حوار مع آمال قرامي مقاربات في راهن الدراسات النّسوية
فئة : حوارات
حوار[1] مع آمال قرامي[2]
مقاربات في راهن الدراسات النّسوية
حاورها د. نادر الحمامي
الثيولوجيا النّسائيّة في الأديان التّوحيديّة
د. نادر الحمّامي: الأستاذة آمال قرامي، تبدو المقاربات النّسويّة والجندريّة والأديان المقارنة في اهتماماتك البحثيّة، مدخلاً أساسيّاً نحو ما يسمّى «ثيولوجيا الدّراسات النّسويّة في الأديان التّوحيديّة»، فهل أنّ إدراج المسألة النّسويّة في سياق الأديان التّوحيديّة عموماً، ينبع من الحاجة إلى إيلاء هذه المسألة حيّزاً أكبر من الاهتمام والنّظر؟
دة. آمال قرامي: هذا الموضوع مهمّ؛ لأنّ الجيل النّسويّ الّذي ينتمي إلى المدرسة التّونسيّة، ولا سيّما الكثير من الباحثات اللّواتي يوصفن بأنّهنّ جريئات في طرح مواضيع من اللّامفكّر فيه، وأنّ لديهنّ القدرة على التّحليل والإقناع من خلال مناهج مختلفة، قد اهتمّ بالدّراسات الدّينيّة، وتلك من بين أهمّ ميزاته. ولعلّ إضافتي أنا المتواضعة، كانت في توظيف مناهج ومقاربات نقديّة للنّسويّات (féminismes) عموماً؛ أي لتيّارات كثيرة ومتعدّدة من النّسويّات؛ فهناك النّسويّة البيضاء والنّسويّة السّوداء والنّسويّة الّتي تهتمّ بقضايا المناخ والبيئة والنّسويّة اللّاتينو-أمريكيّة والنّسويّة الإسلاميّة... والاهتمام بكلّ هذه المقاربات والنّظريّات ومحاولة تطبيقها، هو مشروع يثبت إلى أيّ مدى نحن نشترك مع غيرنا من الباحثات والباحثين الّذين اهتمّوا بمبحث «النّساء-الدّين»، الّذي يطرح علاقة النّساء بالمؤسّسات الدّينيّة وبالنّصوص الدّينيّة فهماً وتأويلاً وبحثاً، والإحاطة بكلّ ما يمكن أن يبعث الحيرة تجاه كافّة أشكال التّمييز ضدّ المرأة على أساس الدّين. وهذه الحركة الفكريّة الّتي تُعتبر مدرسة تونسيّة، هي في علاقة متينة بشكل أو بآخر وبوعي أو بغير وعي، بجميع النّسويّات في العالم؛ فنحن نبني على التّراكمات الفكريّة والمعرفيّة العالميّة ولا نقتصر على البيئة المحليّة أو الفضاء العربيّ والإسلاميّ. وأعتبر أنّ المسلك الّذي اخترته وعر ويتطلّب جهوداً وصبراً ولكنّه مفيد؛ لأنّني عندما أتموقع في مبحث الثّيولوجيا النّسائيّة أو ما يسمّيه البعض اللّاهوت النّسائيّ أو النّسويّة الدّينيّة، فإنّي أجد الإطار العامّ الّذي أنزّل فيه أعمالي، ونقاطاً تجمعني بباحثات في المسيحيّة واليهوديّة وباحثات في الفضاء الإسلاميّ والهندوسي والبوذي وفي الطّاويّة وفي عديد الدّيانات الأخرى المختلفة، ونلتقي في طرح أسئلة جريئة مشتركة تؤرّقنا جميعاً ونبحث في مقاربات تطوير المعجم والمناهج، كما نلتقي أيضاً في الشّعور بأنّنا ندفع ثمن تلك الجرأة؛ ولذلك فهذا البحث يتنزّل في إطار أكاديميّ ومعرفيّ، ولكن أيضاً فيه جانب من المقاومة، أي ما نسمّيه الثّيولوجيا النّشاطيّة (activiste)، لأنّنا ننخرط في النّسوية الدّينيّة، وفي ذلك ارتباط بالواقع وتفاعل مع كلّ أشكال التّمييز في الممارسات الاجتماعيّة وفي الأعراف وفي الثّقافة الشّعبيّة وفي الإنتاجات الثّقافيّة والإعلاميّة، وذلك لا يرتبط فقط بالفضاء العربيّ الإسلاميّ، وإنّما هو مطروح في كلّ المجتمعات في العالم، وضمن هذا الإطار أتموقع، ولا بدّ لي أن أطّلع على تلك المعرفة المتراكمة، وأن أبني عليها وأتواصل معها؛ ولذلك فإنّني أحرص على مواكبة الكثير من المؤتمرات في العديد من البلدان الّتي تختلف عنّا في طرح الكثير من القضايا من زوايا نظر متعدّدة قلّما يعتني بها الدّارسون والدّارسات في محيطنا أو يدركون أهمّيّة التّواصل معها. ولو نظرنا، على سبيل المثال، في الممارسات الطّقسيّة في الفضاء الهندوسيّ أو البوذي نجد أنّها تشغل النّساء في المجتمعات الآسيويّة أكثر؛ لأنهنّ يبحثن عن تعديل الطّقوس الّتي تثقل كاهلهنّ وتظهرهنّ في وضع دونيّ، في حين أنّنا نجد البعد الصّوفيّ والرّوحانيّات تشغل الكثير من النّساء في ثقافات أخرى.
د. نادر الحمّامي: أنت تهتمّين بقضايا العنف وبأشكال التّمييز ضدّ النّساء في الثّقافات التّوحيديّة وفي الثّقافات الأخرى غير التّوحيديّة، فهل يمكن القول إنّ العنف لا يرتبط بدين معيّن، وإنّما هو مشترك بين الثّقافات جميعاً، وبالتّالي فلا هويّة دينيّة أو عرقيّة له؟
دة. آمال قرامي: علينا أن ننسّب الأمور، ولا نقول إن الدّين الإسلاميّ وحده هو الّذي يحمل بنية تمييزيّة ضدّ النّساء، فعندما ندرس النّصوص التّوراتيّة وغيرها من النّصوص الحافّة في اليهوديّة وكذلك نصوص العهد الجديد في المسيحيّة، سنجد بالتّأكيد أشياء تبدو لنا أكثر حدّة في التّمييز والعنف ممّا يوجد في النّصوص الإسلاميّة. فما يجمع بين الباحثات في اللّاهوت النّسويّ أو النّسويّة الدّينيّة، سواء كنّ في الفضاء العربيّ الإسلاميّ أو في فضاء ديانات أخرى ديناميكيّة وتعيش تحوّلات ومحاولات للإصلاح والتّثوير، هو أنّها جاءت باعتبارها ردّ فعل تجاه لاهوت أبويّ (patriarch) تمييزيّ يلغي أصوات النّساء في التّجربة الدّينيّة وأفكارهنّ وطريقة تفاعلهنّ مع النّصوص، وهذا اللّاهوت لا يعتبر المرجعيّة النّسائيّة مهمّة في رصدها وتحليلها، ولا يهتمّ بموقف المرأة في الكنيسة مثلاً وشعورها عندما يُطلب منها الطّاعة والصمت، وعندما تُستبعد من مجالات معرفة النّصوص الدّينيّة في اليهوديّة والمسيحيّة، وعندما تُمنع من تدريس العلوم الدّينيّة ومن التّعبير عن موقفها تجاه كلّ هذا التّمييز والإقصاء والاستبعاد. وهذه الحركة قامت ضدّ منع النّساء من المعرفة وإلغاء تجاربهن، وذلك في اتّجاه العمل أوّلاً، على تفكيك التّصوّرات والبنية الذّهنيّة ودراسة أنماط التّفكير وصورة المرأة في النّصوص الدّينيّة، ومن ذلك إعادة قراءة صورة حوّاء في الكتاب المقدّس، وإعادة النّظر في قصّة السّقوط. وثانياً، في اتّجاه اعتبار المرأة ذاتاً منتجة للمعرفة، وهو اتّجاه أكاديميّ لا يعتبر المرأة موضوع بحث بل باحثة في النّصوص الدّينيّة، وصاحبة مناهج جديدة ومقاربات مختلفة. وقد تناغم هذان الاتّجاهان وتمازجا، وأفرز ذلك، في أواسط القرن العشرين، ظهور عدد كبير من الأكاديميّات النّسويّات في الفضاءات المسيحيّة ممّن نلن الدكتوراه في العلوم الدّينيّة، لتنتقل حركة المقاومة النّسويّة إلى الفضاء الأكاديميّ. وقد مثّلت الولايات المتّحدة الأمريكيّة آنذاك أهمّ فضاء جذّر فكرة تناول مبحث النّساء والدّين في مجالات متعدّدة، ومن بينها المجال الإسلاميّ، ليظهر جيل جديد من الباحثات اللّاتي يمتلكن أدوات النّقد النّسوي، ويمثّلن الموجة الثّانية من النّسويّة، الّتي قامت بتفكيك موقف اليسار من النّساء والمواقف المناهضة للمرأة، واهتمّت بمجموعة من الحقوق ومن بينها الحقّ في العلم والمعرفة والعمل، وعملت على فرض الصّوت النّسائيّ في جميع الفضاءات. وبذلك نجح الفضاء الأكاديميّ في استيعاب النّسويّة والعمل على تفكيك النّصوص الدّينيّة وتمحيصها، لتبرز عدّة أسماء رياديّة في هذا المجال، ما جعل تلك المرحلة التّاريخيّة تقدّم زاداً معرفيّاً مهمّاً ومتطوّراً، وتوفّر أدوات منهجيّة مختلفة وظّفتها نساء ينتمين إلى الكنيسة الإنجيليّة وأخريات ينتمين إلى حركة النّساء السّوداوات الأفرو-أمريكيّة (afro-américaine)، وتمّت دراسة قضايا العرق والعنصر وتطوير المباحث فيها والانفتاح على أطر إصلاحيّة مختلفة. وقد تفاعلت هذه الدّيناميكيّة النّسويّة الكبيرة مع الحركة اللّوثريّة البروتستانتيّة (ق 16م)، وأعلن كثير من الباحثات عن تأثّرهن بهذه الحركة الإصلاحيّة، ولكن لابدّ أن نعرف أنّ لوثر (martin luther) (1483-1546) لم يكن داعماً للمرأة، فقد كشفت بعض الدّراسات النّسويّة الّتي أخضعت أعماله للتّحليل والنّقد، أنّه رغم إقراره بأنّ المساواة بين الرّجال والنّساء أصليّة وجوهريّة، فإنّه اعتبر أيضاً أنّها تتحمّل مسؤوليّة الخطيئة والسّقوط (الخروج من الجنّة)، وأنّها مجبرة على الطّاعة والخضوع، ولم يعترف بحقّها في أن تكون من ضمن القساوسة في الكنيسة، وهذه النّظرة الدّونيّة للمرأة تحدّ من طموحاتها، وتجعل منها خاضعة للرّجل وتجعل السّلطة الكنسيّة من حقّ الرّجال دون النّساء، وتحدّ من دورها في المجال العامّ. لذلك يمكن اعتبار أنّ تأثّر النّسويّة بالحركة الإصلاحيّة اللّوثريّة لم يكن في المضامين والمبادئ الّتي تخصّ المرأة وحقوقها، وإنّما كان في الأثر الّذي أحدثه الفكر الإصلاحيّ اللّوثريّ في المنظومة الكنسيّة، وتحديداً في إعادة قراءة النّصوص الدّينيّة وإعادة فهمها، وهذا ما ذهبت في اتّجاهه النّسويّة الإصلاحيّة.
د. نادر الحمّامي: هل أنّ اهتمام الحركة النّسويّة بالإصلاح الدّينيّ كان من أجل بيان علاقة الدّين بالنّساء وعلاقة النّساء بالدّين ودراستها اجتماعيّاً وسياسيّاً وثقافيّاً، أم إنّ اشتغال هذه الحركة النّسويّة على تفكيك النّصوص الدّينيّة كان أساساً من أجل قطع الطّريق أمام توظيفها من طرف المجتمع الذّكوريّ ضدّ النّساء؟
دة. آمال قرامي: هذا الاهتمام يتنزّل في إطار إعادة قراءة النّصوص الدّينيّة من منظور جديد وبأدوات منهجيّة مختلفة، انطلاقاً من مركزيّة النّظر النّسويّة الّتي تختلف عن مركزيّة النّظر الذّكوريّة؛ لأنّ الرّجل يتعامل مع النّصوص الدّينيّة ويقوم بتأويلها، استناداً إلى فهمه الخاصّ، وإلى الامتيازات الّتي منحها له المجتمع الذّكوريّ، وقد أضافت الدّراسات النّسويّة على ذلك محوريّة المرأة؛ وذلك ليس من أجل تغييب مركزيّة الرّجل، وإنما من أجل إظهار محوريّة تجارب النّساء وأصواتهن المغيّبة في النّصوص؛ فعندما ننظر في تفسير الطّبريّ على سبيل المثال يتبادر إلى أذهاننا التّساؤل أين أصوات النّساء ألم يكن هنالك نساء؟ لذلك فدور النّسويّات المسلمات أن يفضحن الانحياز الذّكوريّ في قراءة النّصوص والكشف عن أصوات النّساء الّتي تمّ تغييبها، وعندما نبحث في الثّقافة الإسلاميّة وفي تاريخ النّساء، نكتشف أنّ عدداً كبيراً منهنّ لم يكن خاضعاً ولم يكن تقبّله للنّصّ الدّينيّ سلبيّاً، ولعلّ الأمثلة على ذلك كثيرة، ومن بينها تلك المرأة من قريش الّتي واجهت عمر بن الخطّاب حين نهى النّاس أن يزيدوا في مهر النّساء على أربع مائة درهم، ونبّهته إلى الآية {وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً} [النِّسَاء: 20])، فعدل عن رأيه وأمر النّاس أن يعطوا من أموالهم ما أحبّوا. كذلك كانت أمّ سلمة (زوجة الرّسول) تستنكر ألّا تخرج النّساءُ مثل الرّجال للقتال والجهاد، فلا تصيب ما يُصيبون من الأجر والثَّواب والشَّهادة والغنيمة، وتستنكر أن ترث المرأة نصف ما يرث الرّجل. كما نذكر زينب بنت عليّ بن أبي طالب الّتي صوّرتها مصادر التّراث الشّيعيّ، على أنّها كانت تابعة للأخ وتخدم مشروعه، وأنّها على استعداد لأن تضحّي بكلّ شيء في سبيله، وأنّها أداة لخدمة المشروع الذّكوريّ، في حين بيّنت الدّراسات النّسويّة عكس ذلك، فقد كانت تحمل مشروعاً سياسيّاً وتؤمن بقضّية. وهكذا فقراءة التّراث بمناهج جديدة من شأنها أن تكشف الكثير من المسكوت عنه والمغيّب من دور النّساء بفعل هيمنة الانحياز الذّكوريّ.
في النّسويّة الإسلاميّة
د. نادر الحمّامي: كتبتِ مقالاً بعنوان «النّسويّة الإسلاميّة، حركة نسويّة جديدة أم استراتيجيّة نسويّة لنيل الحقوق؟»، واضعة بذلك المسألة في إطارها الحقوقيّ والتّاريخيّ المنفتح على الأديان عموماً. ومع هذا، فإنّنا نلاحظ أنّ بعض النّسويّات المسلمات لا يضعن المسألة في سياق تاريخيّ بعينه ولا يربطنها بالنسويّة الدّينيّة أو اللّاهوت النّسويّ؛ فهل يمكن لنا اليوم الحديث عن نسويّة إسلاميّة نابعة من الفضاءات الإسلاميّة في حدّ ذاتها، دون ربطها بسياق عامّ للأديان؟
دة. آمال قرامي: تحدّثنا عن الفضاء الأمريكيّ الأكاديميّ وما قدّمه في مبحث النّساء والدّين، ولا شكّ في أنّ عدداً من المسلمات من أصول باكستانيّة وإيرانيّة وهنديّة تأثّر بهذا المناخ المعرفيّ الّذي يتضمّن الحرّيّة الفكريّة والحقّ في وضع فرضيّات جديدة لمواضيع تُعتبر من التّابوهات (tabous). وكان لنساء كثيرات من بينهنّ دور في تكوين مجموعات في تواصل مع الفضاء التّوحيديّ، وتمّ عقد مؤتمرات مكثّفة حول هذا الشّأن في أمريكا اللّاتينيّة وآسيا، تطارحت قضايا تمسّ وضع النّساء وتفاعلهن مع النّصوص وتفكيك الرّموز النّسائيّة وأدوار النّساء في التّاريخ والثّقافات والمجتمعات، وأدوارهنّ داخل المؤسّسات الدّينيّة. وأنتج ذلك تفاعلاً بين الباحثات ذوات الخلفيّات الدّينيّة التّوحيديّة، رغم تفاوت التّراكمات المعرفيّة بينهنّ؛ إذ يتقدّم اللّاهوت المسيحيّ على اللّاهوت اليهوديّ ثمّ يأتي بعد ذلك اللّاهوت الإسلاميّ. وينبغي أن نشير إلى أنّ بروز حركات الثيولوجيا المسلمة ساهم في دفع التّفكير في قضايا جديدة، مثل إعادة النّظر في الوجوه النّسائيّة في القصص القرآنيّ، والوقوف عند كثير من المفاهيم مثل القوامة والنّشوز والطّاعة والولاية والتّوحيد، وقد ساهم الفضاء الماليزيّ الّذي انفتح على دراسة أدوار النّساء في الإسلام ومفاهيم تتعلّق بقضايا مثل النّفقة والطّلاق والعنف ضدّ المرأة. هذا كلّه يرتبط بمسألة التّأثر والتّأثير، فعندما نتحدّث عن أمينة ودود وهي من النّساء المؤسّسات لهذا التّيّار النّسويّ وغيرها من النّسويّات المسلمات في الفضاء الأمريكيّ خاصّة، لابدّ أن نشير إلى تأثّرهن الواضح باللّاهوت النّسويّ اليهوديّ والمسيحيّ والبروتستانتيّة الإصلاحيّة المسيحيّة؛ وذلك يظهر في أعمالهنّ، وهو تّأثر نابع أيضاً من النّصّ القرآنيّ ومضامين الأحاديث النّبويّة الّتي تكرّس التّمييز ضدّ النّساء، دون أن ينفصل ذلك عن مفهوم الخطيئة في الرّواية التّوراتيّة المتوارثة في الأديان التّوحيديّة، وكذلك قصّة خلق حواء من ضلع آدم، وتصوّرات الأنوثة والذّكورة في علاقة بفكرة الله. وقد تجلّى ذلك في أعمال النّسويّات المسلمات الرّائدات، ولهذا لا يمكن عزل هذه الحركة وتمثّلها بشكل منفصل عن سياق الأديان التّوحيديّة، وكأنّها انبثقت في فضاء إسلاميّ خاصّ بذاته. كما لا يمكن أن ننكر أنّها انطلقت باللّغة الإنجليزيّة وفي الفضاء الأكاديميّ الغربيّ المتحرّر. وإذا كانت هذه الحركة انطلقت من خارج الفضاء الإسلاميّ، فإنّنا نلاحظ انبثاق سياقات نسويّة أخرى اعتبرت روافد مهمّة لها، ولكن من داخل الفضاء الإسلاميّ، وهنا نتحدّث عن النسّويّة الإسلاميّة في إيران الّتي وجدت نفسها بعد الثّورة الإسلاميّة في مأزق؛ إذ فقدت الرّصيد الحقوقيّ النّسويّ المتحقّق قبل الثّورة، ولم يعد ممكناً لها أن تواصل البناء على المكتسبات السّابقة؛ لأنّ السّياق السّياسيّ تغيّر والأرثوذكسيّة الشّيعيّة وجّهت المطالب وجهة أخرى، وقد فرض السّياق الجديد عليهنّ أن يدافعن عن مكتسبات قديمة ولكنّها انتزعت ويطالبن بحقوقهن من داخل الفضاء الإسلاميّ وليس من خارجه، وكان لا بدّ عليهنّ أن يمارسن انتماءهنّ لذلك الفضاء في إطار ما يسمّيه البعض «اللّاهوت النّشاطيّ» (activiste)، وهذا ما ميّزهنّ عن النّسويّة اللّيبراليّة أو الماركسيّة أو العَلمانيّة، وفرض عليهن استعمال حجج دينيّة في سياق النّشاطيّة، فلم يكن متاحاً للنسويّات الأكاديميّات والباحثات إلّا أن يكنّ ناشطات حقوقيّات.
د. نادر الحمّامي: هذه السّياقات المتعدّدة داخل النّسويّة الإسلاميّة الّتي تدعو إلى إعادة النّظر في النّصوص من أجل إنصاف النّساء، وكأنّها تدافع بشكل آخر عن تلك النّصوص الدّينيّة ذاتها وتحصر الإشكال في الصّورة النّسائيّة المغيّبة فيها بفعل الانحياز الذّكوريّ، ألا يؤدّي ذلك بالضّرورة إلى نوع من التّأصيل الذّي يتنافى مع حقوق النّساء باعتبارها جزءاً من حقوق الإنسان الكونيّة؟
دة. آمال قرامي: القراءة النّقديّة الّتي يقدّمها اللّاهوت النّسويّ تتّفق حول محوريّة التّاريخانيّة، باعتبارها منهجاً، وهذا يعني ربط النّصوص بسياقاتها التّاريخيّة المختلفة وبالثّقافات المتفاعلة معها، وإعادة النّظر فيها دون حدود أو أولويّات، وبمطلق الحرّيّة في اختيار أيّ موضوع للبحث والدّراسة النّسويّة. وهذا يختلف عمّا تذهب إليه النّسويّة الإسلاميّة، الّتي تعتبر وجود أولويّات معيّنة، وتنطلق منها في استعادة التّراث الدّينيّ، من ذلك مثلاً أنّها تنطلق من ظاهرة العنف الزّوجيّ الممارس على النّساء، وتعود بمقتضى ذلك إلى آيات النّشوز لاستجلاء المفاهيم وتطويرها بغية الدّفاع عن المرأة، وتنطلق من ظاهرة الهيمنة الذّكوريّة على النّساء في المجتمع الإسلاميّ المعاصر، فتعود إلى أمثلة بارزة لنساء كان لهنّ دور في التّراث الإسلاميّ القديم من أجل التّمكين للمرأة المعاصرة. وهذا المنهج براغماتيّ لا يحاول الخروج عن المنظومة الإسلاميّة، بل يعتمد عليها ويحاول تطويرها لتحقيق أكبر قدر من الحقوق للنّساء. ولكن لا يخفى على الدّارس لهذه التّيّارات المندرجة تحت النّسويّات الإسلاميّات، أنّها تعرف الحقوق الكونيّة والمشترك الإنسانيّ، ولكنّها لا تصرّح بذلك، وتفضّل العودة إلى التّراث الإسلاميّ والبحث فيه عمّا يوافق تلك القيم الإنسانيّة الكبرى، كالمساواة والعدالة النّوعيّة والحرّيّة. وهذا المنهج ينتهي إلى محاولة تأصيل تلك القيم في التّراث الإسلاميّ، وهو ما يعاب على هذه التّيّارات النّسويّة عادة؛ لأنّ ما يطرح على النّساء اليوم من قضايا تستوجب تكريس حقوقها وتحسين موقعها الاجتماعيّ يتجاوز بالضّرورة ما يمكن أن نجده في التّراث، ثمّ إنّ هذه النّسويّة الإسلاميّة تجد نفسها في مواضع كثيرة حبيسة لذلك التّراث؛ أي إنّها تبحث فيه بمقتضى الأولويّات الّتي تضعها بشكل مسبق، وهذا ما يجعلها تنظر إليه باعتباره يمثّل الحقيقة في مقابل التّفسيرات الذّكوريّة الّتي ذهبت به مذهباً تمييزيّاً ضدّ المرأة، وبالتّالي اعتبار أنّ التّمييز ضدّ النّساء، إنّما هو عمل تأويليّ من فعل المفسّرين حتّى يحافظوا على سلطتهم الدّينيّة والاجتماعيّة، وأنّ النّصّ لا يدعو إلى ذلك صراحة. والحال أنّ التّراث الدّينيّ الإسلاميّ في حدّ ذاته، لا يخلو من نصوص تمييزيّة كثيرة ضدّ النّساء لا يمكن تبريرها ولا إنكارها؛ ومنها ما يخصّ مسألة ضرب النّساء (واضربوهنّ...)، فما هو راسخ في أذهان المسلم اليوم أنّ من حقّ الرّجل تأديب المرأة بضربها، وقد يُختلف في آلة الضّرب ومقداره وزمنه، ولكن لا يمكن القول بعدم وجوده. وهناك من داخل النّسويّات الإسلاميّة من يذهبن إلى الإقرار بوجود هذا التّمييز داخل النّصّ الدّينيّ، ولكنّهن يحاولن تبريره، ووضعه في سياق تاريخيّ وثقافيّ خاص، والقول بأنّ النّصّ الدّينيّ وجد هذه الممارسة قائمة في الأعراف من قبله، ولم يكن ممكناً في زمانه أن يُحدث تصادماً مع الثّقافة الماثلة من أجل اقتلاع تلك الممارسة ورفضها بشكل صريح، وهذا ما تذهب إليه بالخصوص الأكاديميّة الأمريكيّة من أصل لبنانيّ عزيزة الهبري (1943)، الّتي تعتبر أنّ شمال الجزيرة العربيّة قبل الإسلام كان له سياق ثقافيّ مختلف عن الجنوب، وأنّ المسألة كانت مطروحة آنذاك من وجهة نظر الشّرف والعرض، أنّها لم تكن أعرافاً جامدة وإنّما كانت متحوّلة ومتطوّرة حتّى في ذلك السّياق الثّقافيّ المحدّد، فتذكر أن ظاهرة وأد البنات الّتي ارتبطت بالخشية من وقوعهنّ في السّبي، وبالتّالي انتهاك شرف القبيلة الّتي ينتمين إليها، قد تحوّلت بعد ذلك بفعل تطوّر العلاقات التّجاريّة والاقتصاديّة إلى ممارسة أخرى، هي بيع النّساء والمتاجرة بهنّ، من أجل كسب الثّروة. وتصل الهبري في بحثها في هذه المسائل إلى اعتبار أنّ النّصّ القرآنيّ ما كان له أن يكون ثوريّاً صادماً للأعراف المتوارثة والموجودة في سياق تطوّريّ متعلّق بالبيئة والثّقافة الموجودة إلّا بالتّدرّج، وهي بذلك تذهب في اتّجاه التّعامل مع النّصّ باعتباره بداية ومنطلقاً وليس باعتباره نهائيّاً مغلقاً. هذه الفكرة الّتي تعبّر عنها عزيزة الهبري وأخريات أيضاً مثل سعديّة الشّيخ، يعتمد على الانطلاق من النّصوص الدّينيّة والآيات القرآنيّة وتطوير قراءتها في أفق أرحب يتماهى مع مطالب النّساء اليوم ومع المنظومة الكونيّة للحقوق والحرّيّات. ويمكن القول إنّ هذا الجهد يأتي في سياق عمليّة توفيقيّة، من أجل إيجاد أرضيّة مشتركة بين الجميع، تتضمّن المدافعات عن النّساء من زاوية نظر الحقوق الكونيّة الشّاملة والمدافعات عن تأصيل القيم الإسلاميّة التّحرّريّة، وهذه المنظومة النّسويّة الإسلاميّة تأخذ أبعاداً منهجيّة وبراغماتيّة ونضاليّة؛ لأنّها توجد في سياقات إسلاميّة، ولا يمكنها أن تدخل معها في صراعات جانبيّة حتّى لا تفقد مشروعيّتها الاجتماعيّة.
د. نادر الحمّامي: نلاحظ أنّ هناك جهة أخرى في المجتمعات العربيّة والإسلاميّة تحاول اختراق النّسويّة الإسلاميّة الحقوقيّة لترويج أفكار ذكوريّة تحت شعارات النّسويّة الإسلاميّة نفسها، وتوظّف في سبيل ذلك طاقات إعلاميّة وماليّة كبيرة جدّاً. كيف تنظرين إلى هذا الأمر؟
دة. آمال قرامي: لعلّ ما ينقصنا اليوم هو أن تكون لنا عادة تقييم ما أنتج ويُنتج حول النّسويّة الإسلاميّة في العالم العربيّ، على غرار ما يقع في فضاءات أكاديميّة أنجلو سكسونيّة وفرنسيّة. فكلّ ما كتب باللّغة العربيّة حول التيّارات النّسويّة الإسلاميّة لم يقيّم بعد من حيث توظيفُ المفاهيم والمعجم والمصطلحات المتداولة، والكثير ممّا يستعمل من مصطلحات يداخله التّشويش والارتباك واختلاط النّعوت والتّسميات، ما يجعله بعيداً عن الانسجام والتّوافق، وهذا من شأنه أن يجعل اختراق هذه التّيّارات متاحاً من طرف جهات ذكوريّة مناوئة لحقوق النّساء وتعمل على تكريس التّمييز ضدّ المرأة وليس دحضه. لذلك أعتقد أنّ على النّسويّات المسلمات اليوم في المغرب الأقصى وفي تونس وفي مصر وغيرها، أن يقمن بنقد ذاتيّ، وهو مشروع وجب أن يشمل كلّ الإنتاج الفكريّ والأكاديميّ النّسويّ، وألّا يُقتصر على بعض المسائل بعينها الّتي أخذت مجالاً واسعاً من الاهتمام على حساب عموم القضايا الأخرى المتعلّقة بالنّساء؛ ذلك أنّ الكثير من الدّراسات تتوجّه إلى قضايا القوامة والنّشوز، في حين أنّ هناك قضايا أخرى أشدّ خطورة على واقع النّساء اليوم، وجب الاهتمام بها في تلك الدّراسات ومن بينها قضايا الشّرف وزواج القاصرات والاغتصاب الزّوجيّ. وينبغي أن يهتمّ هذا المشروع النّقديّ بمسألة اختلاف السّياقات الفكريّة والاجتماعيّة والسّياسيّة، الّتي تحيط بالإنتاج الفكريّ والأكاديميّ النّسويّ، وذلك يأخذ في الاعتبار اختلاف المجتمعات وتركيبتها العقائديّة والطّائفيّة، وهو ما من شأنه أن يجعل بعض القضايا متقدّمة في الأهمّيّة على بعض القضايا الأخرى، من ذلك مسألة الزّواج المدنيّ والزّواج الطّائفيّ والمكانة القانونيّة للأبناء بالنّسبة إلى الأمّ، إلى جانب إدراك اختلاف وعي النّساء أنفسهنّ بذواتهنّ وبحقوقهنّ من مجتمع إلى آخر، ذلك أنّ وعي النّسويّات المسلمات في ماليزيا بأنفسهنّ مختلف عن وعي نظيراتهنّ في جنوب إفريقيا. ولكن هذا لا ينفي أنّ النسويّة الإسلاميّة اليوم فرضت نفسها على الأكاديميا العالميّة، ولم يعد ممكناً في مجال تدريس النّسويّات في العالم التّغافل عمّا أنتجته تلك النّسويّة. ولعلّ النّسويّة العربيّة إلى اليوم لم تفرض نفسها على الأكاديميا العالميّة بنفس القوّة والثّقل. ونعتبر أنّ التّعدّد داخل النّسويّة الإسلاميّة ساهم في إحداث ديناميكيّة وأسئلة جديدة، وأن ارتباطها بقضايا الواقع النّسويّ أكسبها اتّصالاً بفئات نسويّة متعدّدة في الأرياف وفي المحاكم وفي الجامعات، وجعلها ذات طبيعة نضاليّة. وقد خلقت بذلك نوعاً من الوعي لدى النّساء بأنّ من حقّهن إعادة قراءة النّصوص الدّينيّة وتبليغ أصواتهنّ وتجاربهنّ. وإذا نظرنا في التّفاصيل، فسنلاحظ أن النّسويّات المسلمات يتفاوتن في قراءاتهنّ للتّراث وللواقع، ومن بينهنّ من ينحزن إلى القيم الرّوحيّة الماثلة في التّراث دون التّخلّي عن فكرة تثوير المجتمعات من الدّاخل، ومن بينهنّ من يمارسن النّقد المباشر للتّراث؛ لأنّ الواقع الاجتماعيّ المحيط بهنّ يسمح لهنّ بذلك، وهذا ما أشرت إليه في بعض كتاباتي، فاعتبرت أن موقع النّسويّات اللّواتي يتمتّعن بنوع من التّرف المعرفيّ في المجتمعات الغربيّة ليس هو نفسه موقع الباحثات في المجال العربيّ، وهذا من شأنه أن ينعكس على تناولهنّ لنفس القضايا النّسويّة. وما يُحسب لهذه النّسويّة الإسلاميّة عموماً هو أنّها استطاعت التّعبير عن أصوات النّساء في المجتمعات الإسلاميّة، رغم أنّ المنتسبات لهذا التّيار لا يمكن تصنيفهنّ من منظور واحد، فهناك من بينهنّ من يعلنّ انتماءهنّ العقائديّ إلى الإسلام في حين أنّ أخريات يعتبرن أنّ انتماءهنّ إلى الإسلام هو انتماء ثقافيّ قبل كلّ شيء، ولكنّ ما يجمع بينهنّ في النّهاية هو التّيّار النّسويّ الّذي يُعنى بقضايا النّساء المسلمات كيفما كانت في ظلّ أنظمة ثيوقراطيّة تحاول أن تفرض عليها تطبيق الشّريعة.
واقع الدّراسات النّسويّة وضرورة النّقد الذّاتيّ
د. نادر الحمّامي: ولكن هناك سياقات أخرى مرتبطة أيضاً بالواقع ليست فيها أنظمة ثيوقراطيّة، بل إنّ الأنظمة فيها تُعلن أنّها مدنيّة وأنّ قوانينها وضعيّة، ومن بينها السّياق التّونسيّ، الّذي يُعتبر رائداً في مجال التّشريعات الخاصّة بالمرأة بداية من مجلّة الأحوال الشّخصيّة (1956) وصولاً إلى ما نشهده اليوم من تحوّلات دستوريّة وقانونيّة تطرح نقاشاً اجتماعيّاً عميقاً حول الكثير من القضايا الّتي تهمّ المرأة، ومن بينها مسألة المساواة في الميراث وحقّ زواج المسلمة بغير المسلم وغيرها من الإجراءات المندرجة في هذا السّياق. ولكن هذه المسائل وإن كانت متقدّمة جدّاً في المستوى التّشريعيّ، فإنّها في مستوى الواقع والممارسات والإعلام تكشف عن بنية ذهنيّة ذكوريّة محافظة ما تزال راسخة في عمق المجتمع. ولعلّ هذا الأمر يتجاوز مستوى البحوث الأكاديميّة والقوانين والتّشريعات، ليتطلّب نوعاً من العمل الميدانيّ المباشر داخل المجتمع. ألا ترين في هذا السّياق، أنّ الحركة النّسويّة في تونس، على الرّغم من أهمّيّتها الّتي لا يمكن إنكارها، فإنّها بقيت منفصلة شيئاً ما عن الواقع أو عن فهم طبيعة المجتمع، ما سبّب الكثير من المشاكل، وسهّل على الجهات المحافظة المعادية للدّيمقراطيّة بمعناها الحقيقيّ وللمساواة بين الجنسين، أن تجد المداخل لضرب مشروع النّسويّة التّونسيّة الّتي ربّما ظلّت نخبويّة في كثير من الأحيان؟
دة. آمال قرامي: عندما نقرأ ما كتب حول الحركة النّسويّة التّونسيّة من بحوث تقييميّة ونقديّة في العالم، منذ أكثر من عشريّتين من الزّمن، نجد أنّ ما تجمّع حول الأدبيّات النّسويّة التّونسيّة مهمّ للغاية، ورغم ذلك فبعض النّسويّات التّونسيّات اليوم لا يتابعن ذلك ولا يتفاعلن معه. وحين ننظر في بداية تشكّل هذه الحركة نلاحظ أنّها ارتبطت بمفهوم «نسويّة الدّولة» في سياق سياسيّ فرضته دولة الاستقلال بتوجّه واضح نحو تيسير إمكان نيل النّساء لحقوقهنّ، وقد سبق ذلك ارتباط النّسويّة التّونسيّة بشخصيّة فكريّة بارزة ورائدة هي شخصيّة الطّاهر الحدّاد (1899-1935) على غرار ارتباط النّسويّة المصريّة والعربيّة بشخصيّة قاسم أمين (1863-1908)، وارتبطت أيضاً بفكرة الزّعامة، وهو مفهوم ذكوريّ بالأساس، تجسّد في شخص الحبيب بورقيبة (1903-2000)، وقد طرحتُ في مقال لي حول هويّة الحركة النّسويّة التّونسيّة تساؤلاً مفاده: هل نحن بنات الحدّاد أم بورقيبة أم إنّنا تونسيّات أوّلاً؟ واعتبرت أنّنا تونسيّات نسويّات بمرجعيّة نسويّة نضاليّة، وليس علينا دائماً أن نكون في ظلّ رجل سواءً كان أخاً أو زوجاً أو أباً في ثوب مفكّر أو زعيم سياسيّ، ورغم الاحترام الشّديد لهؤلاء، فإنّ الحركة النّسويّة التّونسيّة وجب أن تحقّق ذاتيّتها وأن تنفصل عن الصّورة الذّكوريّة الّتي تكبّلها ولا تستطيع الفكاك منها حتّى بعد الثّورة (2011)، فلماذا تتباهى النّسويّات التّونسيّات بأنهنّ بنات الحدّاد وبورقيبة ولا يتباهين بأنّهنّ سليلات الكاهنة البربريّة مثلاً أو بشيرة بن مراد (1913-1993) أو عزيزة عثمانة (1606-1669) أو راضية الحدّاد (1922-2003) أو نساء أخريات من التّراث التّونسيّ؟ وما يُعاب على النّسويّة التّونسيّة اليوم أيضاً أنّها نخبويّة، وتقوم بالتّمييز بين فئتين من النّساء (النّخب والعوامّ)، وأنّها مرتبطة بتمويلات أجنبيّة، وهو ما يطرح التّساؤل حول مدى قدرتها على تحقيق استقلاليّة قرارها باعتبارها تونسيّة، وغير خاضعة لإملاءات خارجيّة؛ لأنّ لكلّ طرف مموّل إملاءاته ونوعيّة القضايا الّتي يريد الاشتغال عليها والقضايا الّتي يريد تغييبها، وهو ما لا يتلاءم بالضّرورة مع واقع النّساء في المجتمع التّونسيّ ولا يستجيب لأفق انتظارهنّ من الحركة النّسويّة. ولنا أن نتساءل هل هي حركة نسويّة اندماجيّة وقادرة على البناء في علاقة بسياق الثّيولوجيا التّوحيديّة أم أنّها تتعامل مسألة الحقوق والحرّيّات من منظور ما تطرحه عليها تلك الأجندات الخارجيّة ما يجعل رؤيتها المستقبليّة محدودة. ولعلّنا نلاحظ في ما تمّ إنتاجه من بحوث ودراسات أنّه يكرّس نمطين اثنين؛ يقوم النّمط الأوّل على انضباط عدد من الباحثات الأكاديميّات لأجندات الأطراف المموّلة لمشاريعهنّ، وهنّ لا يجدن حرجاً في التّصريح بأنّهنّ لم يستطعن فرض بعض القضايا؛ لأنّها لم ترد في تصوّر الجهة الدّاعمة. ويقوم النّمط الثّاني على تغييب الكتابات النّسويّة باللّغة العربيّة ويقتصر عمداً على الكتابات النّسويّة باللّغات الأجنبيّة، وفي ذلك حيف وتمييز، لا يمكن تفهّمه من جهات تكافح ضدّ التّمييز الذّكوريّ ولكنّها تمارس تمييزاً أشدّ منه أحياناً. ونلاحظ أنّ الكثير من النّسويّات المنخرطات في عدد من الجمعيّات العريقة لا يعترفن بضرورة الانفتاح على الأصوات النّاقدة، ويتعمّدن إقصاء كلّ من يخالفهنّ، وهو ما يجعل الأجيال الجديدة من الباحثات لا تجد نفسها في كلّ هذا المسار النّسويّ؛ لأنّ هناك تفاوتا في الذّهنيّات، ولأنّ ما يقدّمنه من نقد شرس للحركة النّسويّة يجعلهنّ مستبعدات من الاندماج فيها، وبالتّالي فإنّ هذه الحركة النّسويّة الّتي تعيب على الرّجال إقصاء المرأة، قد تحوّلت هي نفسها إلى ممارسة دور الإقصاء على نسويّات أخريات.
د. نادر الحمّامي: خاصة بعد ظهور دراسات جديدة في مجال النّسويّات تؤكّد على مبدأ «الهويّات المتعدّدة» وما بعد النّسويّة.
دة. آمال قرامي: نعم، وهذا الإلغاء النّسويّ يؤدّي إلى ردود أفعال من طرف الجيل الجديد من النّسويّات تقوم على الإلغاء أيضاً، وقد استمعت إلى هذا الجيل في فضاءات متعدّدة وقرأت للعديد من الأسماء المعروفة من بينه في الخارج، ولاحظت أنّهنّ ينطلقن من مواقعهنّ وممّا يشتغلن عليه في إطار أكاديميّ وحقوقيّ ونشاطيّ، ويتجنّبن الحديث عن الحركة النّسويّة التّونسيّة، وإنّما يذكرنها على سبيل ازدراء الجيل المؤسّس فيها؛ لأنّه منغلق عن ذاته ويمارس الإقصاء ويكرّس نوعاً من الهيمنة الأنثويّة النّسويّة، ويعتبرن أنّ ذلك الجيل يغذّي النّزاع بين النّسويّات على الأولويّة وملكيّة الأفكار والسّابقة في النّضال، وأنّ النّسويّة التّونسيّة لم تعد منسجمة مع قضايا النّساء الأساسيّة، ما زاد في تعميق الفجوة بين النّصوص والواقع المجتمعيّ المعيش. وقد لاحظت في هذا السّياق أن جميع الأنشطة الّتي تنظّمها الحركة النّسويّة التّونسيّة والنّدوات الّتي تعقدها، لا تقدّم الإفادة المنتظرة منها للتّونسيّات، فهي في نهاية الأمر تذهب هباءً ولا يبقى منها إلّا التّقارير الّتي توضع على الرّفوف أو تذهب إلى الجهات المموّلة لتشتغل بها، وهو ما جعل هذه الحركة تلعب دور الوسيط الّذي يقوم بنقل أخبار ما يجري في الدّاخل إلى فضاءات في الخارج ليتمّ استغلالها في أغراض أخرى. وهذا يطرح الكثير من الأسئلة حول مدى الاستفادة المتحقّقة من وراء تلك التّمويلات الأجنبيّة، خاصّة أنّ الحركة النّسويّة لم تقم بمراجعات ذاتيّة، وغرقت في خندق الصّراعات النّسويّة ما انتهى بها إلى الانشطار وعدم القدرة على استيعاب الاختلافات والعجز عن بناء فضاء حوار نسويّ مشترك يسع الجميع، ويفضي إلى تغيير الأولويّات وملامسة القضايا الأساسيّة الّتي تهمّ المرأة في حياتها اليوميّة على غرار ما تقوم به الحركات النّسويّة في بلدان قريبة منّا. وقد سبق أن اشتغلت مع حركة النّساء الدّيمقراطيّات في المغرب، ولاحظت أنّ الأولويّة لديهنّ لم تكن اللّقاء النّخبويّة والنّدوات في الفنادق الفخمة والفضاءات المغلقة، ولا خدمة أجندات خارجيّة من خلال التّمويل الأجنبيّ، فقد كنّ يتنقّلن بواسطة الدّواب إلى المناطق الرّيفيّة الصّعبة والنّائية، ويعتمدن على التّواصل المباشر مع النّساء في بيوتهنّ، وقد ترجمن الدّستور ومجلّة الأحوال الشّخصيّة إلى اللّغة الأمازيغيّة واللّهجات المحلّيّة، ووضعوها على محامل مسموعة، ونجحن بذلك في الإحاطة بالنّساء في تلك المناطق حتّى صرن حاملات للمشروع النّسويّ ومدافعات عنه. وهنا أتساءل إلى أيّ مدى تؤمن الحركة النّسويّة التّونسيّة بقضايا النّساء، وبأخلاقيّات العمل النّسويّ؟ ولماذا تتحوّل الكثير من القضايا النّسويّة الحيويّة مثل تشغيل الأطفال إلى مجرّد شعارات نخبويّة بعيدة عن إيمان النّسويّات الحقيقيّ بها في ممارساتهنّ اليوميّة؟ ونلاحظ أن الكثيرات منهنّ ينتهكن حقوق القاصرات ولا يعملن بالمبادئ الّتي يدافعن عنها في مستوى الخطاب، وأغلبهنّ يقمن باستثمار القضايا النّسويّة للمتاجرة بها وتحقيق التّموقع الاجتماعيّ الّذي يمكّنهن من خدمة مصالحهن الضّيّقة. لذلك أعتقد أنّ الوقت حان لأن نناقش الامتيازات النّسويّة، أي ما توفّره الحركة النّسويّة للمنتميات لها من أفضليّة على بقيّة النّساء الأخريات اللّاتي لا يجدن أنفسهنّ ممثّلات في الحركة النّسويّة الّتي لا تطرح قضاياهن، ويتعرّضن لهدر كرامتهنّ ولا يتمتّعن بالأمان الاجتماعيّ والصّحّة والتّعليم والاقتصاد، فلا يكفي أن تتعاطف الحركة النّسويّة مع ما يحدث للنّساء للرّيفيّات المهمّشات من حوادث ومآسي بأن ترفع في كلّ مرّة شعار غطاء الرّأس الّذي يرمز للمرأة الرّيفيّة العاملة في قطاع الفلاحة (foulard) تعبيراً عن التّضامن.
د. نادر الحمّامي: بالإضافة إلى ما أشرتِ إليه من عدم انسجام وازدواجيّة في الخطاب، هناك نقطة أخرى لا تقلّ خطورة عن ذلك، وهي تتمثّل في المناسباتيّة؛ أي إنّ الحركة النّسويّة تستغلّ بعض الحوادث الّتي يتعرّض لها النّساء لتثير قضايا حولها، ولا تقوم بذلك من تلقاء نفسها.
دة. آمال قرامي: وهذا يثير التّعجّب، خاصّة من أشكال التّفاعل مع تلك المناسبات، فهي لا تنسجم مع رمزيّة الحدث، وهذا من شأنه أن يحيد بالقضيّة عن بعدها الحقيقيّ ويحرّف دلالاتها الرّمزيّة. ونلاحظ كيف أنّ ذلك التّعاطف مع النّساء الرّيفيّات بعد ذلك الحادث الشّنيع الّذي وقع لهنّ وأودى بحياة عدد كبير منهنّ، قد جعل من غطاء الرّأس الّذي يحملنه، علامة تجاريّة رائجة يتمّ تسويقها لتحملها الفتيات من دون وعي في غالب الأحيان، ولكن في نهاية الأمر لم ينل أولئك الضّحايا وعائلاتهنّ أيّ فائدة ولم يحسّن ذلك من أوضاعهنّ المتردّية. ومع ذلك، فلا تزال الحركة النّسويّة تتجاهل الآراء النّقديّة ولا تأخذ بها، ولعلّي أجزم أنّ المعضلة الكبرى في الثّقافة العربيّة الإسلاميّة عموماً تكمن في غياب النّقد الذّاتيّ، ولعلّ النّسويّات التّونسيّات في حاجة ماسة لإحداث مراجعات نقديّة ذاتيّة يكون لها أثر في الواقع، فمن غير المنطقيّ أن تتحدّث نسويّات من طبقة اجتماعيّة ميسورة ونخبويّة، عن نساء من فئات اجتماعيّة مسحوقة، ويكنّ قادرات على إدراك مشاغلهنّ وتفهّم مشاكلهنّ، فالأجدر دائماً أن تُعطى تلك الفئات الدّنيا اجتماعيّاً الفرصة حتّى تعبّر عن مطالبها بذاتها، وأن تحاول التّنظّم في إطار جمعيّات ومنظّمات حتّى يتسنّى لها ذلك، ولعلّنا نجد أمثلة كثيرة في التّجربة البرازيليّة، حيث عاينت كيف أنّ النّساء العاملات في البيوت كنّ ينتظّمن في إطار جمعيّات تمكّنهنّ من أن يدافعن عن حقوقهنّ ويُسمعن أصواتهنّ، وكذلك الأمر بالنّسبة إلى النّساء اللّواتي ينتمين إلى الأقلّيّات الأصليّة (indigènes) في أمريكا الشّماليّة وفي المكسيك، اللّاتي يأخذن على عاتقهنّ التّعبير عن حقوقهنّ بأنفسهنّ، لأنّ من غير المنطقيّ أن تدافع عنهنّ نسويّات ليبراليّة أو ماركسيّة. لذلك أعتبر أن من واجب الحركة النّسويّة التّونسيّة أن تشتغل على تطوير الوعي النّسويّ لدى النّساء الرّيفيّات، وأن تشجّعهنّ على التّنظّم حتّى يكنّ قادرات على التّعبير عن مشاكلهنّ ذاتيّاً، دون الحاجة إلى من يتكلّمن عوضاً عنهنّ.
د. نادر الحمّامي: نعيش اليوم انفجار المعرفة الرّقميّة في العالم، ما جعل المعلومة تصل بشكل سريع ويكون تأثيرها أقوى، وهو ما تستغلّه الجهات المحافظة الّتي تسيطر على المجال الإعلاميّ، وتمرّر من خلاله خطابها المعادي للأفكار الحداثيّة، والّذي يصل إلى فئات واسعة من النّساء ويؤثّر في تراجع مستوى الوعي لديهنّ بالقضايا الأساسيّة الّتي وجب أن يتنبّهن لها. وأمام ذلك لا يمكن للعمل الميدانيّ الذّي تقوم به النّسويّات أن يكون ناجعاً خاصّة أمام محدوديّة إمكانيّاته المادّيّة.
دة. آمال قرامي: الإشكال أنّ الجانب المحافظ يمتلك مشروعاً واضحاً مبنيّاً على تصوّر آنيّ ومستقبليّ لما يقوم به، كما يمتلك الآليّات لتحقيق ذلك، وهو يستند على مجموعة من الشّراكات الواسعة مع أطراف أيديولوجيّة في العالم العربيّ تقوم بدعمه؛ وقد انعكس ذلك كلّه بشكل كبير على جعل مواقف الإسلاميّين مؤثّرة في معارضة تطبيق المعاهدات الدّوليّة الّتي تكرّس حقوق المرأة، ومن بينها «اتّفاقيّة القضاء على جميع أشكال التّمييز ضدّ المرأة» (cedaw)، وقد قاموا بتشويه كبير للنّسويّات وهتك أعراضهنّ وسيطروا على الإعلام وهيّأوا المناخ الملائم لبثّ تصوّراتهم والتّأثير في الرأي العامّ، واستعملوا في ذلك النّساء، للتّخويف من النّسويّات المنفتحات ووصفوهنّ بالمتغرّبات والمتبرّجات والمنسلخات عن الإسلام... وفي المقابل لم نلاحظ أيّ ردّ فعل يوازي ذلك التّهجّم وذلك المشروع الظّلاميّ في قوّته وتأثيره على النّساء، أو يردّ عليه بالشّكل المطلوب وباعتماد الوسائل الضّروريّة لذلك. وهذا راجع إلى افتقاد الحركة النّسويّة إلى الإيمان الحقيقيّ بالقضيّة، حيث تكون للنّسويّات الجرأة على الفعل والاستعداد للتّضحية بالنّفس من أجل الفكرة، والالتفاف حول القضيّة النّسويّة والدّفاع عنها بنفس طويل، والظّهور للعلن وعدم الاكتفاء بالاختباء وراء الكتابة الّتي لا تكفي وحدها لتأسيس الرّوح النّضاليّة النّسويّة المطلوبة والإقدام على المواجهة. ولعلّ الحلّ الممكن حتّى تتمكّن النّسويّات من مواجهة ذلك المشروع المحافظ، يكمن في الالتفاف ونكران الذّات والتّضحية والاتّحاد حول مشروع تفكيك التّراث وإنارة الرّأي العامّ بالعمل على الوصول إلى النّاس والتّأثير في مواقفهم باعتماد لغة مبسّطة يفهمونها ويتفاعلون معها، حتّى نستطيع أن نقلب المعادلة، فلا تكون قضايانا النّسويّة مرتبطة بالأقلّيّة وإنّما بالمجتمع بجميع فئاته ومكوّناته.
د. نادر الحمّامي: هذه المسألة كبيرة ورهاناتها متعدّدة ومعقّدة، ولعلّ هذا الحوار مثّل ومضة قصيرة من أجل إضاءة بعض الجوانب المهمّة حول النّسويّة بأبعادها المختلفة وقضاياها المتفرّعة ومشاكلها العميقة وأخلاقيّاتها، وهو ما حاولنا طرحه وكشف تفاصيله معك، ليكون فاتحة لمواصلة البحث والنّقاش حوله، وتعميق النّظر فيه مستقبلاً وفي أكثر من مناسبة. فشكراً جزيلاً لك أستاذة آمال قرامي على ما تفضّلتِ به.
[1] - أجري هذا الحوار في 24 حزيران/يونيو 2019
[2] - أستاذة الحضارة العربيّة الإسلاميّة بالجامعة التّونسيّة، متخصّصة في الدّراسات الجندريّة. مهتمّة بقضايا النّسويّة. حاصلة على الدكتوراه، بأطروحة حول «ظاهرة الاختلاف في الحضارة العربيّة الإسلاميّة: الأسباب والدّلالات» (2004)، صدر لها «قضيّة الرّدّة في الفكر الإسلاميّ الحديث» (1996)، «حرّيّة المعتقد في الإسلام» (1997)، «الإسلام الآسيويّ» (2008)، ضمن (سلسلة الإسلام واحداً ومتعدّداً)، «الاختلاف في الثّقافة العربيّة الإسلاميّة» (2009)، «النّساء والإرهاب دراسة جندريّة» (2017) بالاشتراك، (l'apostasie dans la pensée islamique moderne) (2017))، ولها مساهمات في أعمال جماعيّة، من بينها؛ «ولهنّ الكلمة» (2012)، «النّساء والمعرفة والسّلطة» (2019).