حقوق الإنسان والقرآن في عالم متغيّر
فئة : مقالات
تعريف بالحقوق والإنسان والمنهج
لكي يتسنّى لنا البحث في حقوق الإنسان، علينا أن نعرفه هو أولاً، ثم تبعاً لكينونته نعرف حقوقه، ثم نقايسها بما يطرح من معايير عقلية وأخلاقية في عالم يوصف بأنه متغير وآخذ بنظام دولي جديد.
ولأنّ بحثنا في كينونة الإنسان وحقوقه مستمد من القرآن، توجّب تحديد كيفية تناولنا للآيات القرآنية، حيث نفترض في هذا الكتاب قدرات العطاء المعرفي المتجدّد والمتجاوز للأطروحات الإيديولوجية السابقة، وإنْ كان قد استوعبها في نطاقها الزماني والمكاني وتفاعل مع مكوناتها الفكرية واستجاب بنسبية معيّنة لخطابها التاريخي.
إنساننا في القرآن ووفق منهجيتنا المعرفية التحليلية هو كائن مطلق. فإذا كان قد تعيّن بظاهرة الجسد إلا أنّ مركباته هي نتاج تخليق كوني لا متناهٍ في الكبر ولا متناهٍ في الصغر "لخلق السّموات والأرض أكبر من خلق الناس ولكن أكثر الناس لا يعلمون" (غافر / ج 24 / ي57)، وعبر هذا المطلق الكوني في التركيب الإنساني يتوّلد نزع الإنسان اللامحدود عبر تفعيل قواه اللامرئية سمعاً وبصراً وفؤاداً: "والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئاً وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة لعلكم تشكرون" (النحل / ج 14 / ي 78)، ثم أطلق العنان لهذا الجسد المستخرج: (ألم يروا إلى الطير مسخّرات في جو السماء ما يمسكهن إلا الله إنّ في ذلك لآيات لقوم يؤمنون" (النحل / ي 79) فكلاهما، الكون والإنسان يعبّران عن مركب مطلق، لا يتناهيان كبراً وصغراً في التكوين "فلا أقسم بما تبصرون" (28) وما لا تبصرون (29)" (الحاقة / ج 29) ومركبات الإطلاق وحدها تحمل قدرات الانقسام لأنّها تفوق كلّ أحادية ضابطة للنزوع أو محجمة له أو محددة له، فعبر التفعيل الكوني لخلق الإنسان تنتهي سورة الشمس إلى "ونفس وما سوّاها (7) فألهمها فجورها وتقواها (8)"، فالنفس بقواها الإدراكية ونزوعها اللامحدود قابلة، لأن تمارس مطلقها باتجاه التماثل مع كونيتها التي نشأت في رحمها، عقلياً وأخلاقياً، وكذلك باتجاه تدمير ذاتها وكونها.
ولا تحدّ إطلاقية الإنسان والكون بنشأة من عدم ولا بنهاية إلى عدم، فمن قبل كان الماء والماء ليس عدماً، ومن قبل كان الموت والموت ليس عدماً: "كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتاً فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم ثم إليه ترجعون" (البقرة / ج 1 / ي 28)، والماء ليس عدماً: "وهو الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام وكان عرشه على الماء ليبلوكم أيكم أحسن عملاً ولئن قلت إنكم مبعوثون من بعد الموت ليقولن الذين كفروا إن هذا إلا سحر مبين" (هود / ج 11 / ي7)، ثم من بعد حياة سرمدية أبدية بعد موتتين "ثم إليّ ترجعون"، وكونية أبدية لا تتناهى في بنائيتها: "يوم تبدّل الأرض غير الأرض والسموات وبرزوا لله الواحد القهار" (إبراهيم / ج 12 / ي 50).
هذا المطلق الإنساني، بقوى وعيه الثلاثية اللامتناهية، سمعاً وبصراً وفؤاداً، وبنزعها اللامحدود عبر نفس قادرة على الاختيار، لا يتجاوزه في إطلاقيته إلا إله (أزلي) هو ـ سبحانه ـ فوق المطلق، غير قابل في ذاته للتشيؤ في مطلق كما شيأ مطلق الإنسان ومطلق الكون، لأنه بأزليته فوق المطلق الذي شيأه لهذا "ليس كمثله شيء وهو السميع البصير" (الشورى / ج 25 / من ي 11)، لم يقل ـ سبحانه ـ ليس مثله شيئاً فيكون - تنزه ـ شيئاً ولكن مختلفاً عن شيئة أخرى، فجاءت الكاف مقترنة بمثله لتبقى الشيئة أصلاً، فالأزلي لا يتحول إلى مطلق، فلا يحل ولا يتجسد ولا يتحد بشيئه، ولو فعل لتحوّل إلى مطلق يصادر بالضرورة مطلق الإنسان والكون، ويستحوذ عليها ويستلبهما.
فالإنسان والكون يمتدّان في الزمان إلى (الما قبل) و(الما بعد)، ويمتدّان في المكان إلى اللامتناهي في التكوين، ويتميّز الإنسان عن الكونية بقوى النزوع اللامحدود ولازمة الاختيار، فإن سجدت الكونية فهو وحده القادر على الرفض: "ألم تر أنّ الله يسجد له من في السموات ومن في الأرض والشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدواب وكثير من الناس" (الحج / ج 17 / من ي 18).
حقوق الإنسان والاستلاب بين اللاهوتيين والوضعانيين
كلاهما يستلب هذا المطلق الإنساني؛ اللاهوتيون بجبريتهم الغيبية الآحادية، والوضعانيون بجدل الطبيعة والإنسان، وذلك مهما تعددت وتنوعت مدارسهم وعقائدهم.
بين اللاهوتيين من استلب مطلق الإنسان والطبيعة، بأن جعل (الأمر الإلهي) جبرياً أحادياً، مردّداً الآية في سورة القمر "وما أمرنا إلا واحدة كلمح بالبصر"، غافلاً عما سبقها "إنّا كل شيء خلقناه بقدر" (القمر / ج 27 / ي 49 و50) أو مردّداً الآية في سورة يس "إنّما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون" (يس / ج 22 / ي 82)، ولم يميّز في قراءته لهذه الآية بين أمر وتشيؤ تتوسطهما إرادة هي الصيرورة بعينها، بتراكماتها وتحولاتها، وتلك قضايا تمتدّ حتى إلى خلق آدم واصطفائه من بين الناس بالنبوة "إنّ الله اصطفى آدم ونوحاً وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين" (آل عمران / ج 3 / ع 22). وبموجبها كان استخلافه من بين بشر يفسدون في الأرض ويسفكون الدماء "وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء" (البقرة / ج 1 / من ي 20)، وبه افتتاح التشريع بالزواج: "وقلنا يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة" (البقرة / ج 1 / من ي 35)، فلا بهيمية ولا إباحية كما كان حال من قبله، وحرّم عليه ما دون ذلك حصراً بما تعلمه من أسماء لا علاقة لها بما درج من نداء ودعاء، وإنّما علاقتها بخصائص المسمّيات، فالمرأة لم تعد أنثى مستباحة ولكن زوجة، وكذلك باقي الأسماء التي تعلمها "كلها" لأنها حصرت في كليتها، "وعلّم آدم الأسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة" (البقرة / ج 1 / من ي 21).
تلك من أساسيات المعرفية القرآنية التي تضع حداً لاستلاب المطلق الإنساني والمطلق الكوني بقراءة منهجية تشكل قطيعة مع التصورات اللاهوتية، وبقي أن تمضي هذه القطيعة إلى مفهوميات العبودية لله والحاكمية الإلهية وإلى كل ما يستلب مطلق الإنسان والكون.
نقض مفهوم الاستلاب بالعبودية
لقد أعلنها القرآن صريحة واضحة، أنّ علاقة العبد بمالكه إنّما هي علاقة استلاب ومصادرة سواء على مستوى قوة العمل وناتجه، أو على مستوى الرأي والتعبير، أو على مستوى التوجيه: "ضرب الله مثلا عبداً مملوكاً لا يقدر على شيء ومن رزقناه منّا رزقاً حسناً فهو ينفق منه سراً وجهراً هل يستوون الحمد لله بل أكثرهم لا يعلمون (75) وضرب الله مثلاً رجلين أحدهما أبكم لا يقدر على شيء وهو كلّ على مولاه أينما يوجهه لا يأت بخير هل يستوي هو ومن يأمر بالعدل وهو على صراط مستقيم(76). (النحل / ج 14)
فخصائص العبد هنا أنّه (مملوك) ومسلوب الإرادة (لا يقدر على شيء) وهو (أبكم) حيث لا مجال له للتعبير عن نفسه أو إبداء رأيه، ثم هو مرتبط بقدر مولاه وإرادته (وهو كلّ على مولاه)، وليس لمالك العبد هذا سوى أن يكون عبداً لغرائزه (أينما يوجهه لا يأت بخير).
تلك هي خصائص مجتمعات الرق والعبودية والاستعمار عبر التاريخ، فهل هذه هي علاقة الإنسان المطلق مع الإله الأزلي؟ الله يرفض هذا النوع من العلاقة، ولو اتخذت شكل القيام والركوع والسجود في الصلاة، أو التضرع في الدعاء، ولهذا سبق إيراد هذه الآيات في سورة النحل بقوله ـ سبحانه ـ "فلا تضربوا لله الأمثال إنّ الله يعلم وأنتم لا تعلمون" (النحل / ج 14 / ي 74)، وما كان ذاك الفهم التاريخي الملتبس إلا نتيجة لإسقاطات مجتمعات الاسترقاق على علاقة الإنسان بالله، فتلك الأدبيات اللاهوتية استلبت الإنسان استلاباً كاملاً، بل مضت لتحجّمه علمياً وحضارياً، وبمستوى يتناقض مع إطلاقيته ونزوعه اللامحدود، فاستشهدوا على محدودية العلم الإنساني بآية لا علاقة لها بالتشيؤ الكوني أو الإنساني "ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم مع العلم إلا قليلاً" (الإسراء / ج 15 / ي 85)، وغفلوا عن الإجابة الإلهية المتعلقة بخاصية الروح كقناة اتصال بالوحي في الآية التي تلت "ولئن شئنا لنذهبن بالذي أوحينا إليك ثم لا تجد لك به علينا وكيلاً" (الإسراء / ج 15 / ي 86)، وما ذلك إلا لظنهم أنّ الروح هي مصدر الحياة توهماً أنّ حياة آدم بدأت بنفخ الروح انسياقاً وراء التصورات التوارتية ولا علاقة للروح بالحياة، فحياة الإنسان تقوم بالنفس التي ذكر الله خروجها أو قتلها في القرآن عشرات المرات "وما كان لنفس أن تموت" (آل عمران / من ي 145)، و"كل نفس ذائقة الموت" (آل عمران 185) و"يا أيتها النفس المطمئنة (27) ارجعي إلى ربك راضية مرضية (28)" (الفجر / ج 30) و"إذ قتلتم نفساً" (البقرة / ج 1 من ي 76)، و"إذ الظالمون في غمرات الموت والملائكة باسطو أيديهم أخرجوا أنفسكم" (الأنعام / ج 7 / من ي 93)، ولم تذكر الروح في القرآن إلا في بضعة مواضع لا علاقة لها نهائياً وقطعياً بالحياة، فإرثنا في تفسير هذه المسألة توارتي وليس قرآنيّاً.
وغير استلاب الإنسان بمفاهيم العبودية الاسترقاقية، تمّ تحجيمه على مستوى النزع العلمي والعطاء الحضاري، حجّموه اجتماعياً وطبقياً، ولكن أيضاً بإرادة الله حين تناولوا الآية "والله فضّل بعضكم على بعض في الرزق"، فجعلوا كلّ تمايز طبقي واجتماعي من إرادة الله، وغفلوا عن باقي الآية "فما الذين فضلوا برادي رزقهم على ما ملكت أيمانهم فهم فيه سواء أفبنعمة الله يجحدون" (النحل / ج 14 / ي 71)، فالله يشير في هذه الآية إلى ما سينتج عن رد الرزق "رادي رزقهم" إلى مصدره من حيث قوة العمل "برادي رزقهم على ما ملكت أيمانهم" فماذا تكون النتيجة؟ "فهم فيه سواء"؛ فالتفاوت يردّه الله هنا إلى سلب مالك الرقيق لقوة عمل الأرقاء، أو الطبقات الدنيا، أو كما يقال "فائض القيمة". وتأتي هذه الآية في سياق ما شرحناه من سورة النحل (الآيات من 70 إلى 76).
فالله ـ سبحانه ـ نفى بأزليته كلّ استلاب عن مطلق الإنسان والكون، وتوجّه للإنسان بكافة ما يحقق مطلقه، على مستوى نزوعه اللامحدود، وتطلعاته العلمية والحضارية، وتحرره الاقتصادي والاجتماعي، بل حتى عن "الحاكمية الإلهية" بالطريقة الاستلابية التي يطرحها كثيرون.
نقص مفهوم الاستلاب بالحاكمية الإلهية
نقض القرآن كافة التصورات الاستلابيّة المؤسسة على الموروث التلمودي المفارق لحقائق التنزيل التوراتي المقدّس، وعوضاً عن تبصر المسلمين في آليات الاسترجاع النقدي التي قام بها القرآن لموروثات التنزيل الكتابي السابق بوصفه كتاباً (مهيمناً) كما هو (مصدّق) لما قبله، اكتفى المفسرون بالتصديق وليس الهيمنة؛ أي الاسترجاع النقدي، إلى درجة ضمّنوا أصول الفقه مبدأ يقول إنّ شرعة ما قبلنا شرعة لنا إلا أن ينسخ، وتغافلوا حتى عن النسخ في الرجم مثلاً، بل وأكثر من ذلك ألبسوا القرآن كلّ تأويلات التلمود، وبالذات فيما يختص بالقربان البشري الذي كان عادة دارجة لدى الوثنيين، ففي حين يدين القرآن تلك الممارسة التي تمضي إلى حد الأضحية بالبشر في نص الآية "وكذلك زيّن لكثير من المشركين قتل أولادهم شركاؤهم ليردوهم وليلبسوا عليهم دينهم ولو شاء الله ما فعلوه فذرهم وما يفترون" (الأنعام / ج 8 / ي 137)، يصدق المفسرون ما يرد في (سفر التكوين ـ الإصحاح الثاني والعشرون) حول أمر الله ـ سبحانه ـ لإبراهيم بذبح ابنه وتقديمه قرباناً له، ودون أن يتعاملوا مباشرة مع النصّ القرآني في سورة الصافات، حيث لم يصدر أي أمر إلهي لإبراهيم بذبح ابنه، وإنما رأى في منامه أنه يذبحه، والرؤيا مآلها إلى التأويل والعبور بها من الرمزية إلى الدلالة، والدلالة هي تقديم قربان يماثل في مواصفاته البنائية الكونية التي سخّرها الله للإنسان، ولهذا كان الفداء بالذبح العظيم؛ أي البدن وليس الكبش، ولا حتى إسماعيل، ولهذا كان عتاب الله ـ سبحانه، لإبراهيم "وناديناه ـ أن ـ يا إبراهيم" (الصافات / ج 22 / ي 104)، وجزاه على تصديقه فمن وجه آخر فالتصديق ولو دون عبور للرؤيا يعني السعي لمرضاة الله، فجمع الله لخليله بين العتاب وتصحيح الموقف من الرؤيا وبتقديم الذبح العظيم وجزاء الإحسان "فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِن شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ (102) فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (103) وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ (104) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (105) إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلاء الْمُبِينُ (106) وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ (107)(الصافات ج / 22).
تلك كانت إحدى قطائع القرآن مع الممارسات الوثنية، واسترجاعه النقدي بالهيمنة على موروثات الكتب الدينية السابقة "وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدّقاً لما بين يديه من الكتاب ومهيمناً عليه" (المائدة / ج 6 / من ي 48).
لم يردّ المفسرون المتشابه في القرآن إلى المحكم؛ أي لم يردّوا تفسيرهم لرؤيا إبراهيم المنامية، وهي من المتشابه إلى المحكم، ففسّروا ما يرد في سورة الصافات بمعزل عمّا ورد في سورة الأنعام، وما ذلك إلا لأخذهم بأسلوب تجزيئي تفسيري بمعزل عن وحدته البنائية وإحاطة الكل بالجزء وردّ المتشابه إلى المحكم (ألر كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير" (هود / ج 11 / ي 1)، وكذلك "هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هنّ أم الكتاب وأخر متشابهات" (آل عمران / ج 2 / من ي 7)، وقد نفذ العلمويون إلى القرآن من خلال الآيات المتشابهات، ودون أن يرد المفسرون المتشابه إلى المحكم، تلك من إشكاليات عصر التدوين في القرون الهجرية الثلاثة الأولى، ولهذا بحث آخر، وهناك قضايا عديدة أخرى تندرج في إطار هذه الإشكاليات، ومن ضمنها القول بالناسخ والمنسوخ في القرآن، وهو علم تأسس على المتشابه، لأنهم لم يردوه إلى المحكم، فالمحكم لا يكتشف في الكتاب إلا بالتعامل مع وحدته البنائية وبضوابط المنهجية المعرفية.
أمّا قول بعضهم الآن إنّ هذا الأسلوب الذي نعتمده في التعامل المنهجي والمعرفي مع القرآن تعترضه صعوبة الأسلوب الرمزي والوسيط في القرآن، حيث يمكن أن تتعدد التفسيرات والتأويلات بمنطق القول (القرآن حمّال أوجه)، فإنّنا نردّ على ذلك بأنّ بنائية القرآن نفسها مطلقة كمطلق الإنسان وكمطلق الكون، فمفردات القرآن لا تتجاوز (77.400) مفردة أو دون ذلك بقليل، ولكن محدودية المفردات في البناء القرآني هي كمحدودية الجسد الإنساني والظاهرة الطبيعية، إذ يكمن داخل هذه المحدودات الإطلاق اللامتناهي، وكذا المضمون القرآني داخل النص التعبيري المحدد، فهو في مواقع حروفه ومفرداته محدّد للغاية، ولكنه يختزن اللامتناهي في توليد المعاني متى أدركنا ـ أو قاربنا إدراك ـ منهجه المعرفي التحليلي، تأكيداً لمعنى الآيات: "فلا أقسم بمواقع النجوم (75) وإنّه لقسم لو تعلمون عظيم (76) إنّه لقرآن كريم (77) في كتاب مكنون (78)" (الواقعة / ج 27)، وقد أوضحنا كيفية العبور من الظاهرة الطبيعية إلى اللامتناهي ومن الجسد الإنساني إلى اللامتناهي، وكذلك البنائية القرآنية من محدود التعبيرات إلى اللامتناهي في المضمون، كريم ليعطي، ومكنون ليكتشف.
إنّ القرآن وعلى المطلق، كما هو الإنسان كائن مطلق، كما هو الكون تركيب مطلق، فنحن أمام ثلاثية مطلقة، القرآن والإنسان والكون، فالقرآن هو (معادل موضوعي للوجود الكوني والإنساني وحركته)، وبآلياتنا المعرفية نفسها للإنسان والكون، وبكل ما لدينا من قوى التفكيك والتركيب، نعالج النصّ القرآني المطلق.
لعلها مقدمات قد طالت، ولكنها تأسيسية وليست أساسية فقط، وما كان لي أن أتجاوزها وأنا أخاطبكم لأولّ مرة، وليس بين أيديكم ما سبق لي أن كتبت أو حاضرت، فاضطررت لزاماً لطرح المنهج وأصوله عبر معالجتي لقضايا الإنسان وحقوقه ومتغيرات عالمنا. وذلك توطئة لمعالجة إشكالية (الحاكمية الإلهية) التي تبدو في ظاهر طرحها ـ من قبل بعضهم ـ كأنها الاستلاب الإلهي الكامل للإنسان.
رأينا أنّ الإله الأزلي لم يستلب لا مطلق الإنسان ولا مطلق الكون بالآيات "إنّما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون" (يس / ج 22 / ي 87)، أو "وما أمرنا إلا واحدة كلمح بالبصر" (القمر / ج 27 / ي 50)، وقيسوا على ذلك باقي الآيات، وأوضحنا إشكالية الاستلاب العبودي، وقلنا إنّ القرآن منهج ونظام معرفي غير قابل لأي نوع من أنواع (الزحزحة) الدلالية، فكيف لهذا المطلق القرآني أن ينتهي إلى استلاب هو الأخطر من نوعه للإنسان؟ أي مفهوم الحاكمية الإلهية؟
لقد كان دأبي عدم التعرض لمصادر بعينها أو لأشخاص بعينهم، فأنا لست معرض مساجلات تنتهي بإثبات الذات، أكتفي فقط بتحديد ظاهرة فكرية، سواء ما كان على عهد سلفنا الصالح ـ رضوان الله عليهم أجمعين ـ أو من كان قد عاصر زماننا هذا، ولهم من ربهم أجر المخطئ، ولهم منّا التجلة والتقدير، فكم منهم من ينادي بالأمس وبعد الأمس وإلى اليوم "أن يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا".
الحاكمية الإلهية والتشكلات الإنسانية
لقد فُهمت الحاكمية الإلهية ـ بمنطق البعض ـ بكيفيّة تؤدي إلى كلّ من حذر الله منه في سورة النحل، إنسان مستلب "أبكم لا يقدر على شيء وهو كلّ على مولاه"، فنزعوا عن الإنسان كافة قدراته الإطلاقية والإبداعية، وكلّ إبداع هو بدعة، وكلّ بدعة هي مستحدثة، وكل مستحدث هو في النار، ولم يكن خاتم الرسل والنبيين، الموقر عليه الصلاة والسلام، ليستخدم المنطق الاستدلالي الاستطرادي في كلّ أحاديثه، فروي عنه ما لم يقله، لقد كان منهجه في السنة النبوية، القولية والفعلية محكوماً بمنهج القرآن نفسه، وقد أوضح الله سبحانه هذا التماثل بين منهج القرآن ومنهج السنّة النبوية، حيث ماثل بين محددات القرآن في التعبير ومحددات الرسول في القول والفعل، فربط بينهما (أولاً) بخاصية الوحي، ثم ربط بينهما (ثانياً) بعدم التناقض، ثم ربط بينهما (ثالثاً) بالمعصومية أو العصمة، وكما ولد بعض السلف علم الناسخ والمنسوخ لتجاوز ما استعصى عليه من ضبط المتشابه بالمحكم، كذلك في علم الحديث ولد بعضهم مسألة اختلاف (الورود) في سياق الحديث.
واختصاراً للحاجة نورد الآيات من سورتين تؤكدان على عصمة الكتاب والسُنّة النبوية، وانتفاء التعارض في دائرتيهما أو بينهما، وأنّ كليهما وحي:
"فلا أقسم بمواقع النجوم (75) وإنه لقسم لو تعلمون عظيم (76) إنه لقرآن كريم (77)(الواقعة / ج 27).
كذلك القول الإلهي الموازي حول السُنّة النبوية "والنجم إذا هوى (1) ما ضل صاحبكم وما غوى (2) وما ينطق عن الهوى (3) إن هو إلا وحي يوحى (4)" (النجم / ج 27).
فالسنّة النبوية، قولاً وفعلاً معصومة كعصمة القرآن، فالقرآن معصوم كعصمة مواقع النجوم، إن اهتزّ نجمٌ شعرة، اهتزّ النظام الكوني كله، وكذلك السنّة النبوية إذا اهتزّت شعرة فكنجم إذا هوى عن موقعه، فالسُنّة النبوية ذات منهج القرآن، وقولها وفعلها يتصلان به، فلا هي بناسخة للقرآن ولا القرآن بناسخ لها، إذ يتحدان في المنهج، فإذا تمنّى الرسول خارج ضوابط المنهج بدافع الغضب على قومه مثلاً، متعجلاً عذابهم، نسخ الله ما يتمنّاه الرسول "وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنّى ألقى الشيطان في أمنيته فينسخ الله ما يلقي الشيطان ثم يحكم الله آياته والله عليم حكيم (52)، ليجعل ما يلقي الشيطان فتنة للذين في قلوبهم مرض والقاسية قلوبهم وإنّ الظالمين لفي شقاق بعيد (53)" (الحج / ج 17).
حاكمية الكتاب وليس الحاكمية الإلهية ونسخ التمني:
لم تكن غضبة الرسول على قومه التمني الأول الذي ينسخه الله ثم يحكمه بالمنهج، ولذلك علاقة بإحلال حاكمية الكتاب بديلاً عن الحاكمية الإلهية والانفتاح على العقل البشري والدين العالمي والتفاعل مع مختلف الأنساق الحضارية والمناهج المعرفية، وتجاوز كلّ الشرائع الغليظة باتجاه شرعة التخفيف والرحمة والتعارف مع الآخر؛ أي بما يصبّ في إطار تحقيق إطلاقية الإنسان.
تمنّى الرسول العذاب لقومه، وتوعدهم بأن يسقط الله عليهم نوازل السماء؛ أي بما يقارب عاد بريح صرصر عاتية، وقوم لوط بجعل أعاليها أسافلها، ولكن نسخ الله تمني الرسول "وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعاً (90) أو تكون لك جنّة من نخيل وعنب فتفجر الأنهار خلالها تفجيراً (91) أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفاً أو تأتي بالله والملائكة قبيلاً (92) أو يكون لك بيت من زخرف أو ترقى في السماء ولن نؤمن لرقيك حتى تنزل علينا كتاباً نقرؤه قل سبحان ربي هل كنت إلا بشراً رسولاً (93)" (الإسراء / ج 15).
أيها الإخوة تنبّهوا جيّداً، الأعراب قد طلبوا خوارق المعجزات وتمنّع الله، وقد أنزلها بمن سبق. والرسول تمنّى خارق العقاب (أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفاً) فتمنّع الله، فلماذا؟
عن كل خارق عقاب يرتبط بخارق عطاء فهناك (نسق يحكم كل تجربة دينية) فحيث يكون خارق العطاء، فذاك يعني (استلاب جدل الطبيعة لصالح الإنسان) وبأعلى من مستوى التسخير العادي.
كان النموذج الأول هو آدم وزوجه في جنته بكل مقومات الروح المتعالية على جدل الطبيعة فلا يستشعر حتى الجوع أو البرد أو الحر أو الظمأ، "إنّ لك ألا تجوع فيها ولا تعرى (118) وأنّك لا تظمأ فيها ولا تضحى (119)" (طه / ج 16)، وكان كلّ ما يتمناه يتحقق وفق إرادته، "وقلنا يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة وكُلا منها رغداً حيث شئتما" (البقرة / ج 1 / من ي 35)، وانتهى ذاك النموذج الروحي المتعالي بالهبوط، أي (التدني) عن الحالة التي كان عليها: "فأزلهما الشيطان عنها فأخرجهما مما كانا فيه وقلنا اهبطوا بعضكم لبعض عدو ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين" (البقرة/ ج 1 / ي 36).
كانت تجربة آدم نموذج المطلق الإنساني في حالة التحقق، الروح والجنة والزواج العائلي والأسماء والهيمنة على الطبيعة، ولم يصمد ذلك النموذج لأنه لم يستخدم (عاملي الوعي والإرادة) بما فيه الكفاية:
"ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسي ولم نجد له عزماً" (طه / ج 16 / ي 115)، وتلك كانت حاكمية (أمر إلهي).
ثم كان النموذج الثاني، وهو القبلي، ممثلاً في أقوام عديدين، أبرزهم أسباط بني إسرائيل، حيث ارتبطوا (بحاكمية إلهية مباشرة) تجاوزت وجودية الإنسان وجدل الطبيعة، من شق للبحر، وانبجاس للماء من الصخر، وإنزال المنّ والسلوى، ثم عقوبات مماثلة، من نتق للجبل فوقهم كأنه ظلة ومن إحياء للموتى، ومسخ إلى قردة وخنازير، وكان عطاؤهم يقارب عطاء آدم في جنته، "وإذ قلنا ادخلوا هذه القرية فكلوا منها حيث شئتم رغداً" (البقرة / ج 1 / من ي 58)، وكما منح آدم قوة الروح منحوا خاصية التفصيل، "يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأني فضلتكم على العالمين" (البقرة / ج 1 / ي 47)، وكما منحت أرض صفة الجنة ارتباطاً بحاكمية الأمر الإلهي منحت الأرض صفة (التقديس) لبني إسرائيل "يا قوم ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم" (المائدة / ج 6 / من ي 21)، وذلك ارتباطاً بالحاكمية الإلهية المباشرة، وهي دون مستوى حاكمية الأمر الإلهي؛ فالحاكمية الإلهية المباشرة ارتبطت بالتعاهد أي القانون، وذلك مسمى التوراة، وبخارق العطاء وخارق العقاب، وبالخطاب القبلي الحصري، وبتفضيل الشعب وتقديس الأرض، وبصدور التوجيهات الإلهية يومياً عبر الأنبياء الذين يقفون بعضهم بعضاً.
وكما هبط آدم أو تدنى عن نموذج التعالي الإنساني بمطلق الروح، هبط الإسرائيليون أو تدنوا عن نموذج التعالي الإنساني بمطلق التفضيل والتقديس، وذلك (ابتداء) بسؤالهم موسى "وإذ قلتم يا موسى لن نصبر على طعام واحد فادع لنا ربك يخرج لنا مما تنبت الأرض من بقلها وقثائها وفومها وعدسها وبصلها قال أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير اهبطوا مصراً، فإن لكم ما سألتم وضربت عليهم الذلة والمسكنة وباؤوا بغضب من الله" (البقرة / ج 1 / من ي 61).
لقد أهبط الإسرائيليون عن منطلق التفضيل في الأرض التي قدست، كما أهبط آدم عن مطلق الأمر الإلهي في الأرض التي أحصنت له كجنة، فحيث ابتدأ الله مع الإنسان لتحقيق مطلقه تدنى الإنسان وهبط في الحالتين، فلم يصمد لحاكمية الأمر الإلهي بالروح ولم يصمد للحاكمية الإلهية المباشرة بالتفضيل ثم كان النموذج الثالث للحاكمية الإلهية، وذلك هو نموذج الاستخلاف.
تمرّد الإسرائيليون على الحاكمية الإلهية المباشرة، وطلبوا حاكمية استخلاف بشري "ألم تر إلى الملأ من بني إسرائيل من بعد موسى إذ قالوا لنبي لهم ابعث لنا ملكاً نقاتل في سبيل الله" (البقرة / ج 2 / من ي 246)، وتلك كانت بداية حاكمية الاستخلاف، "وقتل داود جالوت وآتاه الله الملك والحكمة وعلمه ممّا يشاء" (البقرة / ج 2 / من ي 251).
ومنح الله حاكمية الاستخلاف البشري قدرات السيطرة على الطبيعة والكائنات المرئية وغير المرئية، "ولسليمان الريح غدوها شهر ورواحها شهر وأرسلنا له عين القطر ومن الجن من يعمل بين يديه بإذن ربه" (سبأ / ج 22 / من ي 12).
ولم يصمد الإنسان في هذا النموذج الثالث؛ أي حاكمية الاستخلاف رغماً عن التدخل الإلهي في الأحكام التي كان يصدرها داود أو سليمان، "وهل أتاك نبأ الخصم إذ تسوّروا المحراب"(ص/ ج 22 / ي 21) إلى "وظن داود أنّما فتنّاه فاستغفر ربه وخرّ راكعاً وأناب" (ص / ج 22 / الآية من ي 24).
وانتهى النموذج الثالث لحاكمية الاستخلاف بسلسلة من الإخفاقات وانتهى بهبوط آخر "ولقد فتنا سليمان وألقينا على كرسيه جسداً ثم أناب" (ص / ج 22/ ي 34). وقد عانى سليمان توتراً كبيراً بين قدراته كمستخلف عن الله حيث يمتدّ سلطانه للكائنات المرئية وغير المرئية، البشرية، وغير البشرية والطبيعية كذلك، وبين تقديراته الخاصة، كان محكاً لتجربة الإطلاقية الإنسانية في الهيمنة على الكون وظواهره، وكانت التجربة قاسية بالنسبة له، تحداه طائر "فمكث غير بعيد فقال أحطت بما لم تحط به وجئتك من سبأ بنبأ يقين" (النمل / ج 19 / ي 22). وحذّرت منه نملة "قالت نملة يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم لا يحطمنكم سليمان وجنوده، وهم لا يشعرون" (النمل / ج 19 / من ي 18)، وتجاوزه في القدرات عبد صالح غير مستخلف مثله "قال يا أيها الملأ أيكم يأتيني بعرشها قبل أن يأتوني مسلمين (38) قال عفريت من الجن أنا آتيك به قبل أن تقوم من مقامك وإني عليه لقوي أمين (39) قال الذي عنده علم من الكتاب أنا آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك" (النمل / ج 19 / من ي 40).
ثم أغلق على الحاكميات الثلاث (حاكمية الأمر الإلهي ـ آدم) (وحاكمية الله المباشرة ـ موسى ومن بعده) و(حاكمية الاستخلاف ـ داود وسليمان)، وذلك بظهور السيد المسيح الذي منح قوة الروح التي سبقته، أي تجربة الحاكمية الإلهية بالأمر ثم الإرادة المباشرة ثم الاستخلاف، فكان السيد المسيح حجّة الله على إخفاقات البشر دون قدرتهم على التسامي إلى مطلق ما خلق الله الإنسان فيه، وضع السيد المسيح كافة تجارب الاصطفاء بالروح ثم التقديس والتفضيل على المحك، وما ذلك إلا لأنه كان يحمل في طياته التبشير بمنعطف تاريخي خطير؛ أي المنعطف باتجاه (العالمية) تجاوزاً للخطاب العائلي والقبلي (آدم ـ بنو إسرائيل) وباتجاه (حاكمية الكتاب) تجاوزاً للحاكمية الإلهية بمستوى الأمر والمباشرة والاستخلاف.
السيد المسيح هو نقطة التحول، وبه تبدأ (تبشيراً) وليس (تحقيقاً) علاقة المطلق الإنساني بالأزلي الإلهي "وإذ قال عيسى ابن مريم يا بني إسرائيل إني رسول الله إليكم مصدقاً لما بين يدي من التوراة ومبشراً برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد" (الصف / ج 28 / من ي 6).
وما كان للسيد المسيح أن يغلق على مرحلة ـ ضمنها تلك التقسيمات التي ذكرناها ـ ويفتح مرحلة مغايرة نوعياً لو لم يكن يتمتع بسلطان خارق مستمد من اسمه (المسيح) وليس فقط عيسى بن مريم، وهذا ما كان، "ورسولاً إلى بني إسرائيل أني قد جئتكم بآية من ربكم أني أخلق لكم من الطين كهيئة الطير فأنفخ فيه فيكون طيراً بإذن الله وأبرئ الأكمه والأبرص وأحي الموتى بإذن الله وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم إنّ في ذلك لآية لكم إن كنتم مؤمنين" (آل عمران / ج 3 / ي 49).
بأحمد الذي بشّر به السيد المسيح بدأت مرحلة نوعية مختلفة جذرياً في الخطاب الإلهي للإنسان المطلق، خارج كل تفضيل وتقديس، أو أمر واصطفاء، وإنما تنزل متفاعل مع الواقع الموضوعي، دون أحادية لاهوتية، ودون غيبية مستلبة، ودون حاكمية إلهية.
تنزل الذي في خطاب (عالمي) للبشر، يتفاعل جدلياً مع أنساقهم الحضارية ومناهجهم المعرفية، أيّاً كان نظامها، هنا تحولت الحاكمية الإلهية إلى (حاكمية كتاب) متفاعل مع الواقع الموضوعي بآفاقه النسبية "لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجاً" (المائدة / ج 6 / من ي 48)، وليس لكل جعلنا شرعة ومنهاجاً، وليس لكل منكم جعلنا شرعة ومنهاجاً، ولكن لكل جعلنا (منكم) فأفصح الله عن مصدرية الشرعة والمنهاج تعلقاً بالواقع الموضوعي.
هكذا وضع الإنسان المطلق المتحرك في كونية مطلقة إزاء كتاب مطلق هو الوعي الموحى والمعادل موضوعياً للوجودين الإنساني والكوني، وعند هذا الحد اختتمت النبوة والرسالة "ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيين وكان الله بكل شيء عليماً" (الأحزاب / ج 22 / ي 40)، وعند هذا الحد أصبحت الرسالة عالمية ومقترنة بشرعة التخفيف والرحمة "الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحلّ لهم الطيبات ويحرّم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون (157) قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعاً" (الأعراف / ج 9).
الخطاب الإسلامي وتفصيله في حجة الوداع
جمع الخطاب الإسلامي في نهاية سورة النمل "إنما أمرت أن أعبد رب هذه البلدة الذي حرمها وله كل شيء وأمرت أن أكون من المسلمين (91) وأن أتلو القرآن فمن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضلّ فقل إنما أنا من المنذرين (92) وقل الحمد لله سيريكم آياته فتعرفونها وما ربك بغافل عما تعلمون (93)" (النمل / ج 20).
ارتدّ كل شيء إلى الإنسان، بعالمية خطاب وحاكمية كتاب، وشرعة تخفيف ورحمة، وكعهد خاتم النبيين والمرسلين بمهمته، كان عليه أن يبين ويفصل، فجعلها درة في خطبة الوداع كان خطابه للناس جميعاً وبتفصيل لحقوق الإنسان "يا أيها الناس إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم حرام عليكم، كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا في بلدكم هذا".
وإنّ ربا الجاهلية موضوع، لكم رؤوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون. إنّ لنسائكم عليكم حقاً وعليهن حق، واستوصوا بالنساء خيراً فاتقوا الله في النساء، إنّ ربكم واحد وإنّ أباكم واحد، كلكم لآدم وأدم من تراب".
كان ذلك خطاب (الحد الأدنى) للبشرية كلها من بعد أن أراد الله ـ سبحانه ـ لها الترقي بمطلقها في النماذج التي عرضنا لها من آدم إلى بني إسرائيل، وبحاكميات الأمر والمباشرة والاستخلاف، فانتهى الإسلام بإيداع الحاكمية في ذات الأمّة عبر كتاب مطلق، لم يتناوله النبي بالتفسير وإلا لما حق لمن يأتي بعده أن يفسره، وإنّما بيّن منه ما تقتضيه حاجات مرحلته، تصديقاً للذي بين يديه، ثم أطلقه لمتغيرات الزمان والمكان "والذي أوحينا إليك من الكتاب هو الحق مصدقاً لما بين يديه إنّ الله بعباده لخبير بصير (31) ثم أورثنا الكتاب الذي اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله ذلك هو الفضل الكبير (32)، ( فاطر / ج 22).
فخاتم الرسل والنبيين لم يحجر على مطلق الوعي، بل إنّ عظمة السنة النبوية المطهرة ـ فيما أرى ـ هي فيما لم يفعله الرسول وما لم يقله وبشكل مواز لما فعله وقاله، فسكوته سُنّة وعدم فعله سُنّة.
نقض القرآن للتوجهات الوضعانية
حول الإنسان وحقوقه:
تماماً كما نقض القرآن التوجهات اللاهوتية التي استلبت مطلق الإنسان بمفاهيم العبودية والحاكمية الإلهية وما تفرع عنهما من إشكاليات، ينقض القرآن التوجهات الوضعانية التي اختزلت الإنسان إلى ما دون إطلاقيته وكونيته حين شدته إلى (جدل الطبيعة) بشكل مادي كما لدى الماركسية أو إلى (جدل الذات) كما يتبدى في الفلسفة الهيجيلية؛ فالمطلق الهيجلي اختزل الإنسان إلى (ماهية) تنتهي قدراتها إلى الليبرالية كما عبّرت عنها الثورة الفرنسية، ولهذا اعتبر هيجل أنّ نهاية التاريخ قد أزفت عام 1806م، حين اقتحم نابليون بونابرت ألمانيا، وانساق (كوجيف) من وراء هيجل مبشراً بالليبرالية المنتصرة بعد الحرب العالمية الثانية، وورث (فوكوياما) كلاً من هيجل وكوجيف في محاضرته حول (نهاية التاريخ)، وهي محاضرة بائسة حتى بالنسبة لفوكوياما، ويترسخ البؤس حتى لدى أولئك الذين أسّسوا مدرسة (فرانكفورت) على أمل الانعتاق بالمادية إلى الآفاق المثالية الطوباوية، وفي مقدمتهم (هربرت ماركيوز) و(أرنست ماخ).
والكل يفشل، بجدليته المثالية الطوباوية، وبماديته المثالية الجدلية، وبما دون ذلك، سواء تمظهر ذلك في مبادئ الثورة الفرنسية الليبرالية التي أنتجت ديكتاتوراً كنابليون، أو الثورة الاشتراكية التي أنتجت ديكتاتوراً كستالين، ويبقى مطلق القرآن ليفصح عن جدل الإنسان، متجاوزاً لكل محاولات البشرية الوضعانية ـ ضمن أرقى مراحل حضارتها ـ معالجة ظواهر الاستلاب دون أصل المرض نفسه فتطرح مواثيق حقوق الإنسان مع الإبقاء على أصل المرض، وهو تعبد هذا الإنسان لذاته، مما يدفعه لاستبعاد الغير وبأشكال متطورة أخرى مهما كانت هذه المواثيق، فإذا درسنا هذه المواثيق منذ الثورة الأمريكية إلى الثورة الفرنسية وانتهاء بالإعلان العالمي لحقوق الإنسان والصادر في 10 ديسمبر 1948 بمواده الثلاثين، نجد أنها قد صيغت ضمن مشروعية الفرد الليبرالية في علاقته مع الآخرين الذين يسلبونه حقوقه، فهي مواثيق دفاع عن حقوق مع الإبقاء على أصل الداء، بل وتكريس ذلك، وهو تعبد الإنسان لذاته ولنوازعه النفسية والجسدية.
على النقيض من هذا التوجه الوضعاني، نجد أنّ حقوق الإنسان في القرآن مصانة من الداخل وليس من الخارج؛ أي من خلال الذات الإنسانية نفسها، فحقوق الإنسان الوضعية تحصين ضد الآخر، في حين أنّ حقوق الإنسان في القرآن تحصين ضد الذات بتحجيم نوازعها، عبر العديد من القيم العقلية والأخلاقية، حيث يصبح الإنسان نافعاً لنفسه ولغيره في الوقت ذاته، وليس ضاراً يُخشى شره كما هو الأمر في مواثيق حقوق الإنسان الوضعية.
فحين تمنع المادة الثانية ـ مثلاً ـ من ميثاق حقوق الإنسان التمييز بين البشر بسبب اللون أو الجنس أو اللغة، فإنّ القرآن لا يبدأ بالسلب الذي هو المنع، وإنما يبدأ بالإيجاب "يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إنّ أكرمكم عند الله اتقاكم إنّ الله عليم خبير" (الحجرات / ج 26 / ي 13)، فهنا تأكيد على وحدة الانتماء الإنساني (إنا خلقناكم من ذكر وأنثى) ثم يردّ الله التباينات إلى عوامل التكوين والتشيؤ وفق قوانين الظاهرات وليس لذاتية العنصر أو الجنس "ألم تر أنّ الله أنزل من السماء ماء فأخرجنا به ثمرات مختلفاً ألوانها ومن الجبال جدد بيض وحمر مختلف ألوانها وغرابيب سود (27) ومن الناس والدواب والأنعام مختلف ألوانه كذلك إنما يخشى الله من عباده العلماء إنّ الله عزيز غفور (28)، (فاطر / ج 22).
فليست قضية القرآن هنا ألا يميز إنسان آخر، بمعنى السلب، ولكن أن (ينتمي) الإنسان إلى الآخر، وأن يدرك أنّ التباينات ليست لذاتها، فهذا تحصين من الداخل الإنساني، وهكذا الأمر إذا تتبعنا كلّ المواد الثلاثين لحقوق الإنسان الوضعية، نكتشف ما يقابلها في القرآن كتحصين داخلي وترقية ثم تجاوزت لها باتجاه الحقيقة الكونية للإنسان المكرم والمفضل والمستخلف والمرتبط بمنهجية الحق (الميزان) وغائية الوجود، فالقرآن يقدّم معالجة الأسباب على دفع النتائج السلبية، أي إصلاح الإنسان نفسه.
الإصلاح القرآني للإنسان ليس طوباوياً
أوضحنا أنّ الله ـ سبحانه وتعالى ـ لم يستلب الإنسان ويصادره كما تقول بعض الاتجاهات اللاهوتية، فقد جعله فائق القدرات ولأبعد ممّا يدركه الإنسان عن نفسه، ولنفي الاستلاب أوضح خطأ المماثلة بين عبيده وعبيد البشر، بل الله ـ سبحانه ـ هو مصدر عطاء ورزق لعبيده، بداية من العمل (البسيط) كالغيث للزرع وليس انتهاء بالعمل (المركب) كاللبن ما بين فرث ودم والعسل المختلف ألوانه؛ فالله يدفع بالإنسان لتحقيق وجوده عبر هذه القدرات الهائلة ويشجعه على ذلك بكل الوسائل، فالحقيقة الإنسانية في القرآن قائمة كحقيقة إنسانية مطلقة، لا تمتد للأزلية ولا تتدنى إلى ما دونها.
فالتدني إلى ما دونها: هي الحالة الطوطمية التي يفسر بها بعض علماء السلوك الاجتماعي والأنثروبولوجي العقائد الدينية لبعض القبائل البدائية التي ترجع أصولها إلى حيوانات معينة.
والامتداد لأبعد منها: تتفرع إلى حالات عديدة، كقول بعضهم بمنطق تلمودي سخيف إنّ الله ـ سبحانه ـ قد خلق الإنسان على صورته، وهو ـ سبحانه ـ "ليس كمثله شيء وهو السميع البصير" (الشورى / ج 25 / من ي 11) وكقول بعضهم إنّ الإنسان حيز للحلول الإلهي، فهذه كلها مواضعات تستلب الإنسان في النهاية وتخرجه عن حقيقة الإنسانية في القرآن، لهذا لم يطلب الله من الإنسان في القرآن أن يتجاوز حقيقته الإنسانية، ولم يجعل علاج الضعف الإنساني بالتجسد في شكل إنسان ثم فدائه، بل جعل معالجه الضعف وفق التزكية العبادية بشتى أشكالها بما في ذلك المعاملات التي تؤتى عباده في ذاتها، فالذين افترضوا طوباوية الإنسان بمنطق لاهوتي عالجوا الخطايا الإنسانية خارج حقيقة الإنسان، وهذا فارق كبير وخطير بين نظرة القرآن للإنسان ونظرة الآخرين، لهذا فإنّ ما يراه البعض في أصل الخطيئة الآدمية يختلف تماماً عن رؤية القرآن، فخطيئة آدم في القرآن ليست خطيئة أصلية مركبة في جبلة الإنسان، وإنما هي (نسيان) و(ضعف عزم)، وهكذا قال الله "ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسي ولم نجد له عزماً" (طه / ج 16 / ي 115).
فالرجوع إلى آدم ـ عليه الصلاة والسلام ـ بالمعصية أو الغواية هو رجوع إلى حالة النسيان أو عدم العزم وليس رجوعاً إلى (خطيئة أولى) مركبة في جبلة الإنسان. وعلاج المعصية هو العودة إلى الله ضمن الحقيقة الإنسانية وليس بالفداء الخارجي، فالقرآن لم يطلب من الإنسان تجاوز نفسه ولكن طلب منه الترقية "يا أيها الذين آمنوا لا تتبعوا خطوات الشيطان ومن يتبع خطوات الشيطان فإنه يأمر بالفحشاء والمنكر ولولا فضل الله عليكم ورحمته ما زكى منكم من أحد أبداً ولكن الله يزكي من يشاء والله سميع عليم" (النور / ج 18 / س 21).
خاتمة المقال
لديّ الكثير أقوله، وفي مكنون القرآن قول أكثر، حول مطلق الإنسان ونزوعه اللامحدود، وإمكانات الحقوق والحرية التي يتطلبها هذا النزوع، والتي تمضي لأبعد من تمثلات الليبراليين أنفسهم، ولكن بشرط الارتقاء من الوضعانية الأرضية إلى الكونية اللامتناهية، حيث يتماهى الإنسان، عقلاً وأخلاقاً، مع مصادر وجوده، وهي مصدرية ترقى على شروط التحديد الموضوعي، ولكنها تلتزم بها في الوقت ذاته، وهذا هو سرّ الإطلاق في التكوين والتركيب، فالمحددات تنتهي إلى اللامتناهي كما تقول سورة الرعد، فمن ماء وبيئة أرضية واحدة يتشكل اللامتناهي وبغائية تتجه إلى الإنسان (وفي الأرض قطع متجاورات) بمعنى وحدة البيئة، وتسقى هذه الأرض (بماء واحد) ونتاجها "جنات من أعناب وزرع ونخيل صنوان وغير صنوان ونفضل بعضها على بعض في الأكل" (راجع نص الآية في سورة الرعد / ج 12 / ي 4).
وعلى النقيض من هذا القانون تحمل سورة فاطر اختلاف التراكيب ووحدة الناتج "وما يستوي البحران هذا عذب فرات سائغ شرابه وهذا ملح أجاج ومن كلٍ تأكلون لحماً طرياً" (فاطر / ج 22 / من ي 12).
فمن طبيعة ما هو مطلق أن يحمل التغاير، كما أنّ مطلق الإنسان يحمل حرية الاختيار من خلال تركيبته الكونية، من "الشمس وضحاها (1) والقمر إذا تلاها (2) والنهار إذا جلاها (3) والليل إذا يغشاها (4) والسماء وما بناها (5) والأرض وما طحاها (6) ونفس وما سواها (7) فألهمها فجورها وتقواها (8)" (الشمس / ج 30).
إنّ كل تشيؤ هو نتاج تخليق معقود، واكتساب المطلقية الإنسانية هي غاية التركيب المعقد، حيث لا حدود ولا نهايات، فالإنسان في هذا الكون يتجاوز كلّ محدود، بما في ذلك تلك المواصفات الوضعانية أو اللاهوتية لحقوق الإنسان، وقد عبّر عن ذلك ابن الفارض وبه اختتم:
أقمت إمامي فـــي الحقيقة فالــورى ورائي وكانت حيث وجّهت قبلتي
وكلّ الجهات الست نحوي توجّهت بمــــا تمّ مـــن نسك وحجّ وعمـرة
لهــــا صلواتي بالمقـــــــــام أقيمها وأشهـــد فيهــــا أنّهـــا لــي صلّت