حوار مع الأستاذ والحقوقيّ نور الدين الفلاّح
فئة : حوارات
حوار مع الأستاذ والحقوقيّ نور الدين الفلاّح
حقوق الإنسان وفائض السياسة الغازية لكلّ مجالات الفعل المواطني
الأستاذ نور الدين الفلاّح يقدّم نفسه:
مدرّس سابق بكليّة الآداب والعلوم الإنسانيّة بصفاقس. متحصّل على شهادة الدكتوراه في اللّغة والآداب الفرنسيّة، وعضو سابق للهيئة المديرة للدفاع عن حقوق الإنسان لنيابتين متتاليتين، مكلّف بقسم البحوث والدراسات.
أنس الطريقي: نتحدّث عن حقوق الإنسان من زاوية نظر تهتمّ بالردّ الإسلامويّ عليها، وردّ الإسلام السياسي تحديدًا. من المعلوم أنّ الإسلام السياسي طوّر منظومة فكريّة سياسيّة دينيّة عارض بها منظومة الدولة الحديثة. وفي هذا السياق، كانت معارضته لمنظومة حقوق الإنسان. لننطلق في الاستدلال على ذلك بأبرز الممثلين لهذا التيار الذي يمثّل تقريبا ذروة تفاعل الإسلام السياسيّ مع حقوق الإنسان، زعيم حركة النهضة في تونس راشد الغنّوشي الذي خصّص بعض كتاباته لهذه المعارضة القصديّة لمنظومة الدولة، وتحديدًا لمنظومة حقوق الإنسان، ولاسيما في كتابه: مقاربات في العلمانية والمجتمع المدني (تونس، 2011)، وكتابه: الديمقراطيّة وحقوق الإنسان في الإسلام (الدار العربيّة للعلوم، 2012).
ما يقوله الغنّوشي (في المقاربة الثانية من مقاربات الكتاب الأوّل العشرة، وعنوانها حقوق الإنسان في الإسلام (ص25)) إنّ حقوق الإنسان أصيلة في الإسلام. أمّا منطلقها، فهو "اعتبار الإنسان مخلوقًا للّه" (مقاربات، ص27)، و"أنّ الدين والعقل والإنسان والكون كلّه مخلوق للّه" (مقاربات، ص27)، وإنّ هذه الحقوق تتأسّس في الإسلام "على عقيدة الإيمان باللّه واليوم الآخر، وما أنزل من عند اللّه من وحي" (مقاربات، ص31)، وإنّ هذه الحقوق اجتماعيّة وسياسيّة تستوجب على المسلم "بذل جهده في إقامة الدولة الإسلاميّة التي تتأسّس على عقد بين الجماعة والقائد، يلتزم بمقتضاه القائد بإنفاذ الشريعة تحت إشراف الأمّة... وإذا لم تلتزم الدولة بمقتضى هذا العقد، فلا سمع ولا طاعة؛ وذلك يجعل الدولة الإسلاميّة دولة قانون بامتياز؛ أي إنّ سلطان الشريعة يعلو سلطان الدولة" (مقاربات، ص33).
ويعلّق الغنوشي على الإعلانات العالمية لحقوق الإسلام بأنّ مبادئها تجد تحقيقها الأمثل في الإسلام، وأنّها "تمثّل تطوّرا مهمّا في اتجاه عالميّة الإسلام" (مقاربات، ص36)، ولكن المطلوب تطوير هذه الإعلانات بتصحيح دعواها بالعالمية، بينما هي قائمة على أسس فلسفية غربيّة عقلانية متحزبة لسلطة العقل، وهي تستغل لمحو خصوصيات الحضارات الأخرى، كما يجب تطويرها من جهة ثانية هي جهة مثاليتها وشكلانيتها، والسعي إلى تطبيقها على أرض الواقع، والتوقف عن استعمالها غربيا غطاء لاضطهاد التعددية الكونية والاعتراف بالآخر.
في هذا النموذج المقتطف تتجسّد المنطلقات الأساسيّة لتصوّراتهم عن حقوق الإنسان (تصوّرهم الدينيّ للكون ولحاكميّة اللّه)، ووسيلة تنفيذ هذه الحقوق (الدولة الإسلاميّة المطبّقة للشريعة)، ومضامين هذه الحقوق (الحقوق السياسيّة: الحرية والعدالة، وحقوق الأسرة...).
من أيّة واجهة، وأنتم الحقوقيّون تنقدون هذا التصوّر؟
نور الدين الفلاّح: جاءت منظومة حقوق الإنسان تتويجًا لمسارات حضاريّة متعاقبة عبر التاريخ البشريّ، ومحصّلة لنضالات الشعوب، وتعبيرا عن تقدّم الأمم ورقيّها. وهي بهذا المعنى، ليست مكسبا لأمم الغرب وحدها، بل هي اقتحام إنسانيّ لتطلّعات البشر جميعا إلى مزيد من الحريّة ومزيد من الإنصاف. وما الإعلان العالميّ لحقوق الإنسان في 10 ديسمبر 1948 إلاّ تجسيد لحرص الأمم على تحقيق مصائرها، وتصميم الشعوب على تكريس حقوقها المشروعة في الأمن والاستقرار، ولا يضير منظومة حقوق الإنسان أن تكون غربيّة المنشأ في شيء، ولا يصرفها هذا عن أن تكون فتحا عظيما للإنسانيّة جمعاء بما تعلن عنه من قيم سامية، طالما حلمت بها البشريّة عبر تاريخها الطويل.
أمّا بخصوص ردّ الفكر الإسلامويّ عموما، على منظومة حقوق الإنسان، وعلى غرار ما جاء في كتابات الشيخ راشد الغنّوشي التي يحيل عليها التاريخ، فظنّي أنّه ردّ يفتقد إلى الحجّة، ولا يصمد أمام الاستقراء التاريخيّ. ولتوضيح المسألة، أقترح تناول النقاط الثلاث التالية:
أوّلا: يطعن الشيخ الغنّوشي في مصداقيّة البعد الكونيّ لمنظومة حقوق الإنسان بحجّة أنّها نبتة غربيّة لا فعاليّة لها ولا تأثير خارج مجالها الحضاري المخصوص؛ وهو زعم يؤمن بالتغاير المطلق بين الثقافات وعن تأثّر بعضها ببعض في الوقت، بينما ينبئنا التاريخ بتواصل الشعوب مع ما ينشأ عن هذا التواصل من امتزاج بين الثقافات المختلفة. ومن نافل القول إنّ الثقافة الإسلاميّة عرفت هي الأخرى هذا التواصل، وهذا الامتزاج، بما أثرى الحضارة العربيّة الإسلاميّة في عصورها الذهبيّة. فلا قطيعة إذن بين الثقافات والحضارات؛ فالتاريخ من بعض وجوهه عمليّة تركيم متواصل لإنجازات الحضارة الإنسانيّة. وكونيّة حقوق الإنسان تنبع من كونها انبثقت في زمن تكاثفت فيه العلاقات بين الأمم، وتقلّصت فيه المساحات بين الشعوب، وتولّدت فيه الحاجة إلى عهد دوليّ ينظّم العلاقات بين الأمم، بما يضمن أمنها واستقرارها، ويشيع بينها التضامن والسلام.
ولئن كان الغرب هو الحقل الذي استنبتت فيه منظومة حقوق الإنسان لأسباب تاريخيّة معلومة، فإنّ هذه المنظومة قادرة بما تشتمل عليه من قيم إنسانيّة عظيمة أن تنفتح على أرجاء كوننا الفسيح. أمّا ما يتذرّع به عتاة الإسلامويّين من خصوصيّة حضاريّة كافرة بالغير، فلا يعدو أن يكون ذلك حسب ظنّي انكفاء مهووسا على الذات. وما هذا الخطاب الغنائيّ الذي تعجّ به أدبيّات الفكر الإسلامويّ عن الخصوصيّة الحضارية، إلاّ ورقة ابتدعها هذا الفكر لرجم منظومة حقوق الإنسان وتشديد التكبّر عليها.
ثانيا: أمّا بخصوص ما يسمّيه الشيخ راشد الغنّوشي بـ "إنفاذ الشريعة"، وما يقرّره من أنّ "سلطان الشريعة يعلو سلطان الدولة"؛ فهذه مقولات اجتهاديّة غير صائبة من حيث إنّها لا تقيم وزنا لتاريخيّة الشريعة، وأنّها مختلفة ومستقلّة ولاحقة تاريخيّا لرسالة القرآن. فهذه صنو للنصّ القرآنيّ، بل هي اجتهاد فقهيّ بشريّ مع ما يحفّ بهذا الاجتهاد من ظروف التاريخ ومقتضيات المجتمع الإسلاميّ في طور محدّد من أطواره. ولا يجوز أن نحوّل بحمولاتها التاريخيّة النسبيّة إلى مطلق سرمديّ صالح لكلّ زمان ومكان؛ فلكلّ عصر حقّ في الاجتهاد والتأويل في ضوء المعارف الجديدة التي يأتي بها كلّ عصر جديد.
لذلك كلّه، يصبح الإقرار بالعلويّة المطلقة للشريعة إبطالا تعسّفيّا للاجتهاد وتعطيلا اعتباطيّا لتأويل النصّ القرآنيّ، وفكّ رموزه واستكناه معانيه العميقة. وفي هذا السياق، تصبح علويّة الشريعة على الدولة مغالطة منطقيّة تعود بنا إلى مسألة قديمة متجدّدة، ونعني علاقة التلازم المزعوم بين السلطة الدينيّة والسلطة السياسيّة في الإسلام. ولنكتف هنا باستحضار الموقف الذي وقفه الشيخ علي عبد الرّازق من هذه المسألة في كتابه "الإسلام وأصول الحكم" الذي كتبه عام 1925 مثيرا ضجّة فكريّة ما تزال أصداؤها مستمرّة حتّى يومنا هذا. ينتهي الشيخ المجتهد بعد استقراء عميق ونقديّ لمنظومة الشريعة الإسلاميّة، وباستشهاد تأويليّ من صريح القرآن إلى أنّ الإسلام لم يترك نظريّة محدّدة المعالم في الحكم، وأنّ نظام الاستخلاف اجتهاد بشريّ ونظام حكم زمنيّ اختاره أولو الأمر لتسيير شؤون ملكهم.
وقد كان هذا الكتاب فتحا معرفيّا خطيرا واجتهادا فكريّا ملهما جديرا بأن يفتح الباب فسيحا أمام بلورة علمانيّة إسلاميّة لو لم تقف السلطات الدينيّة التقليديّة في وجه الشيخ المجتهد؛ فعزلته من منصبه وجرّدته من ألقابه العلميّة مبخّسة علمه ومزدرية عقيدته، يعاضدها في ذلك جور سلطان يتكئ على المؤسّسة الدينيّة لتدعيم شرعيّة حكمه المطلق.
وأعتقد أنّ ما يحرص عليه الشيخ راشد الغنّوشي، وسائر المنظّرين للدولة الإسلاميّة من علويّة للشريعة لا يعدو أن يكون امتدادا لموقف السلطات الدينيّة التقليديّة، وتكريسا على الصعيد السياسيّ لمبدأ تلازم السلطة الدينيّة والسلطة السياسيّة.
ثالثا: أمّا في ما يتعلّق بما يعتبره الغنّوشي "محوا لخصوصيّات الحضارات الأخرى" و"اضطهاد التعدّديّة الكونيّة والاعتراف بالآخر"، فإنّها مقولات لا تحطّ من القيمة الاعتباريّة لحقوق الإنسان؛ ذلك أنّ البون شاسع بين منظومة حقوق الإنسان ومعاييرها ولوحة قيمها، وبين ما تتعمّده بعض الدوائر الغربيّة من توظيف حقوق الإنسان لشرعنة ما تقوم به من تعسّف على الشعوب والأمم وحتّى الأفراد. فهذا يقيم الدليل على فساد سياساتها وبشاعة مشاريعها وخلوّها من كلّ قيمة إنسانيّة سامية. فلا يجوز تحت أيّ شعار أن نتّخذ من السلوكيات الجائرة لبعض الدول مدخلا للطعن في صدقيّة منظومة حقوق الإنسان وصلاحيّتها في استقرار الأمم، وتجسيد مبدأ الأخوّة الإنسانيّة والتضامن بين الشعوب. فهذه الفجوة بين النظريّة والتطبيق، وحده التاريخ البشريّ هو القادر على ردمها، غير أنّ مبادئ حقوق الإنسان ستظلّ في التحليل الأخير المحرار الذي نقيس به تقدّم الأمم ورقيّها وتجاوزها للبربريّة الكامنة في عمق التاريخ. أمن المعقول مثلا أن نطعن في قيمة رسالة الإسلام بمجرّد أنّ جماعة متوحّشة تقترف أبشع الجرائم وأكثرها بربريّة باسمه؟
أنس الطريقي: من نقاط الاحتجاج الإسلامويّ على حقوق الإنسان أنّها بنيت على خلفيّة فلسفيّة متمركزة حول الإنسان بدل اللّه، عبّرت عنها فلسفة الذات وذروتها كانط، ولهذا بنيت هذه الحقوق على أساس تعريف الإنسان الأصلي. نحن نعلم أنّ تعريف الإنسان كان عرضة لتغيير مستمرّ منذ الأصول اليونانية لهذا الفكر الغربيّ، وصولا إلى نهاياته الحاليّة؛ أي من تعريف أرسطو للإنسان حيوانا سياسيّا/ ناطقا/ عاقلا، إلى تعريف بول ريكور بأنّه حيوان تأويليّ، هذا مرورا بديكارت، وكانط، وهيدغير، وغيرهم. هذا التغيير المستمر في تعريف الإنسان يمكّن الإسلامويّ من حجّة يدافع بها على شرعيّة قوله بأنّه علينا أن نبني حقوق الإنسان على تعريف آخر للإنسان يعرّفه بأنّه كائن دينيّ ومسلم تحديدا. ما هو ردّكم على هذا التفكير؟
نور الدين الفلاّح: لا أعتقد أنّ "التغيير المستمرّ في تعريف الإنسان" يعطي الحجّة لمن يريد أن يختزل هويّة الإنسان حصرا في سمة من سماته المتعدّدة. فالإنسان كائن مركّب، وكلّ محاولة لاجتراح تعريف حاسم ونهائيّ للإنسان يفضي إلى إفقار كينونته واختزال هويّته. والحال أنّ كلّ التعريفات التي استبطنها فلاسفة الغرب، والتي أشار إليها السؤال تدلّ على ثراء الذات الإنسانيّة وتعدّد مقوّماتها.
ولذلك، فإنّ تعريف الإنسان حصريّا بأنّه "كائن دينيّ ومسلم تحديدا" ينمّ عن انحياز ثقافي إيديولوجيّ ضيّق الأفق ولا يتّسع ليشمل بقيّة البشر على اختلاف ثقافاتهم ودياناتهم، فضلا عن أنّه لا يمكن، بل يستحيل أن نعتمده أساسا لبناء حقوق إنسان ذات طابع كونيّ. لا مناص هنا من الإشارة إلى أنّ الإنسان الذي تستهدفه حقوق الإنسان وتراهن على قابليّته لاستيعاب هذه الحقوق والسعي إلى تنميتها، هو ذلك الإنسان التاريخيّ المنخرط في تصوّر إيطيقي أسهمت أطوار التاريخ الإنسانيّ في صياغته وإشاعته بين النّاس جميعا، مهما اختلفت أجناسهم وتباينت عقائدهم. ويقوم هذا التصوّر الإيطيقي على قيم مشتركة تعتبر محصّلة نضالات البشر جميعا ضدّ الاستبداد والاستعباد والظلم. هذه القيم أصبحت منذ القرن الثامن عشر، وبفضل رواج الثقافة الجديدة التي بشّر بها عصر الأنوار مطلبا إنسانيّا مشتركا؛ وأعني تحديدا قيم الحريّة والكرامة والعدل. وليس ذلك يعني أنّ هذه القيم لم تكن حاضرة في وجدان الإنسان ووعيه على مرّ العصور، بيد أنّ الذي نحرص على تأكيده هنا هو أنّ سياق الحداثة الغربيّة قد أسهم إسهاما فعّالاً في تركيب هذه القيم وتحويلها إلى نموذج إيطيقيّ سائد مكّن إنسان الأنوار الجديد من تخطّي ما يسمّيه الفيلسوف الألماني إيمانوال كانط "القصور الإنسانيّ". وأغلب الظنّ أنّ هذه النمط الإيطيقي الجديد، سيحدّد انطلاقا من أزمنتنا الحديثة مستقبل الإنسانيّة ومصيرها.
أنس الطريقي: المعلوم أنّ هناك أجيالا لحقوق الإنسان (جيل أوّل ليبرالي مع إعلان الاستقلال الأمريكيّ 1776، وإعلان الثورة الفرنسية 1789، وجيل ثان أدرجت فيه الطلبات الاشتراكيّة الاجتماعيّة، وجيل ثالث أدرج الحقوق الثقافيّة للأقليّات، وجيل رابع مع الجدل النيوليبرالي والجماعاتي)، رغم أنّ طلبات الجيلين الثالث والرابع غير مدوّنة في إعلانات ومواثيق. استنادا إلى تاريخيّة مضمون حقوق الإنسان، هل المطلوب أن ندفع الإسلامويّين إلى الاندراج في ثقافة حقوق الإنسان، أم إنّه علينا أن ندرج طلباتهم ضمن حقوق الإنسان؛ أي أن نراجع هذه الحقوق لتحوي طلباتهم بإعادة السحر للعالم ضدّ أطروحة نزع السحر عن العالم التي رفضها فلاسفة ما بعد الحداثة، أمثال شارل تايلور؟
نور الدين الفلاّح: من المفيد برأيي أن نقف قليلا عند مفهوم "تاريخيّة مضمون حقوق الإنسان" الذي أشار إليه السؤال، لنؤكّد أنّ هذه التاريخيّة لا تبخّس القيمة الاعتباريّة لمضمون حقوق الإنسان الذي ما فتئ يتطوّر عبر الأجيال المتعاقبة، بل تشي بالإماكانات المتاحة لتوسيع مساحات حقوق الإنسان، وإثراء مضامينها وتطوير التشريعات الضامنة لحمايتها (حقوق الطفل أو الحقّ في بيئة متوازنة، إلخ..).
أمّا بخصوص السلوك الواجب اتّخاذه بشأن تشريك الإسلامويّين في استيعاب ثقافة حقوق الإنسان وتمثّلها؛ فالمسألة تحتاج إلى حوار جديّ وتفاوض صريح ونزيه وهادئ حول مفاهيم ملتبسة ومعايير تحتاج إلى مزيد من التدقيق وقناعات مثيرة للجدل. هب أنّك -مثلا- أثرت مع إسلامويّ مسألة العلمانيّة، ففي الغالب الأعمّ سيواجهك إن هو تمسّك بقناعاته الإسلامويّة بأنّ العلمانيّة فكرة برّانيّة تزدري الدين. وعبثا تحاول أن تبدّد الأفكار المسبّقة التي تملأ ذهنه حول العلمانيّة، وكثيرا ما يتحوّل الحوار بينك وبينه إلى حوار طرشان؛ ذلك أنّ المسكوت عنه في مثل هذه المطارحات هو التزام الإسلامويّ بضرورة أسلمة المفاهيم وتطويعها لمقتضيات عقيدته الخاصّة وثقافته الأصليّة. ومهما يكن من أمر، وأيّا ما كان منسوب التوافق بيننا وبين الإسلامويّين، فلا نملك إلاّ أن "ندفعهم إلى الاندراج في ثقافة حقوق الإنسان"، وهو الحدّ الأدنى الضروريّ لبناء شراكة حقيقيّة قوامها الالتزام بمبادئ حقوق الإنسان وقيمها النبيلة. ولا نرى حاجة إلى "أن نراجع هذه الحقوق لتحوي طلبات الإسلامويّين" لسبب بسيط هو أنّ منظومة حقوق الإنسان تستمدّ كونيّتها من قدرتها على تخطّي الخصوصيّات نحو أفق الإنسانيّة الرّحب. بقي أن نقرّ بأنّ نزع السحر عن العالم في ظلّ الإيمانيّة الوضعانيّة التي أنتجتها الحضارة التقنويّة القائمة على الإنتاج بغير حدود قد تسبّبت في تفقير روح الحداثة وجرفت القيم الرّاقية التي بشّرت بها. لكنّ الخسارة على فداحتها ليست نهائيّة، إذ ما لبثت أن التقطت الحداثة أنفاسها بعد الانزلاقات التي تردّت فيها، وقامت بنقدها الذاتي على أيدي فلاسفة المدرسة النّقديّة الألمانيّة أمثال ماكس هوركهايمر، ويتودور أدرنو، وإيريك فروم، وهربرت ماركوز، وغيرهم.
وقد حاول هؤلاء الفلاسفة العظام أن يعيدوا لروح الحداثة بريقها وللعالم الحديث سحره المفقود. ولعلّ ما ندعوه اليوم بما بعد الحداثة ليس سوى حداثة مستأنفة بعد أن استطاعت بتشغيلها للوظيفة النقديّة التي انبنت عليها زمن التدشين، أن تصحّح مسارها.
أنس الطريقي: متى تتبعنا تاريخ حقوق الإنسان في الغرب، وجدنا أنّ أحد مصادرها المصدر الدينيّ المسيحيّ التي كانت وراء نشوء فكرة الحقّ الذاتي (le droit subjectif). هذه الفكرة التي انقلبت على أصلها المسيحي باسم حريّة الضمير والاستقلال الفرديّ، ووصل معناها إلى معنى حريّة البحث عن الحقيقة، وفكرة حريّة كلّ فرد في أن يبحث عن طريقة الحياة الجيّدة. هل يمكن حسب رأيكم أن ننجز مثل هذا التطوير أو التحيين في الإسلام؟
نور الدين الفلاّح: أن يكون "أحد مصادر" حقوق الإنسان في الغرب "المصدر الدينيّ المسيحيّ"، فلا غرابة في ذلك إذا استحضرنا أنّ اللّحظة التي تماهي فيها الدين مع حقوق الإنسان هي لحظة لاحقة للإصلاح الدينيّ الذي قام به الغرب المسيحيّ ممهّدا لانبثاق الحداثة من رحم الثورة الدينيّة التي أعلنها المصلح الألمانيّ مارتن لوثر. وقد أبرز عالم الاجتماع ماكس فيبر في كتابه "إيطيقا البروتستانت وروح الرأسماليّة" العلاقة الوطيدة التي نسجها التاريخ الحديث بين المنظومة الدينيّة البروتستانتيّة، وبين نمط الإنتاج الرأسمالي في طور نشأته. ولا يخفى ما قامت به الرأسماليّة من تهيئة الظروف لظهور الحداثة، وسطوع أنوارها المبشّرة بعالم جديد استطاع فيه الفرد أن يتحرّر من ربقة الاستعباد، ويستعيد كرامته وينافح بصوت جهير عن حقوقه المشروعة كما جرى إبّان الثورة الفرنسيّة.
هل في وسعنا "أن ننجز مثل هذا التطوير أو التحيين في الإسلام؟". إذا صحّ عزمنا وتعلّقت همّتنا باللّحاق بركب الحضارة والتقدّم؛ فلا بدّ أن نبادر على غرار ما حصل في الغرب بإصلاح ديننا. وهذا يقتضي قراءة جديدة لموروثنا الحضاري بروح نقديّة، وفي ضوء العلوم والمعارف الجديدة. ولا بدّ من أجل هذا، أن نفتح باب الاجتهاد في الدين على مصراعيه، ونكفّ نهائيّا عن ملاحقة علمائنا المتنوّرين واضطهادهم، ونشيع حبّ المعرفة في نفوس الناشئة. ولعلّ ما يقوم به بعض "مفكّري الإسلام الجدد" كما يحلو للباحث المغربيّ رشيد بن زين أن يدعوهم، العرب منهم وغير العرب من الإيرانيّين ومسلمي المهاجر الغربيّة من اجتهادات مستنيرة، مؤذن بحركة إصلاحيّة دينيّة جديدة وواعدة تستأنف ما بدأه روّاد النهضة أمثال الشيخ محمّد عبده وعبد الرحمان الكواكبيّ وقاسم أمين والشيخ علي عبد الرّازق وعميد الأدب العربيّ طه حسين ومحمود عبّاس العقّاد، وغيرهم.
بدون هذه الاجتهادات الجريئة والعميقة المتصالحة مع روح العصر ومع منجزات الحضارة الكونيّة الجديدة لا أمل لنا في تحقيق مطالب "التطوير والتحيين في الإسلام" الذي يحيل عليه الإسلام.
أنس الطريقي: الإشكال الذي يواجه المجتمعات الإسلاميّة الرّاهنة، ونقصد تحديدا ما كان منها يخوض تجربة انتقال ديمقراطيّ، وتحديدا تونس، هو هذا التعارض في حقوق الإنسان بين فردانيّتها، بما أنّ مصدر الحقّ هو الفرد، وجماعيّتها بما أنّ مصدر الحق في الديمقراطيّة هو الإرادة العامّة أو السيادة الشعبيّة. في ظلّ تشتّت هذه الإرادة بين الإسلامويّين والعلمانيّين، يبدو من الصعب تحقيق الاتفاق حول محتوى هذه الحقوق، وتجسيده في مستوى القوانين التي تحمي هذه الحقوق. حريّة الضمير مثلا هي عرضة لتضييقات قانونيّة، كالحق في إفطار شهر رمضان، أو حقّ الهويّة الجنسيّة، أو الحقّ في اللّباس. وربّما تزداد المسألة تعقيدا بالتنصيص الدستوري على إسلاميّة الدولة في الفصل الأوّل من الدستور التونسي الذي لا يجوز تعديله، ما تعليقكم على الموضوع؟
نور الدين الفلاّح: أعتقد أنّ إسلاميّة الدولة المنصوص عليها في الفصل الأوّل من الدستور التونسي الجديد، والتي جاءت صياغة حرفيّة لمنطوق الفصل نفسه من دستور 1959 القديم، لا تحيل على طبيعة السلطة السياسيّة. فليست تونس بهذا المعنى جمهوريّة إسلاميّة تيوقراطيّة على غرار جمهوريّة إيران المعاصرة مثلا. إنّ إسلاميّة الدولة تحيل في ظنّي على هويّة الشعب الثقافيّة. فالإسلام هنا مثله مثل اللّغة العربيّة، رافد من الروافد المؤسّسة لثقافة الشعب السائدة. أمّا عن تعديل هذا الفصل بقصد رفع اللّبس في عبارة "الإسلام دينها" الواردة في الدستور، فإنّ المسألة مرتبطة بتطوّر الجدل القائم حولها بين الفريقين المتخاصمين؛ وأعني الإسلاميّين والعلمانيّين. صحيح ما يشير إليه السؤال من صعوبة حصول اتّفاق بين الخصمين، سواء بخصوص المسألة المذكورة آنفا أو بشأن "حقوق الإنسان".
ويزداد الأمر تعقيدا هنا، إذا استحضرنا ضرورة التوافق على مضامين هذه الحقوق وعلويّة مقامها وتجاوزها للثقافات المحليّة والتزامها الحصري بالمواثيق الدوليّة والشرعيات الكونيّة.
لذلك يحرص الإسلامويّون حرصا شديدا على ضرورة مراعاة الخصوصيّات الثقافيّة عند صياغة حقوق الإنسان متذرّعين بنسبيّة ثقافات الأمم وعدم ملاءمتها لمطلقات التشريع الكوني لحقوق الإنسان. وكثيرا ما تمتنع أو تتحفّظ بعض الدول ذات النزعة الإسلامويّة على العهود العالميّة بسبب ما تعتقد أنّه يتعارض مع شرائع مجتمعاتها وعقائدها.
أمّا على الصعيد المحلّي، ورغم المشترك الثقافي للمجموعة الوطنيّة، فكثيرا ما يحصل أن تتّسع الفجوة بين الأخذ بحقوق الإنسان وعدم الالتزام بمستلزمات تطبيقها. والمثال الذي يسوقه السؤال خير مثال على صعوبة تطبيق بعض الحقوق المكفولة بحكم الدستور، غير أنّها تتسبّب في احتقان المجتمع وتوتّر العلاقات بين المواطنين. وأعني هنا حريّة الضمير المنصوص عليها في الدستور، والتي مازالت تثير عند التطبيق جدلا سرعان ما يتحوّل إلى احتقان وعنف أحيانا، كما يجري مع "حقّ الإفطار في شهر رمضان" مثلا. ولا بدّ برأيي لكي نتجاوز هذه الفجوة بين النظريّة والتطبيق، أن نشيع روح التفاهم بين المواطنين وحسن إدارة الاختلاف بينهم ونبذ العنف واتّقاء الفتنة.
أنس الطريقي: مسألة الجدل بين الكونيّة والخصوصيّة تمثّل ربّما أهمّ الإشكالات التي تطرح على ثقافة حقوق الإنسان، ومنذ النقد الماركسي للجيل الأوّل لحقوق الإنسان (إدانة فردانيّتها، واعتبارها خادمة لإيديولوجيا رأسماليّة ومفتّتة للتضامنات الجماعيّة، ونازعة للسحر عن العالم) وصولا إلى نقد هابرماس وتايلور في إطار نقدهم للحداثة، تمثّل هذه الإشكاليّة أبرز إشكاليّات حقوق الإنسان بين القائلين بقيم كونيّة (les universalistes) والقائلين بنسبيّة القيم (les relativistes). كيف تفكّرون في هذه المسألة؟ أو في حلّها؟
نور الدين الفلاّح: المركيز دي كوندورسيه الفرنسيّ، وإيمانوال كانط الألماني كانا رائدين في استشراف النزعة الكونيّة لتاريخ الإنسانيّة الحديث. وقد جاء التاريخ المعاصر ليؤكّد صحّة رأيهما. وكنّا قد ألمحنا في معرض حديثنا السابق عن فتوحات الحداثة إلى ما أسميناه النموذج/ البرادايم الإيطيقي الجديد، باعتباره محصّلة نضالات الشعوب والأمم من أجل الحريّة والكرامة والعدل.
هذه الفكرة الثوريّة الإيطيقية التي بلور فلاسفة الأنوار مضامينه الكبرى، وحدّد كانط أفقها الكونيّ أنتجت دورة حضاريّة جديدة منفتحة على عموم البشر دون تمييز إثني أو ثقافي أو عقائديّ.
ويبدو لي أنّ هذه الإنسيّة الكونيّة الجديدة هي وحدها القادرة على تخطّي الخصوصيّات الثقافيّة ونسبيّة القيم من أجل صياغة منظومة لحقوق الإنسان تتّسع لعموم البشر. ولست أرى أيّ تناقض في أن يزاول المرء تجربة الوجود من خلال الثقافة الخاصّة التي نشأ في كنفها، وأن ينفتح في الآن نفسه على المشترك الكونيّ. هذه الجدليّة بين ما هو خاصّ، وما هو عامّ، تبدو لي محايثة لوجودنا الإنسانيّ وعلامة إضافيّة على أنّ الإنسان كائن مركّب لا يجوز اختزاله في بعد من أبعاده دون غيره.
أنس الطريقي: يورغن هابرماس يتحدّث في سياق تفكيره في إشكاليّة الخصوصيّة والكونيّة عن الحلّ التواصليّ، يقترح الانتقال إلى عقلانيّة تواصليّة حواريّة (dialogique). الحوار في هذا التصوّر، يوسّع أفق الخصوصيّة ويفتحه على الكونيّة بما أنّه يطعّم أفكار المتحاورين المتعارضين، ويجعلهم يدخلون في منطق تفكير ينطلق من مطلب تأسيس التعايش. ما رأيكم في هذا الحلّ؟ وهل يمكن أن تكون وسائط التواصل الرقميّة الجديدة أدوات تسهم في تكريس هذه العقلانيّة الحواريّة التواصليّة؟
نور الدين الفلاّح: إنّ العقلانيّة الحواريّة التواصليّة التي يقترحها وريث المدرسة النقديّة هابرماس لتسوية النزاع أو الخصومة (le differend) بين المواطنين تبدو لي الحلّ الممكن والأمثل لنزع فتيل الاحتراب المعلن والمضمر لصراع "الهويّات القاتلة" التي نبّهنا الروائيّ اللّبنانيّ أمين معلوف إلى خطورته على السلام العالميّ. يبدو أنّ الاجتماع الإنسانيّ واقعة من المستحيل تجاهلها أو إنكارها. وأغلب الظنّ أنّ الناس خلقوا ليعيشوا معا وليتقاسموا محن الوجود ومسرّاته. لذلك كلّه، تضحى العقلانيّة الحواريّة ضروريّة لضمان استمراريّة الاجتماع الإنسانيّ واستقراره. وبدونها، يفقد المجتمع توازنه ويصبح فريسة سهلة للتفكّك وربّما للانقراض.
لكن كيف تتمّ إدارة هذا الحوار العامّ؟ وما هي شروطه ورهاناته؟ وأيّة أنظمة تيسّره؟ وأيّها يعطّله ويمنعه؟
هذه أسئلة قد يضيق المجال للإجابة عنها، لكنّنا نكتفي بالإشارة إلى أنّ هابرماس في دعوته إلى بناء عقلانيّة حواريّة تواصليّة، لاشكّ في أنّه انطلق من معاينة تجربة ألمانيا في طورين من أطوار تاريخها الحديث: طور الشموليّة النازيّة، وطور الديمقراطيّة بعد سقوط النازيّة. لاشكّ في أنّ هابرماس كان مدركا تمام الإدراك أنّ شموليّة النظام النازيّ انبنت تحديدا على إبطال الحوار وإسكات كلّ صوت يغرّد خارج السرب كما يقال.
يتّضح إذن أنّ دعوة الفيلسوف تحيل على النظم الديمقراطيّة المؤمنة بأنّ العيش المشترك يستوجب الحوار بين المواطنين حول مشاغل حياتهم وهموم مستقبلهم. إنّ التفاوض العام الذي يدعونا إليه هابرماس هو بالتأكيد جوهر الديمقراطيّة والضمان الوحيد لتطوّرها واستمرارها.
ويبقى سؤال لا بدّ من إثارته: إلى أيّ مدى تستطيع مجتمعاتنا (مجتمعات الجنوب) بما يعرف عنها من تخلّف وقهر واستبداد، أن تتجشّم مقتضيات الحوار الذي يدعونا إليه هابرماس؟
أعتقد أنّ مجتمعات الجنوب، وهي الآن تبحث عن المداخل المتاحة لبناء الديمقراطيّة يمكنها متى وجدت إلى ذلك سبيلا أن تتبنّى العقلانيّة الحواريّة وتراهن عليها في إدارة الاختلاف بين الأقطاب الاجتماعيّة المتنازعة. فالذهنيّة الحواريّة هي خميرة الديمقراطيّة. وخير لمجتمعاتنا أن تتربّى على ثقافة الديمقراطيّة وحقوق الإنسان، بعيدا عن السجاليّة العقيمة. أمّا بخصوص وسائل التواصل الاجتماعيّ الجديدة، فإنّ فضلها في ما أظنّ عظيم في تنمية العقلانيّة النقديّة؛ وذلك بتعويد المواطنين على النقاش العموميّ، وتشجيعهم على اقتراح التصوّرات وتدريبهم على بناء المواقف وبلورة الآراء وتدعيمها بحصيف الحجج.
أنس الطريقي: ثمّة نقد واسع لحقوق الإنسان راهنا، هي تتّهم بأنّها إيديولوجيا تمثّل غطاء لانتهاكات ضخمة تقترف من قبل القوى العالميّة أوروبا، ثمّ الولايات المتّحدة الأمريكيّة في حقّ الشعوب والدول، فمن هذا المنظور يمكن وصف الحروب الأمريكية التي تجري تحت غطاء أمميّ في كلّ العالم، ولا سيما في منطقة الشرق الأوسط تحت شعار الدمقرطة، بينما هي في الواقع حروب إعادة تقسيم للمنطقة بأهداف اقتصادية وإمبرياليّة، هذا ما يقوله مثلا ميشال أونفري. ما تعليقكم؟
نور الدين الفلاّح: لقد ذكرنا في أكثر من موضع من هذا الحديث، أنّ منظومة حقوق الإنسان جاءت ثمرة لنضالات قامت بها الشعوب عبر التاريخ القديم والجديد لتخليص الإنسان من الأغلال والقيود، وهي لهذا السبب تعدّ مكسبا إنسانيّا ثمينا يستوجب منّا أن نقف بالمرصاد ضدّ كلّ المحاولات الخبيثة لتحويله إلى إيديولوجيا رخيصة للتسلّط على الأمم والشعوب.
صحيح أنّ سياسات الولايات المتّحدة الأمريكيّة في الشرق الأوسط ومساندتها غير المشروطة للمشروع الصهيونيّ على حساب حقوق الشعب الفلسطينيّ المشروعة قد زهّد الناس في قيمة حقوق الإنسان، وأزرى بمصداقيّتها. ولا شكّ في أنّ هذا السلوك المشين المخلّ بإيطيقا حقوق الإنسان قد أربك الرّأي العام العالميّ، وما موقف ميشال أونفري وغيره إلاّ تعبير عن سخط لا شكّ في صدق نبرته، لكنّني لا أراه كافيا لإقناعنا بهزال فكرة حقوق الإنسان، واعتبارها مجرّد إيديولوجيا قائمة على المغالطة.
إنّ أيّة فكرة نيّرة يجود بها التاريخ الإنسانيّ عادة تكون راقية في مقاصدها ونبيلة في رهاناتها، غير أنّ توظيفها لتحقيق غايات غير شريفة احتمال وارد جدّا. لكن لا يجوز مع ذلك، الطعن في قيمة الفكرة وجدواها بسبب أنّها استخدمت على غير وجهها الصحيح أو وظّفت توظيفا سيّئا وخبيثا. لا تقع مسؤوليّة الإخلال هنا على الفكرة، بل على عاتق من قام عن مكر ودهاء باستخدامها ماكيافيليّا من أجل تحقيق مآرب في الغالب الأعمّ إجراميّة.
فالأحرى أن نجرّم الولايات المتّحدة على صنيعها، لا أن نسارع إلى تأثيم حقوق الإنسان ونحمّلها ظلما أوزار المذنب الحقيقيّ الذي تعمّد التخفّي وراء شعار حقوق الإنسان.
كلمة حرّة:
نور الدين الفلاّح: أودّ أن أخصّص كلمتي الحرّة هذه، للحديث عن الصعوبات والعراقيل التي يلقاها نشطاء حقوق الإنسان انطلاقا من التجربة التونسيّة بصفتي عضوا بالهيئة المديرة للرابطة التونسيّة للدفاع عن حقوق الإنسان لنيابتين متتاليتين تمكّنت من خلالهما الوقوف على أهمّ المخاطر التي يخشى معها أن تخسر هذه المنظّمة قيمتها الاعتباريّة، وتنحرف عن المبادئ والغايات التي أنشئت من أجلها. وليس في نيّتي أن أبخّس الدور العظيم الذي قامت به هذه المنظّمة في الذود عن الحقوق الفرديّة والعامّة للمواطن التونسيّ، ولا أن أشكّك في عراقتها وإشعاعها.
كلّ ما في الأمر هو أنّني أسوق هذا الحديث الصريح بدافع حرصي على صيانة هذا المكسب من شتّى الانتكاسات التي تتهدّده، إذا لم نسارع إلى تصويب الأخطاء والتوقّي من الانحرافات التي تعتري أداء النشطاء وسلوكياتهم داخل الحقل الذي يشتغلون فيه.
وأحبّ قبل ذلك، أن أبدأ بالحديث عن المخاطر التي تتهدّد استقلاليّة الرّابطة والمتمثّلة في المحاولات التي قامت بها السلطة الحاكمة السابقة للثورة، لتدجين الرّابطة منذ تأسيسها وجعلها تحت وصايتها. فقد أقحمت مناصريها ومناضليها في عضويّة هيئة الرابطة التأسيسيّة، وسمحت لغيرها من تنظيمات المعارضة بالمشاركة في تأسيس الهيئة على قاعدة المحاصصة فحوّلت الهيئة إلى فسيفساء أحزاب. هذه الصيغة التي انبنت عليها الرّابطة، جعلها منذ المنطلق ساحة للاحتراب الحزبيّ من أجل الهيمنة. ولا يخفى ما في عمليّة التحزيب هذه من خطر يمسّ من استقلاليّة الرّابطة خصوصا في غياب رافد مستقلّ ووازن داخل الهيئة قادر على أن يحدّ من نزعة الهيمنة الحزبيّة السياسيّة.
رغم هذا التدخّل الوصائيّ السافر من قبل السلطة الحاكمة في الشأن الرّابطي الحقوقيّ، استطاعت المنظّمة بفضل نضاليّة أعضائها أن تتّخذ موقف النقد والشجب والاحتجاج على تجاوزات السلطة الحاكمة، وكثيرا ما ساءت لهذا السبب العلاقة بين السلطة والرّابطة. وقد وصل التوتّر أحيانا إلى القطيعة، فعمدت السلطة حينذاك لتكوين منظّمة حقوقيّة شبحيّة وبغير تمثيليّة حقيقيّة لمزاحمة الرّابطة وهزّ شرعيّتها وتهديد وجودها.
وحين كانت مناورات السلطة تفشل بفضل صمود مناضلي الرابطة ووقوف الرّأي العام السياسيّ والمدنيّ إلى جانبهم، كانت السلطة تغيّر السيناريو، فتعمد كما حصل في بداية التسعينيات من القرن الماضي إلى احتواء الرّابطة بسنّ تنقيح جائر في قانون الجمعيّات يهدف إلى تصنيفها "جمعيّة" ذات صبغة عامّة حتّى يتسنّى تحويل تركيبتها من حيث عدد المنخرطين فتعود تحت سيطرة السلطة بالكامل.
هذان مثالان من جملة أمثلة أخرى كثيرة ولا يتّسع المجال لذكرها، تهدف كلّها إلى عرقلة نشاط الرّابطة وتعطيل مهمّتها وتهميش دورها.
هذا التآمر على وجود الرابطة واستمرارها لم يهدأ منذ تأسيسها سنة 1977 إلى غاية الانتفاضة الشعبية عام 2011 ممّا يؤكّد غياب الاستعداد تماما لدى السلطة الحاكمة لتقبّل سلطة مدنيّة مضادّة أنشئت لصيانة حقوق المواطن الفرديّة والعامّة التي يكفلها دستور البلاد منذ سنة 1959 في فصله الثامن من جهة، ويقيم الدليل على الطبيعة الاستبداديّة للسلطة الحاكمة من جهة أخرى.
نأتي الآن بعد نقد السلطة في تعاملها مع الرابطة إلى نقد الرابطيين أنفسهم.
وأوّل ما أريد التنبيه عليه هو أنّ ظاهرة التحزيب التي أشرت إليها في بداية هذه الكلمة الحرّة، لا تهمّ السلطة وحدها بل تشكّل نزعة سائدة لدى كلّ الأحزاب الممثّلة في صلب الرابطة قادة وقاعدة. والمؤسف حقّا هو المفارقة التي يقع فيها الرّابطيّون المتحزّبون حين يجرّون الرابطة إلى معارك سياسيّة قد تخدم مصالحهم الحزبيّة في صراعهم مع السلطة دون استحضار المضارّ التي يمكن أن تلحقها مثل هذه الممارسات باستقلاليّة الرابطة وحيادها المبدئيّ إزاء النزاع السياسيّ بين الفرقاء. والأمثلة على ذلك عديدة، يعرفها الرابطيّون جيّدا غير أنّهم كثيرا ما يكونوا عاجزين عن تطويق مضاعفاتها السلبيّة التي توشك أحيانا أن تعصف باستقرار الرابطة وتوازنها.
وممّا يزيد في تعقيد الأمور اعتماد نظام المحاصصة في توزيع مراكز التسيير، فينجم عن ذلك أحيانا استحواذ رهط من النشطاء المتحزّبين على أساس تفاهمات بين الفرقاء. وكثيرا ما يفضي الأمر إلى هيمنة هذه العناصر المتحزّبة، وإحكام سيطرتها على المواقع القياديّة في الهيئة المديرة، ممّا يحوّل الممارسة داخا الرابطة إلى مناورات وخصومات وتجاذبات شبيهة بما يحصل الآن داخل الحلبة السياسيّة.
إنّ عدم وضوح خطوط التباين بين الممارسة الحقوقيّة الملتزمة بمبادئ الرابطة ومعايير النشاط في صلبها، وبين الممارسة السياسيّة المهووسة بجني الثمار تحت عنوان "الغاية تبرّر الوسيلة"، يعرّض الرابطة إلى هزّات قد تهدّد وجودها.
لا بدّ حسب رأيي أن يتخلّص نشطاء حقوق الإنسان من عباءتهم الحزبيّة ويتمسّكوا بمعايير الممارسة الحقوقيّة المتعالية على الممارسات الفئويّة والاستقطابات الإيديولوجيّة، وغيرها من المثالب المخلّة بأخلاقيّات العمل الحقوقيّ. وأحبّ أن أشير في خاتمة هذه الكلمة إلى مثلبة أخرى ساهمت في استشراء ظاهرة التحزيب سيّئة الذكر، وأعني نظام الكفالة (le parrainage) الذي اعتمدته الرابطة في انتداب منخرطيها. وهو نظام نتفهّم ضرورة العمل وفقه عند لحظة التأسيس. لكن لا مبرّر البتّة لمواصلة العمل به بعد الجلسة العامّة الانتخابيّة الأولى؛ لأنّه أصبح في ظلّ التحزيب السافر والمحاصصة المقنّنة بوّابة لتسلّل المتحزّبين بتشجيع من قياداتهم السياسيّة إلى مراكز القوّة بالهيئة المديرة على النحو الذي أضحت معه الرابطة في لحظات من تاريخها امتدادا لهذا الحزب أو ذاك بحسب ميزان القوى، ممّا ساعد على إرساء الزبونيّة في انتداب المنخرطين على أساس الولاءات الحزبيّة وحرم الرّابطة من الكفاءات المستقلّة المتمثّلة لمبادئ حقوق الإنسان.
هذه بعض المخاطر التي تتهدّد برأيي وجود الرّابطة، أردت أن أميط اللّثام عنها، حتّى ينتبه الشباب المتحمّس للدفاع عن حقوق الإنسان إلى مضارّها فيتجنّبها، وعسى أن تجد المنظّمات الحقوقيّة التي هي في طور التأسيس في العالم العربيّ في ما استحضرته من المحاذير ما يجعلها تتوقّى من الوقوع في المنزلقات التي أشرت إليها آنفا.