حوار صحفي مع الدكتور يوسف بن عدي

فئة :  حوارات

حوار صحفي مع الدكتور يوسف بن عدي

حوار صحفي مع الدكتور يوسف بن عدي

أ. محمد الصغير: الدكتور يوسف بن عدي، باحث ومؤلف في الفلسفة العربية الإسلاميّة وقضايا الفكر العربيّ المعاصر في جامعة محمد الخامس بالرباط- المغرب. في البداية أرحب بك، وأود أن ألقي الضوء على مسارك العلمي والأكاديمي؟

د. يوسف بن عدي: في البدايةِ أتفضلُ بشكرك أستاذ أحمد على هذا الحوار، وعلى إصرارك المتواصل والمستمر على التعريف بالتفكير الفلسفي في المشرق والمغرب. أمّا بشأنِ الجواب عن سؤالك؛ فمساري العلمي والبحثي لم يكن يوماً منفصلاً عن مساري في التدريس والتكوين والتأطير؛ إذ إنّ الأمرَ متواز. لذلك، كان تدريس الفلسفة في التعليم الثانوي الـتأهيلي والمركز الجهوي للتربيّة والتكوين، والجامعة فرصة هائلة للتفكير في قضايا الفلسفة وآلياتها وطبيعة تصريفها وترجمتها لدى الطلاب والباحثين. من ثمةَ، كان انخراطي في الكتابة والتأليف جزء من هذين المسارين العلمي والبيداغوجي. أحسب أنَّ التفكير الفلسفي في المغرب والعالم العربي في أمسّ الحاجة اليوم إلى مزيدٍ من التفكير النقدي الّذي يدفع الأمة والمجتمع والدولة إلى تكريس قيم الحداثة والتنوير بمنطق لا يلغي الهويّة والتراث بقدر ما هي على قول الفيلسوف المغربي محمد عزيز الحبابي تعصير الأصالة وتأصيل المعاصرة. فالفرد العربي والمغربي يتطلب منهُ أن يكون فاعلاً ومندمجاً ومتشخصناً مع الآخرين، والشعوب والحضارات مما يجعلهُ في قلب الفكر الإنساني والمشترك الكوني وينتجُ عن هذا كذلكَ التخلص من النظرة التقابلية أو التفكير الحدّي المنطقي القاتل [إما... وإما] وتجاوز منطق النمذجة الأيديولوجيّة السائدةِ. لننعطف ونقول إنَّ تحرير بعض النصوص الفلسفيّة والنقديّة تندرج -في حسباني- في سياق مواجهة كل خطاب أيديولوجي لم يرق إلى ممارسة النقد الأيديولوجي كما مارسهُ عبد الله العروي، ومحمد عابد الجابري وغيرهما. إذن، جاء كتاب ”شرح ما بعد الطبيعة في ضوء أرسطو. نظرية البرهان الفلسفي عند ابن رشد“[2022]، و”المشترك النقدي في الفكر العربي نقد فلسفي أم نقد أيديولوجي“[2022]، قبلهما من مكتوبات مثل ”محمد عزيز الحبابي وتأسيس الفلسفة الشخصانيّة الواقعيّة“[2016]، و”العبارة لأرسطو في شروح الفلاسفة وتأويلات المعاصرين“[2016] و"أطروحات الفكر العربي المعاصر في منهاج تحليل التراث"[2020]...، كلّها ترنو إلى توطين معالم النقد الفلسفي بجميع ملامحه وتجلياته من تحليل، تفكيك، وتشريح، في فكرنا العربي والمغربي من أجل بناء مجتمعات لها القوة الاستعدادية على تبني قيم الحرية والتنوير والتحديث بمعيّة مقومات التراث والهوية القوميّة والثقافيّة والتاريخيّة المشرقة. لذلك، باستطاعتي القول على الجملةِ إنّ المسار هما مساران: مسار أكاديمي وبحثي يبدو في نقد الأيديولوجيات العربيّة المُعيقة للفكر الحر. والمسار الثاني العمل على هذه القيم الكونيّة والتحديثية بين صفوف الطلاب والباحثين بالمدرجات الجامعيّة.

أ. محمد الصغير: يسعدني أن أحاور باحثاً مغربياً فاضلاً مثلك، استطاع أن يسهم في إغناء الدرس المعرفي العربي المعاصر، بنصوص فلسفية نقدية لسرديات النهضة العربية، واستراتيجيات الإصلاح، وذات منحى تأريخي لمسار تشكل الوعي العربي المعاصر في علاقته بالمدارس الفلسفية الغربية، وبالسياق العربي وأسئلته الكبرى وأهم مقولاته، حدثنا عن التجارب الفكرية العربية التي تناولت بعضاً منها في كتاباتك المختلفة؟

د. يوسف بن عدي: أحسبُ أنّ المعضلة َالكبرى التي مازالَ الفكر العربي المعاصر يعاني منها هي بالتضخم الأيديولوجي على حساب النقد الفلسفي. فالأيديولوجيا، هنا نعني بها المعنى السلبي المتمثلُ في تشويه الواقع، واخفاء الحقيقة، والسكوت على المعاناة والآلام المباشرة للأمة والمجتمع، زد عن أنّها أي الأيديولوجيا تمعنُ في تزييف آراء الخصوم مما يؤدي إلى الانتقال من أيديولوجيا إلى أحرى دونما أي مبرر وشرط الأمرُ الّذي يجعلنا أمام معضلة خطيرة هي سوء فهم الواقع والأحداث التاريخية.

نحن لا نقول إنّ التخلص من الأيديولوجيا شرط لتحقيق التقدم والنهضة والتنوير؛ فمفهوم الأيديولوجيا بنيّة سيكولوجية واجتماعية وتاريخية للأفراد والمجتمعات، حيث يتعذر شطبها أو حذفها – مثل الميتافيزيقا- فمن يقرأ تحولات الدولة في تاريخ الفكر، سوف يخلصُ إلى أنّ كلّ دولة تحتاج إلى أيديولوجيا كما ترد مؤشراتها في حقل اجتماعيات الثقافة وعلم الاجتماع السياسي. قد تكون أيديولوجيا مستبدة، أو ديمقراطية، أو تقليدية، أو تحديثية، أو قوميّة، أو دينية...، أعتقد في هذا المعرض أنّ النقد الفلسفي هو الأداة للتحرر من التضخم الأيديولوجي، ومن التيارات الأيديولوجيات التي تمثل كما يقول العروي عوائق التحديث. وفق ذلك يمكن القول، إنّ قراءات التجارب الفكرية العربية المعاصرة، وهو العملُ، الّذي قمتُ به منذ سنوات يندرجُ ضمن محاولة إبراز الدور الرائد للنقد الفلسفي والأيديولوجي لدى بعض المفكرينَ العرب المعاصرين الّذين توصلوا بفضلهِ إلى كشف الكثير من القراءات السلفيّة التقليدية للتراث، وفضح جملة من المفارقات التي يسقط فيها الفكر العربي والثقافة العربية. إذن، مسارُ النقد الفلسفي هو مسار عقلاني تنويري، ومسار الأيديولوجيا- على الوجه السلبي – مسار الانغلاق على الذات والالتفاف على أحادية الحقيقة. والشاهد على ذلك أنّ تاريخ فكرنا العربي الإسلامي حافلٌ بالمواجهة بين الدولة الوطنية والتيارات الـأيديولوجيات، تلك المواجهة التي غاب فيها سؤال الدولة الوطنية على مدى عقود من الزمن.

أ. محمد الصغير: هناك دراسات كثيرة لك، على المستوى العربي، منها على سبيل المثال: مدخل إلى فلسفة ابن رشد. آفاق الدراسات الرشدية العربية المعاصرة (2020)، العبارة لأرسطو في شروح الفلاسفة المسلمين وتأويلات المعاصرين (2016)، شرح ما بعد الطبيعة على ضوء أرسطو. نظرية البرهان الفلسفي عند أبي الوليد (2022)، ما الرابط بين كل هذه الدراسات وماذا تريد أن تقول في كتاباتك المعاصرة؟

د. يوسف بن عدي: هذه الدراسات الرشدية التي حررتها في هذه السنوات، لم تخرج عن أفق الدفاع عن التنوير والتحديث بمعناهما الفلسفي، فلما كان النقد الفلسفي كما قلتُ أعلاه، هو ممارسة التحليل والتشريح والتفكيك..، فإنّ قراءتي لفلسفة ابن رشد هو المستوى التطبيقي أو التجريبي، حيثُ لم يكن ابن رشد الشارح الأكبر لكتب أرسطو الطبيعية، والطبية، والمنطقيّةِ، والميتافيزيقيّةِ... بل كان ممارساً للنقد الفلسفي بجميع أبعادهِ ووظائفه، فقد مارس التفصيل الدلالي حيث وقع في شباكهِ السفسطائيين والأشعرية وابن سينا، حينما فهم أو أساؤوا تعقل المعاني والدلالات للواحد والقوة والفعل والفاعل...، ثمَّ إنَّ استدراك فيلسوف قرطبة ومراكش على أرسطو والشراح في مسائل المنطق والميتافيزيقا والطبيعيات في مفهوم التمثلات ودليل الحركة..، بل أكثر من ذلك انتقد ابن رشد أيديولوجيا المتكلمين على مستوى المنهج والدعوة، لتخليص علم الكلام من رؤيتهم الدينية المذهبية التي تُشكّل خطورة على جمهور المجتمع والعامة. ينجمُ عن هذا أنَّ كلّ هذه الأبعاد النقدية في خطاب ابن رشد هي ممارسة للنقد الفلسفي.

أ. محمد الصغير: صدر لك كتاب جديد بعنوان "المشترك النقدي في الفكر العربي المعاصر – نقد فلسفي أم نقد أيديولوجي"، تذكر فيه "أن سؤال النقد في الفكر العربي المعاصر بقدر ما كان يطمح إلى ترسيخ قيم الحرية والتسامح والتضامن وحقوق الإنسان، بقدر ما كان يوسع من الهوة بين المفكرين والنخب المثقفة". كيف يمكن لخطاب النقد أن يتحول إلى إيديولوجيا متضخمة تخفي بريق النقد الفلسفي وأدواته من كشف وتشريح وحفر؟

د. يوسف بن عدي: أي نعم، إنّ ”المشترك النقدي في الفكر العربي المعاصر“، وقبله ”أطروحات في الفكر العربي المعاصر. في مناهج تحليل التراث“، هو محاولة رصد طبيعة ممارسة النقد الفلسفي والأيديولوجي لدى المفكرين العرب اليوم. فلعلّ الخلاصة الجامعةُ أنّ المشترك بينهم هو ممارسة النقد بمعانيه المتنوعة من تحليل وتركيب، وتقويض وهدم وبناء...، فهناك من يراهنُ على تحديث الدولة والاجتماع المدني من خلال نقوده، وهناك من يتطلعُ إلى نقد التأويلات الدينية للنص المقدس، ومحاولة تخليص العقيدة من المتخيل التاريخي الراسخ في فكرنا منذ قرون، ومنهم من يرى أنّ تحديث التراث لا يكون إلا بقراءته من الداخل أو الانتظام في التراث؛ إذ الفرضيّة هو كيف نستطيع أن نخفف من الهواجس الأيديولوجية المتسربة إلى الخطاب النقدي العربي؟، هذا هو طموح الكتابين المومأ إليهما أعلاه.

أ. محمد الصغير: ما الفوارق الجوهرية من وجهة نظرك الفلسفية بين المشروعين الفلسفيين (مشروع طه عبد الرحمن ومشروع الجابري -رحمه الله-)، مع العلم أن لمشروع حنفي القدرة على تغطية التراث وتثويره، بل قل تحويل التراث الى ثورة ضد الاستبداد والقمع السياسي والفكري، ثورة ضد الاحتلال للأراضي المقدسة، ثورة ضد ثقافة الفقهاء المناوئين للسلطان والمسبحين بحمد الطاغية.

د. يوسف بن عدي: أعتقد أن ما لم يخض فيه الباحثون في أمر المفكرين المغربيين محمد عابد الجابري وطه عبد الرحمن هو أنّهما معاً كانا ضد التقليد، مهما قيل على لسان طه عبد الرحمن إنَّ الفلسفة المغربية والفلسفة العربية الإسلامية القديمة والحديثة هي تحت التقليد أو تقليد التقليد. الجابري انتقد القراءات السلفية للتراث، ودعا إلى نقد العقل العربي نقدًا علمياً. على حين كان طه رافع لواء نقد التقليد في الفلسفة العربية والعمل على تجديد المنهج في تقويم التراث؛ الأول رهانه أيديولوجي من خلال سؤال النهضة، والثاني رهانهُ الإبداع. لعل الاختلاف بينهما هو أنّ الجابري هو مثقف أيديولوجي ينخرط في التغيير الاجتماعي والدعوة إلى تحديث المجتمع العربي والوحدة والديمقراطية. أمّا طه عبد الرحمن، فرجل منطق يروم لتحقيق نهضة الأمة الإسلاميّة على أساس الرابط الديني والعقدي. لذلك، يدعو إلى أن الإبداع والتجديد ينبغي أن يكون وفق المجال التداولي الإسلامي: اللغة، والعقيدة والمعرفة. وأكيد أن الاختلاف بينهما جذري، كما هو الاختلاف بين حسن حنفي وأركون، والعروي بيد أنّهم جميعا في رأيي يمثلون قدرًا كبيرًا من النقد الفلسفي والتاريخي للتراث، كل واحد منهما يصوّر رؤيته الفكرية والقناعة النظرية لنهضة الأمة والدولة والمجتمع.

أ. محمد الصغير: ما هي الأزمة الحقيقة التي تعاني منها المشاريع الفلسفية الكبرى من وجهة نظرك، في وطننا العربي والإسلامي؟

د. يوسف بن عدي: كثيراً ما نتحدث عن الأزمة الفكريّة لكن قليلا ما ننوه بما نشر من مشاريع فلسفية ونقدية في الوطن العربي. أرى أن الخطاب النقدي في الفكر العربي قد تنامى بصورة واضحةٍ وكبيرةٍ؛ إذ هناك دارسات ضخمة في قراءة التراث العربي المبكر والكلاسيكي والحديث؛ إذ إنّ مشاريع عبد المجيد الشرفي في تجديد التراث الديني، وأبحاث علي أمليل ومحمد الحداد في الفكر لنهضوي العربي الحديث، ومشروع عبد الإله بلقزيز في الثقافة العربية، والمتخيل والصورة في مشروع نور الدين أفاية، وسؤال العدالة وأطروحة الدولة في الفكر العربي لعزمي بشارة، وتجديد علم الكلام لعبد الجبار الرفاعي، ودراسات في حقل المنطق والميتافيزيقا والخطابة مع باحثين معاصرين كُثر. إذن، تؤشر على توطين النقد الفلسفي والفكري والثقافي يتجاوز الصورة المتخيّلة التي علقتْ في أذهاننا منذ فترة السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي. وقد أجازف بالقول إنّ وتيرة الخطاب الأيديولوجي أضحى مسرحًا للنقد والمراجعة أكثر منه أداة للتوظيف مقارنة بالعقود الماضيّة.

أ. محمد الصغير: ما هي الفروقات الجوهرية بين الدين في جوهره، وأنماط التدين المختلفة في الوطن العربي بشكل عام وفي المغرب ومصر على وجه التحديد والخصوص، وكيف ترى علاقة الدين بنظام الحداثة؟

د. يوسف بن عدي: هذا ما ألمحتُ إليه أعلاه أنّ الدراسات العربيّة في قراءة التراث الديني تكشف عن الفرق الرهيب بين التدين والدين، بين الطقوس والعادات، وبين الأصول والمبادئ والتعاليم. لذلك تتحدث بعض الدراسات عن إسلام الفقهاء وإسلام الشيعة والإسلام الشعبي...ومن ثمة يكون الأمر له جذور سبق لمحمد أركون أن لفت انتباهنا إليها؛ أعني عملية الانتقال من الثقافة الشفهية إلى الثقافة المكتوبة العالمة، وما لهذا الأمر من تداعيات وانعكاسات على المجتمع ومصير الثقافة العربية بأكملها، بل أكثر من ذلك ساد تكريس صورة الله في علم الكلام القديم صورة مخيفة رهيبة على أساس العقاب والحساب والعذاب...وغياب صورة الله الرحمة والرحيم، وهو الأمر الذي رسم معالمه عبد الجبار الرفاعي في مشروعه: علم الكلام الجديد. ربما أقول أيضا إنّ دراسة محمد نور الدين أفاية في صورة الغير في التراث العربي الإسلامي، أسهمت في بيان أنّ ثقافة الاعتراف كانت معطلة أو أعاقتها الكثير من الترسبات المذهبية والتأويلات للنص الديني التي رسمت حدود الأنا والغير بصورة سيئة لا تمثلُ الشريعة السليمة والعقيدة الصحيحة. وبالتالي تحديث الفكر الديني وتطوير أدوات الاجتهاد لا يخالف أبدا أصول العقيدة والشريعة. ورفض التحديث تحت ذريعة حفظ العقيدة هو سوء فهم للتحديث والدين على السواء.

أ. محمد الصغير: لك دراسة رائعة بعنوان: صورة فلاسفة الإسلام في مشروع الحبابي نحو التفلسف الإشراقي، حدثنا عن مشروع الفكري للمفكر المغربي محمد عزيز الحبابي، وكيف ارتبطتم بأفكاره؟

د. يوسف بن عدي: من المفيد القول هنا إنّ أهم سمة في مشروع الحبابي هو ابتعاده عن المذهبية والنسقيّة؛ وذلك يرجعُ إلى انخراطه في معارك السياسة والنضال ضد الاستعمار. لهذا، لا نستغرب أن يأتي خطابهُ مبنيّا على التناقضات أو المفارقات أو عدم الاتساق الأيديولوجي. فمنطق هذا الفيلسوف في قراءة تاريخ الفلسفة يستند إلى تأمل القضيّة من مرجعيات ومواقف مختلفة. وآية ذلك هو تناوله لنصوص الغزالي وابن طفيل والفارابي وابن خلدون الذين يمثلون صورة الفلاسفة في الإسلام للعمل على إدراج بعضهم ضمن التفلسف الإشراقي. إذن، كان استئناف الفعل الفلسفي في المغرب مع هذا الفيلسوف الشخصاني الواقعي الغدوي، حتى قيل بعد ابن رشد يأتي الحبابي.

أ. محمد الصغير: لك مقال رائع بعنوان: منازعات في فلسفة الفارابي بين محمد عزيز الحبابي، ومحمد عابد الجابري؟ هل توجد منازعات حقاً، وما هي وجهة نظركم فيها؟

د. يوسف بن عدي: أتذكر أنّي أنجزتُ هذه المقارنةِ بين المفكرين الجابري والحبابي على مستوى المنهج والرؤيّة. لقد كان هاجسهما هو تحويل تراث الفارابي إلى موضوع قابل للدراسةِ والنقد؛ على أساس بيان حدوده التاريخيّة وآفاقه، وهو ما قام به المفكران مستخدمين التحليل التاريخي والنقد الفلسفي والأيديولوجي، كما أنّهما يؤمنان على مستوى الرؤيّة بالموضوعيّة والاستمراريّة؛ يعني محاولة قراءة النصوص الفلسفية للفارابي من أجل تحقيق عمليّة الفصل بين الذات والموضوع، ثم بعد ذلك يتم استلهام أفكاره المشرقة القابلة لتحقيق نهضتنا وتنويرنا. صحيح أنّ الجابري اكتشف بنياتٍ لاعقلانية وفيضيّة في خطابه الفلسفي، وأنّه وجد في نصوص أبي نصر نوعاً من الأنسنة Humanism، فقد كانا يشتركان في ممارسة النقد بمعناه الواسع.

أ. محمد الصغير: لك قراءة في كتاب الدكتور محمد المصباحي "من أجل حداثة متعددة الأصوات"، هل توجد حداثة في واقعنا العربي متعددة الأصوات.

د. يوسف بن عدي: خلفيّة الكتاب المشار إليه أعلاه للأستاذ المصباحي، هي الإيمان بحركيةِ الفكر وديناميّة الأفكار وتحولات، لا سيما وأنّ الحداثة ليست تلك الحداثة الأحادية والقطعيّة، بل هي حداثات تتعلق بفلسفة كلّ فيلسوف ووجهة نظره للوجود والمعرفة والقيم. الحداثة كشفت للمغربي المصباحي أنّ التراث له محدوديته رغم جاذبيته الفائقة، فإذا كان كانط يؤمن بنشر المعرفة على الجمهور، فإن ابن رشد تردد وقطع في الأمر بأنّ المسألة تتعلق بالخطورة على العقيدة، كما أنها خطورة على الفلاسفة والخاصة من أهل النظر والعلم. لقد شكلت الحداثة معيار التمييز بين الحداثات في قلب الفكر الفلسفي الغربي ذاته، بين تحول وتحول، أو من لحظة إلى لحظة.. كما شكل ذلك المعيار أيضا مفتاح فهم المسافة التاريخية بين فكر القرون الوسطى وعصر الحداثة وتحولاتها المشهودةِ.

أ. محمد الصغير: قمت بعمل حوار فلسفي رائع مع الباحثة هدى الخولي: نظرات في الموروث الإغريقي: أرسطو وأفلاطون، هل وراء حضور أرسطو عند العرب أكثر من حضور أفلاطون دواع ودوافع فلسفية أم أيديولوجية مذهبية؟

د. يوسف بن عدي: كان وراء إنجاز الحوار مع الباحثة المصريّة المقتدرة هدى الخولي، وهي كما تعلم مدرسة في جامعة أثينا باليونان، فرصة لفهم أولاً مسار الفيلسوفين اليونانيين: أرسطو وأفلاطون. ومن الأمور اللافتة قولها في معرض حواري معها، أنّ أفلاطون فيلسوف الميتافيزيقا، وأرسطو فيلسوف الطبيعيات؛ الأول استعمل الطبيعيات لاستكمال منظومته الميتافزيقية، والثاني استعمل الميتافيزيقا لاستكمال رؤيته الفلسفية الطبيعيّة. فضلا عن ذلك، تعتقد أنّ الأرسطيّةَ، رغم نقدها للمثل والكليات، فهي تعبير عن مرحلة مكملة ومصححة للأفلاطونية- نسبة إلى أفلاطون لا أفلوطين الذي سيظهر فيما بعد- ولعل العرب ورثوا الفلسفتين عن طريق المدارس الفلسفيّة الشهيرة مدرسة أثينا ومدرسة الإسكندريةِ، بل أكثر من ذلك والذي جعلَ الوضعَ أكثر تعقيداً هو الصورة التي وصلت للعرب عن الفلسفة صورة مختلطة بين التأويل الديني والتأويل العقلي الفلسفي، وهنا نستحضر مصير المدرستين: مدرسة أثنيا مع بروقلس، ومدرسة الإسكندرية مع أمونيوس اريمياس.

أ. محمد الصغير: رشّح لقرّاء الحوار بعض الكتب للقراءة في وطننا العربي، وبعض الروايات وبعض الكتب المترجمة؟

د. يوسف بن عدي: بعض المؤلفات الفلسفيّة المفيدة: عزاءات الفلسفة لآن دوبوتون. والفلاسفة والحب ماري لومنييه، ورسائل فلسفيّة لفولتير، لا أملك إلا المسافات التي تبعدني لعبد السلام بنعبد العالي، الآراء والمعتقدات لغوستاف لوبون، التحولات الفكرية في الفلسفة الحديثة خورخي سنتيانا. ضل الأفعى ليوسف زيدان، عزازيل ليوسف زيدان، رجال تحت الشمس لغسان كنفاني، موسم الهجرة إلى الشمال الطيب صالح، سبع رسائل إلى صالح بن طريف شعيب حليفي. كتب مترجمة حصاد الكراهية آنجي توماس، نهاية المطاف آن غريفن، فتاة من الطراز القديم لويزا ماي الكوت.

أ. محمد الصغير: لك قراءة لكتاب (بين مثابتين، منزلة الغزالي في فلسفة ابن رشد") للمغربي الفقيد محمد مساعد، كيف ترى حضور الغزالي في فلسفة ابن رشد؟

د. يوسف بن عدي: الصديق الفقيد الباحث محمد مساعد من الباحثين في الرشديات. كتابه "منزلة الغزالي في فلسفة ابن رشد"، هو إعادة النظر في علاقة أبي الوليد بأبي حامد الغزالي، كانت علاقة رفض ودحض وهجوم وما إلى ذلك من المسميات. استطاع مساعد أن يرصد لنا أن المرجعية الرشدية في مرحله الفكريّة كانت مرحلة غزاليّة متأثراً به، ولعلّ المقارنة بين فصل المقال والاقتصاد في الاعتقاد على مستوى الموضوعات وترتيبها تشهد على ذلك. إذن، حضور الغزالي في فلسفة ابن رشد كان متنوع ومتعدد على مستوى المختصرات والشروح، وعلى مستوى القضايا والإشكالات. هو الإضافة التي تقدم بها الباحث المغربي محمد مساعد.

أ. محمد الصغير: اعترافاً بالفضل لأهل الفضل من المغاربة الكرام أمثالك، كنت أول من قدمني إلى الوسط الفلسفي من خلال تقديمك لكتابي الأول (عقلانية الحداثة المؤيدة: استقراءات في تفكيك أعمال طه عبد الرحمن)، ما هي رؤيتك المستقبلية لشخصي ولمفهوم العقلانية المؤيدة بوجه خاص؟

د. يوسف بن عدي: كان تقديمي لكتابك الجميل هو قدرتك أولا على خوض غمار قراءة مشروع طه عبد الرحمن، وهو مشروع كما تعلم يجدر بالمطلع أن يتوفر على أدوات من حقول المنطق وفلسفة اللغة وحقل الفلسفة عامة. وقد استطعت أن تحقق القدر الكافي في رصد منهجية طه عبد الرحمن وطريق تفكيره ونقد للخصوم، كما أن كتابك كان مهووساً بممارسة النقد وهذا هو المطلوب، بل يجب أن يتوفر في كل باحث في الفكر والفلسفة والأدب وعلوم الاجتماع عامة. فهو الذي يجعلنا نتخلص من فكرة القداسة للأفكار. فكل فكر مادام هو كذلك فهو قابل للتقويم والمراجعة والتجاوز. فهنيئا لكم بهذا المؤلف وفي انتظار أن تصدر مكتوبات أخرى مستقبلاً.

أ. محمد الصغير: ما هي نوعيات الموسيقي التي تفضلون سماعهم، وما هي أسماء الأفلام التي شاهدتموها وأعجبتكم، سواء كانت عربية أو أجنبية؟

د. يوسف بن عدي: الموسيقى هي غذاء روح الإنسان وبلسم جبر الأحزان والآلام. ولعل فيررز وأم كلثوم وعلي الحجار ورجاء بلمليح وسميرة بسعيد ...، هذه أمثلة على الذوق الموسيقي الرفيع. دون ذكر الأسماء يمكن تخصيص: السينما المصرية والسينما المغربية والسينما الغربية.

أ. محمد الصغير: ما هي مشاريعك المستقبلية في القراءة، هل تعكف على قراءة شيء معين الآن؟

د. يوسف بن عدي: بحكم الاختصاص أعمل على قراءة نصوص الفلاسفة المسلمين في المنطق والطبيعيات والميتافيزيقا، بالموازاة مع قراءة المنتوج الفلسفي العربي المعاصر وإصداراته ومنشوراته الحديثة.

أ. محمد الصغير: ما هو جديدك في المستقبل من حيث التأليف الفلسفي؟

د. يوسف بن عدي: هو تحضير بعض المساهمات في الفكر العربي الإسلامي الكلاسيكي والفكر العربي المعاصر.

أ. محمد الصغير: أشكر لك تفضلك بهذا الحوار الفلسفي الممتع.

د. يوسف بن عدي: مرحبا بك، متمنياتي لك التوفيق والتألق.