حوار مع ذ. أوس حسن حول كتاب "الكينونة والمعنى مقاربات وإضاءات تحت مجهر الفلسفة الوجودية؟"


فئة :  حوارات

حوار مع  ذ. أوس حسن حول كتاب "الكينونة والمعنى مقاربات وإضاءات تحت مجهر الفلسفة الوجودية؟"

حوار مع  ذ. أوس حسن حول كتاب "الكينونة والمعنى مقاربات وإضاءات تحت مجهر الفلسفة الوجودية؟"

بعنوان: هدف الوجودية أن يكون الإنسان واقعًا في قلب التوتر

حاوره د.حسام الدين درويش

تقديم دة. ميادة كيالي

يسرّني أن أرحّب بكم في هذا الحوار الثاني من سلسلة حوارات مؤمنون بلا حدود، وحوارنا اليوم في حقل الفلسفة، بعد أن كان الحوار الأول في حقل الدراسات الدينية، وهذا ما يميّز مؤسسة مؤمنون بلا حدود؛ وأعني به التنوع الفكري والانفتاح على مختلف المشاريع الفكرية في حقول معرفية عديدة. سنتناول بالحوار إصدارًا جديدًا للمؤسسة، بعنوان "الكينونة والمعنى، مقاربات وإضاءات تحت مجهر الفلسفة الوجودية"، مؤلّفه هو الأستاذ أوس حسن، من العراق، ومن جيل الشباب، ولا يسعني هنا إلا أن أشير إلى أمرين؛ أولهما الاهتمام الذي توجهه مؤسسة مؤمنون بلا حدود لجيل الشباب من الباحثين، وثانيهما الاهتمام الواسع الذي توليه للدراسات الفلسفية، سواء على صعيد التأليف أو على صعيد الترجمة، وأجدها فرصة للتنويه بالندوة المزمع عقدها قريبًا حول ترجمة مهمة قدمتها المؤسسة لقرّائها ومتابعيها، وهي "دليل كمبردج لتاريخ الفلسفة العربية" التي ترجمها للعربية الأستاذ الدكتور أشرف منصور، والتي سيتم عقدها يوم الجمعة الموافق 12 يوليو 2024.

وصلني كتاب "الكينونة والمعنى..." من خلال إيميل دار النشر، وأذكر أنني تصفحته خلال ساعات وجذبني، قبل أن أرسله إلى لجنة التحكيم، لتعطي قرارها الذي جاء بالموافقة على النشر مع توصيات للمؤلف؛ فاللجنة تضم أساتذة كبارًا ساهموا من خلال تحكيمهم الأكاديمي للكتب بصناعة العلامة المميزة لدار نشر مؤمنون بلا حدود، والتحكيم هنا ليس قرارًا نقول فيه "ننشر أو لا ننشر بعد تصفح سريع للمخطوط"، بل هو التزام لتقديم القرار المنصف والعادل، بناءً على مراجعة معمقة يصدر بعدها تقرير يتم من خلاله إبداء الرأي بالمخطوط، والإشارة إلى كافة الثغرات التي لا يكاد يخلو منها أيّ عمل، وهذا ما لمسه العديد من المؤلفين، وخاصة الذين يتعاملون معنا للمرة الأولى.

وهكذا مضى الكتاب في رحلته حتى أبصر النور منذ شهر، واليوم نلتقي لنبحر معه من خلال هذا الحوار الفلسفي، ونقتفي آثار الفلسفة الوجودية من خلال ما قدمه الأستاذ أوس حسن في الكتاب الذي توزّع على تسعة فصول، ومقدمة وخاتمة، محاولاً أن يتبين فيها دور الفلاسفة في تفاعلهم مع الوجود ورؤيتهم الفلسفية إليه.

قدم المؤلف في الفصل الأول، قراءة لسورن كيركيغورد انطلاقا من مفاهيم الوجودية الحديثة، وتوقف في الفصل الثاني عند نشأة الوجودية في أدب دوستويفسكي، وتناول في الثالث مفهوم الإنسان الأسمى وجوديًا عند نيتشه، وأفرد الفصل الرابع للحديث عن الارتباط بين الوجود والحرية عند نيقولاي برديائيف، وفي الفصل الخامس تحدث عن العبث والتمرد في وجودية ألبير كامو، ليتناول في الفصل السادس العدم والوجود الأصيل عند مارتن هايدغر، وأفرد الفصل السابع لقراءةِ وجوديةِ سارتر في ميزان الفكر الغربي، وفي الفصل الثامن شرح كيف صحح كولن ولسون مسار الوجودية بالمنهج الظاهراتي. وخلص في فصله التاسع والأخير إلى ما يفيد العلاج الوجودي بالمعنى، انطلاقا من سؤال مفاده: متى تصبح حياتنا جديرة بالمعاناة؟

يقول الأستاذ أوس حسن في مقدمة الكتاب: "العديد من الأفراد يعيشون حياتهم وفقاً لمبدأ التوزان مع العالم، ويحاولون قدر الإمكان تجنب الألم والحصول على اللذة قدر المستطاع. أما الوجودية، فلا ترى أن هناك هدفًا للإنسان يتمثل في السعادة، بل ترى أن الإنسان موجود ليعطي معنى لهذا العالم من خلال وجوده في قلب التوتر؛ فالإنسان هو القيمة العليا للوجود، وهو محكوم بالاختيار والقرار حتى في أقسى الظروف وأشدها تحطيمًا. لذا، فالوجودية هي فلسفة الإنسان الشجاع؛ لأنها تحتم عليه أن يدخل في دوامة الألم والرعب، وأن يكون واعيًا بانفعالاته الأصيلة، وبإرادته المتحفزة من قلب الخطر".

فثمة محطات عميقة في فصول هذا الكتاب تمسّ الوجود، وتأملات في الحرية وفي مصير الإنسان.. تؤكد أن أزمة الفلسفة الحقيقية هي أزمة الوجود الإنساني على هذه الأرض، فغياب الإنسان يعني غياب العالم.

سيحاول الدكتور حسام الدين درويش مع الأستاذ أوس حسن الإبحار في ثنايا الفلسفة الوجودية وأعلامها، والوقوف عند مفاهيم الألم والحزن والاغتراب والغياب والفقدان، كحالات وجودية ثابتة في النفس البشرية، رافقت الإنسان ومازالت ترافقه ماضيًا وحاضرًا ومستقبلًا.

أتمنّى لكم الاستماع لحوار شائق، وأهلًا وسهلًا بكم.

د. حسام الدين درويش:

شكرًا لك دكتورة ميادة على هذا الجهد، ومرحبًا بالجميع، وشكرًا على الاستجابة للدعوة. كالعادة سأبدأ ببعض الأسئلة العامة. مرحبا أستاذ أوس، وشكرًا لك على الحضور.

سؤالي الأول هو ما قصة هذا الكتاب؟ ولماذا الوجودية؟ الفلسفة الوجودية كانت رائجة في فترة ما وكانت أشبه بالموضة، وأنت تستعيدها في كتابك، فكيف ظهرت لك الفكرة، لتتطور بعدها، إلى أن تبلورت في كتاب؟

د. أوس حسن:

تحية طيبة لك الدكتور حسام، وشكرًا للدكتورة ميادة على هذا التقديم الرائع، كما أنني أشكر مؤسسة مؤمنون بلا حدود على كل ما تقوم به من جهد. حقيقة كانت فكرة الكينونة والمعنى مضمرة في داخلي منذ سنوات عديدة. لقد رأيت العالم، وهو يتسم بانعدام المعنى وتخلخل اليقين، كلّ شيء في العالم يتلاشى. نحن نعيش في عصر لا متوقع. وما أراه أمامي هو العذابات البشرية والصرخات والألم الإنساني. فما الذي يمكن أن يمسك بهذا العالم؟ هل هناك بنية معرفية أو نظرية علمية بإمكانها أن تمسك بجوهر الوجود؟ المعاناة البشرية كانت أصدق تعبيرًا من أيّ حقيقة علمية أو معرفية؛ فالألم منذ أن وجد الإنسان، إنسان الحضارات حتى وقتنا الحالي، هو ألم واحد، وما يرسخ وجودنا في هذا العالم هو الألم البشري ومعاناة الكائن الإنساني. لكن عندما أتحدث عن الألم، فأنا لا أقصد الألم في حمولاته السلبية، وإنما ذلك الذي يكون طريقًا إلى الوعي والحرية. في بداية الأمر، كتبت عددًا من الومضات والشذرات والنصوص المسرحية، واحتفظت بها، ثم بدأت بالاطلاع على الفلسفة الوجودية وعلى أهم أعلامها البارزين، وامتدت قراءاتي إلى التاريخ القديم في الفلسفة والفن والدين، فوجدت أن الوجودية هي فطرة فلسفية للوعي الإنساني منذ تفتحه على العالم، كما اكتشفت أنها فلسفة قريبة من تراثنا العربي والإسلامي في المنطقة؛ لأنّ معيارها هو الإنسان؛ فكل فلسفة لا يكون معيارها الإنسان والتجربة الإنسانية، هي فلسفة -ربما- لا يعول عليها. لذلك، بدأت الكتابة رويدًا رويدا، مع البحث -طبعًا- والتأمل الممزوج بالتجارب الشخصية. ولا شيء يمكن أن يعبر عن صرخة الإنسان أمام ما يعانيه العالم اليوم من مآس وكوارث وحروب. لذلك، فالوجودية بالنسبة لي كانت أكثر حضورًا ورسوخًا من أيّ فلسفة أخرى.. بالنسبة إلى كتاب "الكينونة والمعنى"، فقد كان المخطوط في بدايته جنيناً، ثم تطور في ما بعد، فأرسلته إلى دار مؤمنون بلا حدود. كان المخطوط يتكون، كما تفضلت الدكتورة ميادة، من تسعة فصول، مع مقدمة وخاتمة. وبموافقة لجنة التحكيم التي اطلعت عليه، صار هناك إثراء أكثر، بمقولات في الفلسفة الوجودية، انطلاقا من مصادر وأفكار تأملية أكثر. ويجدر التنبيه إلى أن الكتاب لا يمكن أن يصدر من كاتب واحد، حيث كان الجهد بيني وبين لجنة التحكيم حاضرًا، ما يعني أن مجموعة من العقول شاركت في الفكرة المعرفية؛ فالتشاركية في المعرفة مطلوبة في تأليف الكتاب.

      "  المعاناة البشرية كانت أصدق تعبيرًا من أيّ حقيقة علمية أو معرفية؛ فالألم منذ أن وجد الإنسان، إنسان الحضارات حتى وقتنا الحالي، هو ألم واحد؛"

د. حسام الدين درويش:

شكرًا لك. بمناسبة إشارتك إلى التشاركية في إنتاج المعرفة، أودّ الإشارة إلى ما حصل مع بول ريكور الفيلسوف الفرنسي الشهير، في خصوص (أحد) أهم كتبه "الزمن والسرد". فبعد أن انتهى ريكور من كتابة الجزء الثالث من هذا الكتاب الضخم، الذي يتكون من ثلاثة أجزاء، ويقع في قرابة ألف صفحة؛ أرسله إلى دار النشر. لكن المحرر أو المسؤول في دار النشر رأى أن ثمة شيئًا ما ناقصًا وغير مكتمل في هذا الكتاب. لذلك طلب منه أن يكتب فصلًا آخر يختم به الكتاب، ويجمل فيه فكرته وخلاصاته. وهذا ما فعله ريكور، فكتب فصلًا ختاميًّا هو، في نظر كثيرين، أهم فصول الكتاب، وجعل الكتاب أكثر قيمةً وأهميةً. وقد قدم ريكور في ذلك الفصل رؤيةً تركيبيةً لكل الأفكار أو الأطروحات الرئيسة وللرؤية التاريخية أو التأريخية التي تضمنتها فصول الكتاب الأخرى. الغرض من سردي لهذه الحادثة، في هذا السياق، هو الإشارة إلى أهمية دور النشر والمحررين والقراء المحكمين في هذا الخصوص. كما تجدر الإشارة، في هذا السياق، إلى أنه في السياق الأكاديمي الغربي المعاصر، لا يخرج نصٌّ إلى الوجود إلا بعد أن يُناقش من قبل عشرات وربما مئات الباحثات والباحثين. وبالعودة إلى موضوع حوارنا، أنت ذكرت، في حديثك، منذ قليل، أنك تعتقد أن الفلسفة الوجودية هي أقرب الفلسفات المعبرة والمتصلة بالإنسان العربي، فهل يمكن أن تقدم إضاءة عن هذه المسألة؟ وما الأفكار الرئيسة التي تضمنها كتابك، في هذا الصدد؟

د. أوس حسن:

نعم، عندما تطالع سورين كيركيغورد، والذي كان يستشهد بالأنبياء والقديسين، وينبذ كبار العقول في تاريخ الفلسفة مثل أفلاطون وأرسطو، ويرى أن صرخة النبي أيوب، ومعاناة النبي إبراهيم، وآلام المسيح، هي أكثر صدقا وتعبيرًا من أي فلسفة. لقد وجدت في تاريخنا العربي والإسلامي محطات مليئة بالألم، لم يسلّط عليها الضوء. نحن حضارة تهتم بالفروسية والمباهاة وباللغة، غير أن هناك تاريخاً كبيرًا من الألم الإنساني، تم تهميشه والتعامل معه بسطحية وسذاجة. أما بالنسبة إلى بعض مفاهيم الوجودية كالحرية والاختيار والمصير، فنرى أن القرآن أكد على بعض منها، مثل حرية الاختيار عند الإنسان، وإذا كان سارتر يرى أن الإنسان ليس إلا مجموع خياراته وقراراته، فالقرآن يقول: "ليس للإنسان إلا ما سعى" (سورة النجم/ آية 39)؛ و"الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم" (سورة الرعد/ آية11). إن ما يعانيه الإنسان العربي الآن، لا يخرج عما عاناه الأوروبيون من حروب وويلات وانقسامات في بداية القرن العشرين، وهذه المعاناة قريبة جدًّا من واقع الإنسان العربي الذي تمر بلاده بأزمات عديدة وحروب، ومن هذا المنطلق وجدت أن الوجودية، وما تتضمنه من سيكولوجية للنفس هي الأقرب تعبيرًا عن الإنسان؛ فحين كتبت الكتاب، عوّلت على كل شخص سيقرأ الكتاب أن يرى ذاته فيه؛ فالعالم ليس ورديًا دائما.

د. حسام الدين درويش:

العالم ليس ورديًّا دائمًا، ولكنه ليس سوداويًّا بالمطلق كذلك. لقد اتُّهمت الفلسفة الوجودية بالسوداوية، وبأنها فلسفةٌ متشائمةٌ تقتصر، غالبًا على الأقل، على الحديث عن الجانب المظلم أو الدرامي من حياة الإنسان. وتوجد طبعا قرائن تسمح بهذا الاتهام، وربما كان كتابك هو أحد الأدلة على ذلك على معقولية مثل هذا الاتهام. لكن للفلسفة الوجودية وجهٌ غير سلبيٍّ؟ وهناك فلاسفة وجوديون، ومن أشهرهم نيتشه الذي تحدث عن العلم المرح، العلم الجذل، العلم الفرح؛ وحتى حين تحدث عن العدم، وعن موت الإله أو قتله، فقد تحدث عنه بطريقةٍ احتفاليةٍ. وكذلك كان حال قراءته للأساطير اليونانية ولثنائية إله الفرح واللذة (ديونيزيوس) مقابل إله العقل والنظام (أبولو). إضافةً إلى ذلك، تناول سارتر هذه التهمة حرفيًا ورفضها، وقال بعكسها، حيث شدد على أن الوجودية فلسفة التفاؤل، وأنها تعمل على تأكيد إمكانيات الإنسان على الطريقة النيتشوية. ألا ترى أنك لم تعطِ هذا الجانب حقه؟ بمعنى أنك لم تركز (كثيرًا) على الجانب غير السوداوي، بعيداً عن الألم والمعاناة والقلق والتوتر والخوف والفزع والقهر؟ ألا نحتاج إلى هذا الجانب (الوجودي) ونعيشه أيضاً؟ ألا يشكل جزءًا من وجودنا، وينبغي أن يكون جزءًا من فلسفتنا الوجودية؟

       "  نحن حضارة تهتم بالفروسية والمباهاة وباللغة، غير أن هناك تاريخاً كبيرًا من الألم الإنساني، تم تهميشه والتعامل معه بسطحية وسذاجة؛"

د. أوس حسن:

نعم دكتور، حقيقة هناك انطباع خاطئ ترسخ عن الوجودية، بوصفها فلسفة تشاؤم وإحباط وسوداوية، وأنا لم أشر في كتابي إلى أن هذه الفلسفة ستؤدي بالإنسان إلى الإحباط والتشاؤم، وأن يرى العالم سوداويًا ويكتفي بذلك، بل هناك صيرورة للانفعالات الباطنية، ستؤدي به إلى الحرية، فترى الحياة من جانبها المضيء. أما حين تكلمت عن الألم والقلق والغثيان، فهذه المقولات انبثقت عند كيركيغورد مؤسّس الوجودية الحديثة ومن قبلها التأملات الدينية وبعض الشذرات لكبار الفلاسفة. إن هدف الوجودية ليس السعادة أو الحصول على اللذة، وإنما التوازن، أن يكون الإنسان واقعاً في قلب التوتر.. ثمة مقولة للفيلسوف الروماني إميل سيوران تحدث فيها عن هيجل، يقول فيها حين كتب هيجل عن الروح المطلق، يجب أن يكون هو الروح المطلق. فإذا أردت أن تكتب عن السماء والأرض والجبال، يجب أن تكون أنت هذه الجبال والأرض والسماء؛ فمن عايش هذه الانفعالات والآلام هم أصحاب تجربة كتبوها بحكمة، فتحولت إلى فلسفة، ثم إلى مقولات ومفاهيم، لكن ماذا يحدث مع الألم؟ الألم يجعل العالم متعاليًا وخارجيًا، حيث تتلاشى الكينونة بعد الألم في كل ما هو غير بشري. ومن ثم، تؤدي الصيرورة بالإنسان إلى حياة أسمى، لهذا وجب على الإنسان أن يعاني؛ فالمعاناة جزء متجذر في الحياة، والمعاناة تكف عن كونها معاناة عندما تكتسب معنى من المعاني؛ لأنها ستقود الإنسان إلى نور الوعي الذي بإمكانه أن يرى الحياة من جانبها المضيء. والأجمل عندما يراها وردية بعد المعاناة.

د. حسام الدين درويش:

تذكرني عبارة "وجوب المعاناة" بمسألة أساسية يمكن أن نعدها القاسم المشترك بين شواغل الفلسفة والدين والأساطير، وهي مسألة الشر أو المعاناة من الشر. أنت تستحضر دوستويفسكي كأحد الوجوديين. وفي روايته الخالدة "الإخوة كارامازوف"، يتساءل: كيف يمكن أن يكون الله موجودًا، مع وجود (كل) هذا الشر في العالم؟ أي، كيف يمكن التوفيق بين وجود الله (العارف معرفة مطلقة، الخير خيرًا مطلقًا، القاجدر قدرة مطلقة) ووجود الشر؟ في محاولة لتبرير وجود الله، يحسعى بعض المؤمنين إلى إظهار معقولية وجود الشر في العالم، على الرغم من أن الله موجود. وتنوس مثل هذه المحاولة بين تبرير أو تسويغ وجود الله وتبرير أو تسويغ وجود الشر. ويبدو أنك في رؤيتك المعروضة في كتابك، لا تكتفي بتبرير وجود الشر مع وجود الله، بل تذهب إلى ما هو أكثر من ذلك، فتتحدث عن وجوب الشر، من حيث هو معاناة. وبإمكاننا القول إن جزءًا من الآلام التي يعاني منها البشر شرٌّ. وقد يكون مفيدًا التمييز بين المأساة، من حيث كونها غير ناتجةٍ عن نيّةٍ (إنسانيةٍ) سيئةٍ، والحادث الطبيعي، كحدوث صاعقة مثلًا ألحقت ضرراً بشخص ما. فهذا ليس شرًّا، وإنما هو أمرٌ مأساويٌّ، بينما الشر هو إقدام شخص على إيذاء شخص آخر. فأنت لا تكتفي بتبرير الشر أو تسويغه أو جعله جزءًا مأساويًّا من طبيعة هذا الوجود، وإنما تقول بوجوبه، وهذه رؤية تستحق التوقف عندها. وإذا ما عدنا خطوةً إلى الوراء، السؤال الذي (ينبغي أن) يُطرح هو: ما الوجودية؟ في (مقدمة) كتابك، تقول: "الوجودية هي الروح التي بدأت مع الإنسان منذ تفتح وعيه أمام رعب العالم وأسراره المجهولة، ولن تنتهي مع العصر الرقمي؛ فالصرخات والعذابات البشرية ودراما الوجود باقية بقاء الإنسان وحيرته أمام هذا الكون وصمته". أنت تتحدث عن الوجودية بطرائق مختلفة؛ إذ يمكن أن تكون فلسفةً أو طريقةً في التفكير، ويمكن أن تكون خارج الفلسفة، أو هي غير فلسفة؛ فما الوجودية عمومًا؟ وكيف يمكن أن نميزها عن الفلسفة الوجودية؟

     "إن الوجودية ليست تيارًا أو مذهبًا، إنما أسلوب في التفلسف، ويذهب إلى هذا كثير من الدارسين المحدثين أيضا؛ لأن الفلسفة الوجودية لا تملك حججاً ولا منطقاً ولا نظريات في المعرفة."

د. أوس حسن:

بالعودة إلى جذور الوجودية، فهي لا تستند إلى حقول فلسفية خالصة؛ بل هي موجودة في الأدب وفي تأملات العظماء، وحتى في الفلسفات الإغريقية القديمة، وفي التيار الرومانسي وفي شذرات باسكال والقديس أوغسطين. أما المؤسس الحقيقي للوجودية، فهو سورين كيركيغورد، والصائغ الأول لمفاهيمها؛ وذلك لأنه تواجد في عصر هيمن فيه العقل الهيجلي، فكان يقول – أعني كيركيغورد- من أنا لأكون رقماً معطى في النسق الهيجلي، أنا فرد، وكينونة الفرد عالم خاص بذاته، وأنا كفرد آدمي من لحم ودم لي كينونتي الخاصة، وهي كينونة واقعة في دوامة الاختيارات والقرارات، يصيبها القلق والرعب واليأس. لذلك، عندما تطورت الوجودية مع سارتر وهايدغر، لم يتخلّيا عن مفهوميْ القلق والغثيان، وهما في الأصل مفهوما اليأس والفزع، عند كيركيغورد.

عندما يكون الإنسان أمام دوامة من الاختيارات، فإن نبذه للخيارات الصحيحة والممكنة يسقطه في العدم، وهذا ما يسيمه كيركيغورد بدوامة الحرية أو دوخة الحرية، ولاسيما عندما نقع في اختيار خاطئ حين نكون أمام خيارات متعددة؛ أي نذهب إلى الخطيئة بأنفسنا من دون أن ندري، غير أن كيركيغورد يؤكد على الإنسان بأخذه الموقف الذي هو فيه، وبتحمل مسؤولية وجوده حتى لو كان الخيار خاطئًا، وهذا ما ذهب إليه سارتر في فلسفته أيضا.

د. حسام الدين درويش:

عندما تتحدث عن الوجودية، فهي بالنسبة إليك المعاناة أو الحياة المتجسدة الفردية التي يعيشها الإنسان. ومن ثم، فهي تجربةٌ وخبرةٌ حياتيةٌ، موجودةٌ دائمًا مع وجود الإنسان. أما الفلسفة الوجودية، فهي التنظير لهذه الخبرات والمعاناة والتجارب الحياتية والمسائل الفردية، والربط بين الانفعالي والعقلي. وفلسفة كيركيغورد الوجودية هي، بالدرجة الأولى، ردّ فعلٍ (خالصٍ) على هيجل وعلى فلسفته النسقية والشمولية. فالفلسفة الوجودية هي إعادة الاعتبار لمسائل المعاناة الفردية، وردّ فعلٍ على الفلسفات النسقية، والتي تصنف الإنسان جزءًا من كلٍّ يمكن استيعابه ضمن رؤيةٍ كلّيةٍ وشاملةٍ ومطلقةٍ.

د. أوس حسن:

نعم، الوجودية تختلف عن الفلسفة الوجودية، فالوجودية لها جذور كما أشرت، في الأدب والفن والتأملات الدينية، وحتى في اللوحات التشكيلية وفي النحت والموسيقى. لكن الوجودية كفلسفة ظهرت مع كيركيغورد، وتمت صياغة مفاهيمها ومقولاتها في القرن العشرين مع سارتر وهايدغر. فالقاعدة التي تستند إليها الوجودية برمتها هي الوجود الذي يسبق الماهية، وتعني أن يوجد الإنسان أولا، ثم يريد أن يكون؛ فهي تدمج الفكر مع الانفعال العاطفي والوجداني؛ لأن للعاطفة دورا في التفكير وفي فهم ظواهر العالم فهماً أوّليًا مباشرًا عن طريق المنهج الظاهراتي الذي جاء به هوسرل، حيث يتبدّى لنا العالم كما نراه بأحاسيسنا وإدراكاتنا الأولية؛ وهذا مهمّ جدًّا في الفلسفة الوجودية. إن الوجودية ليست تيارًا أو مذهبًا، إنما أسلوب في التفلسف، ويذهب إلى هذا كثير من الدارسين المحدثين أيضا؛ لأن الفلسفة الوجودية لا تملك حججاً ولا منطقاً ولا نظريات في المعرفة.

د. حسام الدين درويش:

انطلاقًا من وجود وجوديةٍ تتحدث عن الفرح والحياة والانطلاق، ومن أن الفلسفة الوجودية تركز على الوجود الفردي العيني للإنسان، السؤال الأساسي، هنا، هو: ما السمة التي تعتقد أن فلسفة ما يجب أن تتسم بها، أو تظهر فيها، وتعبر عنها، لكي نقول عنها إنها فلسفة وجودية، وإن الفيلسوف المتبني لها فيلسوفٌ وجوديٌّ. وباختصارٍ، ما سمات الفلسفة الوجودية؟ فأنا لا أجد أن أيّ فكرة من الأفكار المعروضة على أنها سمات للفلسفة الوجودية تنطبق على كل الفلاسفة أو المفكرين الذين قدمتهم. إضافةً إلى ذلك، لا أرى أن ولسون ودوستويفسكي هما من الفلاسفة. لا شك أن في نصوصهما طابعًا وجوديًّا، وأنت ميزت بين كاتبٍ وجوديٍّ وفكرٍ وجوديٍّ وروائيٍّ وجوديٍ، لكن غير فلسفيٍّ. إذن ما السمات الأساسية التي ينبغي أن تتسم بها فلسفة ما، لكي تنضوي تحت مظلة الفلسفة الوجودية؟ يقال إن الفلسفة الوجودية هي الفلسفة التي تنطلق من الوجود الفردي والعيني للإنسان في العالم عوض الانطلاق من فكرة الوجود، هل تتفق مع مضمون هذا القول؟ وهل ترى أن ذلك ينطبق على فلسفة هايدغر الوجودية؟ أشك كثيرًا في ذلك، وربما كان بالإمكان المحاججة بعكس ذلك. ما رأيك؟

د. أوس حسن:

الفيلسوف هايدجر هو فيلسوف الكينونة، فهو يقول أنا فيلسوف الكينونة، وقد أرّقه سؤال الكينونة. في إحدى محاضراته قال بأيّ درجة تصبح الفلسفة معيارًا للتساؤل، ما هو الموجود من حيث هو موجود.

د. حسام الدين الدرويش:

ما هو مطلوب هنا، ليس الحديث عن الكينونة، وإنما الحديث عن سمات الفلسفة الوجودية؟ يعني ما السمات والأفكار التي يتسم بها كل الفلاسفة أو المفكرين الذين تحدثت عنهم؟

د. أوس حسن:

هناك عدد من الفلاسفة كهايدغر وياسبرز لم يرغبوا في أن يطلَق عليهم اسم فلاسفة وجوديين. لكن من ناحية أخرى، نرى أن هناك فلاسفة مثل سارتر وميرلوبونتي وغابرييل مارسيل يتقبلون لقب فلاسفة وجوديين. إن فلسفات الوجود برمتها مقياسها الإنسان الذي يوجد أولاً، ثم يريد أن يكون، وهي جهد حثيث ودائم لإدراك الطبيعة الإنسانية ضمن حدود إنسانية، أو تفسير الإنسان بالاستقلال عن المقولات العلمية الخالصة أو الدينية الخالصة. لذلك، فهي فلسفات تنكر الماهية ما عدا فلسفة هايدغر التي توحّد بين الوجود والماهية. في الوقت نفسه، لا ينبغي لنا أن نتصور فلسفات الوجود على أنها سلسلة من التيارات والمذاهب الفلسفية؛ لأنها لا تضع حاجزًا بين الذات والموضوع، وتشترك في الإنسان الذي يخلق ماهيته في عالم عبثي وبلا معنى؛ فالإنسان هو الذي يضع وجوده موضع السؤال، بل والذي يتصرف به ويقامر به ويعرضه للخطر. ففي الوقت الذي يعرّض فيه الفرد نفسه بنفسه للخطر، وكأنه في مغامرة قصوى، يصبح العالم بأسره متضمَّناً في كل سؤال فلسفي يُطرَح.

ثمة مفاهيم تجمع هؤلاء الفلاسفة دائما، وهي مفاهيم تخص الكينونة، العدم، القلق، الحرية والعلو، وهي موجودة عند الجميع، وإن لم نتطرق لها عند دوستويفسكي، وكولن ولسون، فهي موجودة بطريقة أو بأخرى. ففي الكتاب تجد الكينونة وطريقة تشكلها، تصدعها حضورها وغيابها، وعلاقتها بالانفعالات وبالعالم نفسه. ومن ثمة، يجتمع هؤلاء الفلاسفة في الكتاب على الكينونة ومقولاتها من العدم والقلق، بينما لكل واحد منهم فلسفته الخاصة؛ فهناك اختلاف، فهم يختلفون في رؤاهم الفردية للعالم. أضف إلى هذا الأفكار التي جمعناها عن كولن ولسن الذي تحدث عن كيفية تكثيف الإنسان لأحاسيسه، ليعيش حياة أكثر وفرة ومعنى.

د. حسام الدين درويش:

إن مفاهيم القلق والمعاناة والعدم والفردية يمكن أن تكون موجودة في جميع الفلسفات، لكن الفلسفة الوجودية تتميز بأنها تركز، بالدرجة الأولى، عليها؛ مع العلم أن فلسفة هايدغر لا تتوافق مع ذلك في خصوص مسألة الفردية؛ لأنه كان يرى المشكلة في إعطاء الأولوية للموجود أو للكائن على حساب الوجود أو الكينونة. وقد عرف هايدغر الإنسان بأنه وجود نحو الموت، والموت هو نهاية إمكانية كل الممكنات. وقد ردّ عليه بول ريكور بطريقة غير مباشرة، حيث قال وجود إلى الموت؛ بمعنى أنا حيّ ووجود ومستمرّ إلى أن أموت، ولست مجرد وجود متجه نحو الموت.

د. أوس حسن:

هناك لحظات يدرك فيها الدازاين كينونته المتناهية في الزمان، وهذا يحفز وجوده الأصيل في الحياة وإمكاناته. العدم الذي يكشف عنه القلق هو بالذات فرداني.

د. حسام الدين درويش:

أنا ذكرت لك هذه المسألة، وأبرزت خصوصية هايدغر؛ لأنه من أهم فلاسفة القرن العشرين، ولأنك تركز في الكتاب على أن الفلسفة الوجودية تتميز بالربط بين الخاص والعام، بين المعاناة الفردية أو الشعورية أو التجربة الحياتية من ناحية، والأفكار والتنظير من ناحية أخرى.

حين عدت، أنت، إلى سقراط وأفلاطون، ذكرت كيف حصل هذا المزج والجدل بين حياة سقراط وفكره، وأنه يصعب الفصل بينهما. هناك حادثة شهيرة جدًّا عن هايدغر، أنه في إحدى محاضراته كان يودّ شرح جزءٍ من كتاب "الطبيعة" لأرسطو، حيث قدم تعريفًا له مفاده: "ولد أرسطو، عاش، مات". اكتفى بهذه الكلمات فقط. وبالنسبة إلى هايدغر، ليس مهمًّا حياة الفرد، وبهذا المعنى، هو ليس فيلسوفًا وجوديًّا يربط بين المعاناة أو الحياة الشخصية والفكر. فهو فيلسوفٌ مضادٌّ للوجودية؛ لأنه يرفض أصلًا هذا الربط. وعلى العكس من ذلك، حين سئل دريدا عمّ يريد معرفته عن هايدغر، قال: إن لديه فضولاً أو رغبة لمعرفة تفاصيل حياته الجنسية؛ فهو يريد معرفة الأشياء الحميمة في حياته، ومنها يمكن ربطها بأفكاره. انطلاقًا مما ذكرته عن هايدغر، يبدو أن فلسفته تجمع بين جانبين، جانب وجودي، وجانب مضاد للوجودية. فكيف ترى ذلك؟

     "الإنسان يرى في الزمان أنه مصدر للبؤس والتحلّل والشقاء، ويشقى من أجل طبيعته المادية الفانية؛"

د. أوس حسن:

لقد هاجم هايدغر في عدد من محاضراته النظرية المدعوة باسم الفلسفة الوجودية، وكان يرغب بأن يُسمَّى فيلسوف الكينونة؛ لأنه كان يعتقد أننا نستطيع أن نصل إلى الكينونة عن طريق وجودنا. يعد هايدغر فيلسوفاً شمولياً، كتب في اللغة والهوية، وفي الاختلاف، ولكن حين انفصل عن ظاهراتية هوسرل، أسس فلسفة الكينونة بوصفها حضورًا في الزمان هي مقولة فردية تناسب الفرد، وهذه الكينونة يعتريها القلق والألم، بل إن سؤال الكينونة عن معنى الوجود، يضع العالم برمته داخل إطار هذا السؤال. كتب هايدغر عن أمور فردانية محضة، الذنب والملل، والنقص في الوجود الذي يعتري الإنسان دائماً، وأننا يجب ألا ننسى أن القلق الأصيل عند هايدغر مستعار من كيركيغورد، غير أنه يجرده من نزعته الروحانية، كما أن المعنى جاء به برجوعه إلى قصائد هولدرلين، فهناك نسبة من التصوف، بالعودة إلى اللغة، والشعر هو الذي يجعل اللغة ممكنة، فهو بيت اللغة وبيت الوجود؛ فهايدغر ينظر إلى الفرد من ناحية الكينونة وارتباطها بالعدم والقلق. لذلك، وضعت هايدغر مع الفلاسفة الوجوديين، انطلاقا من اشتراكي مع هذه المقولات والمفاهيم. فعلا، هايدغر لم يتحدث عن اليأس والاغتراب، لكنه أشار بطريقة غير مباشرة إلى هذه الأمور.

د. حسام الدين درويش:

طبعًا، له عبارات شهيرة عن الوجود الأصلي والوجود الزائف والسقوط والقلق. وأودّ الإشارة إلى أن مفردة الكينونة نادرة الاستخدام في اللغة العربية، وتُستخدم، غالبًا، مفردة الوجود بدلًا عنها. وفي الحقل الفلسفي، لابد من التمييز المفاهيمي والاصطلاحي، فسواء في اللغة الفرنسية أو الألمانية أو الإنجليزية، وفي الفلسفة (الوجودية) عمومًا، لدينا مصطلحان أو كلمتان مختلفتان للدلة على هذين المفهومين (الكينونة والوجود).. المشكلة هو أن الترجمة إلى العربية كانت أحيانا كسولة، ولم تأخذ هذا التمييز، في الحسبان. فمع الشكر لعبد الرحمن بدوي على ترجمته لكتاب سارتر "L’être et le Néant"، فإنه ترجم الكلمة الأولى بالوجود، رغم أنها تعني الكينونة. والكينونة ليست كلمة هايدغرية، فالتمييز بين الكينونة والوجود بين being and existence، موجودٌ قبل هايدغر، منذ الفلسفة اليونانية بطريقةٍ ما، وهو مرتبطٌ، أيضًا، بالتمييز والتداخل مع مفهومي الماهية والجوهر. وهذه، كلّها، مسائل أساسيةٌ.

د. أوس حسن:

يشير مصطلح الكينونة إلى الوجود الإنساني وصيرورته الزمانية في هذا العالم، إلى طريقة الوجود المتجسدة في نواحي الحياة المختلفة، كالشعور، والتفكير، والعمل، والاختيار. إن الإنسان موجود بصورة جوهرية في العالم، وهو منفتح عليه بوعيه وشعوره، وفي علاقة مع ذاته ومع الآخرين ومع الله. الوجود هو انفصال بصورة دائمة عن الذات، وأن نكون يعني أن نوجد دائما ًخارج ذواتنا. إن الوجود الإنساني هو نزوع دائم نحو الكينونة؛ فالإنسان ليس ما يكونه الآن، بل ما سيكونه غدا وفي المستقبل البعيد. لذلك، فالكينونة دائمة الفرار، وهي تتخذ مظهر اللاشكل في كل نمط من أنماط الوجود عند الإنسان. لا يوجد ثبات للكينونة ولا فكرة محددة تبني عناصرها، ومن هنا تدخل فكرة الزمان إلى الكينونة، لتصبح هي الزمان كما يرى هايدغر. تناهي الكينونة يحتم عليها أن تدخل في الرعب والقلق الوجودي عند تفكيرها بالموت أو العدم.

د. حسام الدين درويش:

إن أهم مقولة عند هيدغر هي أن الكينونة تقال على أنحاء شتى، وهنا يعود إلى أرسطو، ﻓ l’existence هو أحد تجليات الكينونة، يبدو أن هذا التمييز الضروري جدًّا في الفلسفة عموما، وفي الفلسفة الوجودية خصوصا، غائبٌ في الكتاب، أقصد التمييز بين الكينونة والوجود، فأنت تستعملهما بطريقة متبادلة؛ فإلى أي حدّ ينبغي أن نأخذ وجود/ غياب هذا التمييز في الحسبان؟ وإلى أي حد يمكن أن يكون غيابه ممكنا من دون أي عوائق؟

د. أوس حسن:

لقد أشرت في بداية الكتاب، في "لوحات من الفلسفة الوجودية"، إلى مفهوم الكينونة كمقولة أساسية في الفلسفة الوجودية، وتكلمت عنها عند جميع الفلاسفة؛ فالكينونة تجسد نواحي مختلفة للإنسان، حيث تشمل كل الرؤى والتصورات التي تحتويها الأنا أو الذات وكل العناصر التي تؤسس طريقتنا في التفكير وكل ما يمكن أن يؤمن به الإنسان من قيم ومعتقدات. لذلك، يؤكد هايدغر أن الكينونة حضور وغياب، ويذكر مارسيل أن الكينونة شيء لا يمكن البرهان عليه. أما ياسبرز، فيرى أن الكينونة تتلاشى أشكالها في العلو والتجاوز، بل تكون أقرب أكثر من عدم الكينونة، عدم الكينونة وتلاشيها هو مفتاح الحرية عند ياسبرز.

د. حسام الدين درويش:

كيف تميز بينها وبين الوجود؟

د. أوس حسن:

يقول هايدغر في كتابه الكينونة والزمان: إن الدازاين كائن يتميز بطريقة ما في الوجود، ومن هنا يمكننا القول إن الكينونة ليست ساكنة ومجردة، وإنما في حالة حركة وتفاعل وصيرورة. أما الوجود الإنساني، فهو في حالة ثبات وسكون. أشرت إلى الكينونة في مواضعها المناسبة، وكذلك إلى الوجود الإنساني، عندما أودّ نعت هذا الوجود بصفة مشتركة، والوجود الإنساني قد يكون إيقاعه أجمل من ناحية التعبير في بعض النصوص.

د. حسام الدين درويش:

ورد في الكتاب تمييز بين الفلسفة الوجودية والفلسفة عمومًا، كما ذكرت أن الفلسفة الوجودية هي ردّ فعل على الفلسفة؛ كيف توضح خصوصية الفلسفة الوجودية والفلاسفة الذين ذكرتهم، أو الرؤية الوجودية مقارنة بالفلسفة عمومًا، أو بهذه الفلسفة أو تلك خصوصًا؟

   " لدى كيركيغورد مقولة جميلة مفادها، وحده الرعب المتأتي من اليأس يوقظ في الإنسان كيانه الأعلى أو كينونته العليا. "

د. أوس حسن:

يهاجم كثير من الفلاسفة الوجوديين الفلسفة بطريقة تهكمية وساخرة، ففي الفلسفة الوجودية شيء من الصدق والواقعية، فهي تختلف عن الفلسفات الأخرى؛ لأنها تشمل حقلاً في الأدب، بينما الفلسفة عمومًا لها مقولات معينة، لها نظرية في المعرفة، ونظرية في الأخلاق؛ فهي أشبه ببناء متين. أما الفلسفة الوجودية، فترى أن هناك تناقضًا بين الذات والعالم، ولا تعتمد على أبنية منطقية وعلى نظريات في المعرفة، بل تقترب كثيرًا من الأدب وتتقاطع معه في كثير من الحقول. عندما كتبت بعض المقالات والنصوص، حرصت أن تكون مبنية بناءً سرديًا دراميًا يشبه القصة الفلسفية، ما عدا بعض اللوحات والمقولات التي تتطلب من الباحث أن يكون نسقيًا.

د. حسام الدين درويش:

إذن، الفلسفة الوجودية هي الفلسفة المضادة للنسقية، وهي بالفعل كانت كذلك مع كيركيغورد، حين تم التشديد على الفردي والمتعين والحسّي الذي لا يمكن اختزاله أو استيعابه في النظري والمجرد والكلّي.

د. أوس حسن:

يقول كيركيغورد: إن كلمتيْ وجود ونظام فلسفي متناقضتان وفقا، فإذا اخترنا الوجود، فإنه ينبغي لنا أن نتخلّى عن كل فكرة متعلقة بالنظام الفلسفي الهيغلي. لذلك، رأى كيركيغورد أن الحياة لا تختصر في نسق فلسفي أو نظام من الأفكار. فليس هناك أيّ نظام فلسفي ممكن للوجود. فالإنسان عند كيركيغورد في صراع دائم مع تناقضاته الروحية والمادية، وصيرورة الروح عند كيركيغورد مهمة لبلوغ الحرية والإيمان المفارق للغايات.

د. حسام الدين درويش:

لهذا كان مفهوم الروح ضبابيًا جدًّا، وهو المفهوم الرئيس عند هيجل، وهو حاضر كذلك عند كيركيغورد؛ فهو حاضر في النسقية والوجودية معا.

د. أوس حسن:

حقيقة إن الروح المطلق يختلف عن الروح في الفلسفة الوجودية عند كيركيغورد، أو عن الوجودية الروحية عند برديائيف؛ فتأثيرات الفلسفة الوجودية هي في الأصل دينية. كيركيغورد في كتابه "المرض حتى الموت"، يتناول اليأس كمقولة وجودية، لكن ما المقصود باليأس؟ هل هو اليأس الطبيعي الذي يراه الإنسان في الحياة الطبيعية؟ هل هو مادي زمني؟ هناك يأس يعتري الإنسان؛ لأن هناك صراعًا من التناقضات بين الزمني والأبدي؛ فالإنسان يرى في الزمان أنه مصدر للبؤس والتحلّل والشقاء، ويشقى من أجل طبيعته المادية الفانية؛ فهذا اليأس الذي يستولي على الإنسان يسميه كيركيغورد باليأس الروحي بوصفه بوابة للانطلاق نحو الأبدية. وبعد اليأس تأتي مرحلة الإيمان المتجاوز، بينما يرى برديائيف أن الروح الخالقة هي التي تعلو فوق الوجود؛ فثمة تجارب تعلو على الوجود مثل تجربة الدين، وتجربة الحب وتجربة الفن، والروح عند برديائف هي روح خالقة، لكنها ليست روحًا ساكنة ومنكفئة على نفسها في العزلة، فالإنسان الذي تنضج في أعماقه الحياة الروحية يتوق إلى الخروج من عزلته، ليدخل في اتصال روحي مع أنا أخرى، والأنا الأصيلة تكشف عن نفسها في عزلتها، فتبحث عن انعكاس صورتها في مرآة الذوات الأخرى التي تشبهها.

د. حسام الدين درويش:

ما المعيار الذي اخترت من خلاله إدخال هذه الشخصية أو تلك، أو عدم إدخال هذه الشخصية أو تلك، والإشكالية هنا تظهر مع كولن ولسون ودوستويفسكي؛ فهذان الشخصان، حسب الرأي الأغلب، ليسا بفلاسفة، وإن كانت لديهما أفكار وجودية، خصوصا دوستويفسكي؛ فعلى أيّ أساس تم الاختيار؟

د. أوس حسن:

كان في اختياري لكولن ولسون ودوستويفسكي، مغامرة كبيرة؛ فأنا قمت بهذا الاختيار، وهذان الشخصان مصنفان في حقل الأدب الواسع، ودوستويفسكي لا يمكن تصنيفه فيلسوفا، ولكن جميع الفلاسفة الوجوديين من كامو إلى سارتر حتى نيتشه وفرويد، يستشهدون بمقولات دوستويفسكي، والذي يقدم الكثير من المقولات مثل الذات والكينونة والألم واللذة، ويرى أن الإنسان هو مجموعة من الرغبات. ولهذا من غير الممكن التغاضي عن دوستويفسكي؛ فجيل دولوز كان يقول عندما نكتب عن فيلسوف، نحن نقيم في أعماقه وكأنه حاضر بيننا؛ فعندما كتبت عن دوستويفسكي شرحت وحللت رواياته ومقولاته بوصفه فيلسوفا، وأنا لم أكتب عن دوستويفسكي فقط، بل لدي دراسة أيضاً عن الوجودية والتمرد في المسرح الأدبي الحديث.

وعلى هذا الأساس، يمكنني أن أعتبر المسرحي والروائي الإيطالي لويجي بيراندللو فيلسوفا وجوديا ومواطنه المعروف والشهير وجوديا ميجيل دي أونامونو فيلسوفا وجوديا، غير أن مساحة الكتاب لا تسمح لذكر كل هؤلاء الفلاسفة. أما دوستويفسكي، فهو البذرة الأولى التي انطلقت من الوجودية، حتى أرنستو ساباتو كان يقول: إن روح العصر التي دفعت الوجودية إلى الظهور في الفلسفة والأدب، تمثلت في الخلق الذي بدأه دوستويفسكي، وقد حصل هذا الأمر بصورة عفوية قبل أن تصبح الوجودية موضة بقرن كامل؛ فالرواية كانت تملك محورها الدائم في الإنسان، واهتمت بانفعالاته العميقة، وهي تبحث عن معنى حقيقي للوجود الإنساني خارج سطوة العقل والمادة. لذا فقد عبّر دوستويفسكي بصدق ووضوح عن هذه الفلسفة. أما كولن ولسون، الكاتب الذي اتهموه بالدجل والزيف والكذب، وفي كتاباته شرق وغرب، غير أن شيئا من الجوانب الروحية يلتقي فيها مع برديائيف وكيركغورد، ووجوديته متفائلة.

عندما تقرأ الفصل المتعلق بكولن ولسون، تجد أن الوجود برمته يصبح عبارة عن مرح وتفاؤل، ويعيب على الفلاسفة السابقين، وتحديدا هايدغر وسارتر؛ لأنهم لم يتوصلوا إلى معنى ملموس في الحياة، وتركوا المعنى ضائعا في مفترق الطرق. هناك معنى مبهم في العالم الخارجي والوعي الذاتي الذي لا ينفصل عن الوعي الموضوعي. لهذا كثفت مجموعة من الأفكار، ووضعت كولن ولسون بوصفه مكمّلا لأفكار الكتاب في الكينونة والمعنى.

د. حسام الدين درويش:

أنت تعرف أنه يوجد في عالمنا العربي والإسلامي أيضا، توجهٌ تحقيريٌّ تجاه الفلسفة؛ فهي كلامٌ فارغٌ أو كفرٌ؛ أي إنها سيئةٌ وتافهةٌ. وفي مقابل الاتجاه التحقيري، يوجد اتجاه تبشيري يرى أن الفلسفة هي الحلّ. إلى أي حد يتبنى الكتاب هذا الاتجاه التبشيري؟ أي إن هناك فلسفة يمكنها أن تعبر عن آلامنا وأوضاعنا وأفكارنا. إلى أي حد يتضمن الكتاب هذه الرؤية التبشيرية للفلسفة؟

د. أوس حسن:

عندما وضعت الكتاب، لم أشأ وضع مقولات، وحين استعنت بالمصادر وضعت عبارة التصرف؛ أي إنني حاولت قولبتها في الفكر، عندما يقرأ الإنسان الكتاب سيجد ذاته فيه، فهو ليس كتابا مدرسيا أو كتاب ندوات أكاديمية؛ فالإنسان يمكنه أن يتعلم من هذا الكتاب، ويردم الثغرات في وجوده، ويعيش حياة أفضل شرط اقتران التجربة مع الفكرة؛ فالإنسان الذي لا يمرّ بتجربة شخصية فيها صيرورة ومعاناة واصطدام مع المجتمع، لن يتمكن من الاستفادة من الكتاب نظرياً فقط،؛ لأن الفكرة من دون نظرية غير مقبولة؛ فالإنسان عليه أن يقرأ كتابا مقترنا بالتجربة، والعلاج بالفلسفة موجود من خلال بعض المفاهيم.

د. حسام الدين درويش:

تكمن مشكلة الاتجاه التبشيري في أنه ليس نقديًا، وأعني هنا النقد على الطريقة الكانطية؛ أي إظهار معقولية أو موضوعية أو إيجابية شيء ما، وحدود هذه المعقولية أو الموضوعية أو الإيجابية. ففي "نقد العقل المحض"، بين ما يمكن أو لا يمكن للعقل معرفته. ولا يبدو أنك كنت معنيًّا أو مهتمًّا بتقديم أي ملمحٍ نقديٍّ في كتابك. فهو لا يقدم أي نقدٍ، وإنما يقدم عرضًا وبناءً وتطويرًا، وهذا شيءٌ إيجابيٌّ، ونحن بحاجة إليه. لكن، إلى أيّ حد تعتقد أن الرؤية التبشيرية – وهي مأخوذةٌ من الدين؛ فالأديان تبشر الإسلام هو الحلّ، العلمانية هي الحلّ، ومن ثم الوجودية إلى الحلّ – يمكن أن تتمفصل أو تتكامل مع الرؤية النقدية؟ هل تعتقد أنّ ثمة جدلًا بين التبشير والنقد من ناحيةٍ، هل يمكن أن نبشر بدين أو فكرٍ ما، ونقول فيه إيجابياتٌ، ولكن له حدودٌ يجب أن يلتزم بها، فهو ليس إيجابيًّا بالمطلق. فهل من نقدٍ وجهته، في الكتاب، أو يمكن أن توجهه إلى الوجودية؟

د. أوس حسن:

طبعًا، أنا لم أوجّه نقدًا؛ لأن اتجاه الكتاب ليس اتجاها نقديًا بالدرجة الأولى، بل تضمن الكتاب في فصوله بعض الومضات الروحية، ونصوص تلامس أعماق الإنسان التي يجد نفسه فيها؛ فالإنسان ناقد نفسه عندما يكون في مواجهة مع ذاته ومع الآخرين، وأنا لست واعظًا ولا وصيًّا على أحد، ولست مؤهّلا لأكون كذلك، ومع هذا، يمكن القول إن العقل العربي لم يتخلّ عن المقدس حتى هذه اللحظة؛ فالحضارة العربية هي حضارة لغوية، رغم وجود مفكرين ترجموا لنصوص الفلسفة الغربية، وماتزال نفس الأسئلة في التراث وفي التاريخ، ما يعني أن العقل ما يزال يعيش في التاريخ بطريقة قديمة، وهذا الجمود لا يمكن أن يتفتت أو يتحلل إلا بوجود طبقة سياسية بورجوازية تتغلغل في العمل السياسي. أما العقول الفلسفية والثقافية، فلا يمكن أن تسلك سلوكًا اجتماعيًا إلا في حال تغلغلت عقول فلسفية في العمل السياسي، وهذا ما حدث في عصر النهضة الأوروبية زهاء مائتي عام أو أكثر. فهناك الكثير من الفجوات ومن الصّدع الذي يحتاج إلى رأب. لذا، فأنا لم أكتب الكتاب وفق اتجاه نقدي، وإنما لبيان ما يعانيه الإنسان. وإذا ما أراد شخص أن يطلع على أفكار سارتر ومقولات هايدغر، فبإمكانه قراءة الكتاب، سواء كان قارئًا مختصًّا أو غير مختصّ.

د. حسام الدين درويش:

تمامًا، هذه هي قضية الكتب الفلسفية التي توجه إلى القارئ العام من ناحية، وتحافظ على الرصانة والموضوعية والعمق من ناحية أخرى. والكتاب هو محاولة في هذا الاتجاه. قبل تناول كل فصلٍ على حدةٍ، أود أن أسألك عن رؤيتك في أن برديائيف وولسون قدّما ما ترى أنه الحل لمشكلة المعنى في الفلسفة الوجودية وفي الفلسفة عموما، فكيف ترى ذلك؟

د. أوس حسن:

كان برديائيف يرى في الزمان أبدية متقطعة، يمكن استحضارها في لحظة واحدة؛ فهناك حاضر الحاضر وحاضر الماضي وحاضر المستقبل، والروح بإمكانها أن تعلو على الزمان كي تعيش هذه اللحظة، كما يرى – برديائيف- في الوجود مناطق مظلمة تنيرها الروح. لذلك، فالوجود الذي يتبدّى أمامنا هو عالم مرصود بأحاسيسنا، وهذا ما هو مشترك بين برديائيف وكولن ولسون، فثمة ألوان تختلف عن ألوان وأشكال وأحجام لا نراها إلا بإدراكات حسية أخرى. لذلك، فالوجودية الروحية عند برديائيف، الذات العارفة، والمعرفة التي يقصدها، هي التي تستبطن أعماق الوجود، وتظهر في عدة أمور مثل الفن، التجربة الدينية العميقة، الحبّ، وهي أمور يقترب منها كولن ولسون، وأنا وجدت هذا المعنى باطنيًا بالدرجة الأولى، ليس فردانيًا فقط، وإنما باطني وغنوصي إلى درجة كبيرة.

د. حسام الدين درويش:

إذا انتقلنا إلى عرضٍ سريعٍ لمضامين الكتاب، نرى أنك، في المقدمة، عرَّفت الوجودية والفلسفة الوجودية بأنها تتميز عن الفلسفات الأخرى بمركزية بعض المفاهيم، منها القلق والعدم والحرية والعلو والكينونة، وركزت على شرح هذه المفاهيم، وهذا ما شملته مقدمة الكتاب. فهل ترى أن هذه المفاهيم هي المفاهيم المؤسسة للوجودية؟

د. أوس حسن:

تم إدخال هذه المفاهيم في الفلسفة الوجودية حديثًا في الكتاب. لذلك، بعد اتفاقي وهيئة التحرير ولجنة التحكيم في مؤمنون بلا حدود، وضعت هذه المقولات، والتي لم يكن الكتاب يتضمنها. لذا، فالفضل يعود إلى أعضاء اللجنة؛ لأنهم اقترحوا هذا الاقتراح.

د. حسام الدين درويش:

هي إضافةٌ محمودةٌ، لذلك صرت تعرف الفلسفة الوجودية من خلال هذه المقولات. فعندما سألتُك "ما الفلسفة الوجودية؟"، قدمت تعريفها من خلال هذه المفاهيم التي لم تكن موجودةً أصلًا، في المسودة الأولى لكتابك؛ فشكرًا لإضافة مؤمنون بلا حدود.

د. أوس حسن:

هذه المقولات الأساسية جاءت من خلال إبداعٍ ذاتيٍّ وتحفيزٍ من لجنة مؤمنون بلا حدود المشرفة، والحقيقة أن أعضاءها لم يفرضوا عليّ شيئًا بعد الموافقة، بل قالوا: حبّذا لو كانت هناك مقولات أو مقدمات بسيطة عن الوجودية. وعليه، كتبتها وسميتها لوحات، حتى لا تخرج عن النسق الفني والأدبي.

د. حسام الدين درويش:

هذا ديدن الفلاسفة أو الوجوديين الذين يخلطون الفلسفة بالفن والأدب.

دة. ميادة كيالي:

أريد أن أنوّه بهذا الموضوع، والحقيقة هذه الميزة التي تحدثنا عنها في بداية اللقاء؛ فأعضاء اللجنة يشتغلون على الكتاب، ويحاولون أن يكونوا معنيين بهذا الكتاب، ليخرج بطريقةٍ يستطيع فيها القارئ الإلمام بكل الجوانب؛ وذلك بملء جوانب النقص والثغرات في الكتاب. لهذا أنا أحييهم، ومنهم من هو حاضر معنا ويسمعنا.

د. حسام الدين درويش:

كل الشكر للدكتور أوس على الاستجابة؛ ففي العالم العربي لدينا شيء من عدم الثقة بين الكاتب والمحكم، غير أن التفاعل الإيجابي جدّ مهم ومنتج. وذكرت حالة بول ريكور؛ لأنها حالةٌ نموذجيةٌ، لتبين كيف يمكن للناشر أن يتدخل في عملية وصناعة النشر. وأنت ذكرت أن المسألة جماعيةٌ، وهذا شيءٌ جميلٌ أن يؤكد فيلسوفٌ وجوديٌّ أهمية الجماعية، وليس الفردانية.

د. أوس حسن:

هناك الكثير ممن يؤكد على المشاركة الوجدانية والاجتماعية عند الفلاسفة الوجوديين. أما بالنسبة إلى الثقافة في الوطن العربي فهي ثقافة دكتاتورية لا تعترف بالمحرر. علما أن عددًا كبيرًا من كبار الكتاب والأدباء في العالم، عندما خضعت كتبهم ورواياتهم للتحرير تم حذف الكثير منها وإضافة أشياء أخرى. وأنا بطبيعتي الخاصة أؤمن بوجود محرّر أو فارس مجهول خلف الكتاب. وهنا تصبح العقول تشاركية، ليخرج الكتاب في أبهى حلّة.

د. حسام الدين درويش:

إذا انتقلنا إلى الفصل الأول، بعد المقدمة، لاحظت أنك لم تتبع الترتيب الزمني في الكتاب، وإن كانت البداية موفقة زمنيًّا وتأسيسيًا. تحدثت عن مفاهيم الفزع واليأس، وأشرت إلى أن مفهوم الفزع كان سابقًا عن مفهوم القلق، وأنت انحزت إلى الترجمة العراقية، ترجمة قحطان جاسم، وكان التركيز عليه كثيرًا في الفصل المخصص لكيركيغورد.

د. أوس حسن:

تناقشت مع قحطان جاسم، فقال لي نستطيع أن نترجم القلق إلى اللغة العربية بالفزع؛ لأنه أكثر دقة وعمقًا من القلق؛ فالقلق أو الخوف يكون إزاء شيء محدد في العالم الخارجي. أما الفزع، فهو حالة روحية باطنية تأتي إزاء لا شيء، فتستولي على الإنسان.

د. حسام الدين درويش:

إذن هذا ما كان يسمّى سابقًا بالقلق الوجودي، وبالتالي يمكن تمييزه عن القلق غير الوجودي النفسي أو المرضي.

د. أوس حسن:

نعم، القلق انبثق في الفترة الأولى عند كيركيغورد، والذي فرق فيه بين القلق الطبيعي والقلق المادي والقلق الروحي والقلق الوجودي، هذا بالإضافة إلى مقولات أخرى مثل الرعب، ولدى كيركيغورد مقولة جميلة مفادها، وحده الرعب المتأتي من اليأس يوقظ في الإنسان كيانه الأعلى أو كينونته العليا؛ وذلك لأن كيركيغورد يرى أن الكينونة تتلاشى عندما تكون أمام الله، وتصبح عدمًا مطلقا. إن الإنسان بتعبير كيركيغورد يمر بثلاث مراحل في حياته، وهي ليست بالضرورة مشروطة لكل فرد، كما أن تلك المراحل الثلاث يمكن أن تحيا بشكل متناقض عند الإنسان، لكنها عند نقطة معينة قد تتطلب عزيمة وإصراراً يفرضهما الوعي في لحظة حاسمة انتقالية؛ المرحلة الأولى هي المرحلة الجمالية أو الحسية ويكون الإنسان غارقاً فيها بالملذات والشهوات، وتكون المسؤولية معدومة، والروح غائبة. والمرحلة الثانية هي المرحلة الأخلاقية، وفيها يجنح الفرد نحو الراحة والطمأنينة، بعد أن أنهكته الرغبات واللذائذ الحسية، فيلجأ إلى تحمل المسؤولية وإلى الالتزام بالأخلاق، وعادة ما يرتبط بزوجة وتكون له عائلة ووضع اجتماعي مستقر. في هذه المرحلة يكون الإنسان متوافقاً ومنسجما مع الشأن العام، وله القدرة على التفريق بين الخير والشر واتخاذ القرارات الحاسمة، ويكون فيها الله نقطة خفية متلاشية أو فكرة واهنة وتكمن قوته في الأخلاقي فقط. أما المرحلة الثالثة، فهي المرحلة الإيمانية وفيها يعلو الفرد على الشأن العام؛ على الجمالي والأخلاقي، ويكون فرداً منعزلاً ومتوحّدًا في علاقة مطلقة مع الله، وهذه هي المرحلة التي تتطلب مفارقة للعقل والغايات الأخلاقية بقرار باطني ينتزع من الأعماق.

د. حسام الدين درويش:

من اللحظة التأسيسية مع كيركيغورد، انتقلت إلى دوستويفسكي، وهنا أودّ الإشارة إلى ما يسمى بعلم النفس الوجودي أو السيكولوجية الوجودية. وأنت ترى أنها من المسائل المهمة كثيرا، وخصصت الفصل الأخير لها؛ فما الذي يمكن أن تقوله عن هذه المسألة؟

د. أوس حسن:

حقيقة، الوجودية تصلح كي تكون علمًا للنفس البشري، مادامت تتكلم عن كثير من الانفعالات الباطنية والروحية. وهذه المرحلة التأسيسية في السيكولوجية الوجودية وجدت في رواياته عند الإنسان الذي يتساءل ويغامر، ويدخل في صراع مع التناقضات بين الإلحاد والدين، وحالات الرعب التي تكلم عنها كيركيغورد موجودة في روايات دوستويفسكي، مع العلم أنهما لم يقرآ لبعضهما؛ فحالات الرعب والفزع والخوف من الممكنات التي قد لا تتحقق، والتجارب النفسية المروعة التي يعيشها الإنسان وكأنه في مصحة نفسية موجودة في روايات دوستويفسكي. وهذا الإنسان هو الذي يعطي في ما بعد معنى للعالم في رواياته. لذلك، لا نستطيع التغاضي عن دوستويفسكي، فحتى الفلاسفة الوجوديون تحدثوا عنه واستشهدوا به.

د. حسام الدين درويش:

إذن، يمكن القول إن أفكاره هي مصدر أو من أهم المصادر في الفلسفة الوجودية، وهذا لا خلاف عليه، ولا أختلف معك عليه شخصيًّا، فهو أحد أبرز أو أعظم الأدباء في عصره وحتى الآن. ما أشعر بشيء من الشك حياله، في هذا السياق، هو قولك إن نصوص دوستويفسكي تقدم علاجًا روحيًّا. فعندما تقرأ رواية "الإخوة كارامازوف"، تجد فيها معاناة هائلة ودراما أو ميلودراما من أعلى طراز. وكذلك هو الحال في نصّيْ "المقامر" أو "مذكرات قبو". فقراءة هذه القصص أو الروايات ليست سهلة، ويحتاج الشخص إلى صحة نفسية جيدة لقراءتها. ومع ذلك، أنت تعتقد أن مثل هذه النصوص تقدم علاجًا روحيًّا. هل يمكن أن تشرح أكثر وجهة نظرك في هذا الخصوص؟

د. أوس حسن:

في بعض روايات دوستويفسكي، توجد بعض العبارات التي تستفزّ أشياء مضمرة لديك في اللاوعي، وعندما تخرج هذه الأفكار المضمرة إلى سطح الوعي، فأنت هنا تكون قد نظفت اللاوعي، حيث يبدأ الاستفزاز والتفكير المقترن بالتجربة والقراءة. والشخص المبتدئ حين يقرأ لدوستويفسكي، ويقول إنه عولج روحيًا أو توصل إلى نفسه، فهذا لا يمكن؛ لأن قراءة دوستويفسكي تتطلب قراءة مستمرة على مدى العمر؛ فحتى هذه اللحظة مازلت أقرأ لدوستويفسكي، وأشعر بأنّي مقصر معه. وقد استشهدت برواية "مذكرات قبو" في الدراسة؛ لأنها تخص الفلسفة الوجودية تحديدًا؛ الفرد، الوجود الخاص، الألم، اليأس، اللذة، وهي الرواية التي تتضمن تأسيسًا فعليًا للوجودية.

د. حسام الدين درويش:

أنا لا أقلّل من قيمة وتأثير دوستويفسكي أو تأثيره. وسؤالي كان عن معنى قولك إن قراءة نصوصه تقدم علاجًا روحيًّا.

وإذا انتقلنا إلى فريدريك نيتشه، فأنت تناولته انطلاقا من عنوان "غريزة الحياة والإنسان الأسمى"، فبأيّ معنى ترى وجود ارتباط بين الفلسفة الوجودية وهذين المفهومين: غريزة الحياة والإنسان الأعلى أو الأسمى؟

د. أوس حسن:

نستطيع أن نقول إن التفكير الوجودي هو الأقرب إلى نيتشه؛ إذ نرى في كتاباته هذه الروح الصوفية والوجودية في "هكذا تكلم زرادشت" وفي نصوصه وشذراته، وحتى في أشعاره. فنيتشه لم يكن فقط فيلسوفًا وجوديًا يحمل مفاهيم عن الألم والقلق، وإنما تعداها إلى الإنسان المتفوق أو الإنسان الخالق والعود الأبدي، حيث يصبح الإنسان المتفوق وجوديًا ساحرًا؛ أي إن الإنسان يتجاوز ماهيته؛ لأن نيتشه يعترف أننا في عالم ناقص، والإنسان في كل مرة يتجاوز ماهيته وهو ما يوافق أفكار الإنسان المتفوق، وبالتالي يطلب نيتشه من الإنسان أن يتخلص من جميع أوهام العقل وترف الحضارات والثقافة الزائفة والأخلاق الدينية المزيفة، وكل ما يدعى بثقافة أو فلسفة أحيانا هي نتاج عقل مريض. لذلك هو يطلب من الإنسان أن يذهب إلى الحياة نفسها. سأل أحد الأصدقاء فيلسوفًا كرديًا، قائلا: أستاذ ماذا أقرأ؟ فقال له: لا تقرأ، بل تعلم زراعة وأسماء النباتات، وتعلم ركوب الخيل، انصرف إلى الحياة. فهذه فكرة نيتشه؛ لأن الكثير من الأوهام جعلت العقل مريضًا ومستعبدًا؛ لأنه ينأى بغرائز الجسد وبغريزة الحياة. لهذا ندرك أن هذه الوجودية هي وجودية ساحرة وملهمة.

د. حسام الدين درويش:

قفزت، بعد ذلك، بطريقةٍ ما، إلى النقيض، وأقصد برديائيف؛ فنيتشه يمثل قمة ما يسمى بالوجودية الملحدة، بينما يمثل برديائيف الوجودية المؤمنة والانعزالية؛ فلماذا سميته بفيلسوف العزلة والحرية؟

د. أوس حسن:

نعم، الحرية عند برديائيف هي سابقة لكل وجود، وهي واقع حال لهذا الوجود.

د. حسام الدين درويش:

لديك، في تعريفه، العزلة سابقة على الحرية، فلماذا ترى إنه فيلسوف العزلة (والحرية).

د. أوس حسن:

فيلسوف العزلة والحرية، لماذا العزلة؟ لأن الأنا عندما تتجه إلى عزلتها، فهي نتيجة لضغط مؤثرات خارجية لا تريد هذه الذات أو الأنا أن تحيا وجودًا آليًا وميكانيكيًا، بل تتجه إلى العزلة كي تحيا حياتها الروحية، فيصبح العالم الخارجي والحيوانات والطبيعة بجبالها وأشجارها جزءًا من كينونة الإنسان، غير أن هذه الذات تملّ في عزلتها، فتخرج وتشتاق إلى الاتصال الروحي مع ذوات أخرى تشاركها الأفكار. لذلك، لا يرى برديائيف في العزلة شيئًا سلبيًا، وإنما يجب أن يكون نشاط الروح داخلا في المجتمع برمته؛ لأننا نحيا الآن وجودًا آليا وميكانيكيا؛ فالإنسان عبارة عن آلة مسيرة من قبل المجتمع والأفكار، وما يؤمن به من تصورات وأحكام. ثمة مقولة في القلق لبرديائيف، يقول فيها: القلق شوق إلى عالم أعلى، ينبثق القلق في غسق الليل وضبابه، وهو يشبه الجزع تقريبا. وتعيدنا مقولات برديائيف إلى مقولات كيركيغورد وهايدغر، مع أن كل مفهوم يختلف من فيلسوف إلى آخر.

د. حسام الدين درويش:

ومع ألبير كامو، نأتي إلى العبث والتمرد، حيث تكلمت عن مديح اللاجدوى، وفي ذلك إعادة اعتبار لمفاهيم تبدو سلبية، والإنسان المتمرد معروف لدى كامو، هل ترى أنه قدم حلّا لمسألة المعنى؟

د. أوس حسن:

يرى ألبير كامو أن اللاجدوى تنشأ من الحاجة البشرية الملحة إلى الوضوح والمنطق مقابل صمت العالم اللامعقول، وينبثق الشعور باللاجدوى من المقارنة بين حقيقة مجردة وواقع معين، بين الفعل والعالم الذي يفوق طبيعة ذلك الفعل. واللاجدوى هي نتاج الفكر الذي ينقلب على نفسه، ومن تمظهرات العالم في الوعي البشري؛ فاللاجدوى ليست في الإنسان ولا في العالم، وإنما من التحامهما ومن صراعهما الأزلي واللاجدوى هي أشد الانفعالات انزعاجًا، عندما تداهم الإنسان في لحظات التوقف، فيسأل ما جدوى هذا العمل الذي أقوم به الآن؟ فصورة سيزيف التي يرمز لها كامو في كتابه تشير إلى الأعمال التي نمارسها بلا ملل أو كلل، ولكن الوعي ينبثق في اللحظة التي نقول ما جدوى هذا العمل؟ لذلك فالاستمرار في اللاجدوى هو المعنى في هذه الحياة؛ يعني إذا توقف سيزيف وألقى الصخرة عن ظهره وقال ما جدوى ما أقوم به، إذا كان مصيره العدم والتلاشي؛ فهذا يعني أن لحظة التوقف هي لحظة الوعي التي يشير إليها كامو، واللاجدوى تتضمن جانبا من المعاناة، تضيء باحتدامها أعماقًا مظلمة عند الإنسان؛ فهذه المعاناة تخصني، وهذا الليل بدموعه وضبابه يخصني أنا، وبالتالي أنا جدير به، وأنا كفيل بأن أعطي المعنى للعالم ولذاتي، غير أن اللاجدوى هنا لا تكفي، بل على الإنسان أن يخرج من عبثية اللاجدوى ومن ألم العدمية إلى مفهوم آخر سماه كامو التمرد. والتمرد مفهوم إشكالي جدًّا قد لا ينسجم مع كثير من المعاني التي طرحتها في الكتاب. لكن هناك تمرد فلسفي خلاق، فعندما تدفعنا تجربة العبث والألم إلى بديهية الاحتجاج، فنحن نشترك في ألم جماعي، ليصبح هذا التمرد قيمة إنسانية؛ نحن نتمرد، إذن نحن موجودون. فالألم الذي أشعر به، يشعر به آخرون كذلك، وهذا التمرد الموجود ليس فردانيًا وإنما جماعي، وهنا يتقاطع كامو مع سارتر في كون الوجودية مذهب إنساني، وعلى الإنسان الذي يتمرد أن يعرف الحد الذي يتمرد فيه ويعرف الآخر. هكذا يصبح التمرد منهجيًا، عندما تحتوي حركته ضمنيا على القيمة في عالم بلا قيمة ولا معنى.

د. حسام الدين درويش:

في الفصل التالي، ننتقل إلى سارتر؛ وفكرة أن الإنسان محكوم بالحرية، ما أولوية أو أهمية الحرية في الفلسفة الوجودية؟

د. أوس حسن:

بالنسبة إلى سارتر، فهو قاس على الإنسان؛ لأنه يرى أن الإنسان محكوم تحت كل الظروف بالاختيار، حيث لا توجد حتمية بيولوجية ولا نظام سياسي ولا عقيدة دينية تمنعك من الاختيار، حتى عدم الاختيار هو اختيار أيضا، والحرية هي واقع حال يفرضه الوعي. لذا، فالحرية عند سارتر هي واقع مجبور على الإنسان، وعندما أكتشف حريتي، فأنا أكتشف حرية الآخرين من حولي؛ لأنني عندما أشكل صورتي وأختار، فإنني لا أختار لنفسي، وإنما أختار الآخرين من حولي، وأشكل وجودي ووجود الآخرين والزمن الذي أعيش فيه.

د. حسام الدين درويش:

تبدو الخاتمة دراميةً؛ أي ثمة تقييمٌ سلبيٌّ جدًّا للعصر الراهن، الواقع الراهن، الحياة الراهنة، الخبرة الإنسانية الراهنة، والحديث، بطريقةٍ عدميةٍ، عن كوننا في أزمةٍ فقط. ألا ترى أنك، بهذا التوصيف (الأحادي) للواقع، تبالغ في السلبية؛ لأنك لا تشير إلى أي إيجابية للعصر الراهن، وإنما تتحدث فقط عن معاناةٍ وأزمةٍ وقلقٍ؟ إلى أي حد ترى أن الأمر يتطلب استحضار الفلسفة الوجودية أو إن حضور هذه الفلسفة هو الذي أدى أو يمكن أن يؤدي إلى هذه النظرة الأحادية السلبية للحياة الإنسانية المعاصرة؟

د. أوس حسن:

نعم، بالنسبة إلى الخاتمة، تأملات في الحرية ومصير الإنسان، فأنا لا أفضل أن نطلق صفة نظرة سلبية أو إيجابية للحياة، لكن ما نراه من ظواهر بعد 2020؛ وما يعانيه الإنسان من حروب وزلازل وفيضانات وأمراض، ومن عذابات بشرية مستمرة، تجعلنا نتوصل إلى أن العصر الذي نعيشه يسوده المجهول واللامتوقع بدرجة كبيرة ومرعبة، كما أن عصرنا هو عصر النسيان واللامبالاة والموت؛ فهذا الوجود يتلاشى، ما إن نمسك به حيث لا توجد حقيقة عند الإنسان، ولا يوجد معنى مركزي، وهذه الظواهر ليست مفهومًا سلبيًا أو إيجابيًا، وإنما العالم الذي يتمظهر أمامنا بجنونه ووحشيته. ومن هنا رأيت أن الحرية يحفزها الخطر، والناجي من الخطر هو الذي يتمتع بهذه الحرية، ويكون على تماس مع طاقة الحياة وإرادتها. نحن في مرحلة تموت فيها شعوب، وتنهار دول وأنظمة ومدن. مثلا شعبنا في غزة وفي السودان، لم تنفع معه أيّ بنية فلسفية أو نظرية في السياسة وحقوق الإنسان، إلا أن جملة شعرية قد تنفع أو ومضة من الومضات التي تستكين بها الروح؛ فالإنسان ضائع في هذه المأساة. لهذا، كتبت في الخاتمة أن العالم غير مضمون، ليس فيه شيء ثابت، فالعالم في انهيار دائم والإنسان في انهيار معه. وحين عرجت على الوجودية، وجدت أنها هي الفلسفة التي يمكن للإنسان أن يتعاطاها ويحياها منذ أن وجد، وحتى لو تطور أصبح سلالة بشرية متطورة، فالوجودية ستبقى مرافقة له ما دامت مرتبطة بالوجود الأول.

د. حسام الدين درويش:

شكرًا جزيلًا، الأستاذ أوس على مرافقتي هذه الرحلة الماتعة والغنية، والتي طالت أكثر مما كنا نخطط ونتوقع. الكتاب يتضمن حديثَا عن تسعة فلاسفة أو شخصيات فكريةٍ؛ وقد حاولنا، قدر المستطاع، أن نلقي الضوء على أهم الأفكار والشخصيات في الكتاب.