حوار مع حمّادي المسعوديّ


فئة :  حوارات

حوار  مع حمّادي المسعوديّ

حوار[1] مع حمّادي المسعوديّ[2]

من قضايا المنهج في العلوم الإنسانيّة

د. نادر الحمّامي: الأستاذ حمّادي المسعوديّ، لعلّ المتابع لمسيرتك العلميّة والأكاديميّة، يلاحظ انتقالك من المباحث الأدبيّة إلى المباحث المتعلّقة بالنّصوص التّراثيّة الّتي تنتمي إلى المجال الدّينيّ، على اعتبار أنّ المناهج تأخذ من بعضها البعض، سواء كان في المستوى الأدبيّ أو في مستوى قراءة النّصوص الدّينيّة، ونجد أنّك تشير في مقدّمة كتابك «الظّاهرة الدّينيّة» إلى انتقال ماكس مولر (friedrich max müller) (1823-1900) من مجال اللّغة والفيلولوجيا إلى مجال الأديان المقارنة، فهل هذا الانتقال هو من صلب اهتمامك الأوّليّ بالمنهج، وتأكيدك على التّشابك بين المناهج داخل العلوم الإنسانيّة بصورة عامّة؟

د. حمّادي المسعوديّ: هذه المزاوجة بين ما يعدّ من المباحث الأدبيّة في مدرستنا التّونسيّة، خاصّة في مستوى التّعليم العالي، وما يعدّ من المباحث الفكريّة الحضاريّة، حاضرة في أعمالي، ولعلّي أشعر بأنّني لم أقع في نشاز بالمزج بين هذا وذاك. وكما تعلمون، فإنّ الجامعة التّونسيّة تتفرّد بدراسة المسائل الحضاريّة، ولعلّ هذا ما يميّزها من بين الجامعات العربيّة الأخرى، وهذه المسائل تُدرس تحت عنوان الحضارة في مفهومها الواسع، بين القديم والحديث والمعاصر، وهذا غنًى للفكر في بلادنا؛ ولا أدلّ على ذلك من الجودة الّتي تتميّز بها رسائل الماجستير والدّكتوراه، ما يجعل الإقبال على نشرها كبيراً. لقد كانت اهتماماتي في البداية أدبيّة، ولكن عندما انتُدبت في التّعليم العالي درّست أوّل مرة مسائل أدبيّة ومسائل حضاريّة، وسرعان ما تخصّصت في تدريس المسائل الحضاريّة، لقلّة المتخصّصين فيها، وكانت بداية التّأليف في الأدب بكتب حول التّوحيديّ وابن بطّوطة وفنّيّات قصص الأنبياء في التّراث العربيّ، وهي دراسات أدبيّة وعلى أساسها انتُدبت للتّدريس في الجامعة، وما شعرت به وأنا أنتقل إلى تدريس المسائل الحضاريّة هو أنّ ما لم أجده من متعة في الدّرس الأدبيّ وجدته في الدّرس الحضاريّ، وهذا يتوافق مع ما ذهب إليه غريس (paul grice) (1913-1988) في المقدّمة الّتي كتبها حول متخيّل النّصوص المقدّسة، وألحّ فيها على المتعة في قراءة النّصوص الّتي تنتمي إلى المجال الفكريّ والحضاريّ. لذلك فما ألّفته في مجال الفكر والحضارة متمّم لما سبق أن كتبت فيه في مجال الأدب، ولعلّه في قسم منه موصول بما أفضت إليه دراسة البنية الشّكليّة للنّصوص، والتي قد تكون أقلّ قيمة ما لم تُفض إلى دراسة المضامين الفكريّة، وربّما هذا ما لا نجده في الدّراسات الشّكلانيّة والبنيويّة أساساً، لذلك أرى أنّ الدّراسات الّتي أنجزتها بعد أطروحة الدّكتوراه تقدّم إضافة مهمّة إلى ما اشتغلت عليه في الدّراسات الأدبيّة.

د. نادر الحمّامي: الإشكال إذن منهجيّ وليس معرفيّاً؛ ولذلك نجدك تلحّ في مقدّمات كتبك على مسألة المنهج، خاصّة في كتابك الأخير، وقد خصّصت أكثر من صفحة للحديث عن منهج محمّد أركون، وكيف أنّ الاستفادة من المناهج الغربيّة الحديثة لا تعني إسقاطها على نصوص التّراث، فكأنّك تدعو منهجيّاً إلى تجاوز المقاربات القديمة للنّصوص، ولكنّك مع ذلك تحذّر من الوقوع في الإسقاط.

د. حمّادي المسعوديّ: نعم، أنا ألحّ على أهمّيّة الدّراسات الّتي تنهض على منهج، وأعتبر أنّ كلّ بحث أو باحث لا يستند إلى منهج سرعان ما تضلّ به الطّريق، ولعلّنا في حاجة أكيدة إلى أن نعتمد على المناهج الحديثة الّتي نشأت طيّ العلوم الإنسانيّة، ولعلّنا نلاحظ أنّ دراسات كثيرة غير مفيدة؛ لأنّ المنهج الّذي تعتمده في معالجة القضايا غير سويّ، فالأفكار مطروحة على قارعة الطّريق كما قال الجاحظ منذ القرن الثّالث الهجريّ، ولا سيّما في هذا العصر الإلكتروني، فيكفي أن تضغط على زرّ حتّى تنثال عليك المعلومات انثيالاً، كما أنّ الباحث يمكن أن يصل إلى الكثير من الأفكار من خلال تفكيك النّصوص الّتي يشتغل عليها أو بالعودة إلى مباحث سابقة في مجاله، ولكن القضيّة تكمن في ضرورة تنظيم تلك الأفكار المتدافعة بكثرة، والقدرة على تضمينها في سياقات، وبعثها في مناهج جديدة عقلانيّة ورصينة، وإقامتها على بناء متناسق في مختلف مراحل البحث من المقدّمة إلى المتن حتّى الخواتيم. وقد اهتممنا بهذا الموضوع في مستوى المباحث الجامعيّة في جامعة القيروان، منذ نهاية التّسعينيات، وخصّصنا له ندوة علميّة دوليّة حول «إشكاليّة المنهج في العلوم الإنسانيّة»، صدرت في كتاب عن مركز الدّراسات الإسلاميّة بالقيروان، حين كنت مديراً له، ثمّ انتبهنا إلى أنّ إشكاليّة المناهج قائمة ومستمرّة، فخصّصنا لها ندوة علميّة دوليّة أخرى سنة 2012، تمّ نشرها في جزأين. هذا يؤكّد على أهمّيّة المناهج، وضرورة الاهتمام بالإشكاليّات المتعلّقة بها، فما لم نحسن اختيار المناهج الّتي نعتمدها في أبحاثنا، لن تكون النّتائج الّتي نحقّقها في مستوى ما نطمح إليه من جودة. وقد دأبنا على تشجيع الباحثين والطّلبة في مستويات الماجستير والدكتوراه على إيلاء هذه المسألة الأهمّيّة المطلوبة.

د. نادر الحمّامي: نلمس من خلال بحوثك أو البحوث الجامعيّة الّتي أشرفت عليها في كلّيّة الآداب والعلوم الإنسانيّة بالقيروان، أنّك تميل إلى المنهج المقارنيّ خاصّة في المباحث الّتي تتعلّق بالمتخيّل الدّينيّ والظّاهرة الدّينيّة بمفاهيمها الكبرى، وقد اخترت في مقدّمة كتابك الأخير حول الظّاهرة الدّينيّة، ثلاثة أعلام في مجال الأديان المقارنة، بداية من ماكس مولر (friedrich max müller) (1823-1900)، مروراً بصاحب الغصن الذّهبيّ فريزر (james george frazer) (1854-1941)، وصولاً إلى دوميزيل (georges dumézil) (1898-1986)، وهم الآباء المؤسّسون لعلم الأديان المقارن، فهل كان هذا الاختيار مدخلاً منهجيّاً الغاية منه إزالة الأحكام القيميّة المتعلّقة بالتّراث العربيّ الإسلاميّ، وبالتّالي فضّ الإشكاليّات الّتي تجعل منه محطّ احتقار من جهة أو محطّ تبجيل من جهة أخرى؟

د. حمّادي المسعوديّ: يعود الاهتمام بالمقارنيّة (le comparatisme) أو المنهج المقارنيّ، إلى السّنة الجامعيّة 2002 و2003، عندما بعثنا شهادة ماجستير الدّراسات المقارنة في اللّغة والآداب والحضارة في كلّيّة الآداب والعلوم الإنسانيّة بالقيروان، وركّزنا فيها على الدّرس المقارنيّ، وهو ما أفدت منه كثيراً مثلما أفاد منه طلبتنا في مستوى إعداد رسائل الماجستير والدكتوراه، والدّليل على ذلك أنّ أغلب رسائل الماجستير الّتي أشرفت عليها منشورة في مؤسّسة مؤمنون بلا حدود. وفي هذا السّياق أؤكّد أنّ النّصوص الدّينيّة جميعاً، بما فيها القرآن، لا يمكن أن تُفهم بعمق ما لم نرجع إلى النّصوص المقدّسة السّابقة لها، وحتّى نفهم القرآن باعتباره النّصّ المقدّس لدى المسلمين، لا بدّ من العودة إلى النّصّ المقدّس بعهديه القديم والجديد، والعودة كذلك إلى النّصوص الّتي تُنعت في اليهوديّة والمسيحيّة بأنّها منحولة (apocryphe)، أو لنقل النّصوص الّتي لا تعترف بها المؤسّسة الدّينيّة الرّسميّة في هاتين الدّيانتين، أو النّصوص غير القانونيّة (n'est pas canonique)، ذلك أنّ النّصّ القرآنيّ يحتوي طبقات نصّيّة متعدّدة مأخوذة من نصوص مقدّسة سابقة، والغريب في الأمر هو أنّ القرآن في بعض آياته ينعت النّصوص الدّينيّة السّابقة في اليهوديّة والمسيحيّة بالتّبديل والتّحريف، ويتضمّن مع ذلك اقتباسات من نصوص دينيّة هي عند المؤسّسة الدّينيّة الرّسميّة اليهوديّة والمسيحيّة منحولة، والأمثلة على ذلك كثيرة؛ فلو نظرنا في معجزات يسوع المسيح من خلال القرآن، نجد من بينها ما يتوافق مع ما ورد في نصوص العهد الجديد، ولكنّنا نجد أيضاً من بينها ما لم يذكر في نصوص العهد الجديد الرّسميّة، وإنّما هو مذكور في النّصوص المسيحيّة الّتي صودرت، ومثال ذلك أنّ ما نجده في الآية 49 من سورة «آل عمران» {وَرَسُولاً إِلَى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ وَأُحْيِيْ الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِما تَأْكُلُونَ وَما تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} لا يوجد في النّصوص الإنجيليّة الرّسميّة، بل نجده في النّصوص المنحولة. لذلك فكثير من هذه النّصوص الّتي يعتقد المسلمون أنّها من الوحي الإسلاميّ، هي مستمدّة من أنبياء بني إسرائيل، وخاصّة من التّوراة، الّتي يرد ذكرها في النّصّ القرآنيّ مرّات عديدة، والتّوراة ليست العهد القديم، وإنّما هي النّبوّة المتعلّقة بموسى فقط، أي الأسفار الخمسة الأولى من العهد القديم، الّذي يحتوي حسب المؤسّسة الدّينيّة الرّسميّة على 39 سفراً. وحتّى نفهم النّصّ القرآنيّ لا بدّ أن نُرجعه إلى مصادره الأصليّة، وينبغي لإنجاز ذلك أن نتسلّح بالمنهج المقارنيّ، فهو ضروريّ لأنّ من شأنه أن ينبّهنا إلى هذه الطّبقات النّصّيّة، وبالتّالي فهو يمكّن الباحث في الأديان من توسيع آفاقه المعرفيّة. إلّا أنّ الدّراسات الدّينيّة الرّسميّة لا تعترف بهذا المنهج المقارنيّ، لأنّها ترفض القول إنّ القرآن يحتوي نصوصاً دينيّة سابقة، رغم أنّ النّصّ القرآنيّ نفسه يؤكّد على ضرورة الاعتراف بالأنبياء السّابقين وبكتبهم.

في التّعامل مع النّصوص المقدّسة

د. نادر الحمّامي: بالنّظر إلى ما تطرحه المباحث الّتي اشتغلت عليها حول الظّاهرة الدّينيّة من أسئلة، قد يثير تكرارها لدى البعض نوعاً من الاستفزاز المعرفيّ. فهل يمكن دراسة مقولة مثل مقولة الوحي، وهي مقولة إيمانيّة، دراسةً أكاديميّة علميّة؟

د. حمّادي المسعوديّ: للتّكرار وظائف، تبدو أحياناً منهجيّة وكذلك معرفيّة، فما كلّ تكرار ممجوج، وبهذه المناسبة أقول إنّ القرآن نصّ ينهض في الكثير من سوره وآياته على التّكرار، وهي ظاهرة تتجلّى فيه بوضوح كما تتجلّى في الثّقافة الّتي تخلّق فيها، من ذلك وجودها في الشّعر الجاهليّ، فهي ظاهرة لها وظيفتها. ولئن كانت مسألة الوحي إيمانيّة، فهذا لا يمنع من دراستها علميّاً، لذلك علينا أن نخرج بدراساتنا الدّينيّة من التّعامل العاطفيّ الإيمانيّ إلى الدّراسة العلميّة الموضوعيّة والمحايدة، بغضّ النّظر عن تعلّقها بالنّصّ المقدّس، وإن كان على المتخصّص في هذا المجال أن يتخلّى عن إيمانه لتحقيق تلك الشّروط العلميّة، فلا يعني ذلك أن يتخلّى عنه مطلقاً، وإنّما أن يكون قادراً على الفصل بين إيمانه الذّاتيّ وشروط الدّرس، ولعلّ هذا ما ينقصنا في عالمنا العربيّ والإسلاميّ، ولذلك طغت على مجال دراسة الظّاهرة الدّينيّة الدّراسات التّقليديّة الّتي تقوم على النّقل والرّواية لا على العقل والرّويّة. ومن شأن بلوغ هذه الدّرجة من الفصل في التّعامل مع المسائل الدّينيّة، أن يجنّبنا الكثير من المتاهات والصّراعات والتّوتّر والتّشنّج. هذا ما أسمّيه ضرورة التّحلّي بالحياد الدّينيّ، وهو ما وصل إليه الغرب، وقد تجاوزونا بأشواط كبيرة، عندما أخضعوا النّصوص الدّينيّة المقدّسة والتّراث الدّينيّ عموماً، إلى الدّراسة العلميّة الموضوعيّة العقلانيّة في إطار بحوث النّقد الكتابيّ (la critique biblique)، وقد غنموا كثيراً حتّى إنّهم صاروا يتحدّثون عن علم اللّاهوت العلماني (la théologie laïque). والعجيب في هذا الأمر هو أنّ رجال الدّين وعلماء اللّاهوت المسيحيّين هم من أخضعوا النّصوص الدّينيّة المقدّسة إلى شروط النّقد العلميّ، خذ على سبيل المثال ما قام به رودولف بولتمان (rudolf bultmann) (1884-1976) الّذي أخضع النّصوص الإنجيليّة إلى قراءات عَلمانيّة، وانتهى إلى استنتاجات على قدر كبير من الأهمّيّة. لذلك فالتّعامل مع النّصوص الدّينيّة بطريقة انفعاليّة إيمانيّة، من شأنه أن يوقعنا في الكثير من التّحامل على الأديان الأخرى، لأنّنا سنعتمد ديننا ونصوصنا المقدّسة معياراً في ذلك التّعامل، والحال أنّ علم الأديان وعلم الأديان المقارن وعلم الاجتماع الدّينيّ، كلّها تؤكّد على ضرورة الاعتراف بمختلف الأديان بما فيها الأديان الأقلّيّة، وأذكر ههنا المقولة المشهورة لإيميل دوركايم (Emile durkheim) (1885-1917) «لا يوجد دين خاطئ ودين صحيح، فكلّ الأديان صحيحة»، وعندما ننطلق من هذا الاعتبار، فإنّنا سوف نتعامل مع نصوصنا بشكل مختلف، وسنعترف بنصوص الآخر المخالف في الملّة ونحترمها ونحترم المؤمنين بها. وعندما نتوخّى المنهج العلميّ في التّعامل مع نصوصنا الدّينيّة، لن تكون آفاقنا المعرفيّة ضيّقة، لأنّنا، ونحن نعالج هذه النّصوص، سنستحضر النّصوص الأخرى الّتي تمثّل، هي أيضاً، نصوصاً مقدّسة لدى المؤمنين بها؛ لذلك أقول إنّنا ما لم نتسلّح بمناهج العلوم الإنسانيّة الحديثة على اختلافها، بما فيها المنهج المقارنيّ، فإنّ دراساتنا حول الظّاهرة الدّينيّة ستظلّ فيها ثغرات، من شأنها أن تُنشئ العداء بين المؤمن بهذا الدّين والمؤمن بدين آخر. ولعلّ من أكبر مشاكلنا اليوم في مجتمعاتنا العربيّة والإسلاميّة أنّنا نتعامل مع النّصوص الدّينيّة تعاملاً ذاتيّاً انفعاليّاً غير موضوعيّ، ونحن نعرف أنّ الكثير من عمليّات الإرهاب الدّينيّ موجّهة لأناس لا ذنب لهم سوى أنّهم لا ينتمون إلى الدّين الّذي نؤمن به. ولو تأمّلنا في دين الآخر فسنعرف أن نصّنا المقدّس يحتوي مقاطع من نصوصه، وسيزول التّوتّر، وسنصبح أكثر احتراماً لذلك الآخر الّذي يخالفنا في الملّة، بالقدر الّذي يحترم اختلافنا عنه، لا سيّما أنّ المجتمع العالميّ قد توجّه منذ منتصف القرن العشرين نحو تكريس منظومة حقوق الإنسان المستندة إلى مجموعة من الحرّيّات، ومن بينها حرّيّة الضّمير وحرّيّة المعتقد واحترام حقوق الأقلّيّات.

د. نادر الحمّامي: إذا ما نظرنا في عنوان كتابك «الوحي من التّنزيل إلى التّدوين»، يمكن أن نفهم من المفردة الأولى إقراراً بأنّ النّصّ من صميم الوحي الإلهيّ المُنزل، وهذا يذهب شيئاً ما إلى الاتّفاق الإسلاميّ العامّ، ولكن حين نقرأ بقيّة العنوان (من التّنزيل إلى التّدوين) نفهم أنّ لهذا الوحي سيرة وتاريخيّة، انتهت به إلى أن يكون بين دفّتي مصحف، فانتقل من مرحلة إلى أخرى عبر التّدوين، ما يجعلنا نلاحظ أنّك تخالف ما ذهب إليه المنظور التّقليديّ من مطابقة بين الوحي والتّدوين، كما تخالف من جهة أخرى، الدّرس الاستشراقيّ، لا في المنهج، وإنّما في اعتبار إمكان وحي مسيحيّ أو يهوديّ في مقابل إقصاء إمكان وحي إسلاميّ، لتضع كلّ هذه الأصناف من الوحي في دائرة واحدة، ولعلّك تكرّس بذلك منهجاً ثالثاً بين المنظور التّقليديّ، من ناحية، والدّرس الاستشراقيّ كما استقرّ منذ القرن التّاسع عشر، من ناحية أخرى. فهل تجد هذه الملاحظات الّتي يثيرها عنوان كتابك صائبة؟

د. حمّادي المسعوديّ: للقارئ الحقّ في أن يقف عند كلّ لفظ في عنوان، وينقده أو يبيّن ملاحظاتك حوله، فالكتاب بعد نشره لا يكون ملك صاحبه وإنّما هو ملك القارئ ورهن قراءته، والقراءة قراءات. وإذ يحاول هذا الكتاب أن يعالج الكثير من القضايا الموصولة بالنّصّ المقدّس، أي القرآن، فإنّه يطرح نظرة لهذا النّصّ مخالفة لما تسوّغه حوله المؤسّسة الدّينيّة الرّسميّة ومن يدّعون الوصاية على الدّين، الّذين يقولون بأنّ النّصّ منزّل ومُتلقّى من الذّات الإلهيّة، ما يجعله محفوظاً من التّبديل والتّغيير. وقد حاولت أن أبيّن في مختلف فصول الكتاب أنّ هذه الأطروحة ليست سليمة، وأنّ النّصّ الحامل للوحي موجود بين دفّتي مصحف تمّ تدوينه بقرار سياسيّ في عهد عثمان بن عفّان، وأنّ الاعتقاد السّائد لدى أكثر المسلمين وأغلب علماء القرآن القدامى، بأنّ القرآن جُمع في عهد الرّسول، هو اعتقاد مجانب للصّواب؛ فلو نظرنا إلى النّصّ في تاريخيّته منذ عهد النّبوّة إلى زمن التّدوين، فإنّنا نقف على اختلافات بين الرّوايات للنّصّ نفسه، بين ورش وقالون وحفص وغيرهم، كما أنّ علماء القرآن القدامى أثبتوا وجود مصاحف مختلفة، وبالعودة إلى «كتاب المصاحف» لابن أبي داود السّجستاني (230-316هـــ) نتبيّن وجود اختلافات في مصاحف الصّحابة والتّابعين وحتّى في مصاحف زوجات الرّسول، أضف إلى ذلك تعدّد القراءات بين سبع كرّسها ابن مجاهد، وعشر وأربع عشرة قراءة. لذلك فهذه الاختلافات جميعها تدلّ على أنّ ما اعتقد المسلمون بأنّه نصّ منسجم غير مختلف فيه، هو في الحقيقة على خلاف ذلك مختلف فيه وغير منسجم. وقد تعرّضت في القسم الأوّل من الكتاب، إلى قضيّة الثّقافة الشّفويّة، وهي مسألة مهمّة في سياق تفسير العناصر الّتي ذكرتها آنفاً، وما لم نضع النّصّ القرآنيّ في إطاره الثّقافيّ الشّفويّ الّذي تخلّق فيه، فستظل قراءتنا ناقصة، فلثقافة المشافهة تأثير كبير انعكس على اختلاف القراءات للوحي، وقد ذكرت كتب علماء القرآن القدامى أنّ الكثير من الصّحابة تظلّموا لدى الرّسول بسبب اختلاف قراءة صحابيّ عن قراءة صحابيّ آخر مزامن له، وكان الرّسول يدعو المتظلّمين بأن يأمر هذا بقراءة الآية الّتي وقع فيها الاختلاف وبعد أن ينتهي من القراءة يقول لصاحبها «أحسنت، وهكذا نزلت»، ثم يأمر الآخر المختلف فيقرأ قراءة مختلفة، فيستحسنها الرّسول، ويقول له الجملة نفسها، «أحسنت، وهكذا نزلت»، ومعنى هذا أنّ الرّسول حين كان يُقرِئ الصّحابة، لم يكن يعوّل على نصّ مكتوب ثابت، وإنّما كان يُقرئ من حوله مشافهة، وقد تكون القراءة لجماعة، وقد تكون لأفراد، وفي أزمنة وأمكنة مختلفة، وقد يكون إقراءُه لصحابيّ مختلفاً عن إقرائه لصحابيّ آخر؛ وهكذا فالقضيّة ترجع بالأساس إلى مسألة التّداول الشّفويّ للقرآن.

د. نادر الحمّامي: نلمس في الدّرس الاستشراقيّ، خاصّة مع غونتر لولينغ (günter lüling) (1928-2014)، طموحاً للوصول إلى ما يسمّى «ما قبل المصحف» أو القرآن في مرحلته الشّفويّة الّتي تحدّثت عنها، فهل هذا الطّموح مشروع فكريّاً وأكاديميّاً، وهل لنا ما نعتمد عليه للوصول إلى ذلك؟

د. حمّادي المسعودي: لو لم يكن لدينا ذلك الطّموح لما قمنا بهذه المباحث. ولكي نحقّق ذلك، علينا العودة إلى المصطلح القرآنيّ وإعادة فهمه من جديد، لذلك فاستعمالي في الكتاب لمصطلحات (الوحي، التّنزيل، التّدوين...) لم تكن الغاية منه أن أقرّها، وإنّما هو استعمال تداوليّ، فلا علاقة على سبيل المثال بين مصطلح «التّنزيل» الّذي أستعمله، وبين ما يقوله علماء القرآن القدامى من أنّ الآيات نزلت منجّمة على الرّسول لأسباب متعدّدة، من بينها إمكان استيعابه للقرآن شيئاً فشيئاً، لأنّه لو نزل عليه دفعة واحدة لما استطاع تبليغ الرّسالة، ولفظ «التّنزيل» يرد بكثرة في النّصّ القرآنيّ متعلّقاً بلفظ «الكتاب»؛ {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ} [آل عِمرَان: 7]، {وَما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ إِلاّ لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ} [النّحل: 64]، إلّا أنّ الكتاب في السّياق القرآنيّ، لا يمكن أن يفيد الكتاب في الاستعمال اللّاحق، ولعلّ من بين معانيه «جزء من الوحي»، كذلك لا يتعلّق لفظ «اقرأ» بمفهوم القراءة البصريّة ولا بالكتاب، ونجد في ترجمة ريجيس بلاشير (régis blachère) (1900-1973) للقرآن إلى الفرنسيّة، لفظ «اقرأ» في {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} [العَلق: 1] (réciter) أو (prêcher) بمعنى استظهر عن ظهر قلب، أي رتّل. ولفظ «كتاب» لم يُستعمل بكثرة في القرآن، ولا يمكن أن نأخذه بمعنى (livre)؛ وذلك لأنّ القرآن في زمن الرّسول لم يكن كتاباً مدوّناً. وهكذا فمسألة التّنزيل بمعنى العمليّة الأفقيّة الّتي تتمّ من السّماء إلى الأرض أو من أعلى إلى أسفل، سواءً تعلّقت بالقرآن أو بالنّصوص المقدّسة في الدّيانات الأخرى، ينبغي أن تُراجع، فهي لا تُستساغ في علم الأديان المقارن ولا في علم الاجتماع الدّينيّ، لأنّ أيّ دين أو ظاهرة دينيّة لا يمكن أن تسقط هكذا من السّماء ما لم يكن لها سند في الأرض؛ لذلك فما نقرأه في النّصّ القرآنيّ على اعتباره وحياً منزّلاً من السّماء، هو في الأصل مسائل صاعدة من الأرض إلى السّماء ثمّ أعيد تنزيلها. هذا ما ذهب إليه الغرب في قراءاتهم لنصوصهم المقدّسة، واعتبروا أنّ الوحي أو الكلام الإلهيّ هو كلام إلهيّ بشريّ في آن (théandrique)، وهذا ما ذهبت إليه المعتزلة وقال به القاضي عبد الجبّار (359-415هــــ)، وأعتقد أنّنا لو أخذنا بهذه المقولة الّتي ظهرت في القرن الرّابع الهجريّ، لقطعنا أشواطاً كبيرة في دراساتنا لنصوصنا الدّينيّة المقدّسة.

عوائق الإصلاح وإشكاليّة النّهضة

د. نادر الحمّامي: لو أخذنا بمثل هذه المقولات لتجاوزنا الكثير من الإشكاليّات؛ لأنّ البحث في الوحي والتّنزيل والقرآن والمصحف ليس ترفاً فكريّاً، وإنّما هو وعي بتاريخيّة النّصوص الدّينيّة، وهو ما لم يتفطّن إليه الفكر العربيّ الإسلاميّ، الأمر الّذي عمّق من حجم العوائق والصّعوبات أمام ما يمكن أن تطمح إليه المجتمعات العربيّة والإسلاميّة من فكر ينهض بها، ولعلّنا نلمس ذلك خاصّة منذ القرن التّاسع عشر مع بداية «فكر النّهضة» الّذي مثّل إطاراً لطرح أسئلة الوعي بالتّخلّف والاستبداد والمشاكل الثّقافيّة والحضاريّة، ولكنّ الإجابات أعوزتها الجرأة في الكثير من المسائل، كما بيّنت ذلك في كتابك حول «إشكاليّة النّهضة في الفكر العربيّ الحديث»، فهل هذا ما دعاك إلى اعتبار فكر النّهضة إشكاليّاً؟

د. حمّادي المسعودي: إنّ النّهضة مسألة إشكاليّة، وهذا ما ضُمّن في عنوان الكتاب، وهي إشكاليّة لأنّ العرب استفاقوا مع نهاية القرن الثّامن عشر وبداية القرن التّاسع عشر على تجاوز الآخر لهم ولحضارتهم ولثقافتهم، وقد أشار ابن أبي الضّياف (1803-1874) في «إتحاف أهل الزّمان بأخبار ملوك تونس وعهد الأمان» إلى أنّ الأمم الأخرى قد فاتتنا في الحضارة بأشواط. هذا الوعي بتخلّف المجتمعات العربيّة والإسلاميّة وبالانحطاط الّذي ساد فيها، دفع بعض المفكّرين من أقطار عربيّة عديدة إلى البحث عن سبل النّهضة والإصلاح، وقد كان لهم السّبق في الانتباه إلى ما كانت تعانيه مجتمعاتهم الّتي غدت أشبه بالرّجل المريض، فعملوا على إخراجها من تلك الحالة المتردّية، وألّفوا كتباً للحثّ على النّهوض في مستوى الحرّيّات والتّعليم والمرأة وغير ذلك من القضايا الّتي مثّلت محاور اهتمام أساسيّة لديهم، ونرى الآن أنّهم لم يصلوا إلى ما كانوا يطمحون إليه، وذلك راجع إلى أسباب كثيرة.

د. نادر الحمّامي: كان هؤلاء المفكّرون على وعي بتلك القضايا، ولكن هل أنّ الحلول الّتي قدّموها كانت في مستوى ذلك الوعي؟ وما نلاحظه أنّهم لم يتجاوزوا بعض الخطوط في ما أشرت إليه من قضايا، فحينما نقارن مثلاً بين ما كتبه ابن أبي الضّياف في «رسالة في المرأة» وبين ما كتبه حول الإصلاح السّياسيّ، نجد بوناً شاسعاً؛ فنظرته إلى المرأة كانت دونيّة بامتياز في حين كان وعيه بالتّخلّف السّياسيّ وبضرورة الإصلاح مهمّاً، ولعلّ روّاد الإصلاح لم يبلغوا من الجرأة ما يجعلهم قادرين على تجاوز الموروث الدّينيّ والاجتماعيّ.

د. حمّادي المسعوديّ: الأمر يرجع إلى أسباب متعدّدة، ولعلّك ذكرت المثال السّيّئ الّذي يمثله ابن أبي الضّياف في موقفه من المرأة، ويمكن أن نذكر المثال الجيّد الّذي يمثّله قاسم أمين (1863-1908) في كتابيه «تحرير المرأة» و«المرأة الجديدة»، وقد ألّفهما في نهاية القرن التّاسع عشر وبداية العشرين، وتضمّنا الكثير من الإيجابيّات الّتي لو طبّقت في ذلك العصر لكان وضع المرأة شبيهاً بما عليه نظيراتها في الغرب في مجالات التّعليم والتّحرّر والموسيقى والرّياضة والعمل، وكلّها مسائل مطروحة في الكتابين. ونذكر مثال الطّاهر الحدّاد (1899-1935) أيضاً، وقد كانت رؤيته للمرأة جريئة جدّاً، ولعل مجلّة الأحوال الشّخصيّة في تونس (1956) قد استمدّت معظم ما جاء فيها من أفكاره، كما نذكر أبا القاسم الشّابي (1909-1934) الّذي له رؤية تكاد تكون تقديسيّة للمرأة عبّر عنها في شعره، حتّى إنّه ألّهها في قصيدته «صلوات في هيكل الحب». ونذكر خير الدّين التّونسيّ (1820-1890) في «أقوم المسالك في معرفة أحوال الممالك» وقد دعا إلى الإصلاح الّذي يقوم على أساس تحقيق العدل والمساواة في حكم الرّعيّة، ورفع مظاهر الظّلم والتّعسّف، واحترام الحقوق، وقد بلغ الكواكبيّ (1855-1902) في المشرق أشواطاً أبعد من ذلك، فدعا إلى الاهتمام بالمولود منذ أن يكون جنيناً في بطن أمّه، ورفض الاستبداد، ودعا إلى السّياسة العادلة والتّعليم... لقد كانت هذه الأفكار تشمل المرأة كما الرّجل، ولا يمكن بناء نهضة على أحدهما دون الآخر كما أنّ المجتمعات لا يمكنها أن «تطير» بجناح واحد وإنّما بجناحين. ولكن هذه الأصوات المستنيرة الّتي أرادت أن ترقى بالمجتمع ذكراً وأنثى، لم تكن، مع الأسف، مسموعة في مجتمعاتها، وقد ظهرت أصوات أخرى معرقلة لها، نذكر من ذلك ردّ الشّيخ محمّد صالح بن مراد على الطّاهر الحدّاد في كتابه «الحِداد على امرأة الحدّاد»، وعادة ما تكون الأصوات المناوئة لها تأثير غالب كما تكون مدعومة من المؤسّستين الدّينيّة والسّياسيّة.

د. نادر الحمّامي: ألا ترى معي أنّ تلك الأسئلة الكبرى الّتي طُرحت مع روّاد الإصلاح بداية من الطّهطاويّ (1801-1873)، قد توقّفت مع بداية الثلاثينيات؟

د. حمّادي المسعوديّ: ما أشبه اليوم بالأمس، خذ على سبيل المثال «تقرير لجنة الحرّيّات الفرديّة والمساواة» (8 حزيران/يونيو 2018)، أليست المؤسّسة الدّينيّة الّتي ترفض هذا التّقرير اليوم هي نفسها الّتي كفّرت الطّاهر الحدّاد، ووقفت ضدّ التّيّارات الإصلاحيّة في مصر وغيرها؟ المجتمعات العربيّة والاسلاميّة تواجه دوماً الكثير من العراقيل الّتي تعوقها عن النّهضة، وغالباً ما يقف رجال الدّين ضدّ كلّ إصلاح.

د. نادر الحمّامي: المؤسّسة الدّينيّة بطبيعتها المحافظة هي رافضة دائماً لكلّ جديد ولكلّ نفس تحرّريّ، سواءً كان ذلك في مرحلة الثّلاثينات كما ذكرت، أو اليوم مع هذه البيانات الصّادرة عن المؤسّسة الزّيتونيّة ضدّ تقرير «لجنة الحرّيّات الفرديّة والمساواة»، وقد ذكرتُ متعمّداً توقّف أسئلة الإصلاح الكبرى حول الاستبداد السّياسيّ والتّعليم والمرأة وكلّ ذلك النّفس التّحرّريّ، لتتحوّل انطلاقاً من الثّلاثينات إلى أسئلة أخرى سطحيّة وشكليّة تتعلّق بالخلافة الإسلاميّة وشكل لباس المرأة، وهذا التّغيير بدأ مع ظهور ما يسمّى اليوم الإسلام السّياسيّ منذ 1929، مع حسن البنّا (1906-1949) وجماعة الإخوان المسلمين، ورغم أنّ هذا لا يعني وجود تشابك بين الإسلام السّياسيّ والمؤسّسات الدّينيّة، إلّا أنّه في النّهاية تقاطع في الرّؤية نفسها، ممّا عرقل ما بُني مع حركة الإصلاح.

د. حمّادي المسعوديّ: من بين إشكاليّات النّهضة أنّنا لم ننهض، وعدنا في بداية الألفيّة الثّالثة إلى أسئلة كنّا نخال أنفسنا تجاوزناها منذ القرن التّاسع عشر؛ من ذلك أنّ قضيّة حرّيّة المرأة في تونس قُضي فيها الأمر، وأصبح المجتمع يطالب بالمزيد في ذلك الاتّجاه التّحرّريّ. وبخصوص فشل الفكر النّهضويّ ينبغي أوّلاً أن نعترف أن المثقّف الّذي دعا إلى تحرّر المرأة والتّقدّم بالمجتمع وإلى الحرّيّة الفرديّة وحرّيّة التّعبير والعمل، لم تكن بيده آليّات تنفيذ هذه المشاريع الإصلاحيّة؛ فهو يفكّر بجدّيّة وبعقلانيّة ولكن ليس هو الّذي ينفّذ وإنّما من بيده السّلطة، وقد يكون هذا الأخير إنساناً جاهلاً ويريد الإبقاء على الحال كما هو ليبقى في الحكم. ولعلّ هذه الظّاهرة لا تقتصر على فكر النّهضة ولا على ذلك العصر، بل هي مستمرّة تاريخيّاً، وما دام الفكر التّنويريّ الإصلاحيّ يواجه هذا المأزق، فلن تحصل النّهضة ولا التقدّم، ثمّ إنّ الفئات الاجتماعيّة الّتي من المفترض أن تُسهم في التّقدّم بالمجتمع كانت تعاني من التّخلّف، وعندما يكون الجهل مسيطراً فإنّ الغذاء الرّوحيّ لتلك الفئات يقتصر على التّفكير الغيبيّ، ما من شأنه أن يعرقل عمليّة الإصلاح، وهذا ما يفسّر وقوف رجال الدّين دائماً ضدّ الإصلاح. ومع الأسف، فإنّ هذه حال رجال الدّين بالأمس واليوم، فهم ما زالوا يشحنون أفكار النّاس بالخرافات، ويُرجعون سبب التّخلّف إلى الحياد عن سيرة السّلف، ويعتبرون أنّ حلول مشاكل الحاضر تكمن في العودة إلى الماضي والاعتقاد في أمجاد واهمة، وهذا كلام باطل وغير معقول. ونجد أنّ محمود المسعديّ (1911-2004) قد وصف هؤلاء في كتابه «حدّث أبو هريرة قال» بأنّهم «خياليّون»؛ إذ يواصلون القول إنّ على الإنسان أن يؤمن بحدود ما جاء به السّلف، وأن يحذو حذوهم في نمط عيشه وفي تعليمه، ليغنم جنّة عرضها عرض السّموات والأرض، وحوراً عين وأودية من لبن وعسل... ونحن نشهد اليوم نتائج هذا التّفكير الماضويّ، فقد تمّ إحياء الحروب المقدّسة، وأشكال التّطاحن الدّينيّ، وزُجّ بالمرأة في قلب الصّراع، وامتهنت إنسانيّتها في ما يعرف بـ«جهاد النّكاح»، وانتهينا مع بداية الألفيّة الثّالثة إلى ما قبل أسئلة النّهضة في القرن التّاسع عشر.

د. نادر الحمّامي: هل عدنا حقّاً، أم أنّنا لم نبارح تلك المرحلة من التّفكير منذ القديم؟

د. حمّادي المسعوديّ: ينبغي الاعتراف بأنّا حقّقنا شوطاً مهمّاً في طريق النّهضة، ولنأخذ مثالاً ما تحقّق للمرأة التّونسيّة من مكاسب، إلى حدود ما قبل ثورة (2011)؛ وقد كانت تعدّ نموذجاً في العالم العربيّ والإسلاميّ من حيث التّحرّر والتّعليم والعمل... ومن حسن حظّ المجتمع التّونسيّ أنّ دولة الاستقلال عوّلت على التّعليم، وأولته مكانة هامّة ضمن اختياراتها الكبرى، وقد كان حينئذ أكثر من ثلث ميزانيّة الدّولة الوطنيّة يخصّص لفائدة التّعليم، ولا ننسى أنّنا لا نزال نعيش على ثمار تلك المرحلة التّأسيسيّة المتميّزة، في ظلّ الانحدار المتواصل لمستوى التّعليم اليوم، وهو ما نتج عنه إقصاء المثقّف عن دواليب الحكم والتّسيير؛ وهذا سبب آخر من أسباب فشل الإصلاح. كما أنّ لمخلّفات فترة الاستعمار الّتي عرفتها البلاد شأناً في تعطيل عمليّة الإصلاح، لأنّ بلاداً لا سيادة لها لا يمكن أن تتقدّم، فكما أثّر الاستعمار إيجابيّاً في الكثير من الأفكار السّائرة في اتّجاه التّحرّر من خلال ما نقله إلينا من أفكار تنويريّة تأسّست عليها الثّقافة الغربيّة الحديثة، فإنّ طبيعة الاستعمار القائمة على نهب الثّروات والمساس بسيادة البلاد، أدّت في النّهاية إلى عرقلة الفكر النّهضويّ، ولعلّ معظم البلدان العربيّة والإسلاميّة قد شهدت ظروفاً مشابهة. فالفترة الّتي أعقبت تحقيق أغلب البلدان العربيّة لاستقلالها فتحت المجال للتّيّارات الظّلاميّة حتّى تسيطر إيديولوجيّاً وعمليّاً، وقد قادها الحنين إلى العيش في أحضان الماضي تسكيناً لآلام الحاضر، أمام فشل الكثير من التّجارب السّياسيّة والاقتصاديّة الّتي خاضتها تلك الدّول، والتي تأرجحت بين القوميّة والاشتراكيّة واللّيبراليّة...

د. نادر الحمّامي: أليس ذلك يعود إلى أنّ هذه الدّول لم تخترع حلولاً خاصّة بمجتمعاتها، وبقيت في إطار التّرميق بين اختيارات كبرى مستوردة وغير مطابقة بالضّرورة لحاجاتها ولا ملائمة لمشاكلها؟

د. حمّادي المسعوديّ: أعتقد أنّ معظم السّاسة لم تكن لديهم الجدّيّة الكافية لإيجاد الحلول لتلك المشاكل الّتي واجهتها الدّول العربيّة حديثة العهد بالاستقلال، فحتّى حينما كان يُقدّم مشروع يحمل رؤية سياسيّة واقتصاديّة خاصّة، سرعان ما يقع التّراجع عنه في منتصف الطّريق، بداعي أنّه يمكن أن يهدّد السّلطة القائمة سياسيّاً واجتماعيّاً، ولنا الدّليل في «تجربة التّعاضد» (التّجربة الاشتراكيّة) في تونس في الستّينيات (1962-1969)، ففي المضمون هي تجربة جيّدة، لكنّ بعض الأغنياء ورجال السّياسة رأوا أنّها لا تخدم مصالحهم، فوقع التّخلّي عنها قبل أن تنضج، ويتمّ اختبار نتائجها.

د. نادر الحمّامي: لعلّ هذا التّقييم السّلبيّ لبعض تجارب الإصلاح هو الخطوة الأولى نحو إصلاح فعليّ، فلا يمكن الإصلاح دون الوقوف على الإشكاليّات الحقيقيّة، وقد اهتمّ هذا الحوار بمسائل قد لا تبدو للمتابع مترابطة، ولكنّها بخلاف ذلك مترابطة، ويفضي بعضها إلى بعض منهجاً ومحتوى.

د. حمّادي المسعوديّ: نعم، فهي مسائل متّصلة ببعضها، وهي جميعاً تنتهي بنا إلى ما نعيشه من إشكاليّات كبرى، ولعلّ ما تعاني منه المجتمعات العربيّة اليوم من مشاكل الإرهاب والتّطرّف على سبيل المثال، عميق الصّلة بالمسألة الدّينيّة وبالمنهج في قراءة التّراث وبفشل تجارب الإصلاح. ولن تتحرّر هذه المجتمعات ما لم تقرأ نصوصها المقدّسة قراءة جديدة تحرّريّة علمانيّة عقلانيّة، مبنيّة على منهج سليم، وأن تقف أمام أخطائها وتحاول إصلاحها بكلّ شجاعة. عندئذ لن يكون متاحاً لأيّ مخالف في الملّة أن يقتل أخاه في الإنسانيّة، وسنحترم هذه الأخوّة.

د. نادر الحمّامي: على هذه الدّعوة إلى احترام الأخوّة في الإنسانيّة، أجدّد لك شكري أستاذ حمّادي المسعودي على هذا الحوار الّذي استوعب مسائل كثيرة، أفدنا من أفكارك فيها، ولعلّ هذا الحوار يفتح أبواباً أخرى للتّفكير والتّأمّل، ويوسّع المجال أمام الباحثين لرؤية الأمور بنظرة محايدة علميّاً. شكراً جزيلاً لك.

[1] - أجري هذا الحوار في 25 كانون الأول/ديسمبر 2018

[2] - أستاذ الحضارة العربيّة والإسلاميّة بالجامعة التّونسيّة، مهتمّ بالدّراسات المقارنة في الأديان والحضارات.

- حاصل على دكتوراه الدّولة، بأطروحة حول «فنّيّات قصص الأنبياء في التّراث العربيّ» (منشورة سنة 2007).

- صدر له: «هيكل الليلة ومدلوله الفكريّ والحضاريّ في كتاب الإمتاع والمؤانسة لأبي حيّان التّوحيديّ» (1988)، «الحكاية العجيبة في رحلة ابن بطّوطة» (2001)، «الوحي من التّنزيل إلى التّدوين» (2005)، «متخيّل النّصوص المقدّسة في التّراث العربيّ الإسلاميّ» (2007)، «إشكاليّة النّهضة في الفكر العربيّ الحديث» (2011)، «الظّاهرة الدّينيّة من علم اللّاهوت إلى علم الأديان المقارن» (2018).

- أشرف على مدرسة الدّكتوراه في كلّيّة الآداب والعلوم الإنسانيّة بالقيروان (الآفاق الجديدة في اللّغات والآداب والفنون والإنسانيّات)، وعلى إدارة مخبر بحث (تجديد مناهج البحث والبيداغوجيا في الإنسانيّات).