حوار فكري مع الدكتور محمد أيت حمو: الخطاب الكلامي مدخلا لنهضة الأمة
فئة : حوارات
يوسف بن عدي: مرحبا بكم دكتور محمد أيت حمو على منبر مؤسسة مؤمنون بلا حدود.
محمد أيت حمو: شكرًا لكم وشكرًا لجميع العاملين في مؤسسة مؤمنون بلا حدود التي أثثت البيت الفلسفي المغربي والعربي الإسلامي، وشكلت قيمة مضافة بأقلامها وقراطيسها المسؤولة والرصينة.
يوسف بن عدي: نرحب بالصديق والأستاذ الدكتور محمد أيت حمو الباحث الجاد في دروب الفلسفة الإسلامية مشرقًا ومغربًا. من هنا، نقول كيف مساركم العلمي للطلاب والباحثين والقراء عامة؟
محمد أيت حمو: أهلاً وسهلاً ومرحبًا بالصديق العزيز والأستاذ الباحث المتواضع.
إنّ المشكلة لا تكمن في الطلبة الذين تتزايد أعدادهم سنة بعد سنة في شعبة الفلسفة، والذين يتجشم أغلبهم عناء السفر من مناطق نائية، وإنّما في النظام التعليمي الفاشل بشهادة القاعدة واعتراف القمة.
يوسف بن عدي: كيف يمكن أن تعتبروا الخطاب الكلامي هو المدخل الأساس للتفكير في نهضة الأمة الإسلامية والعربية اليوم؟
محمد أيت حمو: إنّ علم الكلام هو أم العلوم الإسلامية ورئيسها لأنّه علم كلي، أما العلوم الدينية الأخرى فهي علوم جزئية مقارنة مع هذا العلم الأعلى الذي يتكفل بمبادئها وأسسها وبراهينها. فعلماء الكلام، الذين جمعوا بين التكوين الأصولي والتكوين الكلامي، ربما هم وحدهم القادرون اليوم على القيام بالإصلاح الديني، كما فعل المعتزلة قديمًا، وبعض مفكري عصر النهضة السلفيين الذين لا تخلو مصنفاتهم من حداثة عقلية وفكرية حقيقية، مثل محمد عبده الذي دافع عن الفلسفة والتسامح والسلطة المدنية، وأعطى الأولوية للعقل على النقل، ومنع تعدد الزوجات، وحذر من مغبة الاقتراب من التكفير، وهلم جرًّا). فلابد من الأرضية الكلامية للإصلاح الديني، وهو ما يفتقده فقهاء اليوم الذين لا يتوفرون على الحضن النظري الكلامي القادر على احتضان هذا الإصلاح، ويفتقدون التكوين الجريء القادر على الخوض في المسائل الدينية الحساسة، وإعادة النظر في الكثير من القضايا ومراجعتها مراجعة عميقة وجذرية، وفي مقدمتها قضية التكفير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالسلاح بدل الكلمة الطيبة. وبناءً عليه، فالإصلاح الديني لن يتحقق إلا على أكتاف المتكلمين الجدد القادرين على التفكير في المسألة الدينية بعيون جديدة. هذه المسألة التي حلها الغرب منذ قرون وحسم معها، بينما العالم العربي الإسلامي مازال يتخبط فيها خبط الناقة العشواء في الليلة الظلماء. ويحضرني هنا محمد أركون الذي يقول: «نلاحظ أنّه حتى يومنا هذا، فإنّ الكثير من المثقفين العرب ذوي الشهرة والصيت يرفضون أن يتخذوا المسائل الدينية الأكثر حساسية مادةً للدراسة العلمية، وأقصد بها المسائل التي أدرسها أنا هنا. والسبب هو أنّ بعضهم متأثر بالرفض العلمانوي لعلم اللاهوت المعتبر وكأنّه شيء بال عفى عليه الزمن، وبالتالي فليست له أي صلاحية علمية ولا يستحق الاهتمام في نظرهم. وأما بعضهم الآخر فيمارسون رفضًا تكتيكيًّا لطرح هذه القضايا الحساسة، وذلك لكي لا يورطوا أنفسهم، أو ينقصوا شعبيتهم في أوساط الحركيين الشباب من مؤيدي القضية الأصولية (أو الإسلاموية)»، الفكر الأصولي واستحالة التأصيل، ص. 168. وهذا النص يعلق عليه هاشم صالح بالقول: «إنّه لشيء يدعو للدهشة والاستغراب أن يتنطح أصحاب «المشاريع» (كمشروع نقد العقل العربي، أو غيره) لتجديد التراث والخروج من المأزق، دون أن يقولوا كلمة واحدة عن الشيء الأساسي ! أقصد عن نقد العقل الديني، أو تفكيك التراث الإسلامي من الداخل، أو تعرية الانغلاقات التراثية المزمنة... وبالتالي فهي مشاريع للتهدئة أو للتلهية، ولا تؤدي إلى أي تحرير في العمق. وحده نقد العقل الإسلامي بالمعنى الجذري سوف يؤدي إلى ذلك»، المرجع نفسه، ص. 168.
ولذلك نعتقد بأنّ نهضة الأمة العربية الإسلامية ستظل عرجاء بدون تجديد الخطاب الكلامي القادر وحده على تدارك التأخر الحاصل في الإصلاح الديني في مواجهة الإحيائية الحرفية والأصولية المتكلسة التي لا تخشى من النظريات الفلسفية الغربية بقدر ما تخشى من العقلانية العربية الإسلامية في العصر الكلاسيكي التي تم طمسها وحذفها بتأليب السلطان وتجييش العوام وملاحقة أهلها. فالتراث العربي الإسلامي عرف عدة رموز فكرية لا تقل وزنًا عن كبار فلاسفة التنوير، دون أيّ مغالطة تاريخية، حسب محمد أركون الذي يتحسس مستوى منسوب هذه العقلانية الكلاسيكية في أقوال المتكلمين المعتزلة والفلاسفة الأدباء كالجاحظ والتوحيدي والمعري وابن الراوندي، وغيرها من الأسماء الوازنة في العصر الكلاسيكي، والسابقة لزمانها وعصرها: «يمكن القول بأنّ العقلانية قد وصلت إلى مستوى رفيع لدى شخصية غنية جدًّا كالجاحظ مثلاً. ولا نرتكب أي مغالطة تاريخية إذا قلنا بأنّه يشبه فولتير من حيث محاربة العقائد الدوغمائية أو الخرافية بأسلوب ساخر، مسرحي، رائع بمقياس عصره وإمكانياته يمكن القول بأنّ الجاحظ كان عقلانيًّا كبيرًا». محمد أركون، قضايا في نقد العقل الديني، ص. 286.
إذن نعود لنضع النقط على الحروف ونؤكد أنّ الخطاب الكلامي هو المدخل الأساس للتفكير في نهضة الأمة العربية الإسلامية اليوم شريطة أن لا يتقوقع فقط على القضايا التقليدية، بل يجب أن ينفتح على القضايا الجديدة، ويرتبط بالواقع المعيش حتى يستعيد حركيته السياسية والاجتماعية والعملية التي لازمته إبان النشأة والتي فقدها في مرحلته التنظيرية والتجريدية المتأخرة، وهذا يعني أنّ علم الكلام لن يتأتى له مسايرة العصر إلا بإحياء التأويل والتجديد واستئنافهما، والاستفادة من مكاسب العصر والحداثة والانتصارات التي حققها العقل الإنساني، والانفتاح على أبعاد وقضايا جديدة غير تقليدية، وفي مقدمتها حقوق الإنسان وحرية المرأة، وغيرها من الأسئلة الراهنة التي تجعل من سؤال الإنسان، من حيث هو مشكل فلسفي، سؤالاً جوهريًّا في الكلام وليس عرضيًّا، موجودًا في واجهة الكلام وليس خلفيته. وبذلك يتأتى لنا الارتماء في أحضان النص القرآني المفتوح، لإنتاج كلام متكثر رحب وأقوال متعددة في الدين لا تضيق علينا، ويصبح الدين إنسانيًّا ووسيلة للتفاهم وليس صراعًا، فالمتدين الحقيقي هو الذي يرتفع عن العصبيات، ويعرض عن التكفير بالتفكير. آنئذ فقط يمكن أن تتحقق نهضة الأمة. يقول محمد أركون أيضًا: «[..] وكنت قد ابتدأت بحوثي آنذاك عن "الإنسانية العربية في القرن الرابع الهجري العاشر الميلادي"، وهو تيار فكري وعقلاني ساد منطقة إيران- العراق في العصر البويهي، واكتشفت عندئذ أهمية الدور الإيجابي الذي لا يعوّض والذي تلعبه مثل هذه التعدديـة [يقصد التعددية الطائفية والعرقية ـ الثقافية] فهي التي تؤمن الأطر الاجتماعية الضرورية من أجل نشر هذه الثقافة الإنسانية والعقلانية المنفتحة». محمد أركون، الفكر الأصولي واستحالة التأصيل، ص. 183.
يوسف بن عدي: لماذا مازال هناك لبس كبير في اعتبار علم الكلام هو النصرة والغلبة أكثر منه استدلالاً واستنباطًا أو قلْ إعمال العقل؟ ثم هل تأليفكم لنص "العقل الحجاجي بين الغزالي وابن رشد" يندرج في إعادة ترتيب القول الفلسفي والكلامي من حيثُ هو حجاجي؟
محمد أيت حمو: لقد تم التركيز على بعد واحد في تحديد طبيعة هذا الجنس من القول، الذي هو الكلام، وماهيته وحدّه، وهو بعد النصرة والغلبة، بينما هذا البعد لا يستغرق كل أبعاد الكلام وتجلياته ومستوياته، والذي هو استنباط واكتشاف واستكناه وسبر وتبيين واستخراج لما لم يصرح به واضع الملة من الأمور النظرية والأمور العملية. والسبب يعود إلى النظر إلى علم الكلام في مرحلة تطوره لا في مرحلة نشأته، وقد ساهم بعض المستشرقين أيضًا في دغدغة مشاعر النصرة اعتمادًا على بعض التعاريف المتأخرة التي صفقوا لها، وفي مقدمتها تعريف العلامة ابن خلدون الذي يتنفس بخياشم المتسننين الأشاعرة ! فابن خلدون استأنف تعريف الغزالي لعلم الكلام في مرحلة محددة من أطوار مراحل الغزالي المتعاقبة. فكلاهما ينتميان إلى تقليد مذهبي في الدين هو السنة. ولكن الكلام أغنى وأثرى وأرحب من أن يسيج في الدائرة الضيقة للدفاع الذي هو أحد ألوان قوس قزح هذا العلم الذي تتعدد تعاريفه وتصوراته والتي تجعله يقف على طرفي نقيض من الجهل والكسل والتقليد والعوام. فهو جهد نظري واجتهاد بشري من نصيب الخاصة وليس من مكنة "بادئ الرأي" أو طائفة من الناس جعلوا الجهل رأسمالهم، كما فعل الحنابلة وبعض الفقهاء المتزمتين والمتشددين الذين اعتبروه بدعةً وضلالاً وجعلوا الحلال حكرًا على المأثورات. ولذلك كان الفارابي واضحًا ودقيقًا في كتاب الحروف - دون غيره من الكتب الأخرى - الذي ركز فيه على الوجه الآخر لعلم الكلام الذي هو الاستنباط باعتباره المقوم الأساسي والمحدد الرئيسي في نشأة علم الكلام والذي يرتفع بزوال الاستنباط، ويتوقف عن أن يكون كلامًا.
أما تأليفي لكتاب العقل الحجاجي بين الغزالي وابن رشد، فهو يندرج في إطار اهتمامي بالفكر الفلسفي الذي هو فكر حجاجي يستخدم مختلف الآليات الاستدلالية التي تختلف مستوياتها ودرجاتها في القوة والوثاقة، فالنص الفلسفي كالنص الكلامي لا يخرج في تقنياته عن أن يعمل بتقنيات برهانية أو بتقنيات جدلية أو بتقنيات سفسطائية أو بتقنيات خطابية إلخ. فالبرهان هو مجال الرياضيات، ويمكن للفلسفة أن تطمح في الوصول إليه كـ«مثال». ذلك أنّ الفلسفة لو كانت مجالاً للقول البرهاني الفصل، لانتهت الفلسفة. وهذه هي «زلة» الفارابي في كتاب الجمع بين رأيي الحكيمين، الذي أراد فيه الجمع والتوحيد بين فلسفتي الإمامين البارزين العظيمين في الفلسفة اليونانية أفلاطون وأرسطو لدرء تهمة الشك والتشكيك في الفلسفة. لقد أراد الفارابي أن يقول لنا بأنّ الفلسفة برهانية والحقيقة الفلسفية واحدة لا يمكن أن يختلف فيها أفلاطون وأرسطو! وحاول أن يدرأ تشكيك الفقهاء واعتراضهم على الفلسفة، وهم القائلون ما مفاده: إذا كان الفلاسفة يدعون امتلاك الحقيقة اليقينية البرهانية التي لا شكوك عليها ولا ارتياب، فلماذا يختلفون في ما بينهم؟ لماذا لم يتفقوا في الإلهيات كما اتفقوا في الرياضيات؟ ولعل الغزالي أفضل من عبر لاحقًا عن هذا الاعتراض الفقهي على الفلسفة في كتاب تهافت الفلاسفة، بالرغم من أنّ دفاع الفارابي عن وحدة الفلسفة في كتاب الجمع بين رأيي الحكيمين، قد لا تقبله الحساسية الفلسفية المعاصرة المبنية في جوهرها على الاختلاف.
يوسف بن عدي: هل يمكن القول إنّ التفكير في الدين والسياسة مع الفارابي هو من أجل، ما قلناه آنفًا، المرافعة بجهة ما على فرضية أنّ السياسة المدنية الفارابية ينبغي تحريرها من عقال البرهان ووطأته؟ وماهي الخلاصات الأساسية في هذا المعرض؟
محمد أيت حمو: إنّ التفكير في الدين والسياسة مع الفارابي هو إعادة لطرح سؤال التنوير من جديد في العالم العربي الإسلامي، خصوصًا بعد تنامي القراءة الحرفية للنصوص الدينية في أغلب هذه البلدان، لأنّ التخلف يرتبط ارتباطًا وثيقًا بغياب العقلانية والحرية، ولذلك لا مناص من نقد الاستبداد السياسي وسنده العقائدي الغيبي، ولا مفر من خوض معركة تنوير العقول لتقييد السلطة ورفع القدسية عنها بالإعلاء من مكانة العقل والعلم في الحياة السياسية والاجتماعية والثقافية، لخلخلة الثوابت التقليدية بالمبادئ المؤسسة للعقلانية والحداثة والمواطنة. فكتابات الفارابي صرخة ما زالت تجد مصداقيتها في السياق الفكري والسياسي والاجتماعي والديني الذي يحياه العالم العربي الإسلامي الذي مازال يئن تحت وطأة ثقل التابوهات أو المحرمات التي لا يسمح بانتهاكها إن لم نقل لا تقبل المساءلة.
ومع ذلك، فلابد من قول كلمة حق في السياسة التي عرضها الفارابي في كتبه، لأنّها عبارة عن ميتافيزيقا، لأنّ العقل الفعال هو الصانع لكل شيء. وهذا ما يهدد إنسان الفارابي تدقيقًا - وإنسان القرون الوسطى عمومًا - بالقصور بالمعنى الكانطي. فالإنسان كائن طبيعي تاريخي يمشي على الأرض ولن يصل إلى الكمال أبدًا. فكيف نجعل العدالة تنبع من إنسان واحد مهما كان هذا الإنسان؟ فالعدالة لا تنبع من إنسان واحد ولا تأتي من السماء، بل تنبع من الصراعات البشرية. فكيف ننوه برئيس المدينة الفاضلة والرئيس الأول؟! إنّ كل من اتبع فلسفة أفلاطون كان معاديًا للديمقراطية، نصيرًا لحكم الطغاة على جميع المستويات. فقد تحمس الفارابي للحكم المطلق الاستبدادي، لأنّ الرئيس الأول هو من لا يحتاج إلى غيره. وادعى أنّ المدينة الفاضلة خيرة والمدن الجاهلة شريرة، بينما الخير والشر يلازمان المدينتين: الفاضلة والجاهلة. وبذلك أكد فيلسوفنا الحكم الفردي المطلق. أما نظرية الكمال في الفكر الوسطوي فقد كانت من أخطر النظريات، وهي التي أدت إلى تجمد الفكر الوسطوي وتكلسه.
والخلاصات الأساسية التي خلصت إليها في كتابي تتمثل في كون فلسفة الفارابي السياسية ليست سياسة للأسباب الآتية:
أولاً: لقيامها على أساس الواحد الذي يقود إلى نبذ الاختلاف سواء في المعرفة أو السعادة.
ثانيًا: لأنّ الفارابي ربط السياسة بالمعرفة، في حين أنّ السياسة هي آراء وظنون وليست معرفة.
ثالثًا: لأنّ الفارابي ربط السياسة بالبرهان الذي ينشد الوحدة. والبرهان هو الاستدلال الذي ينشد قراءة الشيء كما خلقته الطبيعة في ذاته، وهو تقليد عملية الخلق، في حين أنّ السياسة تقوم على منهج مضاد للبرهان يعتمد على الجدل والسفسطة والعناد والتمويه لكي تتقدم.
رابعًا: لأنّ الفارابي وحد السياسة بالأخلاق والفضيلة، في حين أنّ السياسة هي البحث عن الحكم والسلطة والغلبة. ولذلك فأعدى عدو لها هو الأخلاق والفضيلة.
خامسًا: لأنّ الفارابي وحد بين السياسة والفلسفة، فالتهمت الفلسفة السياسة.
أمّا خلاصة الخلاصات فتتمثل في حاجة العالم العربي الإسلامي إلى الحداثة السياسية والحداثة الدينية وهما شقان متكاملان يستلزم أحدهما الآخر. وإذا فلا بد من نفس طويل، ولا بد من عمل متواصل، وأيضًا لا بد من صبر أيوب إن لم نقل لا بد من عملية جراحية أو قيصرية.
يوسف بن عدي: ماهي مبررات استحضاركم لابن خلدون في مساركم العلمي؟ هل من أجل الدفاع عن القول الفلسفي أم بغية الانقلاب عليه؟ وماهي العلاقة بين التصوف والفلسفة في رأيكم؟
محمد أيت حمو: إنّ ابن خلدون من «الشخصيات القلقة» في الحضارة العربية الإسلامية التي تم استعادتها منذ عصر النهضة، جمع بين التاريخ والفلسفة والتصوف والسياسة وعلوم الملة، أو كما يقال، «اجتمع فيه ما تفرق في غيره»، اكتشفه الغرب ولم يكتشفه العرب ! ما كتب عن ابن خلدون باللغة العربية لا يضاهي كمًّا وكيفًا ما كتب حوله باللغات الأجنبية، ومازال ابن خلدون لم يوف حقه بالرغم من الدراسات والأطاريح الجامعية التي أنجزت عنه في مختلف الشعب والتخصصات، وفي مقدمتها شعبة الفلسفة.
وقد كان استحضار ابن خلدون بدافع التقليل من وقع القطيعة بين المشرق والمغرب لدى الفيلسوف المغربي المرحوم محمد عابد الجابري الذي نقول فيه تلك القولة المأثورة لابن تيمية في تعقيبه على ابن حزم: «وأبو محمد كبير عندنا، ولكن الحق أكبر منه».
لقد مثل ابن خلدون قمة العقلانية في الحضارة العربية الإسلامية، فهو «كنط» الحضارة العربية الإسلامية، لأنّه وضع الحدود للعقل، وجعل معرفتنا حكرًا على «الفينومين» (الظاهرة) دون «النومين» (الشيء في ذاته) بالمعنى الكانطي. لأنّ حدود العقل في الميتافيزيقا تتعلق بطبيعة العقل أو الذات المستكنهة من حيث هي كذلك. فعالم الميتافيزيقا هو من الشساعة والعمومية بمكان لدرجة يصعب معها الإمساك بالبرهاني أو اليقيني فيه، ولذلك نأى ابن خلدون بالعقل عن الخوض في الإلهيات أو ما بعد الطبيعة. فكان بذلك وضعيًّا وحسيًّا، فهو حسي ووضعي لأنّه رفض حشر العقل في الميتافيزيقا مرتئيًا أنّ وظيفته تنحصر في الفيزيقي. ولكنه مع ذلك يختلف عن الوضعيين في الإيمان بالميتافيزيقا خلافًا لهؤلاء الذين لا يؤمنون بها. إنّ الخوض في الميتافيزيقا لا يظفر بثمرة اليقين، بل يقتصر على الظنون والأوهام لا غير. وبذلك كشف ابن خلدون عن عجز العقل في الميتافيزيقا، بنفس القدر الذي كشف عن قوته في الفيزيقا، لأنّ «العقل ميزان صحيح، فأحكامه يقينية لا كذب فيها، غير أنّك لا تطمع أن تزن به أمور التوحيد والآخرة وحقيقة النبوة وحقائق الصفات الإلهية وكل ما وراء طوره، فإنّ ذلك طمع في محال، ومثال ذلك مثال رجل رأى الميزان الذي يوزن به الذهب، فطمع أن يزن به الجبال»، المقدمة، 509.
أما العلاقة بين الفلسفة والتصوف فهي علاقة انفصال: لأنّ الفلسفة هي خطاب عقلاني «برهاني» ينشد اليقين، بينما التصوف خطاب عرفاني «متمرد» على قوانين العقل وقواعد البرهان وشروط المنطق، وكل الممارسات القياسية الاستدلالية الحدية المقولاتية التي يتخذها الفيلسوف منافذ لنظره. صحيح أنّ الفلسفة تشترك مع التصوف في نظرية الاتصال، ولكن صحيح أيضًا أنّها تختلف معه في كيفية حدوث هذا الاتصال وطرقه. فالوسيلة المثلى للاتصال في التصوف هي المجاهدة والمكابدة والعلوم العملية، بينما الأداة المثلى للاتصال في الفلسفة هي القواعد والعلوم النظرية (الرياضيات، المنطق...). أما موضوع الاتصال فهو الإله في مبحث التصوف، والعقل الفعال في مبحث الفلسفة. ومن هنا فشل اللقاء التاريخي المشهور الذي حدث بين ابن رشد وابن عربي، وهو اللقاء الذي ألح عليه ابن رشد الذي يرى بأنّ طرائق المتصوفة ليست طرائق «علمية» ونظرية منطقية.
يوسف بن عدي: إذا علمنا أنّ القول الكلامي لا يخلو من ميل إلى فرقة دون أخرى، أو قول ضد الآخر، أو الجمع بينها كما كان الحال مع الشيخ محمد عبده في رسالة التوحيد، والذي طمح إلى طريق الهداية بعد أن اختبط القوم خبط عشواء، فهل أنتم أستاذي الكريم من أهل الاعتزال أم من الأشعرية؟
محمد أيت حمو: إنّ انتمائي لشعبة الفلسفة جعلني أنتبه إلى أهمية مبحث الثيولوجيا، وأهمية علم الكلام بإطلاق باعتباره جهدًا نظريًّا واجتهادًا بشريًّا وخطابًا إنسانيًّا وتأويلاً «ملائمًا» ودرسًا منهجيًّا لعجن «الملة الإلهية» وفهمها وتحويلها إلى «الملة الإنسانية» بتعبير الفارابي، دون المفاضلات العكاظية والانتصار لزيد أو لعمرو، أو لمذهب كلامي على آخر. فدلالة الوحي الإلهي الصادر عن الله أو مادته أو جوهره متوسطة ومؤولة وغير معطاة لنا مباشرة، لأنّ قولنا وفهمنا نحن عن القول الإلهي – والذي قد يكون صادقًا أو كاذبًا - هو الذي يعطي المعنى للمقول الإلهي، وتبعًا لذلك فعلم الكلام ليس دينًا نتدين به، أو وحيًا نتعبد به، ولكنه خطاب مواز للخطاب الديني، فهو مؤسسة نقدية للخطاب الديني تعمل النظر في موضوع "ما هو الوحي؟" وبيت القصيد من هذا الكلام السابق أن لا نكفر ولا نبدع أي اتجاه أو مذهب، فمادام علم الكلام ليس صادرًا عن الله، فلماذا نحمله ضرورة الصدق؟ ومادام قولنا نحن متكثرًا، وقراءةً، وتأويلاً للوحي الذي قلنا بأنّه لا يعطي دلالته مباشرة، فلماذا أطلب من الآخر المعتزلي أن يكون مثلي معتزليًّا إن كنت معتزليًّا، أو من الآخر الأشعري أن يكون مثلي أشعريًّا إن كنت أشعريًّا، أو غير ذلك إن كنت غير ذلك؟! هذا استبداد عقدي لا يقل خطورة عن الاستبداد السياسي. لذلك يجب أن نتفهم كل الخطابات الكلامية البشرية ونتحرر من السياج الدوغمائي المغلق الذي غذته الفرقة الناجية والخطابات الإيديولوجية المختلفة المشارب والتوجهات. فهناك أنواع من الفهم والنظر والتصور والتأويل تفرض علينا وضع الأحكام بين قوسين، أوضع المسافة، وعدم السقوط في فخ الإيديولوجيا.
يوسف بن عدي: ماهي مشاريعكم المستقبلية في التأليف والكتابة؟
محمد أيت حمو: مشاريعي المستقبلية لن تخرج عن ملعب الفلسفة الإسلامية التي أستمتع بقراءتها، مع إبراز الجوانب العقلانية التنويرية المشرقة في الفكر الثيولوجي الفلسفي العربي الإسلامي الذي يشكل خميرة يمكن عجنها من جديد مع الاستفادة من روح العصر ومكاسب العقل الحديث والانتصار للدين المدني، وتبيئة الحداثة الدينية، فالفكر الثيولوجي الفلسفي في تراثنا قد يسعفنا في الحسم القاطع مع هوية الدولة التي أثبت الفقيه الأزهري علي عبد الرازق مدنيتها في حضن القرآن والسنة، وذلك عندما أثبت في كتاب الإسلام وأصول الحكم أنّ الإسلام دين وليس دولة، وأنّ طبيعة الدولة الدينية ليست من جوهر الدين الإسلامي بل تتعارض مع طبيعته. فالدولة الدينية رمز للاستبداد والإذلال وفاقدة للمشروعية الدينية. وكل من يدافع عنها فهو يدافع عن الخرافة والبداوة ويستغل بساطة الناس وسذاجتهم ولا يريد الانتقال بالمواطن السلبي إلى المواطن النشيط، وبالتالي يجهز على الرقي الديني والمعنى الإنساني للدين. ذلك أنّ الإسلام لا يتعارض مع الحداثة والمنظور الإنساني المتمحور كليًّا حول الإنسان، وإنّما مع التبعية والوصاية والقصور الذي ينبغي انتشال الإنسان من براثنه كما تنتشل الشعرة من العجين.