به تنصيراً)[2].
3. خطاب التأثيم
خطاب التأثيم طاغٍ في حياتنا الدينية والاجتماعية، يُؤَثِّم ويُكَفِّر الناس والمجتمع. يحرص هذا الخطاب على رصد سلوك الأفراد، وتفسيره أسْوَأ تفسير، إساءةً للظن بالناس، ولا يَكُفُّ عن التهديد بجهنم وسوء المصير، بشكل فج مثير للتقزز والاشمئزاز.
لم تَغْفَل الرواية عن موضوع التشدد الديني وخطاب التأثيم، من خلال الواعظ الذي تجرأ من تلقاء نفسه على توجيه الوعظ بطريق اللوم ليوسف حين شاهده يعانق عوده ويعزف عليه: (قاطعه ذو اللحية، أخذ يوزع نظراته الغاضبة على يوسف وعلى عوده الذي يحتضنه إلى صدره برفق. سلقه بعينين جاحظتين لهما حواف حمراء ملتهبة، قبل أن يوبّخه بأدب لزج: أما قال لك أحد إنّ المزيكا حرام؟! وخصوصاً العود والعياذ بالله. جف حلق يوسف، وشعر أنّ ساقيه ترتجفان، وجد في القذارة الملجأ الوحيد من ذي اللحية الذي لم يحوّل عينيه عنه. علقت كلماتُ الرجل في ذهنه كما يعلق خفاش في ظلام الزوايا)[3].
وقضيّة التعارض بين الرغبات الشخصية الطبيعية البريئة، كحبّ الموسيقى، وبين الأحكام الاجتماعية المعبّر عنها من خلال سلوك التدين الشعبي المتشدد الذي يمثله أصحاب اللحى، الذين يروّجون لقمع الرغبات الشخصية والزهد في كل مظاهر الجمال.
ذهنية التحريم في العقل الديني، تدفع الكثير من الوعاظ والمتديّنين إلى التلذّذ بتحريم الأشياء، فتكثر الاحتياطات، وتنميها الأوهام بتصوّرات أخرى جديدة عن شبهات متخيلة، كان الجميع في غنًى عنها. هذا التدين المتشدد يجعل الناس يحسّون بأنّ الدين تقييد شديد لهم، وحَذَرٌ لا حَدَّ لَهُ من كثير من مظاهر الحياة وفعالياتها، وهو ما يؤدي إلى نشوء شعور بالقلق يؤرق النفس.
المتشبع بذهنية التحريم (كلماته عدوانية، محمولة على أكتاف غليظة ونظرة مستهينة، هؤلاء الذين يقطر اليقين منهم لا يستمعون، فقط يتكلمون، هل كان يغير من الأمر شيئاً إن قلت له إنّ الله لا يخلق الأشياء الجميلة ليحرمنا منها)[4].
4. الأزمة الوجودية
التدين الخاطئ المتضخم جعل الله عز وجل موضع خلاف بين الأطراف المتصارعة على توسيع نفوذها الاجتماعي. يوسف يتلقى الضربات من صديقيه منذر وجورج، يقول منذر: (لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً، خير لك من أن يكون لك حمر النعم، يكفيك فخراً وعزّاً يوم القيامة أجرُ الإخلاص وأجر الهداية، وأجر البِرّ، فأيّ أجر تنتظر، وأيّ عزّ تطلب؟)[5]؛ ويقول جورج: (فَكِّرْ… هم يَعِدونك بثواب الآخرة، نحن نُضيف إليه المستقبل الذي تريده، شريطة أن لا تنصاع إلى هؤلاء. إذا قررت أن تنضم إلى صفوفنا، لتكون عوناً لنا على حركات الأسلمة التي يمارسها هؤلاء على الجميع، وعلى بناتنا على وجه الخصوص)[6].
وجد يوسف نفسه محاصراً، بين منذر وجورج. اجتهد يوسف لكي يتخلّص من هذا الأسر المرعب، ولكنه لا يعرف كيف يمكنه أن يخرج من هذا العالم، اجتهد في التملص، فاجتهد كل منهما في سحبه إلى ناحيته.
لابدّ ليوسف أن يعلن عن موقفه الواضح من الطرفين، يوسف يريد أن يكسب نفسه، يصر على حياده: (لا دخل لي بهذه أو تلك)، يردّ عليه جورج إنّ الحياد موقف سلبي مرفوض، لأنّ الموضوع متعلق بوجود.
وبوعي وطني وروح تسامح وقبول اختلاف، يتساءل يوسف: ألا يمكن أن يوجد كل منكما في الوقت نفسه؟ جواب جورج مفاجئ إقصائي ومتعصب، (وجود كل منا منتقص بوجود الآخر) [7].
فجورج مثل منذر، يريد الكل أو لا شيء، ويرفض التعايش مع غيره في ظل مصر التي اتسعت منذ نشوئها للجميع.
5. التصوّف
شكل آخر من أشكال التدين، أشارت إليه الرواية بشكل دافئ مرن غير صادم، وهو التصوّف، تجلى من خلال شخصيتين اثنتين، الأولى مولانا جلال الدين الرومي، دفين قونية بتركيا، زاره يوسف ذات مرّة، فظلت الزيارة عالقة بذاكرته، مولانا شخصية دينية كان يحظى في حياته بتقدير كبير من كل الطوائف الدينية، استطاع أن يجمع حوله المسلمين والمسيحيين واليهود، في ضريحه، يستحضر يوسف مع الذكرى (متعته بصوت الناي الشجي الذي كان يملأ المكان ولا يشغله)[8]. إيمان قوي وروح رقيقة تتذوق الجمال وتقدّره، دون أن تجد في ذلك تعارضًا مع الدين.
الشخصية الصوفية الثانية يمثلها أبو يوسف. الذي يعبد الله حبًّا فيه وليس خوفًا منه. (أبي قال مرة وحيدة وأخيرة في جدال مع صديقه الملتحي: العشق الذي تلوم عليه، هو من فتح قلبي لرؤية الإسلام كدين إنساني"، كان صديقه يحذّره من شطحات التصوف، وأبي يضحك حتى تبين نواجذه، ويقول تعبدون خوفكم ونعبد حبّنا)[9].
هذه النزعة الصوفية المتسامحة الغارقة في المحبة، استطاعت أن تقضي على الحواجز التي وضعها الناس بين الأديان، فلم يكن الله موضع خلاف بين حسين المسلم الصعيدي وزوجته المسيحية (لم يكن الله أبداً محل خلاف بين أبي وأمي، كانت آية الكرسي معلقة قرب أيقونة المسيح المصلوب في غرفتهما)[10].
راحيل المصرية ذات الأصول اليهودية، لا تفتأ أمها تذكّرها بيهوديتها، (فَأَنْظُرُ إلى بابا، يغمز لي بعينيه ويقول: مصرية)[11]. تصرّ أمها على تحريضها وزرع الكراهية في نفسها، مذكرة إياها بما عانته من اضطهاد على يد المسلمين، مقابل أب يصرّ على مواطنتها قبل ديانتها. قرّرت راحيل تعميق تكوينها بدراسة اللاهوت بحثًا عن الحقيقة، فتبين لها أنّ عنصر الخوف كان دائمًا دافع الناس إلى التديّن، والخوف باعث على الصراع بين الناس، لذلك قرّرت أن تعلن تحديها للعالم، ولن تتزوج يهوديًّا ولا نصرانيًّا ولا مسلمًا، (سوف أتزوج إنسانًا فحسب، ولست واثقة أنّني سوف أجده)[12].
6. السؤال الكبير
دين التوحيد واحد، انبثقت منه شرائع اختلفت وتباعدت، على الرغم من وجود نقاط كثيرة مشتركة جامعة بينها. لكن الشرائع اختطفها أشخاص فسّروها وفق أهوائهم ومآربهم، تخندقوا خلف نصوص فَصَّلوها على مَقاسهم وجَمَّدوها، واعتقدوا، أنّهم ينفردون بامتلاك الحقيقة، أو هكذا تهيأ لهم، وأنّهم مأمورون بهداية الإنسانية.
السؤال الكبير الذي تتمحور حوله الرواية هو: لماذا يصعب إلى هذا الحد أن نتعامل مع الإنسان في صورته المطلقة؟ بغض النظر عن دينه ولونه أو جنسه[13]؟
يقول الروائي على لسان راحيل: إنّ كثيرين يعتقدون أنّ الإسلام يستدعي هجر الآخر المخالف، الذي أعد الله له جهنم ليحشره فيها، في حين أنّ الإسلام يعني الاستسلام لله، الذي يأمر بالسلم والإحسان، وزرع الخير ودفع الشر عن البشرية وإغناء الحياة الإنسانية بالعطاء بنيّة الخير. فتحْتَ مظلة الله، وبفهم إنساني للدين، يمكن أن يتعايش الجميع بمحبة ويتبادلون النفع والحماية والمؤازرة وهو ما يقتضي إلغاء الحدود المذهبية التي تعوق التعايش وتذكي الصراعات والحروب. فالفوارق المذهبية (هي فوارق دنيوية لا دينية، هي بمعنى أدقّ خلافات سياسية، من يحكم من؟ وكلهم يفسّرون النصوص نفسها ويبنون اختلافهم عليها، وبعضهم يبغض الآخر بل ويحلّ قتل البعض من أجل هذا الفهم، فكأنّما الحقيقة غير كل ما يقولون، فالحقيقة هي الحقيقة. أسلم الكون وكائناته من أذاك تكن مسلمًا والله حسبك من بعد ذلك)[14].
إنّ ما يجمع المصريين من مسلمين ومسيحيين ويهود كثير من الجوامع المشتركة، منها ما هو إنساني، ومنها ما هو حضاري وديني واجتماعي وغيره. والتعايش يقتضي التماس هذه الجوامع المشتركة وإبرازها لتكون نقط التقاء وقنطرة للتواصل والتعاون لما فيه خير الجميع وسلامتهم وأمنهم ومنفعتهم، لتأسيس التفاعل الإيجابي وبنائه مع جميع البشر اعترافًا بالحق في الاختلاف وقبول التنوع ووضع حدّ لتضخّم الأنا القائم على الدين أو اللون أو الجنس أو غيره، والتعامل مع الناس كلهم في صورتهم الإنسانية المطلقة المجرّدة من كل تلاوين عارضة.
[1] وليد علاء الدين: ابن القبطية، الكتب خان للنشر والتوزيع، القاهرة: 2016، ص 41
[2] المرجع نفسه، ص 48
[3] ص 18 و19
[4] ص 21
[5] ص 45
[6] ص 49 و50
[7] ص 48 و49
[8] ص 42
[9] ص 89
[10] ص 51
[11] ص 79
[12] ص 83
[13] حوار مع وليد علاء الدين، نشر يوم 16 مايو 2016 موقع الممر بشبكة الانترنيت: وليد-علاء-الدين-رواية-ابن-القبطية/http://www.elmamr.com
[14] وليد علاء الدين: ابن القبطية، ص 95