حوار مع أ. الدكتور بسام الجمل: التفسير: التسييج وحدود الإبداع
فئة : حوارات
يأتي هذا الحوار العلمي مع الدكتور بسام الجمل، في سياق سعينا الحثيث لفتح باب السؤال المعرفي، والوقوف عند أهم قضايا الدرس القرآني المعاصر، وقد جاء الحوار ملامساً لواقع الدراسات القرآنية في السياقين العربي والاستشراقي، كما توقف عند موقع القرآن في النسق الثقافي الإسلامي، وحدود الإبداع في المدونة التفسيرية كما في الدراسات القرآنية المعاصرة.
عبد الله إدالكوس: نود في بداية هذا الحوار المختصر أن نقدم للقارئ العربي نبذة موجزة عن الدكتور بسام الجمل.
بسّام الجمل: أستاذ محاضر بالجامعة التونسيّة، حاصل على شهادة التأهيل الجامعي وشهادتي التبريز والدكتوراه، مهتمّ بالدراسات القرآنيّة وعلوم القرآن والمتخيّل الديني، يشرف على وحدة بحث في المتخيّل بكلّية الآداب والعلوم الإنسانيّة التابعة لجامعة صفاقس، من بين أعماله المنشورة: أسباب النزول علما من علوم القرآن ـ من الرمز إلى الرمز الديني ـ ليلة القدر في المتخيّل الإسلامي ـ الإسلام السنّي ـ رمزيّة اليد اليمنى في المتخيّل الإسلامي ـ المقاربة الأنثروبولوجيّة للسيرة النبويّة.
عبد الله إدالكوس: استغرقتك العديد من الدراسات المعاصرة حول القرآن والتفسير، كما شغلتك العديد من المعارف المعاصرة كتابة وقراءة وتوظيفا، لِمَ هذا الاهتمام بالدراسات القرآنية وبإشكاليات التفسير تحديدا؟
بسّام الجمل: إنّ اهتمامي بالدراسات القرآنيّة Quranic Studies جاء في الحقيقة بعد اطّلاعي المعمّق على مختلف علوم القرآن؛ أي تلك العلوم التي أنتجت النصوص الثواني الدائرة على نصّ المصحف. وأعتقد أنّ تلك العلوم تعبّر عن كيفيات تعامل أجيال من العلماء المسلمين مع النصّ الأوّل في الثقافة الإسلاميّة، وهو تعامل متأثّر بالضرورة بشواغل أولئك العلماء التاريخيّة وبطبيعة تكوينهم المعرفي وبانتظارات قرّائهم. فنحن إذن، أمام إنتاج بشري ضخم نسبيّا تمّت به محاورة نصّ إلهيّ عبر مسالك شتّى من الفهم والقراءة والتفسير والتأويل من ناحية، وعبر جهاز متنوّع من الاستدلال والتعليل والحجاج من ناحية أخرى. ولكن على الرغم من أهميّة علوم القرآن من تفسير وقراءات ونسخ وأسباب نزول والمكّي والمدني وغيرها، فإنّ الدارس اليوم مدعوّ إلى أن يكون له اطّلاع على ما كُتِب ويُكتب بالخصوص في الاستشراق الألماني الكلاسيكي والجديد في آن معاً. ولعلّ من أهمّ ثوابت هذا الاستشراق أنّه يتصدّى لدراسة نصّ المصحف دون المرور إليه عبر تلك النصوص الثواني المشار إليها آنفاً. بعبارة أخرى، يسعى هذا الاستشراق على تفحّص ذلك النصّ التأسيسي في الإسلام من جهة تحليل خطابه تحليلاً لغويّا وسيميائيّاً ودلاليّاً، فضلاً عن دراسة المعجم القرآني وإخضاعه للتحليل الفيلولوجي ومحاولة فهم النصّ في سياقه التاريخي الذي أنتجه إبّان القرن السابع للميلاد في شبه الجزيرة العربيّة. ولا تفوتني هنا الإشارة إلى أنّ عدّة مؤتمرات دوليّة تصدّت للقرآن من هذا المنظور، منها مؤتمر عقده معهد الدراسات الإسلاميّة التابع لجامعة برلين الحرّة تحت عنوان "القرآن في سياقه"The Quran in Context سنة 2004، ومنها مؤتمر نظّمته جامعة نوتردام في ولاية إنديانا الأمريكيّة بعنوان "نحو قراءة جديدة للقرآن" سنة 2005، بل إنّ الاستشراق الألماني يشتغل من سنوات على مشروع ضخم يحمل اسم "الموسوعة القرآنيّة" Corpus Coranicum. واعتبارا لكلّ ما سبق قوله، فإنّ على الناظر في إشكاليّات التفسير اليوم أن يكون له هذا الاطّلاع على ما أُنجِز من دراسات مهمّة عن القرآن، وذلك حتّى يبني بحوثه الدائرة على التفسير والتأويل على استيعاب ذلك المُنْجَز والبناء عليه. ومن ثمّ، يتجنّب الخوض في قضايا ومسائل في التفسير بأدوات في البحث تجاوزتها المعرفة الراهنة والمناهج المعاصرة وما تضمّنته من مختلف المقاربات.
عبد الله إدالكوس: قبل الخوض معكم في بعض القضايا التي تتعلق بالدراسات القرآنية؛ نود منكم أن توضحوا لنا ماذا يعني لكم القرآن؛ هل هو كتاب تشريع، أم كتاب عقائد، أم كتاب تاريخ أم كتاب قيم..؟
بسّام الجمل: القرآن، في تقديري، ليس كتاب تشريع فقط أو كتاب عقائد فقط أو كتاب تاريخ فقط أو كتاب قيم فقط...بل إنّ فيه بعضاً من كلّ ذلك. ولا يمكن تغليب جانب ممّا ذكرت على جانب آخر. إنّ القرآن هو كتاب جامع لمختلف المقوّمات المؤسّسة لثقافة ما {بالمعنى الأنثروبولوجي لكلمة ثقافة} في سياقات اجتماعيّة وسياسيّة واقتصاديّة محدّدة. ويدلّ ذلك على أنّ في القرآن مادّة حاملة لسمات الوضع التاريخي الذي أفرزها {القيم الاجتماعيّة السائدة...علاقات القرابة... الأحلاف والعهود... سيرة النبيّ...مجتمع الصحابة...الوسط القبلي... تقبّل الرسالة... ردود الفعل على ظهور الدين الجديد... التصوّرات الدينيّة والأسطوريّة السائدة... الأعراف الاجتماعيّة...}. ولكن أيضاً فيه مادّة أخرى مهمّة بالإمكان تجاوز لحظة إنتاجها التاريخيّة لتعانق كلّ ما هو خالد وكونيّ وإنساني من نحو ما يدعو إليه النصّ من قيم سامية {الرحمة، العفو، التكافل، الصدق، حسن المعاملة...}. ثمّ إنّ في القرآن مادّة قابلة لأن تُقرَأ قراءة مقاصديّة متحرّرة من القراءات الحرفيّة الجامدة والمتكلّسة، وهي قراءات ساهمت في انغلاق النصّ على ذاته، فانقطعت صلته بشواغل أهل الإيمان وهمومهم المتحوّلة والمتغيّرة والحادثة في الاجتماع والتاريخ. وعليه، فإنّ المسلم يحتاج اليوم إلى أن يَعِيَ بحقّ روح القرآن وإلى أن يحاوره بذاته الإنسانيّة المستقلّة والحرّة والمسؤولة دون وصاية من أيّة سلطة أو مؤسّسة مهما كانت.
عبد الله إدالكوس: في دراسة لكم بعنوان "التفسير علماً إسلامياً من خلال الكشاف للزمخشري" قلتم والذي نخرج به هو أنّ منهج التفسير في "الكشّاف" منهج تقليديّ ينخرط في تسييج طريقة التفسير منذ الطبري. وقد عُدّت اللّغة والبلاغة والقراءات مداخل إلى تحديد المدلولات العقديّة والأخلاقيّة والسّلوكيّة للآيات المفسَّرة. لذلك كان من بين شروط المفسِّر الإلمام بعلوم العربيّة، بل إنّ التفسير نفسه لا يستقيم إلاّ اعتماداً عليها، ألا تعتقدون معي أن هذا التسييج كان أمراً ضرورياً، من أجل ضبط عملية التأويل والحفاظ على وحدة المسلمين؟
بسّام الجمل:صحيح أنّ مقالة التسييج في التفسير كانت ضروريّة في القديم من أجل السيطرة على المعنى والقبض عليه عبر التأويل، ومن ثمّ يمكن إلزام عموم المسلمين بطريقة واحدة في التعامل مع النصّ الديني الأوّل، وهذا المسار من شأنه أن يكون أحد العوامل الحاسمة في تأليف المسلمين على فهم معيّن للقرآن يكون دعامة أساسيّة من دعائم الحفاظ على وحدة الجسم الاجتماعي، خاصّة وأنّ التضامن داخل المجتمعات القبَليّة القديمة هو تضامن آليّ وليس تضامناً عضويّاً، مثلما قرّر ذلك عالم الاجتماع الفرنسي المعروف إيميل دوركهايم. ولكن تبقى مقالة التسييج، رغم كلّ شيء، خياراً أُتيح للمفسّرين القدامى من بين خيارات أخرى ممكنة سواء وُجِدَت أو يمكن أن تُوجَد. إنّ طريقة التفسير الخطّي التي اتّبعها محمّد بن جرير الطبري {تــ 310 هــ} فرضتْ نفسها على أجيال متعاقبة من العلماء المسلمين وصولاً إلى يوم الناس هذا. وتجدر الإشارة إلى أنّ هذه المنهجيّة وظّفها العلماء القدامى لتكريس طريقة ترتيب آيات المصحف حسب التلاوة لا حسب النزول. وازداد هذا التكريس رسوخاً باتّباع المنهجيّة نفسها في علم آخر من علوم القرآن هو علم أسباب النزول. والمعروف اليوم أنّ هناك طُرُقًا أخرى كان من الممكن اتّباعها في تفسير النصّ منها التفسير الأغراضي؛ أي توزيع الآيات حسب أغراض كبرى، مثل التشريع والأحوال الشخصيّة والمعاملات والأدعية والسيرة النبويّة وقصص الأنبياء والمصير الأخروي، فضلاً عن وجود طريقة أخرى ممكنة في التفسير تعتمد تفسير الآيات حسب تاريخ نزولها، على ما في هذه المنهجيّة من صعوبات جمّة وعقبات عديدة مندرجة في صميم تاريخ الوحي والتنزيل.
عبد الله إدالكوس: يجد الباحث في حقل الدراسات الإسلامية مساحة واسعة للقرآن تأويلاً وتفسيراً، غير أن سؤال الإبداع في هذا الحقل يكاد يكون منعدماً، فهي في الغالب لا تخرج عن النمط التراثي؛ إن على مستوى المقولات أو في المقاربة المنهجية، من ذلك مقولة أن السلف لم يترك للخلف شيء، وأن العلم نقل عن السلف، فإلى أي حد في نظركم يمكن الركون إلى ما أنتجه السلف في تثوير القرآن؟
بسّام الجمل: في الحقيقة إنّ علماء السلف حاوروا القرآن بما كان متاحاً في زمانهم من معارف ومناهج ومن أدوات في المقاربة والتأويل. وكانوا في ذلك كلّه متأثّرين، رغمًا عنهم، بضغوط التاريخ وإكراهاته. وقد تنزّل إنتاجهم في التفسير وفي مختلف علوم القرآن ضمن سُنّة ثقافيّة ضُبطت فيها المجالات التي يُسمَح فيها بالاختلاف مع تعيين درجته من جهة، وضمن رصيد من المعارف تكوّن على التدريج حتّى صار جزءاً من التقليد الراسخ الذي يتعيّن على العلماء المتأخّرين العمل به وتعهّده بالصيانة والرواية حتّى لا يندثر أو يُنسى من جهة أخرى. ولكن المشكل اليوم في التفاسير المعاصرة أنّ أصحابها ردّدوا ما قاله أسلافهم من أهل التفسير وأعادوا إنتاج معرفة قديمة. وساقوا، من أجل تبرير هذا الاتّباع، حججاً عديدة لا يمكنها أن تُقنع الباحث المعاصر المتحرّر من سلطة السلف المعرفيّة والرمزيّة. فلا يمكن اليوم أن نتّخذ مثلا من أخبار أسباب النزول {بالشكل الذي وصلتنا وبما فيها من مطاعن ونقائص} مدخلاً إلى تفسير عدد من آيات القرآن جديراً بالثقة. ولا يمكن أيضاً أن نسلّم بضوابط الناسخ والمنسوخ مثلما أقرّها السلف لنؤسّس عليها فهماً معيّناً للأحكام القرآنيّة، بل أعتقد أنّ المدخل الحقيقي لتفسير نصّ القرآن هو محاولة فهم المعجم القرآني في مسار تشكّله التاريخي والروافد الثقافيّة التي أثّرت في معانيه بحكم التجاور بين العائلات اللغويّة، وما قام بينها من علاقات الاقتراض أو التسلّل بحُكْم الاستعمال والتداول. أضف إلى ذلك، فإنّ من الطرُق المتاحة في تفسير القرآن اليوم هو فتح هذا النصّ على غيره من النصوص الدينيّة وغير الدينيّة التي أُنتِجتْ في زمانه وفي بيئته سواء كانت تلك النصوص مكتوبة أو منقوشة.