حوار مع أحمد محمود: بين التدين والتاريخ
فئة : حوارات
حوار مع أحمد محمود:
بين التدين والتاريخ
نحن أمة تعيش ماضيها؛ فما زالت أحداثُ تاريخها الكبرى حيةً في وجدانها موجِّهة لمسارات تفكيرها حاكمةً لاختياراتها، بل إنّ قطاعًا واسعًا من أبناء أمتنا لا يتصورون حلاًّ أو مخرجًا لأزمتنا الحضارية الراهنة إلاّ ببعث الماضي وإحياء قيمه وتقليد أعلامه، على خلاف بينهم بالطبع في مقدار التقليد؛ فكأنّ النهوض لديهم لا يعني سوى العودة إلى التاريخ.
يعبِّر أحمد محمود في هذه الكلمة القصيرة، ونحن بصدد هذا الحوار عن جانب من رؤيته لأهمية التاريخ في حياة المسلمين.
أحمد محمود باحث في التاريخ الإسلامي والحضارة، وله اهتمام خاص بدراسة أنماط التدين الإسلامي من منظور تاريخي. تخرج من كلية دار العلوم سنة 1999م، وفيها تلقى تكوينه العلمي؛ حيث حصل على درجة الدكتوراه مطلع 2014م عن موضوع "الهجرات المشرقية إلى مصر والشام وتأثيرها السياسي والحضاري زمن سلاطين المماليك". وكان قد حصل عام 2006 على درجة الماجستير عن أطروحته "الدور السياسي والحضاري للصوفية في مصر زمن سلاطين المماليك".
خالد محمد عبده: تخرجتَ من كلية دار العلوم بجامعة القاهرة، هل لك أن تعطينا نبذة مختصرة عن دار العلوم؟
د. أحمد محمود: دار العلوم كلية عريقة أسسها علي باشا مبارك سنة 1872م باسم "مدرسة دار العلوم"، قبل أن تُضَمّ إلى جامعة القاهرة منتصف القرن الماضي (1946م)، لتصبح إحدى الكليات التابعة لها. والعلوم التي تدرِّسُها تلك الكليةُ: هي علوم اللغة العربية والعلوم الإسلامية؛ ومن هنا فإنّ الكلية تشمل سبعة أقسام أساسية يمكن تقسيمها إلى ثلاث دوائر: دائرة علوم اللغة: وتضم قسمين هما: قسم علم اللغة، وقسم النحو والصرف والعروض، ودائرة العلوم الأدبية: وتضم قسمين هما: قسم الدراسات الأدبية، وقسم البلاغة والنقد الأدبي والأدب المقارن، ودائرة العلوم الإسلامية: وتضم ثلاثة أقسام هي: قسم الشريعة الإسلامية، وقسم الفلسفة الإسلامية، وقسم التاريخ الإسلامي.
ويدرس الطالب في مرحلة الليسانس تلك العلوم جميعًا على مدار أربع سنوات، يحصل بعدها على شهادة جامعية تسمى "ليسانس اللغة العربية والعلوم الإسلامية". فإذا أراد الطالب أن يتخصص في علم بعينه من تلك العلوم، انتسب في مرحلة الدراسات العليا إلى أحد الأقسام السبعة المذكورة.
خالد محمد عبده: ما الذي دفعك إلى الاهتمام بدراسة الصوفية في مرحلة الماجستير؟ وهل يمكن أن تحدّثنا عن المشكلة الرئيسة التي اهتم بها بحثك؟
د. أحمد محمود: الواقع أنّ دراستي لطائفة الصوفية في مرحلة الماجستير لم تكن متأثرة باعتبارات شخصية أو تحيزات دينية، تتعلق مثلاً بميلٍ روحي إلى التصوف أو انتسابٍ إلى إحدى طرقه المنتشرة في مصر أو ارتباطٍ بأحد مشايخه المرموقين هنا أو هناك، بقدر ما كانت متصلة بجملة اعتبارات علمية وثقافية.
صحيح أنّ الباحث - ولا سيما في موضوع كهذا - ينبغي أن يتحلى بقدر من التعاطف مع الموضوع الذي يدرسه ومع الفئة الاجتماعية التي يعالجها، وصحيح أيضًا أنّ ذلك كان أمرًا واقعًا لا أجحده؛ فأنا أميل إلى التصوف وأستمتع بقراءة التجارب الروحية للصوفية، وأشعر أنّهم يقدمون نمطًا فريدًا للتدين أحسب أن الإنسانية بحاجةٍ إليه، في ظل سيطرة المذهب المادي الذي ينكر روحانية الإنسان، وتغول التيارات السلفية التي تنكر رحابة التجربة الدينية وتعددها فتضيِّق على الناس واسعًا، ومع ذلك فلم يكن لتلك التحيزات الشخصية أثرٌ يذكر لا في اختياري لموضوع الدراسة ولا في معالجته.
أمران أساسيان دفعاني إلى دراسة دور الصوفية في مصر من منظور تاريخي: الأول: أنّ التصوف يمثل بعدًا مركزيًّا في تجربة التدين المصري، يتعيَّن استدعاؤه دائمًا إذا أردنا أن نسبر أغوار تلك التجربة ونلم بدقائقها ونفهمها فهمًا أقرب إلى الصحة. وفي هذا السياق أتذكر ما ذهب إليه بعض الباحثين من "أنّ التصوف الإسلامي يوشك أن يكون مصري النشأة"، ويؤكد آخرون أنّ مصر أضافت التصوفَ إلى الإسلام، كما أضافت من قبل الرهبانيةَ إلى المسيحية، وذلك في معرض التنويه بخصوصية التدين المصري.
الثاني: هو الصورة النمطية التي دأب معظم الباحثين والمفكرين - وخاصة في مجال البحث التاريخي- على تقديمها كلما تحدثوا عن الصوفية.
إنّ الصوفية لدى هؤلاء الباحثين فئة متمايزة عن سائر فئات المجتمع دينيًّا واجتماعيًّا، فتراهم إذا تحدثوا عن طبقات المجتمع أشاروا إلى فئات الخاصة نحو السلاطين والحكام والأمراء، ومَنْ يلحق بهم من كبار التجار وكبار موظفي الدولة من العلماء وغيرهم، ثم العامة من صغار التجار والصناع والحرفيين ومَنْ إليهم، ثم الصوفية، وكأنّ المجتمع يتكون من خاصة وعامة وصوفية.
والصوفية لدى أولئك الباحثين أيضًا فئة من الدراويش يعيشون على هامش المجتمع، ويروّجون لجملة من القيم السلبية؛ كالتواكل والبطالة وتسول جهد الآخرين والفرار من الدنيا والجهل والخرافة... إلى آخر تلك القيم السلبية، لو كان لها آخر. وترى أولئك الباحثين يلتقطون من مصادر التاريخ بضعة أمثلة متناثرة يؤكدون بها وجهة نظرهم، ويؤسسون عليها أحكامًا تاريخيةً تصدر عنهم مصدر التعميم، وهي أمثلة تندرج دائمًا تحت باب التأثير السلبي للتصوف.
وكنت قد لاحظت أثناء انشغالي بإعداد خطة الدراسة أنّ تلك الصورة السلبية مغايرة تمامًا للواقع التاريخي، وهو ما تأكد لي بعد إتمام الدراسة؛ ذلك أنّ التصوف في مصر قد تحوَّل منذ العصر الأيوبي إلى اتجاه عام أقبل عليه عدد كبير من المصريين بمختلف طبقاتهم وفئاتهم الاجتماعية، وعلى تنوع حظوظهم من الفكر والثقافة الدينية، بمعنى أنّ الصوفية كان موزعين بين طبقات المجتمع جميعًا؛ فالمجتمع خاصة وعامة، وفي كلٍّ مَنْ انتحل التصوف طريقًا ومذهبًا؛ فالفقير والغني والعالم والجاهل والفقيه والمتفلسف والسني والشيعي كلُّ أولئك تصوفوا إمّا تصوفًا نظريًّا وإمّا تصوفًا عمليًّا.
وقد انتهيت بعد الدراسة إلى أنّ مصطلح الدراويش (وهو مصطلح فارسي، بمعنى الفقير الجوال) لم يُسْتخدم قط في حوليات العصر المملوكي، ولكن تأخر ظهوره إلى العصر العثماني، ليرتبط بتيار منحرف من الصوفية، ولم يكن دالاً على الصوفية أجمعين، هكذا بغير تمييز.
ولما كان الواقع التاريخي يثبت أنّ في كل فئة من فئات المجتمع مَنْ سلك طريق التصوف، مع اختلاف الوجهة في فهمه وممارسته، فقد اجتمع لديَّ تقسيمان للصوفية: أحدهما: اجتماعي يبيّن الوضع الطبقي للصوفية (فكان هناك الصوفية من النخبة العسكرية الحاكمة، والصوفية العلماء أو الفقهاء، وصوفية المؤسسات الدينية، وهي الخانقاوات والزوايا والربط والجوامع والترب والقباب، والصوفية من العامة). والثاني: فكري يبرز المشارب الصوفية المختلفة في مصر المملوكية (فكان هناك أتباع التصوف الفسلفي من القائلين بالحلول والاتحاد ووحدة الوجود، وأصحاب التصوف السني، وهؤلاء يشملون: الصوفية الفقهاء وأصحاب الطرق، وصوفية المؤسسات)، ولكل فئة طريقتها في فهم التصوف وتذوقه.
وقد عرضت لذلك كله - وأمور أخرى مكملة - في الفصل الأول من الدراسة الذي جاء بعنوان "الصوفية في البنية الطبقية للمجتمع المملوكي"، وهو أساس الدراسة وقاعدتها الصلبة؛ انطلاقًا من أنّ دراسة تأثير الصوفية في المجتمع يستلزم أولاً أن نحدد مَنْ هم الصوفية تحديدًا دقيقًا.
ثم تتابعت فصول الدراسة راصدةً تأثير الصوفية السياسي والحضاري، فعرضتُ في الفصل الثاني لعلاقة الصوفية بالسلطة وناقشت الاتهام الشائع للصوفية بأنّهم كانوا دائمًا عملاء للدول والحكومات وتعقبت المواقف السياسية المختلفة التي صدرت عن الصوفية سواء أكانوا داعمين فيها للسلطة أم معارضين لها، وفي الفصل الثالث تحدثت عن دور الصوفية في الحياة الإدارية، وفي الفصل الرابع رصدت تأثيرهم الاجتماعي في تشعبه وامتداده، وفي الفصل السادس تناولت باستفاضة تأثيرهم في الحياة الفكرية والثقافية، ثم ختمت الدراسة بفصل عن انحراف الحركة الصوفية: أسبابه ومظاهره.
وقد انتهت الدراسة إلى جملة من النتائج تخالف ما استقر لدى كثير من الباحثين من آراء وتصورات عن التصوف ونشاط الصوفية في المجتمع المصري خلال العصر المملوكي؛ منها على سبيل المثال:
*أنّ الصوفية كانوا جزءًا عضويًّا في بنية المجتمع المصري، لا كما رأى بعض الباحثين من أنّهم كانوا فئة مستقلة عن هذه البنية دينيًّا واجتماعيًّا.
*وأنّ تصوف المصريين كان مطبوعًا بنزعة سُنّية واضحة، بدا أثرها في العناية الشديدة بمسائل التربية وجوانب السلوك، مع الإعراض النسبي عن تصوف الحلول والاتحاد ووحدة الوجود. ومع ذلك فقد عرفت مصر عددًا غير قليل من أتباع التصوف الفلسفي، احتفوا بنظرياته المشار إليها، وروجوا لمؤلفاته ودافعوا عن أعلامه الكبار كابن عربي وابن الفارض.
*كانت مصر مركزًا من أهم مراكز التصوف في العالم الإسلامي، وملتقى للصوفية المهاجرين إليها من المشرق والمغرب جميعًا.
*شارك الصوفية في الحياة السياسية، وكان لهم تأثير ملموس في صياغة ملامحها، ومما ساعدهم على ذلك ما كان يربط بينهم وبين السلاطين والأمراء من علاقات طيبة وتقدير متبادل. والواقع أنّ تلك المشاركة السياسية لم تتخذ صورة واحدة، بل تنوعت إلى أشكال مختلفة، فكانت تارة دعمًا للسلطة فيما يحقق للرعية مصلحتها، وكانت تارةً أخرى انتقادًا للسلطة واعتراضًا على بعض سياساتها إذا ألحقت ضررًا بالرعية وعدوانًا على حقوقها.
*بذل الصوفية جهودًا كبيرة في سبيل ترقية المجتمع والنهوض بحياة أبنائه ماديًّا وروحيًّا. وقد تمثل ذلك فيما بنوه من مساجد ومدارس وربط وزوايا وبيمارستانات وأسبلة وغير ذلك من منشآت دينية ومدنية قدمت للمصريين ألوانًا من الخدمات ونهضت بمستوى حياتهم. وكذلك عُني الصوفية بتحقيق التكافل الاجتماعي بين أبناء المجتمع، من خلال الإحسان إلى الفقراء ومحاولة التخفيف عنهم، ومداواة المرضى، ورعاية الأيتام والأرامل، والسعي لدى الحكام في قضاء حوائج العامة والشفاعة لهم. وضرب الصوفية بسهم وافر في ميدان الإرشاد الديني والدعوة، فاهتموا بتعليم العامة فرائض الدين، وأكثروا من عقد مجالس الوعظ والتذكير التي كانت أشبه بمدارس شعبية لتثقيف العامة وتهذيب أخلاقها وتعميق النزعات الروحية لديها. ودافع الصوفية كذلك عن المبادئ الدينية والمثل الأخلاقية للمجتمع؛ تحقيقًا لمبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فبذلوا جهدًا طيبًا في تطهير المجتمع من الرذائل والمنكرات والبدع، سالكين في هذه السبيل مسالك متدرجة من الإنكار بالقلب إلى الوعظ باللسان إلى تغيير المنكر باليد.
*شارك الصوفية مشاركة جادة في الحركة الفكرية المزدهرة التي شهدتها مصر المملوكية، وكان لهم دور ملموس في تنميتها وإثراء جوانبها؛ حيث كانت مؤسسات التصوف (الخانقاوات والربط والزوايا) معاهد للعلم والتعليم، تدرِّس علوم التصوف والشريعة على تنوعها واختلافها. وكذلك كان للصوفية إسهام متميز في علوم العصر المختلفة كالقراءات والحديث والتفسير والفقه والتصوف والعربية فضلاً عن العلوم العقلية.
*أثارت أفكار التصوف الفسلفي خصومة عنيفة بين الفقهاء والصوفية القائلين بها، وهي الخصومة التي بلغت ذروتها على يد ابن تيمية في القرن الثامن الهجري والبقاعي في القرن التاسع الهجري.
*لم تبرأ الحركة الصوفية - شأن غيرها من الحركات الدينية ذات الطابع الجماهيري - من وجوه النقص وأسباب الفساد؛ حيث اندسّ بين الصوفية فريق من الأدعياء والمرائين، لم يفقهوا معنى التصوف ولم يتحققوا بآدابه، فكان الطريق لديهم كسلاً وبطالة وجهلاً وابتداعًا. بيد أنه ليس من الإنصاف أن تُحْمَل على التصوف أوزار أولئك الأدعياء والمتطفلين.
ولعل هذه النتائج المبنية على كثير من الشواهد والنماذج التاريخية تُسهم في إعادة تقويم الحركة الصوفية ومراجعة ما استقر من أحكام لها أو عليها. وأنا عاكف الآن على مراجعة الدراسة وإعدادها للنشر، وأتوقع أن يكون ذلك منتصف العام القادم بإذن الله.
خالد محمد عبده: كيف تنظر إلى علاقة الصوفية بالسياسة اليوم؟ هل تقترب من صورة الماضي كما ترصدها كتب التاريخ؟
د. أحمد محمود: أعتقد أنّه من الخطأ الفادح أن نقيس التصرفات السياسية للحركة الصوفية في الدولة الحديثة على نظائرها في الدولة الإسلامية قبل الحداثة؛ ذلك أنّ طبيعة السلطة في الدولة الحديثة تختلف كليًّا عن السلطة في المجتمعات التقليدية؛ ففي المجتمع الإسلامي التقليدي كانت بنية الدولة نفسها تسمح لأصحاب المعرفة الدينية من العلماء والصوفية بأداء دورٍ سياسي يحفظُ للمجتمع توازنه واستقراره؛ إذ كانوا يمثلون وسيطًا مدنيًّا مقبولاً بين السلطة والرعية (أو المواطنين بالمصطلح الحديث).
وقد كتبتُ في دراسة سابقة عن علاقة الأزهر بالسلطة: إنّ مشاركة العلماء - ويلحق بهم الصوفية - في الحياة العامة وفي الشأن السياسي وما يتطلبه هذا وذاك من اتصال بدوائر الحكم والسلطان بدا أمرًا حتميًّا فرضته طبيعة تكوين المجتمع الإسلامي نفسه، والنَّسَق الذي جرى من خلاله رسمُ الحدود بين السلطات وطريقة توزيعها بين فئات المجتمع، وهو نسق بدا فيه العلماء كأنهم يمثلون جناحًا مدنيًّا للسلطة الحاكمة.
وأصبحت البنية السياسية للدولة الإسلامية (منذ القرن الخامس الهجري) على النحو الآتي:
*نخبة عسكرية حاكمة.
*نخبة دينية يمثلها الفقهاء والصوفية (تلعب دور الوسيط، وفي بعض الأحيان جناح مدني للسلطة).
*وعموم الناس (أو الرعية في المصطلح الإسلامي).
ولئن كانت الرعية قد عرفت للعلماء والصوفية مكانتهم لدى السلطة ولجأت إليهم في أوقات الشدائد والأزمات، وتوسلت بهم في رفع مظالمها إلى الحكام؛ فإنّ السلطة نفسها كانت تدرك مكانة الفقهاء والصوفية في المجتمع، وتعرف مدى التأثير السياسي الذي يمكن أن يمارسوه، فسعت إلى استمالتهم من أجل السيطرة على الناس والمجتمع.
وتأسيسًا على هذا النسق، رأينا الصوفية يمارسون دورًا سياسيًّا تراوح بين تأييد السلطة ودعمها فيما يظنون أنّه يحقق مصلحة الرعية التي يتحدثون باسمها، وبين انتقادها والاعتراض عليها إذا خرجت تصرفاتها من العدل إلى الجور أو من المصلحة إلى المفسدة؛ فاعترض الصوفية مثلاً على عسف السلطة وجورها على حقوق الناس، وخاصة في الجوانب المتعلقة بفرض مزيد من الضرائب والأعباء المالية، وقاوموا جشع السلاطين والأمراء الذين تطلعوا إلى الاستيلاء على أموال الأوقاف التي تعوض جانبًا من عجز السلطة عن أداء وظائفها في رعاية المجتمع وتلبية احتياجاته الأساسية، كما اعترضوا على تدخل السلطة في شؤون القضاء.... إلى غير ذلك.
أما في الدولة الحديثة، فإنّ السلطة أصبحت تتدخل في كل صغيرة وكبيرة متعلقة بحياة الإنسان ونشاطه منذ ميلاده إلى وفاته، أو قُلْ: إنها تصنع الإنسان وفق تصوراتها ومقاصدها؛ فتحدد شروط انتمائه إليها، وتفرض عليه نظامها التعليمي، وترسم له مستقبله الوظيفي، وتلزمه من خلال مؤسساتها الدينية بنمط التدين المقبول، بمعنى أنّها تفرض عليه نمطًا من التدين الرسمي.... إلخ. ومن هنا فإنّ الدولة الحديثة تميل إلى مأسسة الحركات الدينية بما فيها الحركات الصوفية، بمعنى تحويلها إلى جزء في بنية السلطة ذاتها، حتى لا تتحول إلى عنصر مناوئ أو مقاوم لها، والحركات الدينية إذا تحولت إلى مؤسسات سلطوية فقدت دورها السياسي النافع للناس؛ لأنّها في هذه الحالة تنحاز دائمًا إلى الدولة في مواجهة المجتمع، ويتآكل تدريجيًّا دورها في التوسط بين الدولة وبين الناس، وهو دور يسمح لها بأن تنتقد وتعترض على الحاكم، تمامًا كما كان يحدث في المجتمع التقليدي.
ومن المؤسف حقًّا أنّ الصوفية في العصر الحديث - سواء في مصر أو في غيرها من أقطار العالم الإسلامي - ينحازون دائمًا إلى صف الحكومات والأنظمة، ويغضون الطرف عما تنزله بالناس من وجوه الظلم والتعسف. وقد رأينا في مصر خصومة كثير من الصوفية لثورة يناير 2011م، ودعمهم للنظام القديم الذي أسقطته الثورة، وحسبك هذا دليلاً على صحة ما أقول.
خالد محمد عبده: هل تعتقد أنّ اهتمام المجتمع اليوم بهذا اللون من التديّن (أعني التصوف) عودة إلى التراث أم بحث عن طوق نجاة في ظل احتدام الصراعات السياسية؟
د. أحمد محمود: لا شك أنّ هناك اهتمامًا متزايدًا بالتصوف في المجتمع الحديث، ولا شك أيضًا أنّ هناك محاولةً لاستدعاء قيم التصوف والعمل على تفعيلها، ولكنّه اهتمام جزئي واستدعاء ناقص؛ بمعنى أنّ الاهتمام المعاصر بالتجربة الصوفية ذات الأصول التراثية انصبَّ على جانب منها وقصر عن استيعاب كافة الجوانب، فلا يعسر عليك أن تجد مثلاً امتدادًا معاصرًا للطرق الصوفية القديمة (وخاصة الطرق المعروفة كالأحمدية والرفاعية والشاذلية غيرها) بطقوسها وشعائرها، ولكن أين تصوف ابن الفارض، (بقطع النظر عن غناء ياسين التهامي لقصائده في الموالد والاحتفالات الدينية أمام جمهور لا أظن أنّه يفهم مرادات سلطان العاشقين)؟ وأين تصوف ابن عربي؟ وأين تصوف جلال الدين الرومي بقيمه الإنسانية الرفيعة، وأعلم أنّ لك اهتمامًا خاصًّا به، وكم حدَّثتني عن تقصير الباحثين في دراسته والتنويه بتجربته وبيان أصالتها؟ وأين تجارب التصوف الإيراني في رحابتها وعمقها؟
إذن يمكننا أن نسأل: أين دور التصوف في إصلاح العالم الإسلامي والنهوض به؟
الواقع أنّنا لا نجد - في الغالب - غير طقوس شكلية تتعلق بمسائل الذكر الموروثة عن أرباب الطرق، وتجديد ذكرى الأولياء فيما يعرف بالموالد، وزيارة الأضرحة والقبور والتبرك بها، وكأنّ التصوف ذِكْرٌ ومولد وزيارة فقط. أما ما وراء ذلك من قيم روحية ومبادئ أخلاقية يمكن أن تسهم في هداية الإنسان الحديث في ذلك التيه الذي يعيش فيه، فنكاد لا نجد لها أثرًا.
لقد أصبح التصوف الحديث في معظمه تعبيرًا عن نمط من الثقافة الشعبية أو شكل من أشكال الفولكلور (يتمسك به بعض المثقفين لأسباب لا تعلق لها بموقفهم من رقي التجربة الصوفية أو إيمانهم بروعتها، بل لأن الصوفية على خلاف مع التيارات السلفية وجماعات الإسلام السياسي، أو لأنّه مجرد تراث تاريخي تتعين المحافظة عليه كما تتعين المحافظة على التحف والتماثيل والمعابد القديمة)، في حين كان التصوف قديمًا بعدًا مركزيًّا في التكوين الثقافي للمجتمع كله، وهو ما انعكس على التجربة الصوفية نفسها عمقًا وثراءً، تأسيسًا على أنّ التصوف تجربة شخصية في المقام الأول، وأنّ عدد طرقه بعدد سالكيه، فتجد تنوعًا هائلاً في تلك التجارب، من تصوف الفلاسفة إلى تصوف الأدباء إلى تصوف الفقهاء إلى تصوف العامة وبسطاء الناس... إلخ. ما يعني أنّ التصوف لم يكن محصورًا في منتديات الفئات الشعبية العاطلة من الثقافة والمعرفة.
وثمة جانب آخر من جوانب الحركة الصوفية يبعث الأسى في نفسي، وهو انتشار الجهل بين قطاع واسع من الصوفية، وأعني هنا الجهل بعلوم الإسلام ونسقه المعرفي، بل في بعض الأحيان الجهل بأبسط مبادئ الإسلام التي لا تستقيم حياة مسلم بغير معرفتها. إنّنا إذا تتبعنا أعلام الصوفية المعاصرين ممن أسهموا في ثراء الحياة الفكرية بمصر الحديثة لم نجد سوى نفر قليل؛ مثل الدكتور عبد الحليم محمود رحمه الله والدكتور أحمد الطيب والدكتور علي جمعة وآخرين لا يبلغون في العد والإحصاء نسبة تساوي 1% من أعلام الصوفية في التاريخ الإسلامي ممن أسهموا في تأسيس العلوم الإسلامية المختلفة، وهو ما أثبتّه بالدليل في دراستي للماجستير.
خالد محمد عبده: هل يمكن أن تحدثنا عن موضوعك للدكتوراه وأسباب اهتمامك بموضوع الهجرات؟
د. أحمد محمود: موضوع الدكتوراه كما أسلفت هو "الهجرات المشرقية إلى مصر والشام وتأثيرها السياسي والحضاري زمن سلاطين المماليك". وقد لفتني إليه أولاً ما لاحظتُ أثناء إعداد أطروحتي للماجستير من كثرة المهاجرين إلى مصر المملوكية من صوفية المشرق وخاصة من إيران والعراق وآسيا الصغرى، وما تركوه من أثر ملحوظ في الحياة الدينية بمصر آنذاك.
فلما وسعت دائرة النظر والبحث عن المهاجرين إلى مصر، حيث لا تقتصر على طائفة الصوفية، أدهشني هذا الحشد الهائل من أهالي المشرق الذين آثروا النزوح إلى الأراضي المملوكية (في مصر والشام) والاستقرار بها، وقد تباينت أصولهم الجغرافية وانتماءاتهم العرقية لتشمل العرب والإيرانيين والروم والمغول والأكراد والتركمان والجراكسة والأرمن والهنود، كما تعددت فئاتهم الاجتماعية لتشمل الأمراء والفرسان ورجال الإدارة والعلماء والفقهاء والمحدثين والقراء والصوفية والأدباء، فضلاً عن التجار وأرباب الحرف والصناعات.
وكان مما شجعهم على الهجرة أنّ دولة المماليك أصبحت هي مركز القيادة السياسية والحضارية في العالم الإسلامي، وذلك منذ منتصف القرن السابع الهجري (الثالث عشر الميلادي)؛ حيث نجح المماليك في حماية الاستقلال السياسي للشرق الأدنى (مصر والشام والحجاز)، وعِصْمته من الوقوع في براثن الاحتلال المغولي. ثم كان أن تهيَّأ لتلك الدولة من مقومات الجذب السكاني ما لم يتهيّأ لغيرها من الدول في تلك المرحلة الدقيقة من تاريخ الأمة الإسلامية.
وعلى هذا النحو، استقر رأيي أن تكون دراسة تلك الظاهرة وتعقب آثارها هي أطروحتي لنيل درجة الدكتوراه.
وقد استخدمت مصطلح الهجرة بمعنى: انتقال الإنسان من إقليم إلى آخر على نية التوطن والاستقرار النهائي، أو بتعبير علماء الجغرافيا البشرية: حركة السكان - أفرادًا أو جماعات - من منطقة جغرافية إلى أخرى، شريطة أن يكون الباعث عليها الإرادة الحرة للمرء أو الجماعة المهاجرة.
أمّا مصطلح المشرق الذي يشغل موقعًا مركزيًّا في عنوان هذه الدراسة، ويعد صفة ضابطة لموضوعها، وهو الهجرات، فأريد به: جملة الأقاليم الواقعة شرق نهر الفرات الذي كان يمثل الحدَّ الشرقي لدولة المماليك. وقد استخدم مؤرخو العصر المملوكي مصطلح المشرق دالاًّ على عامة الأقاليم الواقعة شرق الفرات إلى بلاد ما وراء النهر، أو دالاًّ على إقليم بعينه من تلك الأقاليم؛ فورد دالاًّ على إقليم العراق، وإقليم الجزيرة العراقية، والأقاليم الإيرانية المختلفة وما يلحق بها من بلاد ما وراء النهر وتركستان وبلاد الجركس، وبلاد الروم (آسيا الصغرى). وفي بعض الأحيان كان مصطلح المشرق يطلق على دولة المغول الإيلخانية في إيران والعراق والجزيرة والجزء الجنوبي من بلاد الروم.
خالد محمد عبده: هل يختلف مفهوم الهجرة في التاريخ الإسلامي عن مفهومها الحديث؟
د. أحمد محمود: بالطبع هناك خلاف جذري لا يمكن تجاهله؛ فللهجرة في التاريخ الإسلامي الوسيط طابع خاص يرجع إلى ما يسميه الراحل جمال حمدان "السيولة السياسية" التي كان يتصف بها العالم الإسلامي آنذاك؛ إذ لم تكن ثمة حدود حاجزة بين الأمم الإسلامية، بل كان ثمة ما يمكن تسميته بالقومية الإسلامية التي تجاوز فيها الإسلامُ كونَه دينًا ومعتقدًا، إلى النظر إليه بوصفه دينًا وجنسيةً ووطنًا. ومما ساعد على ذلك أنّ الوحدات الجغرافية والإقليمية التي كوَّنت الفضاءَ الإسلامي ورسمت حدودَه لم تكن قد تبلورت بعدُ في كيانات سياسية تعتنق "فكرة الوطنية" بمفهومها الحديث ودلالتها القومية الضيقة، بل كانت تلك الوحدات تؤلف مجتمعةً -ومنصهرةً في الآن نفسه - وطنًا كبيرًا تواطأ الفقهاء على تسميته "دار الإسلام".
صحيحٌ أنّ هذا الوطن الإسلامي الممتدَّ كانت تتقاسمه نظمٌ حاكمة متنافسة أو متصارعة، وصحيحٌ أيضًا أنّ الحدود السياسية بينها لم تكن أمرًا مجهولاً أو متروكًا، ولكنّ ذلك الصراعَ لم ينعكس على العلاقات بين الأمم والشعوب التي دانت بالإسلام ورأت في الاجتماع حوله عوضًا عمّا وَسَم عالمه من ألوان التدافع والشقاق؛ ومن هنا فإنّ فكرة الحدود آنذاك لم تكن تمثل قيدًا يحول دون حرية الحركة والتنقل من إقليم إلى آخر، بل كانت - عند التحقيق - مجرد إشارات إلى حيث تبدأ أو تنتهي السيادة السياسية لهذه الدولة أو تلك.
لقد تركت تلك السيولةُ السياسيةُ أثرًا بليغًا في حركات الانتقال السكاني - سواء أكانت هجرة دائمة أم ارتحالاً مؤقتًا - بين الأقاليم الجغرافية التي تُؤلِّف عالمَ الإسلام الوسيط؛ فلم تكن تثير شيئًا من الحساسيات الإقليمية أو النعرات القومية، بل كانت "دار الإسلام" تهيئ للمسلمين جميعًا فرص الهجرة والانتقال من بلد إلى آخر في حرية كاملة؛ بوصفها وطنًا واحدًا متصلاً لا تقوم فيه الحواجز دون أفراد المسلمين، وإن تباينت أنظمة الحكم وتصادمت أهواء الحكام.
خالد محمد عبده: هل يمكن أن تحدّثنا بإيجاز عن هذه الدراسة؟
د. أحمد محمود: تتكون الدراسة من تمهيد وثمانية فصول وخاتمة، بالإضافة إلى كشاف إحصائي بالمهاجرين إلى مصر والشام خلال فترة الدراسة، مبينًا فيه اسم المهاجر وتاريخ ميلاده ووفاته والتاريخ الذي هاجر فيه ومنبته الجغرافي وحرفته أو وظيفته ومذهبه الفقهي أو العقدي والمدينة التي استقر فيها بعد الهجرة.
وقد ناقشت في التمهيد مراحل التاريخ المملوكي بإيجاز شديد، وشرحت مصطلحي الهجرة والمشرق شرحًا مختصرًا. ثم تتابعت فصول الدراسة الثمانية، لتناقش جملة من القضايا المركزية، وهي: "الأصول الجغرافية للمهاجرين المشارقة"، و"أسباب الهجرات المشرقية"، و"الوافدية في الجيش المملوكي: الرُّتَب العسكرية والتأثير السياسي"، و"الدور السياسي للنخبة المدنية من المهاجرين المشارقة: وهم العلماء والصوفية وكبار التجار"، و"الوظائف والحرف التي تولاها المهاجرون المشارقة"، و"التأثير السكاني والعمراني والاجتماعي والفكري والعلمي للهجرات المشرقية". وأخيرًا تأتي الخاتمة مشتملةً على أبرز النتائج التي انتهت إليها الدراسة، وملحق لصور المنشآت التي يرجع الفضل في تشييدها إلى مهاجري المشرق.
خالد محمد عبده: أعود إلى حديثنا معًا حول مهمة الباحث في تاريخ الإسلام قلت: إنّه "ليس من مهمة دارس التاريخ أن يشغل نفسه بتحديد ما يظن أنّه الصورة الصحيحة أو الصيغة المعيارية للإسلام؛ ففضلاً عن احتدام النزاع بين الفرق والمذاهب الإسلامية حول تلك الصورة أو الصيغة، فإنّ واجب المؤرخ هو أن يرصد مسيرة التجربة الدينية الإسلامية، وأن يُبْرِز ما تمتاز به من غنى وثراء وتنوع. وهنا يثور تساؤل مهم: هل يمكن القول: إنّ التجربة التاريخية الإسلامية في إقليم معين هي حاصل الجمع بين الإسلام المعياري أو (الإسلام النصي) والثقافة المحلية لذلك الإقليم، حيث يغدو مقبولاً أن نتحدث عن إسلام عربي وإسلام آسيوي وإسلام إفريقي وإسلام أوربي؟ هذا مجرد تساؤل مطروح للنظر والاجتهاد". وهو ما يسوقنا إلى الحديث عن اهتماماتك البحثية والقضايا التي تشغلك بعد الدكتوراه فهلاَّ حدثتنا عنها؟
د. أحمد محمود: أنا مشغول خلال هذه المرحلة - وربما لعدة سنوات قادمة - بأمرين أساسيين:
الأول:دراسة الحياة الدينية في مصر من منظور تاريخي .
أنت تعلم أنّ هناك فرقًا بين الدّين في صورته النظرية المجردة (التي يعبر عنها بالوحي) والدين حين يُمارس عمليًّا، فتنتج لنا ممارستُهُ أنماطًا أو صورًا من التدين، ثم إنّ هناك فرقًا آخر بين الدين وبين المعرفة الدينية (أو الإنتاج المعرفي المتمحور حول الدين)، كما يذكر عبد الكريم سروش وغيره. ولا يدخل في صلب عمل المؤرخ دراسة الدين (النظري من حيث هو عقائد وشرائع)، بل عمله الأساسي هو دراسة التدين، ودراسة المعرفة الدينية من حيث امتدادها وتأثيرها؛ نظرًا لأنّ ثمة دورًا للبشر في الشكل الذي يظهران عليه (أي: الدين والمعرفة به)، والتاريخ إنّما هو دراسة للفعاليات البشرية على الأرض في إطار زماني ومكاني معين.
وبناءً على ذلك، فلا يشغلني في دراستي للحياة الدينية قياسُ عادات المصريين في التدين أو ما درجوا عليه في شؤون الاجتماع الديني إلى البنية النصية الصلبة للإسلام والمتمثلة في نصوص القرآن الكريم ونصوص الحديث، وترجمة هذه وتلك في أفعال السلف وممارساتهم التاريخية، فذلك مما يُعنى به دارس الفقه أو الشريعة أو علم الكلام، ولا يُعيره دارس التاريخ من عنايته إلاّ مقدار ما يخدم مقصوده.
وبعبارة أخرى: فأنا معنيٌّ برصد طريقة المصريين في ممارسة الدين بغض النظر عن مدى موافقة تلك الطريقة للإسلام المعياري أو مغايرتها لأصوله.
هذا الإطار العام تندرج تحته عدة موضوعات وقضايا جزئية؛ مثل: طبيعة التدين الرسمي الذي حرصت السلطة الحاكمة على تثبيته والدفاع عنه، وأنماط التدين المختلفة التي شهدها المجتمع كتدين الفقهاء وتدين الصوفية بالإضافة إلى التدين الشعبي، وما هي القواسم المشتركة بين تلك الأنماط؟ ومسألة التحول إلى الإسلام والارتداد عنه، وكيف تعامل المجتمع وتعاملت السلطة مع تلك المسألة الشائكة؟ ما يتعلق بحقيقة هيمنة المذهب الأشعري على الحياة الدينية في مصر والأبعاد التاريخية للصراع الأشعري/السلفي، وهو الصراع الذي تجدد حديثًا بين الأزهر حامل لواء الأشعرية في مصر ومجمل التيارات السلفية، وأثر الحداثة على الدين والتدين....إلى غير ذلك من قضايا وموضوعات آمل أن تسهم دراستها في تقديم فهم أعمق للظاهرة الدينية في مصر.
وأنا منشغل الآن بإعداد دراستين في هذا الجانب: الأولى: "تصوف الغُلاة بين السلطة والمجتمع في مصر المملوكية"، وقد فرغتُ منها، ولم يبق لنشرها سوى المراجعة الأخيرة.
والثانية: "أنماط التدين الشعبي في مصر الإسلامية كما تصورها كتبُ البدعة ومؤلفات النقد الاجتماعي" (مثل كتاب: الحوادث والبدع لأبي بكر الطرطوشي، وكتاب اللمع في الحوادث والبدع لإدريس بن بَيْدَكِين التركماني الحنفي، وكتاب المدخل لابن الحاج المالكي، وكتاب معيد النعم ومبيد النقم لتاج الدين السبكي).
الثاني: دراسة النظام السياسي الإسلامي في تمثلاته التاريخية:
كانت الأمة تختار الخليفة الذي يحكمها، فإذا بها بعد أربعة عقود فقط من وفاة النبي صلى الله عليه وسلم مُجبرة على الاعتراف به، دون أن يكون لها من الأمر شيء، وكان الخليفةُ يختار قادته العسكريين، فإذا به بعد ثلاثة قرون من عمر الإسلام مدين لسيوف أولئك القادة بالوصول إلى كرسي الخلافة، دون أن يكون له من الأمر شيء.
أعتقد أنّ هذه العبارة توجز طبيعة التحول الذي طرأ على نظام الحكم الإسلامي من نظامٍ قائمٍ على الشورى والاختيار إلى ملك جبري أو ملك عضوض.
إنّ موضوع النظام السياسي الإسلامي يعد أحد الموضوعات المهمة التي يتجدد الحديث حولها ولا يكاد ينقطع، وتتباين فيه الآراء ووجهات النظر إلى حد التناقض أحيانًا. ومردُّ ذلك إلى تنوع القراءات المطروحة حول ذلك النظام، وتدرجها من قراءة سلفية متشددة تتمسك بحرفية التطبيق التاريخي لمفاهيم السياسة الإسلامية لا تتحول عنها قيد أنملة، إلى قراءة علمانية غالية، تنكر ما للدين جملة وللإسلام خاصة من صلات وثيقة بتنظيم الدولة وشؤون المجتمع.
إنّ القراءة الأولى إذ دعت إلى قيام خلافة إسلامية، فإنّها لا تتصور لها شكلاً سوى ذلك الشكل الذي كانت عليه في العهود الإسلامية الباكرة بأسسه النظرية وأساليبه الإجرائية التي قنَّنها وصاغ أصولها النظرية فقهاؤنا الأقدمون كالماوردي وأبي يعلى الفراء والجويني وابن تيمية وابن القيم وغيرهم. ومن هنا، فإنّ أصحاب هذه القراءة يستدعون عند بيان تصورهم لنظام الحكم الإسلامي مصطلحات من طراز: البيعة وولاية العهد وأهل الحل والعقد... إلى غير ذلك من مصطلحات لم يعد لها في تقديرنا سوى قيمتها التاريخية، حيث يصبح التعويل عليها في بناء نظرية معاصرة للحكم الإسلامي خطأً محضًا لا يشفع للقائمين به حسنُ نواياهم.
ومكمن الخطورة في تلك القراءة أنّها لا تميز في كلام السادة الفقهاء بين ما صاغوه من أحكام تناسب عصرهم، وتدخل في باب الإجراءات الشكلية عادة (ثم أصبح تاريخًا غير ملزم لنا في شيء)، وما كان بيانًا لأحكام الوحي أو الشريعة التي يلتزم بها المسلمون في كل العصور، ويتعلق ذلك - غالبًا - بالمقاصد الكلية والقيم الدستورية العامة التي أقرها الإسلام؛ فهم بذلك يضفون (قوة إلزامية) على ما لا إلزام فيه، بل مبناه على السعة والاختيار والاجتهاد البشري المنظور فيه إلى مراعاة سنة التطور والتغيير. وهي المسألة التي أولاها الأستاذ عبد الجواد ياسين عناية فائقة في كتابه المهم الذي أفادني كثيرًا "السلطة في الإسلام: العقل الفقهي السلفي بين النص والتاريخ".
ومعنى ذلك أنّه لا بد من دراسة ذلك النظام الذي وُصِف بالإسلامي في تحققاته أو تمثلاته التاريخية على أرض الواقع؛ حتى يتبين لنا مقدار ما في هذا النظام من قواعد إلزامية مصدرها الوحي المعصوم، ومقدار ما فيه من تجارب البشر غير المعصومين، التي لا تلزم غير أصحابها.
خالد محمد عبده: هل تمتد دراستك للتدين ورصدك لحالاته، لتشمل دراسة المؤسسات الدينية الرسمية؟
د. أحمد محمود: كنتُ قد أشرتُ في إجابة سابقة إلى أنّه مما يشغلني في دراسة ظاهرة الدين والتدين، ذلك النمط من التدين الرسمي الذي تحرص الأنظمة الحاكمة على تكريسه والدفاع عنه، وهي تقوم بذلك عادةً من خلال ما يعرف بالمؤسسات الدينية الرسمية.
ولي تجربة حديثة تتعلق بالكتابة في هذا الجانب؛ حيث كتبت عن "المذهب السُّني والمؤسسات الدينية الرسمية في مصر"، ضمن تقرير الحالة الدينية الذي تعده مؤسسة مؤمنون بلا حدود.
فكتبتُ عن مذاهب الفقه الأربعة في مصر وناقشت أوضاع المتمذهبين (الشافعية - المالكية - الحنفية - الحنابلة)، وعرضت لما يمكن أن يسمى بخريطة المذاهب الفقهية في مصر وما طرأ عليها من تحولات من التاريخ الإسلامي المبكر إلى العصر الحديث، ونوَّهت بتأثير الحداثة والاتجاه إلى تقنين الشريعة على إضعاف سلطان التمذهب على المستوى الرسمي.
وكتبت كذلك عن "مؤسسة الأزهر الشريف" من حيث نشأتها وتطورها التاريخي ورصدت علاقتها بالسلطة منذ العصر الفاطمي إلى ثورة يناير 2011م. وناقشت كذلك: الوضعية القانونية للأزهر في العصر الحديث بين سنة 1872م إلى سنة 2012م، مع العناية بالقانون 103 لسنة 1961م الذي ما زال الأزهر يعمل وفقًا له حتى الآن، مع بعض التعديلات التي طرأت عليه وخاصة في أعقاب ثورة يناير. وتحدثت عن هيئات الأزهر وفقًا لذلك القانون. وسلطت الضوء كذلك على موقع الأزهر في دساتير مصر الحديثة (من دستور 1923م إلى دستور 2013م). وناقشت باستفاضة علاقة الأزهر بالسلطة في مصر منذ ثورة يوليو 1952م إلى ثورة يناير 2011، وقد تخلل ذلك حديث موسع عن موقف الأزهر من التيارات السلفية وجماعات الإسلام السياسي وعلى رأسها جماعة الإخوان المسلمين.
وكذلك، فقد كتبت عن "وزارة الأوقاف"، فتعرضت لمسألة الوقف بين الفقه والتاريخ، وناقشت مسألة إدارة السلطة للأوقاف وعلاقتها بالتدخل في شؤون المساجد، سواء في الدولة الإسلامية التقليدية أو في الدولة الحديثة، ونشأة وزارة الأوقاف وتطورها التاريخي والقوانين المنظِّمة لها، وعلاقتها بالسلطة الحاكمة في مصر خاصة بعد قيام ثورة يوليو، وعرفت بأشهر وزراء الأوقاف، وعرضت لدور وزارة الأوقاف في مصر من ثورة يناير 2011م إلى أحداث 30 يونيو 2013م، وشرحت علاقتها التصادمية بجماعة الإخوان المسلمين والتيار السلفي.
وأخيرًا، فقد كتبت عن "المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية" التابع لوزارة الأوقاف، فتحدثت عن نشأته وتاريخه، ومهامه وهيئاته وأهدافه ولجانه العلمية المتخصصة. كما ناقشت دور المجلس في الفترة بين ولاية الرئيس المعزول محمد مرسي (2012- 2013م) إلى أحداث 30 يونيو 2013م.
خالد محمد عبده: أشكركم دكتور أحمد على هذا الحوار المفيد، على أمل استكماله معكم مستقبلاً.