حفريات دينيس سيلبيرغ في الاعتراف الأمريكي بالإسلام


فئة :  قراءات في كتب

حفريات دينيس سيلبيرغ في الاعتراف الأمريكي بالإسلام

عنوان الكتاب: جيفرسون والقرآن الإسلام والآباء المؤسسون.

اسم المؤلف: دينيس أ.سيلبيرغ.

اسم المترجم: فؤاد عبد المطلب.

صدر عن: مؤسسة (مؤمنون بلا حدود)، ودار جداول.

تاريخ الصدور: 2015م.

عنوان النسخة بالإنكليزية، ودار النشر، وسنة الصدور:

(Thomas Jefferson’s Qur’an: Islam and the Founders, Vintage; (July 1, 2014.

تعجُّ المكتبات الغربية (الأمريكية خاصةً) بالعديد من المؤلفات، التي تتطرّق إلى واقع الإسلام والمسلمين في الساحة الأمريكية. ومع أنّ أحداث (11 أيلول/ سبتمبر 2001م)، تقف، بشكل كبير، وراء صدور أغلب هذه الأعمال، مقارنةً مع مرحلة (الما قبل)، إلا أنّنا نجد، على الرغم من ذلك، بعض الأعمال النوعيّة التي ارتحلت بالتقييم والتدقيق في واقع مسلمي بلاد العم سام، ونخصُّ بالذكر، هنا، كتاب (مكّة والاتجاه العام: حياة المسلمين في أمريكا بعد الحادي عشر من سبتمبر)[1].

يُحسب لهذا العمل التدقيق المُميّز والمُمتِع في ماهيات أهمّ تيارات مسلمي الولايات المتحدة الأمريكية، قبل وبعد منعطف اعتداءات نيويورك وواشنطن، إضافةً إلى كتاب حافل بسرد تاريخي رصين لأهم مراحل تطوّر الأقليات المسلمة في الولايات المتحدة. ويُقدّم الكتاب تفاصيل البحث من مجموعة متنوّعة من المسلمين؛ للتعرُّف إلى طريقة للحياة بكرامة في أمريكا، فبينما شعر العديد من المسلمين برغبة متنامية في زيادة المشاركة والتفقه في عقيدتهم، قبل أحداث (11) أيلول/ سبتمبر بوقت طويل، فقد أفاقوا على أثر الهجمات على واشنطن ونيويورك، وشعروا برغبة ملحّة في التمسُّك بمعتقداتهم، وتكوين هوية إسلامية كمجتمع مُتَّحِد، حتى إنّ العديد من المسلمين، الذين نطلع على شهاداتهم في العمل، أخبروا المؤلّفة أنّهم شعروا بضرورة زيادة عملهم بدينهم من أجل شرح الإسلام الحقيقي[2].

هذا عن حقبة اليوم، حقبة لا يمكن فصلها، بشكل أو بآخر، عند المسلمين في الولايات المتحدة، عن منعطف تلك الاعتداءات سيّئة الذكر، والحال أنّ المكتبات الغربية (قبل العربية أو الإسلامية) تعاني من نقص رهيب في الأعمال، التي تطرّقت إلى بدايات الوجود الإسلامي في القارة الأمريكية، ومن هنا أهميّة الكتاب، الذي نتوقّف عند بعض أهمّ مضامينه، وجاء تحت عنوان (جيفرسون والقرآن الإسلام والآباء المؤسسون)[3]، تأليف دينيس أ.سيلبيرغ[4] وهو كتاب تُظهر فيه المؤلفة جانباً غير معروف كثيراً، لكنّه مُهم فيما يتعلّق بقصة الحريّة الدينية الأمريكية، وهي قصّة مثيرة اضطلع الإسلام فيها بدور مدهش.

توزّعت محاور الكتاب على مقدّمة، وسبعة فصول، وخاتمة. جاءت المقدمة تحت عنوان: (تخيّل المسلم مواطناً عند تأسيس الولايات المتحدة). أمّا الفصول السبعة، فكانت عناوينها كالآتي: (الأصول المسيحية للأفكار الأمريكية السلبية ولكن الدقيقة أحياناً حول الإسلام والمسلمين، 1529 - 1797م)، و(الأسبقيات المسيحية الأوروبية الإيجابية للتسامح مع المسلمين ووجودهم في أمريكا الاستعمارية، 1554 - 1706م)، و(ما تعَلّمه جيفرسون - وما لم يتعَلّمه - من كتابه: آراؤه السلبية عن الإسلام، واستعمالاتها السياسية، المتباينة مع دعمه للحقوق المدنية الإسلامية، 1765 - 1786م)، و(جيفرسون مقابل جون أدامز: مشكلة القرصنة الأفريقية الشمالية ومفاوضاتهما مع سفير مسلم في لندن، 1784 - 1788م)، و(هل يمكن لمسلم أن يُصبح رئيساً؟ الحقوق الإسلامية وإقرار الدستور، 1788)، و(جيفرسون يشنّ الحرب ضدّ قوة إسلامية، ويستضيف أول سفير مسلم، ويُقرّر أين يضع القرآن في مكتبه، ويؤكّد دعمه للحقوق الإسلامية، 1790 - 1823م)، و(ما بعد التسامح: جون ليلاند، محام مؤيّد لحقوق المسلمين، 1776 - 1841م).

أمّا الكلمة الختامية للكتاب، فجاءت تحت عنوان: (لماذا لا يمكن لمسلم أن يُصبح رئيساً؟ نماذج القرن الثامن عشر المثالية للمواطن المسلم ومغزاها في القرن الحادي والعشرين).

يتمحور هذا العمل، إذاً، حول موضوع أمريكا والإسلام في عصر التنوير، ويُشكّل، بذلك، محاولة استكشاف مفصلة في الموقع، الذي كان ينطلق منه الغرب خلال عصر النهضة، وتُوّجَ، في النهاية، بنظرات الآباء المؤسسين للحرية الدينية. وعلى الرغم من أنّ الإسلام كان ديناً بعيداً، ونظاماً عقائدياً غير مفهوم بالنسبة إلى المؤسسين، فإنّهم دافعوا عن نُظم معتقدات خارجية مثل الإسلام.

كما يتطرّق الكتاب إلى نشوء التسامح الديني وتطوّره، وأهمّ الشخصيات الفاعلة فيه. ولا شكّ في أن قراءة الأمريكيين، قبل غيرهم، لهذا العمل، قد تمكّنهم من رؤية خروقات حقوق الإنسان داخل بلادهم وخارجها؛ لأنهم بقراءته سيحصلون على فهم لكفاح الآباء المؤسسين لتحقيق الحرية الدينية. وسيكتشف أولئك، الذين لا يعتقدون بأحقيّة المسلمين في الحصول على حريتهم الدينية، أنّ الكاثوليك، والمعمدانيين، واليهود، كانوا، أيضاً، يشكّلون طبقة من الدرجة الثانية في أمريكا، ولا يمتلكون القدرة على التصويت، أو تقلّد المناصب.

نقول هذا آخذين في الاعتبار أنّ الحقوق الأمريكية الإسلامية أصبحت حقيقةً نظريّة مبكراً، لكنّها، كحقيقة عملية، كانت أبطأ بكثير في تطوّرها. إنّها موضوع اختبار اليوم. وتستشهد المؤلفة، هنا، برأي لـجون إسبوزيتو، أحد أبرز مؤرّخي الحضور الإسلامي في أمريكا، وجاء فيه أنّ «المسلمين [في أمريكا] مدفوعون للتساؤل عن حدود التعددية الغربية»[5]. ولهذا يوثّق هذا الكتاب أصول هذه التعددية في الولايات المتحدة؛ ليُبيّن أين ومتى كان المسلمون متضمنين أوّلاً في النماذج الأمريكية.

في مضامين الفصل الأول، تتوقّف المؤلفة، بالتوثيق والتحليل، عند: كيف عبر الأطلسي التحامل المسيحي ضد المسلمين، بعد ألف سنة من وصول الإسلام، مع تأثير عميق في المعتقدات الدينية والسياسية الأمريكية عند تأسيسها. ويتتبع هذا الفصل، أيضاً، كيف استخدم المسيحيون، من جميع الطوائف، وبشكل متكرّر، الخطابات المعادية للإسلام بعضهم ضدّ بعض، لأسباب مذهبية، وسياسية، وشخصية. وقد شكّل النقاش البروتستانتي حول الإسلام وجهات النظر الأمريكية عن الحكومة بطرائق نادراً ما يعترف بها اليوم.

رجل سياسة ينهل من رجل الفكر:

أمّا الفصل الثاني، فقد خُصِّص، بشكل كبير، للترحال مع مضامين رسالة التسامح لـ جون لوك، لاسيّما رسالته الأولى في الموضوع، والمؤرّخة بعام (1689م). فمع قبول أنّ أعداداً قليلة من المسلمين ربّما سكنوا في لندن لغايات دبلوماسية أو تجارية، لم يعتقد لوك أنّ ممارسة الإسلام تشكّل مانعاً للسكن أو الحقوق في بلاده؛ حيث كان الأجانب، في القانون الإنجليزي، بمن فيهم المسلمون، يقسمون إلى أصدقاء وأعداء، لكنّه، حكماً في منتصف القرن السابع عشر، عدَّ المسلمين المقيمين أصدقاء، مزيلاً، بذلك، أيّ عداء نحو الأتراك أو الكفار. واقترح لوك، في هذا الصدد، منح المسلمين الحقوق القانونية نفسها للتسامح الديني، وبشكل افتراضي، المواطنة التي أصرّ عليها، أيضاً، للمنشقين المسيحيين.

وكما كان متوقعاً، فقد تسبّبت مواقف لوك من التسامح، ومن معتنقي الديانات، في شيطنته، واتهامه من طرف الأعداء، بأنّه سوسيني، ومؤمن، وعقلاني، وجاءت ذروة هذه الاتهامات مع ما حَرّره رجل الدين الأنغليكاني جون إدواردز (توفي عام 1716م)، منتقداً الاجتهادات الدينية التي عبّر عنها لوك في معقوليّته المسيحية عام (1695م)؛ بل للطعن في انعدام لوك الظاهر لدعم [عقيدة] الثالوث المقدّس، افترى إدواردز عليه بأنّه مسيحي زنديق، وبالنتيجة، مؤيّد للتوحيد الإسلامي.

منعطف الكتاب، ورسائله، التي تهم المسلمين والأمريكيين اليوم، تُوجد في مضامين الفصل الثالث. ففي عام (1765م)، سجّلت صحيفة فرجينيا، شراء قام به توماس جيفرسون، ويشير البند في أسفل الصفحة (2)، إلى أنّ جيفرسون حصل على (قرآن سيل)، في جزئين، وكان الكتابان قد شُحنا من لندن، حيث نشر جورج سيل ترجمته عام (1734م) أوّلاً لما دُعي، عموماً، (قرآن محمد)، وكان جيفرسون سيشتري الطبعة الثالثة، المطبوعة عام (1764م).

يتتبع هذا الفصل كيف أثّرت مقدّمة سيل للقرآن في أفكار جيفرسون عن الإسلام، لاسيّما ملاحظاته حول القانون الإنجليزي والإسلام في العقد الثاني من حصوله على النص الإسلامي المقدّس. وفي عام (1776م)، وهو عضو في هيئة تشريع فرجينيا، كان جيفرسون يلجأ إلى الخطابات المعادية للإسلام في سعيه لإنهاء ترسيخ الأنغليكانية ديناً للدولة. ومن ناحية أخرى، تكشف ملاحظاته، من السنة نفسها، أنّ رسالة التسامح، التي وضعها لوك، أسهمت، كما سلف الذكر، في تغذية اهتمامات جيفرسون بحقوق المسلمين.

رُبَّ معترض يرى أنّ لوك كان سيتسامح مع المسلمين واليهود كونهم سكاناً يخضعون لحكم بروتستانتي أنغليكاني، لكنّه لم يتوقّع قطّ خلاصهم إلّا عبر التحوّل إلى دين الدولة، ومع ذلك، فإنّ جيفرسون اعتقد بأنّه لم يكن للدولة؛ بل للفرد، الاهتمام بشأن خلاصه، سواء كان مسيحياً، أم مسلماً، أم يهودياً، أم وثنياً.

لقد اعتقد جيفرسون، حتى نهاية حياته، بأن تشريعه المتعلق بالحرية الدينية كانت له غاية شمولية، تحمي جميع المؤمنين، ومن ضمنهم المسلمون. لكنّه كان مخطئاً. فبينما كان مشروع قانونه سيحتفظ بأهمية كبيرة للمواطنين المسلمين الأمريكيين الأحرار المستقبليين، في القرون التاسع عشر، والعشرين، والحادي والعشرين، لم تتضمّن رؤيته الشمولية للمسلمين الأمريكيين الأوائل، الذين كانوا في القرنين السابع عشر، والثامن عشر، عبيداً إفريقيين غربيين، نُقلوا إلى أمريكا الشمالية خلافاً لرغبتهم. وحسب رأي جيفرسون، إنهم ملكيّة، وليسوا مواطنين، وهو رأي وافق عليه بطله جون لوك أيضاً، ولم يتمتّع هؤلاء المسلمون المتحدّرون من أصل أفريقي بأيِّ نوع من الحريات.

الأب المؤسس للحقوق الإسلامية في أمريكا:

ولأنّه الأب المؤسس للحقوق الإسلامية في الولايات المتحدة، شرّع جيفرسون المساواة النظرية لسكان حسبهم أجانب، ولم يدرك أنّهم موجودون في بلاده. ومع استعداده للقيام بنقلة استثنائية لصالح المسلمين البيض الأحرار المستقبليين، لم يتمكّن، كرجل عصري، أن يرى، خارج العرق، والمكانة المستبعدة للأمريكيين الموجودين في فرجينيا، ليتخيل، يوماً، أنهم من الممكن أن يكونوا مواطنين.

(هل لمسلم أن يُصبح رئيساً؟ لا ونعم)، هو عنوان خاتمة الكتاب، حيث عقدت الكاتبة/ المؤرخة مقارنة بين الاتهامات، التي كانت نصيب رئيس أمريكي قديم، وآخر حديث: الأول جيفرسون، بطبيعة الحال، والثاني أوباما، متوقّفة، مثلاً، عند مضامين تقارير مزيفة أفادت أن السيناتور باراك أوباما كان مسلماً سريّاً، تمّ ترويجها بعد خطابه المهم في المؤتمر القومي الديمقراطي عام (2004م)، وعلى غرار ما جرى عند اتهام جيفرسون بأنه كافر، حيث كانت الهجمات على الإثبات الذاتي لمسيحية أوباما تقصد تدمير حملته بين الغالبية المسيحية.

كما توقّفت المؤلفة بالنقد عند العديد من الفوارق الأساسية في حملتي التشهير، التي طالت جيفرسون وأوباما، أهمّها أنّه، في الحالة الأولى [مع جيفرسون]، لم توجد نتائج مُعقدة للمسلمين الأمريكيين الفعليين، فيحين أنّ التعامل مع أوباما أهان وعَزَل ملايين المواطنين المسلمين الأمريكيين؛ بل إنه بين مجموعة كبيرة من الناخبين، حرَّك زيف أن أوباما مسلم حقيقةً مرعبةً في الحملة. ففي شهر من انتخابات (2008م)، سجل استفتاء منتدى كنسي أنّ (12) في المئة من الأمريكيين صدقوا هذه المغالطات، على الرغم من تصحيحات إعلامية متكررة[6].

نُنهي هذا العرض بإشارة دقيقة ومهمّة جاءت في مقدمة الكتاب: «لو كان جيفرسون، أو آدامز، على قيد الحياة لأثار غضبهما ذلك الجهل المُطبق والتعصب الأعمى للسياسيين في أيامنا هذه، لاسيما الزعماء المتحدثين، الذين يُدلون بأحاديث عدائية تنكر على المسلمين حصولهم على الحريات نفسها، التي يتمتع بها غيرهم، وخصوصاً المسيحيين»[7].

نحسبُ أننا إزاء عمل بحثي من الطراز الأول، ونعتقد أنه يجب أن يقرأه أناس يدينون بجميع الأديان، برأي مترجم العمل[8]، لذلك تأتي أفكاره المهمّة، في هذه الأيام، بصفتها وثيقة الصلة، وضرورية في هذه المرحلة من العلاقة بين المسلمين وأمريكا.


[1] Mecca and Main Street.. Muslim Life in America After 9/11, Oxford University Press; August 2007, 256 pages.

[2] جنيف عبده، مكّة والاتجاه العام: حياة المسلمين في أمريكا بعد الحادي عشر من سبتمبر، ترجمته إلى العربية ليلى زيدان، مراجعة رباب زين الدين، صدر الكتاب عن دار النشر: الجمعية المصرية لنشر المعرفة والثقافة العالمية، القاهرة، ط 1، 2009م، وجاء في 248 صفحة.

[3] دينيس أ.سيلبيرغ، جيفرسون والقرآن الإسلام والآباء المؤسسون، ترجمه إلى العربية فؤاد عبد المطلب، مؤسسة مؤمنون بلا حدود للدراسات والأبحاث، الرباط، دار النشر: جداول، بيروت، الطبعة الأولى، 2015م، جاء العمل في 420 صفحة.

[4] المؤلفة للتذكير: مؤرخة أمريكية، حاصلة على الدكتوراه من جامعة كولومبيا، متخصّصة في التاريخ الإسلامي، أستاذة مشاركة للدراسات الشرق أوسطية في جامعة تكساس. من مؤلفاتها: (السياسة، النوع، الماضي الإسلامي: ميراث عائشة بنت أبي بكر) (1994م)، و(جيفرسون والقرآن) (2013)، وهو ضيف هذا العرض.

[5] انظر: جون إسبوزيتو، ما يحتاج معرفته كلّ شخص حول الإسلام، منشورات جامعة أكسفورد، نيويورك، 2002م، 228 [هامش ص 32 من كتاب دينيس أ.سيلبيرغ].

[6] هنا، بالذات، تتضح خطورة التضليل الإعلامي على الرأي العام، بحسب حسابات ومصالح أصحاب هذه القنوات، والمنابر، والشبكات. وبَدَهي أن المجال التداولي العربي يعجُّ بالعديد من الأمثلة في هذا السياق.

[7] جيفرسون والقرآن الإسلام والآباء المؤسسون، مصدر سابق، ص 12

[8] المصدر نفسه، ص 13