حقوق المرأة في الحضارة الإسلامية من خلال عقود الزواج
فئة : مقالات
حقوق المرأة في الحضارة الإسلامية من خلال عقود الزواج
من المعروف أن الرسالات السماوية والحضارات الإنسانية المختلفة دعت إلى التكوين الأسري؛ وذلك عن طريق الزواج من الأنثى، ذلك الزواج الذي يشكل لبنة أساسية لبناء الأسرة، على أن الزواج في الإسلام اختلفت مقوماته عن مقومات الرسالات السماوية السابقة عن الإسلام. فالمقدمات التي حكمت الزواج في شريعة الإسلام توضح مدى عناية الشريعة الإسلامية بتشريع الزواج، ومدى إحاطته بأدق ما يجب مراعاته عند الإقدام عليه من كلا الطرفين، بما يدلل على مكانته في الإسلام وقدسيته التي سماها من شرعه للإنسان - وهو رب العالمين - بالميثاق الغليظ([1]). كما جاء في الآية القرآنية الكريمة: }وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا{([2]).
لقد عُد الزواج في الإسلام وحضارته آية من آيات الله سبحانه وتعالى في خلقه، حيث قال تعالى: }وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً{([3]). وحث الإسلام على ضرورة الإقدام على الزواج، وعدم إضماره، فهو ضرورة حياتية وحاجة فطرية روحية جسدية أودعها الله في خلقه، كما حث على توثيقه بعقد نكاح شرعي، وذلك طبقًا لما جاء في الآية القرآنية الكريمة: }وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلَكِنْ لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفًا وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ{([4]).
كما أنه من المعروف أيضًا أن كل قوة اجتماعية تنتج بالضرورة تصورًا خاصًا بها حول موضوع الرجل والمرأة، ومدى العلاقة الرابطة بينهما، ونحاول من خلال هذا البحث طرح هذه الرؤية في الحضارة الإسلامية.
فالنصح الإسلامي من منطلق الحفاظ على الأسرة والمرأة استوعب جيدًا منطق الزواج القبلي الذي كان سائدًا قبل الإسلام، والذي كانت تعتريه كثير من المساوئ الاجتماعية، فجاء الشرع الإسلامي بمتغيرات حضارية ومقومات تجعل اختيار الزوج لزوجته اختيارًا صحيحًا، ومن تلك المقومات كونها أن تكون قد نشأت في بيئة صالحة، وبيت طيب مشهور له بالصلاح والعفاف والطهر([5]). فقد نصح الحضرمي قاضي دولة المرابطين في عملية اختيار الزوجة توافرها على ثلاث خصال، هي: طيب الأصل، حسن الخلق، وكمال الدين([6]). كما دل على ذلك قول النبي الأكرم صلى الله عليه وسلم: "تزوجوا في الحجر الصالح، فإن العرق دساس"، وفي رواية أخرى: "تخيروا لنطفكم، فإن العرق دساس"([7]).
كما نجد الرسول صلى الله عليه وسلم يشجع على الاغتراب في اختيار الزوجة، حيث قال: "لا تنكحوا القرابة القريبة، فإن الولد يخرج ضاويًا"، وقوله صلى الله عليه وسلم: "اغتربوا تصحوا"، وفي رواية أخرى: "اغتربوا لا تضروا"([8]). ولهذا كره نكاح الأقارب؛ لأنه مما يقبض النفس عن انبساطها، فيتخيل الإنسان أنه ينكح بعضه، لذا مدح نكاح الغرائب لهذا المعني. ابن الجوزي: صيد الخاطر، الرياض، مكتب بنت خزيمة
لكن الخطير في هذا النصح في إطار التشريع الإسلامي وحضارته - من وجهة نظر من اعتادوا على الأخذ بقاعدة الزواج القبلي - هو أن دوران النساء يصاحبه دوران الخيرات؛ أي: "الإرث"؛ وذلك بفضل حق المرأة في التشريع الإسلامي في الملكية والإرث، مما يعني ذلك أن المرأة في ظل المجتمع الإسلامي هي عامل أساسي في نسف التنظيم القبلي الذي يقوم على وحدة الملكية والإرث، وعدم قابليتهما للانقسام. لكن حين يحث الإسلام على عدم الاحتفاظ ببنات العم لأبناء العم، أو بنات القبيلة لأبناء القبيلة، يعمل على تحقيق وحدة سياسية واجتماعية أرقى من النظام القبلي، وهي وحدة الأمة(10).
على أن السؤال الذي يطرح نفسه هنا هو: ما مدى درجة استيعاب المجتمعات الإنسانية في الحضارات الأخرى لرؤية وتوجيهات الشرع الإسلامي، وما جاءت به المتغيرات الحضارية الإسلامية في الحفاظ على الأسرة والمرأة؟
من منطلق الإجابة على هذا الطرح، أود أن ألمح إلى أهمية دور المرأة في ربط الحضارة الإسلامية بغيرها من الحضارات الإنسانية الأخرى؛ وذلك عبر استخدام الإستراتيجيات الزواجية من أجل تجنب حرب، أو عقد سلام أو اتخذها رمزًا للوفاق السياسي أو هدفًا انتظمت من خلاله إستراتيجية البحث عن السلطة(11).
هكذا نجد أهمية المرأة في عملية الانصهار الحضاري والمجتمعي، والاندماج السياسي، مما يدلل على التواصل بين الحضارات البشرية، متجاوزة من خلاله أو ربما متصارعة في الوقت ذاته، فتبادل النساء بفضل الزواج الخارجي قاعدة حضارية إسلامية استعملها الكثيرون من أجل الحفاظ على السلام، وتحقيق الاستمرار والاندماج([9]).
هذا وإذا كان راغبو الزواج من الرجال قد وضعوا نصب أعينهم بعض الشروط والصفات في عملية اختيار الزوجة، فعلى الجانب الآخر كانت الكفاءة شرطًا أساسيًا أملته الفتاة وولي أمرها في أمر قبول من يتقدم لخطبتها([10]). فهو حق لها لا يستطيع الولي إجبارها على التزويج بمن هو غير كفء لها([11]). وتمثلت الكفاءة في الإسلام والدين والحرية والنسب والقدر والحال والمال، والمراد بالقدر (المنصب والجاه)، والمراد بالحال (أن يشابهها في الصحة)، وربما يحتمل أن يفسر بما يرجع إلى حسن العشرة والخلق([12]).
كان المكروه من الرجال عند النساء رث الحالة، قبيح المنظر([13]). وقد عبرت بعض الأمثال عن رغبة الفتيات في اختيار الأزواج بالقول: "جلوسى في الدار ولا زواج العار"([14]). ويقول مثل آخر على لسان الفتيات: "فراش نقي ولا رجل مرماد"([15]). ولم ترغب فتيات العائلات الطيبة من الزواج بأصحاب المهن المحتقرة، مثل الحجامين، وعمال الحمامات، حيث لم يسمح التشريع الإسلامي لأصحاب مثل هذه المهن بالشهادة أمام مجالس القضاء آنذاك([16]). ولعل ذلك يتنافى مع ما يشار إليه من أن الأب أو الولي كانت له اليد الطولى في تزويج بنته دون أدنى استشارة لها([17]).
بصفة عامة، كان هناك حرص شديد على ذكر الحقوق الأدبية التي خولها الإسلام للمرأة، ومن ثم نجد التأكيد على امتزاج رأي الفتاة واستئذانها وقبولها لعرض الزواج([18]). فكثير من عقود الزواج، سواء في الغرب الإسلامي أو المشرق الإسلامي لا تخلو من عبارة "بإذنها ورضاها"، حيث إن هذه العبارة كانت مهمة لإتمام إجراءات عقد الزواج، واشترط الشرع الحصول على إذن الزوجة لو كانت ثيبًا([19]). وكان في حال غياب الولي الشرعي يطلب من القاضي أن يكون ممثلاً كولي للزوجة أو الفتاة، حيث يجيز الشرع ذلك في غياب الولي الشرعي، فقد ذهب أصحاب المذهب المالكي والشافعي والحنبلي إلى أن النكاح لا يصح إلا بولي، ولا تملك المرأة تزويج نفسها أو غيرها، فإن فعلت لم يصح النكاح([20]).
فالوثيقة رقم 646 بوثائق الحرم المقدسي تبدو لنا ثرية ببعض التفاصيل التي تكشف لنا جوانب مهمة من حياة المرأة، وأن العقود كلها تمت صياغتها وفقًا للشريعة الإسلامية والإجراءات الشرعية وفق المذاهب الإسلامية الأربعة، وتم تأريخها بالتاريخ الهجري([21]). وكانت بعض العقود تبدأ بعبارة "عقده بطريقة"، وهي عبارة تؤكد على شرعية العقد، وأن الإجراءات الخاصة به تمت وفقًا للشرع الإسلامي، وكانت تعتبر علامة لقاضي المناكح تثبت أن الإجراءات تمت في مجلسه، وكان القضاة غالبًا ما يضعون علاماتهم يسار البسملة، وكانت العلامة بمثابة توقيع للقاضي على العقد([22]). وكان العقد يزيل بتوقيع ثلاثة شهود، وشهادة شاهد العدل هي أحد شروط صحة عقد الزواج في المذاهب الإسلامية الثلاثة الشافعي والحنفي والحنبلي، في حين لا يشترط المذهب المالكي ذلك. وكان الشهود يوقعون بكلمة "حضره" في صيغة الماضي، وهي أحد شروط صحة العقد([23]).
من خلال عقود الزواج التي اطلعنا عليها والمؤرخة ما بين بدايات منتصف القرن الخامس الهجري حتى بدايات منتصف القرن التاسع الهجري، نجد أن العقد يتم غالبًا وفق مذهب الزوج، كما أن الصداق الذي انقسم إلى معجل ويسمى "النقد" أو "المقدم"، ويدفع في الغالب الأعم عند إقامة العرس، ومؤخر ويسمى "الكالئ"، ويدفع بعد الزواج، ولا شك أن قيمة "النقد والكالئ" أو "المؤخر والمقدم" هي أمور تختلف حسب البيئات والمستوى الاجتماعي والاقتصادي والسياسي والديني للأسر([24]).
فعقود الزواج في مجموعة وثائق الحرم القدسي تبدأ بكلمة "أصدق" أو عبارة "هذا ما أصدق" أو بكلمة "تزوجت"، كما تمدنا وثائق الزواج بمعلومات مهمة للغاية حول أشكال الزواج، مما يمثل انعكاسًا للتنوع الأثني([25]). ومن خلال عقود زواج طبقة العامة، والتي تمت في الغرب الإسلامي نجد معظم المهور "النقد" أو المقدم كانت متواضعة، حيث تتراوح ما بين واحد دينار وستة وثلاثين دينارًا، في حين أن مقدمات الصداق "النقد" أو المهر بالنسبة إلى الطبقات الأخرى من المجتمع الإسلامي شرقًا وغربًا تجاوزت ثلاثمائة دينار([26]).
هذا إضافة إلى ما كان يصدقه الرجال للنساء من صداق متمثل في النقود العينية؛ تشير بعض النوازل الفقهية إلى أن كثيرًا من الرجال الميسوري الحال كانوا يزيدون في الصداق بعضًا من أملاكهم وعبيدهم وخدامهم، أو يزيدون في صداقهم لزوجاتهم بعض الجنان أو الأراضي المزروعة، ومنهم من كان يبني الدار ويجعلها في مقدم صداق زوجته([27]). وكما هو معلوم أن الشريعة الإسلامية لم تضع حدًا أدنى أو أقصى للصداق، وقد اختلف أصحاب المذاهب الإسلامية في ذلك؛ فالمذهب الحنفي حدد الحد الأدنى للصداق بعشرة دراهم أو دينار، في حين لم يحدد المذهبان الشافعي والحنبلي حدًا أدنى للصداق([28]).
على أنه من المفيد الإشارة إلى أن بعض عقود الزواج قد تضمنت عبارة: "على حكم الحول" بالنسبة للصداق، فيما يعني أن الزوج سوف يدفع باقي قيمة الصداق عندما تطلبه الزوجة، وقد أجاز الفقهاء للزوجين اختيار دفع الصداق وفق ثلاثة طرائق، أولاً: أثناء إجراء العقد، وكان يعبر عنه في العقد بكلمتي "مقبول ومعجل"، ثانيًا: تقسيط قيمة الصداق، وكان يعبر عنها في العقد بكلمتي "منجم مقسط"، ثالثًا: عند طلب الزوجة للصداق، وكان يعبر عنه في العقد بكلمتي "حال، على حكم الحلول"([29]).
أما مؤخر الصداق "الكالئ"، فقد جرى العرف أنه لا بد أن يدفع للزوجة بعد البناء بها لفترة معلومة، وذلك بسبب ضياع عقود الزواج على أثر كثير من الأحداث التي كانت تلم آنذاك بالمجتمعات الإسلامية، حيث كان بعضًا من النساء يطلبن "الكالئ" المؤخر بعد عدة سنوات من الزواج([30]).
في إطار حفظ وصون الحقوق الأدبية للمرأة في الحضارة الإسلامية، فإن عقود الزواج لا تنص على العمر الدقيق للعروس بل يتم تحديدها بطرق أخرى، فتوصف العروس في عقد زواجها بأنها "بكر بالغ"، أي أنها لم يسبق لها الزواج، وبلغت سن البلوغ، أو "المرأة الكامل"، وهي عبارة تعني عادة أنه سبق لها الزواج ولم تعد بكرًا([31]). كما تشير عبارة "الخالية من الموانع الشرعية" في عقود الزواج إلى أن الزوجة ليس لديها أي مانع لزواجها، مثل كونها متزوجة وقت إجراء العقد من شخص آخر، أو لأي سبب آخر([32]). مثل الموانع التي حرمها الله في القرآن الكريم في آية التحريم التي وردت في نسف ما كان عليه زواج الجاهلية([33]).
هذا وحرصت عقود النكاح أشد الحرص على أن تضمن للمرأة حياتها الكريمة إزاء زوجها، لاسيما في ظروف الفراق، وفي هذا الصدد نذكر أن الصيغ التي كان العمل جاريًا بها عند كتابة عقود الزواج لا تخرج جميعها عن النص على حقوق المرأة، حتى لا تتعرض في يوم من الأيام لإساءة المعاملة، أو الإخلال بالواجب، ولا يختص ذلك بطبقة دون غيرها، أو شريحة من المجتمع دون أخرى، لكنها صيغ نجدها في عقود زواج الصانع والعامل والتاجر والفلاح على نحو ما نجدها في عقود زواج القاضي والمفتي والوزير والأمير، فالكل يحرص على ذكر الحقوق التي خولها الإسلام للمرأة([34]).
كما نجد حث الموثقين في العقود على تقوى الله، فلم يخلُ عقد من عبارة "إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان"، وعليه -أي على الزوج- أن يتقي الله في صحبتها ويحمل بالمعروف عشرتها جهده، وله عليها مثل ذلك من حسن الصحبة، وجميل العشرة"([35])؛ وذلك تطبيقًا عمليًا لما جاء من توجيهات شرعية في القرآن الكريم: }وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا {([36]).
كما اشتملت عقود الزواج في الغرب الإسلامي أيضًا على ألا يتخذ الزوج زوجة أخرى، وألا يكون له محظية؛ وذلك دون علم الزوجة الأولى، وفي هذه الحالة فمن حق الزوجة الأولى طرد الثانية التي تزوجها زوجها دون علمها([37]).
هذا، وتقبل الرجال شروط النساء هذه، فنصت عقود الزواج على عبارة "أطاع الناكح المذكور لزوجته المذكورة بعد أن ملك عصمتها بألا يتزوج عليها ولا يتسرى معها، ولا يتخذ أم ولد عليها، فإن فعل شيئًا من ذلك فالداخلة عليها بنكاح ومراجعة طالق، والسرية وأم الولد حرتان لوجه الله"([38]).
كما تضمنت بعض العقود عبارة "قبل الزوج النكاح لنفسه قبولاً شرعيًا بحضرة شهوده"([39]). وهذه العبارة من العبارات الضرورية التكميلية لصحة إجراءات العقد، حيث يعلن الزوج أمام الشهود قبوله للزواج، فلا يحل الزواج أبدًا إلا بقول الولي: "زوجتكها أو أنكحتها، ويقول الخاطب: قد قبلت تزويجها أو نكاحها"([40]).
كما منحت عقود الزواج المرأة في الحضارة الإسلامية حق تصرفها بحرية في مالها، "لا يضارها في نفسها ولا في أخذ شيء من مالها فإن فعل ذلك فأمرها بيدها"([41]). وعندما وجد احتمال غيبة الرجال غيبة طويلة عن زوجاتهم بسبب الخروج للتجارة أو الحرب فقد نصت عقود الزواج على "ألا يغيب عنها غيبة طويلة أو بعيدة أو قريبة طائعًا أو مكرهًا، حيثما توجه من أسفاره أزيد من ستة أشهر إلا في أداء حجة الفريضة عن نفسه، فإن في ذلك غيب ثلاثة أعوام بعد أن يعلم قصده لذلك، فإن زاد عن هذين الأجلين أو أحدهما فأمرها بيدها والقول قولها"([42]).
كما حفظت عقود الزواج حق المرأة في زيارة أهلها، والانتقال من موضع إلى آخر، على أن يتكلف الزوج نفقة التنقل، وعليه مؤنة انتقالها ذاهبة وآيبة، ولا يمنعها زيارة أهلها من النساء وذوي محارمها من الرجال فيما يحسن ويجمل من المتزاورين بين الأهلين والقربات ولا يمنعهم منها، فإن فعل شيئًا من ذلك فأمرها بيدها تطلق نفسها بأي الطلاق شاءت([43]).
بالإضافة إلى ذلك، أشارت بعض النوازل الفقهية إلى ضمان جهاز العروس، فكان ولي الزوجة يطلب حفظ وصون شورة - أي جهاز- ابنته خوفًا من أن يغيب الزوج شيئًا منها، والتزم كثير من الأزواج بضمان جهاز الزوجة([44]).
هذا وتشابه عقد نكاح "الكتابيات" نساء أهل الذمة مع عقد نكاح المسلمات، كما شملت عقود نكاح الكتابيات حفظ وصون شورة - جهاز- الزوجة في وثيقة منفصلة عن عقد الزواج([45]).
يتضح لنا مما سبق أن حقوق المرأة المسلمة منصوص عليها في صلب عقد النكاح الشرعي الذي يجمع بين الزوجين، ولذا عد الزواج في الإسلام أحد العوامل الأساسية في لحمة التقارب الاجتماعي بين العشائر والقبائل وأحد العوامل التي تساعد على الانصهار المجتمعي بمختلف أطيافه، كما عد بأنه أحد العوامل التي تجلب المودة والمسرة بين الأسر والعائلات.
هذا، وظلت المرأة على مر التاريخ الحضاري الإسلامي هي السند الحقيقي للأمة والشعوب الإسلامية، فإلى كل امرأة تعي معنى الحضارة روحًا ومعنى، وإلى كل من تستشعر الخلود، فتعمل له، وتسعى إليه بالعمل الجدي والتضحية، ثم بالأثر الخالد الذي تتركه من بعدها في سفر الخلود، إلى كل عاملة مناضلة، وإلى فتاة اليوم وأم الغد، إلى كل مجتهدة أيًا كان نوع الاجتهاد، أدعوكم جميعًا أن تقرؤوا تاريخ وحضارة الأنثى؛ تلك الأنثى التي داعبها الشعراء في قصائدهم، وتغنوا إليها بأعذب الكلمات، وبأصدق المعاني، وكتبوا لها أجمل النصوص، فكانت هي الجسد الراوي شعرًا، والجسد الصانع أدبًا، والقوام التاريخي الحضاري الذي دون قصصًا، وعزف نايًا، وكتب كتابًا، فكل الكتابة أنثى، وكل الثقافات لا يعتد بها؛ إذ لم تخرج من رحم الأنثى، فالكلام مع النساء حضارة، فإذا ذهبت فمن يعلمنا الكلام، فلولاها لأصبح القلب جليدًا، والعالم خشبًا([46]).
([1]) عبدالفتاح عبد الغني العواري: مقومات الزواج في الإسلام، (2) مجلة الأزهر، عدد ذي الحجة 1445هـ، ص 2791
([5]) عبد الفتاح العواري: المرجع السابق، ص 2788
([6]) القاضي الحضرمي: (أبو بكر محمد بن الحسن المرادي، ت: 489هـ): كتاب الإشارة في تدبير الإمارة، تحقيق: سامي النشار، الدار البيضاء، دار الثقافة، 1981، ص 68
(8) ابن الجوزي: صيد الخاطر، الرياض، دار بنت خزيمة، 1997، تحقيق عامر بن على، ص
([8]) تلخيص الخبير، كتاب النكاح، 5/1581، وهو حديث تبع في إرادة القاضي الحسين، وقال ابن الصلاح: لم أجد لهما أصلاً معتمدًا.
([9]) جمال أحمد طه: المرجع السابق، ص 282
([10]) جمال أحمد طه: المرجع السابق، ص 287
([11]) العلمي: (علي بنموسى)، كتاب النوازل، تحقيق: المجلس الأعلى بفاس، الرباط، مطبعة وزارة الأوقاف، 1983، ط1، ص 79.
([12]) العلمي: المصدر السابق، ج1، ص 79
([13]) الشيخ النفزاوي: كان حيًا 725هـ: الروض العاطر في نزهة الخاطر، تحقيق: جمال جمعة، لندن، قبرص، الطبعة الثانية، 1993، ص 71
([14]) Louis et Elic Niakka: proverbes joudo Arab defes, p. 155- 156
([15]) المرجع السابق، ص 158- 175، جمال أحمد طه: المرجع السابق، ص 288 هامش.
([16]) جوايتاين: دراسات في التاريخ الإسلامي، تعريب وتحقيق: د. عطية القوصي، الكويت، وكالة المطبوعات، 1980، ص 107
([17]) القادري بوتشيش: المجتمع في المغرب والأندلس في عصر المرابطين، ص 25، جمال أحمد طه: المرجع السابق، ص 289
([18]) عبد الهادي التازي: المرأة في تاريخ المغرب، الدار البيضاء، مطبعة الفنك، 1992، ص 16
([19]) السيوطي: جواهر العقود ومعين القضاة والموقعين والشهود، نشر محمد سرور، القاهرة، 1955م، ج2، ص 7
([20]) ابن قدامى: المغني، دار إحياء التراث العربي، بيروت، 1985م، ج7، ص 6
([21]) محمد نصر عبد الرحن، أشرف محمد مؤنس: عقدا زواج ولواحقهما في وثقة غير منشورة من وثائق الحرم القدسي، مجلة حوليات إسلامية، المعهد الفرنسي للآثار الشرقية، عدد 53، لعام 2019، ص 3
([22]) السيوطي: جواهر العقود، ج2، ص 376، كامل العسلي: وثائق مقدسية تاريخية، الجامعة الأردنية، عمان، 1985، ص 22، محمد نصر، أشرف مؤنس: المرجع السابق، ص 92
([23]) ابن فرهون: تبصرة الحكام، ج1، ص 22، المرجع السابق، ص 92، أشرف مؤنس، محمد نصر: المرجع السابق، ص 16
([24]) الونشريسي: المعيار، ج3، ص 347. جمال أحمد طه: المرجع السابق، ص 290
([25]) محمد نصر، محمد مؤنس: المرجع السابق، ص 4
([26]) ابن عذارى المركشي: البيان المعرب، قسم الموحدين، ص 135
([27]) الونشريسي: المعيار، ج3، ص 299، 304، ص 161، 158، ص 300، ص 147
([28]) السيوطي: جواهر العقود، ج2، ص 44
([29]) السيوطي: المصدر السابق، ج2، ص 62. محمد نصر، أشرف محمد مؤنس: المرجع السابق، ص 15
([30]) الونشريسي: المصدر السابق، ج3، ص 173، العلمي: المرجع السابق، ج2، ص 65
([31]) السيوطي: المصدر السابق، ج2، ص 62، محمد نصر، أشرف مؤنس: المرجع السابق، ص 14
([32]) الماوردي: الحاوي الكبير، ج9، ص ص 196- 197
([33]) انظر: آيات التحريم في القرآن الكريم، وقد حددت الشريعة الإسلامية أربعة عشر سببًا لمنع زواج المرأة. انظر: الماوردي، المصدر السابق، ج9، ص ص 196- 197
([34]) عبد الهادي التازي: المرأة في تاريخ المغرب الإسلامي، ص ص 15- 16
([35]) الجزيري: المقصد المحمود في تلخيص العقود، ج1، ورقة 3
([36]) سورة النساء، آية رقم 19
([37]) الجزيري: المصدر السابق، ج1، ورقة 3. وانظر إحدى نوازل الونشريسي في المعيار، ج4، ص 205، 247
([38]) الجزيري: نفس المصدر، ج1، ورقة 3، جوايتان: المرجع السابق، ص 205، جمال أحمد طه، المرجع السابق، ص 297
([39]) ابن فرحون: تبصرة الحكام، ج1، ص 222
([40]) الماوردي: الحاوي الكبير، ج9، ص 153
([41]) الجزيري: المصدر السابق، ج1، ورقة 3
([42]) نفس المصدر السابق، ج1، ورقة 3، وكان المفقود في الحرب يضرب لزوجته أجل أربعة سنين وأربعة أشهر وعشرة لم تتزوج. انظر أيضًا: ابن زكون: اعتماد الحكام في مسائل الأحكام، ورقة 34
([43]) الجزيري: المصدر السابق، ج1، ورقة 4
([44]) الونشريسي: نوازل الونشريسي (المعيار) ج3 ص 324، ج4 ص 205، 325
([45]) الجزيري: المصدر السابق، ج1، ورقة 14
([46]) مقتطف من أشعار نزار قباني، مع التصرف.