حقوق الإنسان والقيم الحديثة وتحدّي مراجعة أصول الفقه
فئة : مقالات
برزت محاولة وضع أصول الفقه في السياق الحديث منذ أن شبّهها الطهطاوي (ت 1873م) بالقوانين الحديثة يقول: "فما سمّي عندنا بعلم أصول الفقه يسمّى ما يشبهه عندهم بالحقوق الطبيعيّة أو النواميس الفطريّة. وهي قواعد عقليّة تحسينا وتقبيحا يؤسّسون عليها أحكامهم المدنيّة..."[1]. ولئن اتّهم هذا القول بأنّه يسوّي بين متناقضات ولا يلتفت إلى أصول المفاهيم، فإنّه في نظرنا وليد هاجس الاندماج في العصر الحديث والسّعي إلى بيان عدم التعارض بين العلوم التراثيّة والعلوم الحديثة، وهو ما تجلّى في اعتماد الطهطاوي مفهوم جلب المصلحة ودرء المفسدة القديم مقابلا لمفهوم المصلحة العامّة الحديث[2].
إلاّ أنّ جيل الطهطاوي لم يكن يدرك بعد عمق الهوة التي أضحت تفصل بين المفاهيم الأصولية وما ترتّب عليها من أحكام تشريعية والمفاهيم والقيم القانونية والأخلاقية والسياسية الحديثة؛ ذلك أن كثيرا من عناصر المنظومة الأصولية أصبح لا مكان له في العصر الحديث. وهذا ما دعا بعض الباحثين المسلمين إلى التلاؤم مع هذا الوضع الجديد لمواجهة التحديات التي تواجهها تلك المنظومة.
وهي تحديات مسّت مختلف أصول الفقه الرئيسة والتكميلية، فلنتوقف عند بعض آثار هذه التحديات المتأتية من الواقع الجديد ومن القيم الحديثة.
أثر المصلحة والقيم الحديثة في تجديد النظر في القرآن
الخوض في هذه المسألة يطول، لذلك سنكتفي بمثال واحد هو مسألة تعدد الزوجات التي وقع التأصيل لها منذ القديم من خلال الآية 3 من سورة النساء: "وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَىٰ فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَىٰ وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَٰلِكَ أَدْنَىٰ أَلَّا تَعُولُوا"، كما وقع التأصيل لها من خلال الإجماع. يقول الرازي: "واعلم أن معتمد الفقهاء في إثبات الحصر على أمرين؛ الأول الخبر وهذا الطريق ضعيف، والأمر الثاني هو إجماع فقهاء الأمصار على أنه لا يجوز الزيادة على الأربع وهذا هو المعتمد"3. لنلاحظ هنا أنه لم يقع الاعتراض على هذا الفهم المخصوص للآية بشكل جدّي إلا في العصر الحديث، لأن القيم الحديثة وفي صدارتها قيمة المصلحة العامة والجماعية المقدمة على المصلحة الفردية اخترقت فكر أعلام النهضة العربية الإسلامية منذ القرن 19 وأضحت المضار الناشئة عن التعدّد تؤخذ بعين الاعتبار، وهذا ما يفسر موقف محمد عبده والمتأثرين بفكره فقد أعلن "أنّ غاية ما يستفاد من آية التحليل إنّما هو حلّ تعدّد الزوجات إذا أمن الجور، وهذا الحلال هو كسائر أنواع الحلال تعتريه الأحكام الشرعيّة الأخرى من المنع والكراهة وغيرهما بحسب ما يترتّب عليه من المفاسد والمصالح. فإذا غلب على النّاس الجور بين الزّوجات كما هو مشاهد في أزماننا أو نشأ عن تعدد الزّوجات فساد في العائلات وتعدّ للحدود الشرعيّة الواجب التزامها، وقيام العداوة بين أعضاء العائلة الواحدة وشيوع ذلك إلى حدّ يكون عامّا جاز للحاكم رعاية للمصلحة العامّة أن يمنع تعدّد الزوجات بشرط أو بغير شرط على حسب ما يراه موافقا لمصلحة الأمة"4.
وفي السياق نفسه، أعلن علال الفاسي أنه "مهما يقال عن محاسن تعدّد الزوجات في بعض الظّروف الخاصّة أو العامّة، فإنّي أعتبر أنّ المصلحة الإسلاميّة والاجتماعيّة تقضي بمنعه في الوقت الحاضر. وإنّني لا أزعم أنّ هذا المنع إتمام للتشريع كما يدّعيه البعض؛ فالشريعة الإسلاميّة كاملة في هذا الموضوع كما في غيره لأنّ القرآن صريح في المنع من التعدد كلّما خيف الجور، والظّلم اليوم للعائلة ولغيرها بسبب التعدّد أصبح محقّقا لا يمكن لأحد إنكاره. ولا ينهض هذا الاجتهاد على مبدإ المصلحة وملاحظة ما يجري في الواقع فحسب، وإنّما يقوم أيضا على فهم لغوي للأمر القرآني في الآية: "فانكحوا ما طاب لكم من النّساء" (النساء 4/3) مقتضاه أنّه أمر إرشاد لا وجوب. يقول: "إنّي أفهم من الآيات القرآنيّة التي أدليت بها أنّها تشتمل على أوامر إرشاد يحقّ للأمّة تطبيقها بحسب الزّمان والمكان"5.
أثر القيم الحديثة في إعادة النظر في فهم الحديث النبوي
إنّ القيم الحديثة ومنظومة حقوق الإنسان لم تخترق الفهم التقليدي للقرآن فحسب، وإنما اخترقت أيضا فهم النص التأسيسي الثاني للإسلام، وهو الحديث النبوي ذلك أن فريقا مهما من الباحثين أدرك أن إدارة الظهر لهذه القيم والحقوق الحديثة لن يؤدي إلا إلى عزل الإسلام عن الواقع الحديث ومكتسبات العصر. ويمكن أن نتوقف في هذا الشأن عند مسألة المشاركة السياسية للمرأة وحقها في تولي رئاسة الدولة، فقد تمّ إقصاؤها قديما من هذه المشاركة اعتمادا على الإجماع وعلى حديث "لا يفلح قوم ولّوا أمرهم امرأة"، ووقع العمل بهذا الحديث عبر العصور، لأن التاريخ الإسلامي لم يحدث فيه أن تولت امرأة منصب الخلافة.
لكن تحت ضغط القيم الحديثة وخاصة قيمتي حرية المرأة والمساواة بين الجنسين، اضطر الباحثون المسلمون إلى إعادة النظر في فهم هذا الحديث، فاعتبروا أنه وارد في سياق مخصوص هو الإخبار والبشارة للمسلمين بأن حكم فارس سينهار، وأنه نظرا إلى ذلك لا يندرج في إطار استنباط الحكم الشرعي منه، وعدّوا هذا الحديث ظنيا من جهة السند. لذلك لا يصلح أساسا لمنع المرأة من الإمامة العامة فراوي هذا الحديث صحابي اسمه أبو بكرة. وقد روى المؤرخ ابن الأثير أنّ عمر جلده على شهادة كاذبة أدلى بها6. وقد اختلف العلماء في قبول شهادة المحدود التائب.
والمستخلص من القراءة التاريخيّة للحديث -على غرار ما قامت به الباحثة المغربيّة فاطمة مرنيسي- أنّه برز في سياق الفتنة الكبرى لمعارضة خروج عائشة أثناء معركة الجمل من بيتها، وهي المأمورة مثل زوجات النبي بالحجاب7.
ومن الواضح أن أصحاب هذه المواقف يختفون وراء هذه المبرّرات والحجج النقدية المقتبسة من داخل المنظومة الأصولية من أجل ترسيخ قيمة حديثة هي المساواة بين الرجل والمرأة، إلا أن تيارا آخر من الباحثين نقد اعتماد الإجماع مع أنّه "مفهوم غامض اختلف القدامى أنفسهم حوله، أبطله المعتزلة والخوارج، وذهب الحنفيّون إلى أنّه إجماع الأمّة الذي يشتمل على المؤمنين. وذهب ابن حزم إلى أنّه إجماع صحابة الرسول فحسب"8. هكذا، فإن اعتماد إجماع القدامى المفترض على حلول طرحت على مجتمعات تفصلنا عنها مئات السنين هو رفض للواقع وللتاريخ، لأنّ مفهوم المشاركة السياسيّة له مرجعيّة ديمقراطيّة مناقضة تماما للمرجعيّة الفقهيّة.
ويبدو هذا الرأي مناقضا لمن يذهب إلى المواءمة بين الأنظمة والقيم والمفاهيم القديمة ونظيراتها الحديثة كالشورى والديمقراطية والإجماع والنظام التمثيلي، وهو رأي يقوم على نزع القداسة عن الإجماع وعلى تنزيله في منطقة الاجتهاد البشري. ولمّا كان الاجتهاد مرتبطا بظروف إنتاجه وسياق عصره لم يكن صالحا بالضرورة لكل عصر ولم يكن ملزما لكل جيل.
تأثير القيم الحديثة في الإجماع
ساهمت القيم الحديثة في خلخلة كثير من أركان نظرية الإجماع الأصولية من ذلك
1- مفهوم الإجماع: أدّى تأثر المصلحين بقيمة المساواة الحديثة إلى إعادة النظر في مفهوم الإجماع الذي كان مقتصرا على العلماء فحاول بعض المحدثين تشريك العوام فيه من ذلك اعتبار الشيخ محمد الطاهر ابن عاشور أنّ عقول الأمّة بخاصتها وعامتها عقول قيّمة وهو معنى كونها وسطا وأن "العامة تأخذ نصيبا من العصمة فيما هو من خصائصها وهو الجزء النقلي فقط"9.
2- حجية الإجماع: أقام الأصوليون حجية الإجماع على أدلة نقلية من القران والسنة فضلا عن أدلة عقلية في صدارتها مبدأ عصمة الأمة أو الجماعة (المقصود فئة منها هي العلماء وبخاصة الفقهاء منهم) إلّا أنّ تسرب القيم الحديثة إلى الفكر الإسلامي الحديث فضلا عن التأثر ببعض الآراء الاعتزالية القديمة جعل فريقا من ممثلي هذا الفكر يرفض عصمة الإجماع، ومن ذلك موقف محمد توفيق صدقي (ت1920) يقول: "لم يرد في القرآن أنّ المؤمنين لا يخطئون أو أنّ طريقهم واحد لا يسيرون في طريق الباطل، والذي نعلمه أنّ المؤمنين يجوز عليهم جميعا الخطأ"10.
وفي السياق نفسه، حمل عبد الحميد الزهراوي على من ذهبوا إلى تكفير مخالف الإجماع معتبرا أنه تجوز مخالفة المجمعين لأنهم غير معصومين، يقول: "إنه لا عصمة لأمة من الخطإ ولا يستحق أحد أن يقلد تقليدا محضا، بل علينا أن نستعمل التفكير ونستهدي التجارب"11.
والواضح تأثر هذه الأفكار بقيم العصر الحديث وفي مقدمتها نسبية الحقيقة وتعددها واحترام حق الاختلاف والإيمان بقدرة الأفراد والأمم على التفكير المستقل وغير المقيّد بالضرورة بالماضي وبالمرجع.
3- شروط أهل الإجماع (من يحق لهم المشاركة في الإجماع) اشترطت نظرية الإجماع الأصولية أن يكون أهل الإجماع من المجتهدين أي من الفقهاء الذين تتوفر فيهم صفات خاصة ذاتية وعلمية وأخلاقية إلا أن القيم الحديثة فرضت على فريق من علماء الإسلام تجديد النظر في ماهية أولي الأمر؛ فمحمد عبده رفض المقياس الديني في اختيار أهل الإجماع واتجه في طريق ما يمكن وصفه بعلمنة الإجماع من خلال مسارين:
أ- إعادة تعريف أولي الأمر بشكل يقلّص فيه سلطة علماء الدين ويدمج فيه تحت تأثير فكرة الديمقراطية التمثيلية الامراء والحكّام والعلماء ورؤساء الجند وسائر الرؤساء الذين يرجع إليهم الناس في الحاجات والمصالح العامة12.
ب- إعادة النظر في مشمولات أولي الأمر وإخراج مسائل العبادات من مجال نظرهم، فقد ضبط عبده شروط أولي الأمر، ومنها شرط ينص على أن يكون ما يتفق عليه أولو الأمر من المصالح العامة... وأمّا العبادات وما كان من قبل الاعتقاد الديني، فلا يتعلق به أمر أهل الحلّ والعقد، بل هو ممّا يؤخذ عن الله ورسوله فقط. وهذا الرأي ينسجم مع ما ذهب إليه عبده من نفي وجود السلطة الدينية في الإسلام، يقول: "فليس في الإسلام ما يسمى عند قوم بالسلطة الدينية بوجه من الوجوه"13.
يعبّر هذا الموقف عن تأثر المصلحين بالقيم الديمقراطية الحديثة التي تمنح للشعوب ولإرادتها في تقرير مصيرها منزلة جليلة، وهذا ما جعل بعض الباحثين الغربيين يرى أنه "عندما أوّل الفكر الإصلاحي الإسلامي الإجماع بمعنى الإرادة الشعبية لجماعة ذات سيادة هدّد بعنف المعنى التقليدي للإجماع المحدود والمرتبط بمعطيات الوحي"14.
4- قواعد ضمن نظرية الإجماع تأثرت بالقيم الحديثة
أ- قاعدة منع نسخ الإجماع بإجماع لاحق
هذه القاعدة التي يؤكّد عليها أغلب علماء أصول الفقه، من أهمّ تجلّيات غياب قيمة الحريّة في نظريّة الإجماع الأصوليّة. وما يساق لتبرير هذا الموقف برهان عصمة الأمّة. فالعصمة تقتضي منع نسخ الإجماع والشّريعة إعلاء لشأنها وتمييزا لها عن شريعة غيرها من الأمم من أصحاب الأديان الأخرى التي لم تختصّ بالعصمة وكان النّسخ جائزا لها وواقعا بالشّريعة الإسلاميّة.
ومن الواضح أنّ هاجس الأصوليّين الذي يبرّر موقفهم هذا الخشية من التغيّر الذي يمكن أن يطرأ على أحكام الشّرع فينزع عنها طابع الثّبات والدّيمومة والحفظ. وكيف يسمح بالتغيّر بعد أن انعقد الإجماع الملزم الذي لا يترك للأجيال اللاحقة هامشا من الحريّة يمكّنهم من تعديله أو تبديله. ومن شأن هذا الموقف الأصولي المهيمن على المدوّنة الأصوليّة القديمة الحكم على أبناء الحاضر والمستقبل بأن يظلّوا مكبّلين باجتهادات السّلف وحلول الماضي، وكأنّ الحقيقة -دينيّة كانت أو دنيويّة- حكر على السّابقين لا يتقنون إلاّ هم سبل اكتناهها وكشفها.
وإذا كان الأمر على هذا النّحو في الفكر الأصولي القديم، فكيف كان تعامل الفكر الإسلامي الحديث مع هذه المسألة؟ لقد شهد الفكر الإسلامي الحديث التخلي عن هذه القاعدة لدى كثير من ممثليه على غرار محمد عبده، فقد كان من المؤيّدين لفكرة نسخ إجماع لاحق لإجماع سابق إذا لم يكن ممكن التطبيق في ظلّ الظّروف الطّارئة15. والمقصود بالنّسخ هنا مسائل الدّنيا لا مسائل الدّين. وهذا ما أكّد عليه رشيد رضا، فهو وإن احتفظ بالموقف الأصولي القديم في المسائل الدينيّة التي وقع حولها إجماع، فإنّه أجاز في الأمور الدنيويّة إعادة النظر في الإجماع السّابق. يقول: "وللمتأخّرين منهم (الأمّة) أن ينقضوا ما أجمع عليه من قبلهم، بل وما أجمعوا هم عليه إذا رأوا المصلحة في غيره، فإنّ وجوب طاعتهم (أولو الأمر) لأجل المصلحة لا لأجل العصمة (...) والمصلحة تظهر وتختفي وتختلف باختلاف الأوقات والأحوال. وهذا غير ما حظره السّلف من مخالفة الإجماع الذي كانوا يعنون به ما جرى عليه الصحابة وكذا التابعون من هدى الدين بغير خلاف يصحّ عن أحد من علمائهم"16.
وهكذا وقف رشيد رضا إلى جانب تحرير الاجتهاد من ربقة الماضي، لأنّه أدرك بحكم حسّه النّقدي التاريخي أنّ الإجماع الملزم لا يكون كذلك إلاّ لاستناده إلى المصلحة لا إلى العصمة. وبذلك يسبغ على الإجماع طابعا حيويّا وحركيّا يجعله صنوا للاجتهاد البشري المتطوّر وفق الزمان والمكان ويخلع عنه أردية القداسة التي غلّف بها من خلال مبدإ العصمة إلاّ أنّ رشيد رضا لم يجرؤ رغم ذلك على الاقتراب من المنطقة المحظورة، إجماع الصحابة، فأعلن أنّ موقفه لا يقصد به هذا الصّنف من الإجماع.
وقد بيّن علي عبد الرازق انحيازه للموقف الحنفي رغم معارضته لرأي الأغلبيّة، وبنى رأيه على أساس المصلحة قائلا: "ويتصوّر أن ينعقد إجماع لمصلحة ثمّ تتبدّل تلك المصلحة، فينعقد إجماع آخر على خلاف الأوّل. ولكنّ عامّة الأصوليّين أنكروا كون الإجماع ناسخا لشيء أو منسوخا بشيء"17، ويقوم موقفه على رؤية تحترم عقول كلّ جيل، فلا يمكن أن يستأثر جيل واحد بفضل الفهم والاجتهاد. يقول: "ومن حصر فضل الله على بعض خلقه وقصر فهم هذه الشريعة المطهّرة على من تقدّم عصره فقد تجرّأ على الله عزّ وجلّ ثم على شريعته الموضوعة لكلّ عباده الذين تعبّدهم الله بالكتاب والسنّة"18.
والملاحظ أن الشيخ محمود شلتوت سلك هذا الطريق اعتمادا على قراءة حركية للواقع الذي بني عليه الإجماع. ففي رأيه "إذا كان من أسس الإجماع اتّفاق النظر في تقدير المصلحة، وهي ممّا يختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة والأحوال، فإنّه يجوز للمجتهدين أنفسهم أو لمن يأتي بعدهم إذا تغيّرت ظروف الإجماع الأوّل أن يعيدوا النظر في المسألة على ضوء الظروف الجديدة"19.
وقد تطرّق علاّل الفاسي إلى الموقف الأصولي القديم في هذه المسألة، وسعى إلى تفنيده من خلال حجّتين، تتمثّل إحداهما في اعتبار الإجماع متّصلا بالاجتهاد القائم على مراعاة الواقع والمصلحة العامّة لذلك فإنّ إغلاق باب النّسخ فيه لا موجب له. يقول: "ولست أدري الموجب لإقفال باب النّسخ في الإجماع؛ فالمفروض أنّ الإجماع إنّما يتّفق فيه المجتهدون على وجه من الاستنباط من المصدرين الأساسيين مراعاة للظّروف وللمصلحة العامّة"20. فهذه النظرة الحركيّة للإجماع تجعله متطوّرا وفق الزّمن وحاجات النّاس وبهذه الصّفة يضحي الإجماع متحرّرا من سلطة المؤسسة الدينيّة ومن سلطة يريد فريق أو جيل ما من العلماء أن يمارسها على فريق أو جيل آخرين. وهكذا ينقد الفاسي المنظومة الأصوليّة داعيا إلى تجاوزها في مسألة منع نسخ الإجماع حتّى يواكب الإجماع التطوّر ويتكيّف مع حاجات النّاس وقضاياهم المتجدّدة و"الظروف تتبدّل والرجال المجتهدون كذلك يتبدّلون وتحدث للناس أقضية بقدر ما يحدثه الزّمان من تطوّر ومن حاجة. فهل يعقل أن يبقى إجماع عصر حجّة في عصر آخر وقد وجد من الاتجاه العام وأحرى من إجماع المجتهدين ما ينقضه؟"21.
ولعلّه من الطّريف في الفكر الإسلامي الحديث أنّه يمنح الثّقة من جديد بطاقات أذهان الأجيال اللاحقة. فربّ استنباط ما كان ليتأتّى في عصر قبل العصر الذي نحن فيه على حدّ عبارة علاّل الفاسي22. وربّما يبني الإجماع الجديد حكمه "على دليل غفلت الأمّة عنه تبعا لاختلاف العصور وتوسّع مصالح العباد وتطوّر قدرات الاجتهاد ومناهجه"23.
الأثر العملي الفقهي لتوسيع دائرة الإجماع
أدّى ضغط القيم الحديثة إلى خلخلة نظرية الإجماع من خلال إعادة النظر في كثير من قواعدها ومرتكزاتها النظرية وترتبت على ذلك نتائج عدّة على المستوى الفقهي العملي شملت مستويات متنوعة ومنها مستوى الحدود أو العقوبات على غرار حدّ الردّة. وقد اصطدم المدافعون عن حريّة الاعتقاد، وهي حق أساسي من حقوق الإنسان الحديثة، بهذا الحدّ الذي ينصّ على وجوب قتل المرتدّ. وقد وظّفت مصادر التشريع ومنها الإجماع لتأصيل هذا الحدّ. هكذا أشهر الإجماع في هذه المسألة منذ القديم على أيدي علماء مختلف المذاهب الإسلاميّة. ففي المذهب المالكي ذكر ابن عبد البر أن "القتل بالردّة على ما ذكرنا لا خلاف بين المسلمين فيه ولا اختلفت الرواية والسنّة عن النبي (ص) فيه، وإنّما وقع الخلاف في الاستتابة وفيما ذكرنا من المرتدة"24. وقال أيضا تعليقا على حديث "من بدّل دينه فاقتلوه"25: "وفقه هذا الحديث أنّ من ارتدّ عن دينه حلّ دمه وضربت عنقه والأمّة مجمعة على ذلك وإنّما اختلفوا في الاستتابة"26.
وقد عارض كثير من ممثلي الفكر الإسلامي الحديث هذا الإجماع وسعوا إلى تغييره من ذلك مثلا أن محمد توفيق صدقي يرى أنّ القرآن يغيب فيه أيّ أمر بقتل المرتدّ في مقابل حضور نصوص فيه تعضد حرية الاعتقاد. يقول: "وأمّا قتل المرتدّ لمجرّد ترك العقيدة فهذا ما يخالف القرآن الشريف"27. "لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الغَيِّ" (البقرة 2/256). ويحتجّ أيضا بالآية "فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ" (الكهف 18/29).
ولئن كان هذا الموقف خروجا عن الإجماع السّائد في الفكر الإسلامي عبر العصور، فإنّه لا يعدّ قطعا نهائيّا معه، لذلك فإنّه لم يتّهم المسلمين بالاضطهاد الديني بسبب قيامهم بقتل المرتدين في بعض المناسبات، بل حاول تبرير ما حدث بضعف المسلمين وقلّة عددهم بالنّسبة إلى أعدائهم أو بسبب قيام المرتدّين بإلحاق الأذى بهم، وعلى هذا الأساس يجيز قتل المرتدّ المحارب في هذا العصر، فيكون بذلك في منطقة وسطى في موقفه من حدّ الردّة، لأنّ أثر القيم الحديثة ما زال لم يؤثّر فيه وفي علماء عصره بالقدر الذي سيكون عليه بعده، فضلا عن أنّ سلطته المرجعيّة الأساسيّة هي القرآن وليست منظومة القيم الحديثة.
وقد كان موقف الشيخ رشيد رضا شبيها جدّا بموقف صدقي، فقد وجّه إليه السؤال التالي: إذا كان الإسلام لا يضطهد أحدا لعقيدته، فكيف يشرّع قتل المرتدّ الثابت بقوله (ص) "من بدّل دينه فاقتلوه"؟ فأجاب: "فالظاهر أنّ الأمر بقتل المرتدّ كان لمنع شرّ المشركين وكيد الماكرين من اليهود، فهو لأسباب قضت بها سياسة ذلك العصر التي تسمّى في عرف أهل عصرنا سياسة عرفيّة عسكريّة لا لاضطهاد النّاس في دينهم. ألم تر أنّ بعض المسلمين أرادوا أن يكرهوا أولادهم المتهوّدين على الإسلام، فمنعهم النبي (ص) بوحي من الله عن ذلك.. وفي ذلك نزلت آية "لا إكراه في الدين" (البقرة 2/256)28. ويتضّح من خلال هذا الجواب أنّ صاحبه جعل الحديث خاصا بفترة الرسول دون غيرها فقد اقتضته ظروف سياسيّة عسكريّة.
تجديد النظر في الموقف من الرق
من الواضح بالنسبة إلى الناظر في المدونة الأصولية أن يلاحظ البون الشاسع بين رؤية ممثليها لفئة الرقيق ورؤية المحدثين في عصرنا، فانطلاقا من تعريف الرق نقف على موقف استنقاص العبد وعلى حرمانه من حقه في المساواة مع غيره من الناس. ويعرّف في هذا السياق الفقيه والأصولي الحنفي الخبازي (ت 691 هـ) الرق بأنه: "عجز حكمي شرع جزاء في الأصل لكنّه في حالة البقاء صار من الأمور الحكمية، به يصير المرء عرضة للتملّك والابتذال"29.
وما يستدعي التوقف في هذا التعريف الفقهي مناقضته لقيمة المساواة في العصر الحديث، لأن المقصود بالعجز الحكمي عدم أهلية العبد في نظر الشريعة لكثير مما يملكه الحرّ كالشهادة والقضاء والولاية ونحو ذلك. وهذا التعريف فضلا عن ذلك يتناقض مع قيمة أساسية في العصر الحديث هي حرية الاعتقاد، وهو ما يتجلى من خلال معاقبة الكافر على كفره من خلال استرقاقه. لذلك، ذكر الخبازي في تعريفه السابق أن الرقّ شرّع في الأصل جزاء للكفر. ويقوم هذا التصور على نظرة مركزية للإسلام يهمش من خلالها من لا يؤمن بهذا الدين عند بلوغه إليه ويقع إخراجه من دائرة البشر ويجوز بمقتضى ذلك استعباده30.
وبناء على هذا، كرّست المؤسسة الدينية عامة والمدونة الأصولية الفقهية بشكل خاص، موقف تفضيل الحر على العبد حتى عدّت أفضليّة الحر على العبد قاعدة من القواعد التي يقوم عليها الفقه الإسلامي.31
ومن التجليات الأساسية لهذه القاعدة في التنظير الأصولي حرمان العبد من أداء الشهادة في مجلس القضاء بسبب اعتبار الشهادة منصبا شريفا لا ستناسب ودونية منزلة العبد32.
والظاهر أنّ التغيير الجذري في النظرة الفقهية إلى العبد والعبودية لم يحدث إلاّ في العصر الحديث تحت ضغط القيم الحديثة التي تؤكد كرامة الإنسان وحريته والمساواة بين كل البشر مهما اختلفت ألوانهم وأعراقهم ومعتقداتهم، ومن ذلك أنّ قرار إلغاء الرّق في تونس سنة 1846 فــي عهد أحـمـد بـاي وافـق عـليه الـمـفـتــي الـمـالـكــي إبـراهـيـم الـرّيـاحــي (ت 1266 هـ/1855 م) والمفتي الحنفي محمد بيرم الرّابع (ت 1278 هـ/1869 م).
ولا شكّ في أنّ هذه الآراء تنمّ عن تشبع بالقيم الحديثة يدفع إلى رفض ما يتناقض معها من مواقف أصولية وفقهية، لأن كل منظومة تشريعية تحكم على نفسها بالجمود والانقراض إن لم تنسجم مع عصرها.
خاتمة
يمكن أن نقرّ في خاتمة بحثنا أن محاولات تجديد أصول الفقه عبر التاريخ كانت في بعد أساسي من أبعادها علامة من علامات أزمة قيمية تواجهها تلك الأصول في مستوى تجسيدها على أرض الواقع بسبب انحرافها عن جوهر الرسالة القرآنية طورا وهيمنة الدوافع المذهبية على الأصوليين طورا آخر. وكذلك بسبب أزمة منهجية لدى الأصوليين من أهم تجلياتها تركيز الاهتمام على ألفاظ النصوص دون معانيها، وكان من جرّاء ذلك أن أخذ الفقهاء يشرّعون للفرد والمجتمع انطلاقا من تعقب طرق دلالة الألفاظ على المعاني فأبعدهم ذلك عن استكناه مقاصد التشريع لأن مقاصد اللغة أضحت هي المتحكمة.
ويمكن أن نعتبر الدّاعين إلى تجديد المنظومة الأصولية في العصر الحديث ممثلين للمثقفين العضويين الملتزمين بقضايا مجتمعهم وعصرهم، وهم إذ يدعون إلى التجديد إنما يرومون تجنب انقراض المنظومة الأصولية باجتهاداتها وقواعدها وأحكامها لذلك يأملون في تطعيمها بقيم العصر الحديث على غرار إدماج الحرية ضمن مقاصد الشريعة في كتابي الشيخين ابن عاشور والفاسي.
وهذا الفعل التطعيمي وليد استشعار نخبة من ممثلي الفكر الإسلامي الحديث غياب كثير من القيم السياسية وغيرها من المنظومة الأصولية الفقهية القديمة والحديثة فقد وقفوا مثلا على إهمال الدراسات الفقهية والأصولية الدستورية الدائرة على صلة الحاكم بالمحكوم لمبادئ الشورى والعدل والحرية، وبينوا أن الصراع بين المسلمين وأنظمة حكمهم لم يتواصل إلاّ بإهمال تلك القيم وانعدام تطبيقها في الحياة33.
وما من شك في أن الدعوات التجديدية تخلصت من الرؤية الفقهية القديمة للعالم، وهي رؤية متوترة تشيطن المخالف دينيا وترفض الأخذ منه، وتعتبر مقابل ذلك أن الاعتماد على المنظومة القيمية والحقوقية الحديثة لا ضرر من ورائه ما لم يتعارض مع أوامر الدين ونواهيه الصريحة والقطعية. وهو ما عبّر عنه الشيخ علي عبد الرازق الذي نادى بهدم نظام الخلافة لأنه لا يستند إلى أدلة أصولية قطعية وصريحة من جهة ولأنه من جهة أخرى "لا شيء في الدين يمنع المسلمين أن يسابقوا الأمم الأخرى في علوم الاجتماع والسياسة كلّها، وأن يهدموا ذلك النظام العتيق الذي ذلّوا له واستكانوا إليه. وأن يبنوا قواعد ملكهم ونظام حكومتهم على أحدث ما أنتجت العقول البشريّة وأمتن ما دلّت تجارب الأمم على أنّه خير أصول الحكم".34
[1] الطهطاوي، المرشد الأمين، الأعمال الكاملة، 2/469
[2] يقول الطهطاوي: "فقد استبان من هذا احتياج الانتظام العمراني إلى قوّتين عظيمتين، إحداهما القوّة الحاكمة الجالبة للمصالح الدارئة للمفاسد، وثانيهما القوّة المحكومة... المتمتّعة بالمنافع العموميّة"، مناهج الألباب، 1/516-517
ويقول أيضا: "ومع ذلك، فمبادئ العلوم الملكيّة السياسيّة التي هي قوّة حاكمة عموميّة، وفروعها مهملة في الممالك والقرى بالنسبة لأبناء الأهالي مع أنّ تعليمها أيضا لهم ممّا يناسب المصلحة العموميّة"، المصدر نفسه، الصفحة نفسها.
3 الرازي، مفاتيح الغيب، المجلد 5، 9/ 143
4 محمد عبده، الأعمال الكاملة، 2/86
5 علاّل الفاسي، النقد الذاتي، ص 291
6 ابن الأثير، أسد الغابة، 5/38
7 فاطمة مرنيسي، الحريم السياسي، ص 76
8 رجاء بن سلامة، بنيان الفحولة، ص 146
9 ابن عاشور، التحرير والتنوير، تونس، دار سحنون للنشر، 1997، 2/20
10 رشيد رضا، الإسلام هو القرآن وحده، تفسير المنار، 1907، 12/ 918
11 عبد الحميد الزهراوي، رسالة نظام الحب والبغض، الأعمال الكاملة، ص 399
12 محمد عبده، الأعمال الكاملة، 5/ 238
13 محمد عبده، الإسلام والنصرانيّة مع العلم والمدنية، ص 50
14 Henri Laoust, Les shii’smes dans l’islam, p385.
15 رشيد رضا، تفسير المنار، 5/139
16 المصدر نفسه، 5/170
17 علي عبد الرازق، الإجماع في الشريعة الإسلاميّة، ص 98
18 المصدر نفسه، ص 54
19 محمود شلتوت، الإسلام عقيدة وشريعة، ص 546
20 المصدر نفسه، ص 123
21 المصدر نفسه، ص123
22 المصدر نفسه، ص 123
23 رفيق العجم، الأصول الإسلاميّة، منهجها وأبعادها، ص 131
24 ابن عبد البر، فتح المالك بتبويب التمهيد، 8/291
25 رواه البخاري من حديث ابن عبّاس (2794).
26 ابن عبد البر، المصدر المذكور، 8/285
27 المصدر نفسه، ص 520
28 رشيد رضا، الاضطهاد في الدين وقتل المرتدّ، مجلة المنار، يونيو 1907، 10/285
29 المصدر نفسه، ص 374
30 يقول التفتازاني في هذا السياق: "وأما سبب عروضه فالأصل فيه هو أن الإنسان إذا امتنع عن قبول تكليف الشارع بعد بلوغه إليه وعاند فيه، فقد ألحق نفسه بالبهائم والجمادات الخالية عن العقل الذي هو مناط إدراك دلائل الوحدانية وتصديق المعجزات. وإذا كان على تلك الصفة فقد استحق أن تجري عليه أحكام ما تشبه به ولذلك أساغ الشارع في حقه حكم غير الإنسان من كونه مملوكا لا مالكا" انظر محمد بيرم الخامس، التحقيق في مسألة الرقيق، ضمن كتاب المنصف بن عبد الجليل وكمال عمران، محمد بيرم الخامس، بيبليوغرافيا تحليلية مع ثلاث رسائل نادرة، قرطاج –تونس، بيت الحكمة، 1989، ص 294
31 انظر: Mohamed CHARFI, Islam et liberté, le malentendu historique, Alger, 2000, p. 121 (1ère édition, Albin Michel, 1998).
32 يقول الرازي: "وسلب أهلية الشهادة عن الرقيق لأجل أنها منصب شريف والرقيق نازل القدر والجمع بينهما غير متلائم"، المحصول في علم أصول الفقه، 2/321
33 عمار الطالبي، أصول الفقه والاتجاهات المعاصرة في فلسفة القانون، ضمن كتاب جمع أعمال ندوة عن ابن رشد بعنوان "ابن رشد فيلسوف الشرق والغرب في الذكرى المائوية الثامنة لوفاته"، تونس، 1999
34 علي عبد الرازق، الإسلام وأصول الحكم، ص 173