حوار مع الأكاديميّ العراقي إسماعيل نوري الربيعي : المروءة أشدّ كلفة وتعقيدا في عصر الثّورة الرقمية
فئة : حوارات
حوار مع الأكاديميّ العراقي إسماعيل نوري الربيعي[1]:
المروءة أشدّ كلفة وتعقيدا في عصر الثّورة الرقمية
يرى الأكاديمي العراقي إسماعيل نوري الربيعي أن المروءة العربية وقعت ضحية الذهنية المستحكمة، حتى غدت ضحية بين مطرقة الوقائع وسندان التمثل، معتبرا أن واقعة المروءة، بحسب التأويلات والتفسيرات الفردية والجمعية، ظلت تدور في فلك التأطير المؤسسي المباشر، حيث الحاكمية البيروقراطية، فيما تمّ تغييب أثر الفاعل السياسي والاجتماعي والاقتصادي عليها.
وأضاف إسماعيل نوري الربيعي في حواره، أن جل المعالجات للمروءة العربية لم تخرج عن إطار التفاعل الشكلي الساعي نحو القراءة السطحية والمعالجة الموسمية، فيما تعالى الفكر العربي على المروءة وتعاطى معها بوصفها شأنا ثانويا لا يرقى إلى اهتماماته ومشغلاته الرئيسة، كما أن الحركات الأيديولوجية العربية لم تتوان من اقتحام حقل المروءة من أجل تجنيد هذه الفئة والعمل على احتكارها وارتهانها، باعتبار السعي نحو ضمان المستقبل.
وأوضح الربيعي أن معالجة الواقع الراهن، الذي يعيش أحوالا وتفاصيل خاصة مستحدثة، تتم تحت طائلة المعالجات القديمة التي برزت خلال فترة لها خصوصيتها وتفاصيلها المتعلقة بشروط إنتاج العلاقات والمعاني خلال حقبة معينة، لها شروطها الثقافية والاجتماعية والاقتصادية الخاصة بها، وبهذا الشكل نقوم بكل ما أوتينا من جهد بإلباس ثوب شديد الضيق لجسد كبير الحجم، وهو ما نقوم به مع قيمتي المروءة والكرم.
وأشار الأكاديمي العراقي إلى أن المروءة أضحت في عصر الثورة الرقمية والمعلوماتية، أشد كلفة وأكثر تعقيدا، مقارنة مع العصر الصناعي أو الزراعي، وأن قيم الاستهلاك صارت تطغى على واقع المروءة، معتبرا أنه لم يعد من المجدي التعاطي مع المروءة سعيا للبحث في المضمون الذي تقوم عليه، بقدر ما تتبدى أهمية الغور في البحث عن آلية خطاب المروءة، والتطلع نحو فرز العلاقات الكامنة فيها. وقال: "لم تعد المروءة قضية قابلة للطرح والتعاطي معها وفقا للآليات التقليدية المتعارف عليها، بل إن إعادة الصياغة للمجمل من هذا الحقل بات أمرا أساسيا وملحا، لاسيما في ظل التحديات والتحولات التي بات يفرزها حقل المروءة نفسه".
يعدّ الدكتور إسماعيل نوري الربيعي من الجيل الثالث من المؤرخين العراقيين، له مساهمات فكرية على مستوى الإنجاز المعرفي والفكري في التاريخ الثقافي والاجتماعي والاقتصادي. له تجربة أكاديمية في العراق والأردن وليبيا والبحرين، نشر أكثر من عشرين كتابا في حقول الفكر العربي الحديث، والتاريخ الحديث والمعاصر، والتحليل الثقافي. له أكثر من خمسين بحثا علميا محكما نشرت في المجلات العلمية المرموقة، بالإضافة إلى مشاركاته في المؤتمرات العلمية الدولية في اليابان والولايات المتحدة الأمريكية وكندا وبريطانيا والصين وماليزيا والعالم العربي.
عزيز العرباوي: الضيافة ذلك الموروث الثقافي والاجتماعي الموغل في المجتمعات العربية منذ قرون عديدة. إنها ترتبط بصفة الكرم التي يتصف بها الإنسان العربي منذ العصر الجاهلي، ومازال يتصف بها، رغم تبدل الأوضاع ورغم مظاهر التحول الاجتماعي والثقافي الذي عرفته المجتمعات العربية حديثاً، فكيف ترى هذا التحول؟
إسماعيل نوري الربيعي: نحن نعيش عالم التحولات المتوحشة لا التحول الذي يمكن أن يتم ترصُّد النمط فيه! وصار الوسيط الاجتماعي يعاني من التداخلات في طريقة إنتاج المعنى، حتى تغطت محياه أحوال تشظي الدلالة. الأمر لا يقوم عند تداول مفردة مثل: الكرم، الوفادة، الضيافة، النبل، الإيثار، إلخ، بقدر ما ينطوي على أهمية التمييز في ثنائية الدلالة والتوجيه، حيث المسعى نحو فرز طريقة التواصل عبر تفكيك العلاقة بين العلامة وطريقة الاستعمال، انطلاقا من ترصد أوضاع الأهواء والرؤى والاتجاهات باعتبار الذاتي، والوقوف على الظرف الزماني والمكاني باعتباره الموضوعي، وفرز ما هو قائم وكامن بين المرسل والمرسل إليه، بناء على الشرط المعرفي. الكرم حين يتم التعامل معه بوصفه كلاما مجردا، فإنه يدخل في حلقة التداول اللفظي المباشر، حيث الحضور المجاني ونظل نعاني من الإسراف والتعاطي من دون اقتصاد. الجميع يمكن له الزعم وصلا بليلى، وما أسهل الإكثار من الكرم والمروءة، والتغني بهما، لكن التفسير يبقى منوطا بالقولي والضمني والتأثيري.
أفرز عصر الثورة المعلوماتية المزيد من العلاقات الجديدة، والتي كان لها الإسهام المباشر في نهاية ودواء وغياب مفاهيم ومضامين كانت في أشدّ أحوال الرّسوخ والثبات. في الراهن الذي يعيشه العالم لم يعد من المجدي التعاطي مع اليقينيات الجاهزة، بعد أن تسيدت العالم ثقافة الصورة. لم يعد العالم خاضعا لأحوال الكلمة - معناها!؟ بل غدا التداول خاضعا للسياق باعتبار المؤثرات التي تفرزها المؤثرات الشخصية والاجتماعية والمكانية والزمانية. إنها الحضورية اللافتة لأوضاع التداخل في النوايا، حتى صار المعنى يحمّل بالمزيد من المعاني المضافة، وراحت المعاني تهاجر ما بين الصريح والضمني، لتتحول مفردة مثل الكرم إلى ساحة شد وجذب ما بين المتداولين: ما بين فريق يثني ويمدح، وآخر يجعل منها مدارا للقدح والشتم والتصغير.
حقل المروءة بوصفه فضاء اتصاليا ينطوي على المزيد من الإفراط في الاحتفاء والتهليل، باعتباره قيمة راسخة وتوصيفا موغلا في الإيجابية، لكن جاهزية التوصيف تبقى نائية عن الواقع وبعيدة عن التأثير العميق والخلاق، إن تمت قراءتها بعيدا عن مدركات علم الدلالة. هذا الذي يحيلنا مباشرة إلى أهمية التعاطي مع المدلول - المفهوم القائم على الواقع وما يحوزه من علاقات. أما ما يتعلق بالدال - العلامة، فهذا أمر مرتبط بالمعنى القاموسي المباشر لنطرح قضية الكرم على المستوى القولي على سبيل المثال، لنجد حالنا وقد توقفنا عند مفردة الكرم مجازيا وفعليا. أما على الصعيد السردي، فإن الإحالة هنا تقودنا نحو تقصي أحوال تفاعل القيم ونموها وتمثلاتها في النفس البشرية، فيما يتبدى التجريدي على مستوى تداول مفردة الكرم، والتي قد تختلط أحيانا بسوء التدبر والتبسيط المخل والتلقي السلبي. وهكذا، فإن القراءة المباشرة للتراث العربي الذي يعج بسير كرماء العرب، سرعان ما يصطدم بالتفسيرات والمراجعات والتغذيات الاستهلاكية، حتى ليكون حاتم الطائي على سبيل المثال، وقد تلبسته أحوال سوء التدبر، باعتباره مبذرا كبيرا، في الوقت الذي قامت منزلته على السخاء والجود والبذل الذي لا يعرف الانقطاع.
عزيز العرباوي: لا زالت صفة الكرم لصيقة بالشخصية العربية دون غيرها أينما وجدت؛ لأنها صفة راسخة في الثقافة والفكر والذهنية العربية؛ فهل يمكننا الجزم بهذه المقولة، أم أننا نجازف القول نظراً لتعدد مظاهر الكرم والضيافة في الزمن الحاضر؟
إسماعيل نوري الربيعي: كيف يمكن التعاطي مع خطاب المروءة؟ وكيف يمكن تمييز ملامح ومظاهر الأسلوب والبناء والدلالة فيه؟ هل يمكن الوثوق بجملة من نوع؛ يا ضيفنا لو زرتنا لوجدتنا نحن الضيوف وأنت ربّ المنزل؟ هذا بحساب الجمل الأكثر شيوعا واستهلاكا في الفضاء الاتصالي العربي- العربي. ولو أردنا التوسع في المزيد من الأمثلة، فما أيسر علينا أن نتوجه نحو محرك البحث غوغلGoogle، لنقف على الكثير من الشواهد الشعرية والأمثال والحكم والأقوال والحكايات والقصص والروايات والأخبار، والقائمة الطويلة من رجالات المروءة والكرم والوفادة والجود.
تسألني عن الكرم والضيافة، وأنا أركز على انتقاء مصطلح المروءة؟! لجملة من الاعتبارات، لعل الأبرز منها يقوم على الدواعي المنهجية. بحساب فسحة الخيال الكامن في قراءة المروءة وشموليتها، وهي محاولة لا تخلو من تطلع للإفلات من هيمنة ورسوخ القواعد والعلاقات والبنيات، تلك التي تخضع عادة للتنظيم المسبق الإعداد، حيث السّخاء والكرم العربي بنموذجيته الجاهزة وإيجابياته المفرطة، لاسيما حين يتم تداوله ضمن مجموعة مغلقة، لتبدأ أحوال التحكم والتوجيه، وقد كرست النتائج المسبقة التجهيز والإعداد، ولتبدأ أحوال الاحتفاء بهذه النتائج التي تأت عادة متوافقة مع أهداف ورؤى وتصورات المجموعة الخاصة أو المغلقة، والتي تعيش لحظات الطمأنينة بما توفره العلاقة القائمة بين (الراوي، المروي، المروي له). طمأنينة لم تأت من فراغ، بل تقوم على استحضار العدة الاصطلاحية والمنهجية، المنطقية والراسخة، حيث العناية القصوى بالمظاهر والتفاعلات.
لا تخلو سردية المروءة من الدراسة المعمقة، حين تركز على مضامين الفعل في الكرم والجود والسخاء، والنبل والفروسية والشجاعة والإقدام والبسالة والتضحية والإيثار حيث السردية الدلالية، ولا يمكن التغافل عن أهمية السردية اللسانية المتطلعة نحو تفحص الرؤى والأساليب، فيما يكون التوجه نحو التوفيق بين التيارين (الدلالي واللساني)، إلا أن هذا كله يبقى منوطا بالتفاعلات التي تحدث في الواقع الاجتماعي. ومن هذا تبرز إشكالية الكرم والجود والسخاء، بوصفها قناعا يتخفى خلفه الراوي سعيا منه نحو إتمام حكايته وتحقيق مآربه وغاياته ومقاصده. وعليه، فإن القضية الرئيسة التي تسعى نحوها القراءة، تقوم على تمييز الرؤى التي تصاحب قراءة المروءة عادة والقائمة على رؤية العارف، باعتبار الدارس الخبير لشؤون الكرم والسخاء، ورؤية المعايشة، باعتبار الخبرات المكتسبة من معايشة مجتمع الكرم والسخاء والوقوف على التفاصيل الدقيقة التي يزخر بها هذا العالم، والرؤية الخارجية المستندة إلى القراءة المنهجية الموضوعية الساعية نحو الكشف عن الملابسات والأحمال والأخلاط التي يزدحم بها عالم الجود والسّخاء والكرم.
عزيز العرباوي: إن التّحول الفكري والثقافي الذي طرأ على بعض الفئات الاجتماعية العربية لم يؤثر كثيراً على صفة الكرم ولا قلل من شأن الاهتمام بالضيافة والتضحية من أجل الضيف وطالب الجوار واللاجئ وعابر السبيل، وكان هذا الأمر من الصفات المستحسنة في المجتمع العربي عموماً، فإلى أي حد يمكن الحديث حقيقة عن هذه الصفات في زمن صارت فيه الأزمات الاقتصادية تعيش بين ظهرانينا؟
إسماعيل نوري الربيعي: كيف يمكن النظر إلى حقل المروءة؟ هل بوصفه مؤثرا له حضوره الفاعل على سدة الواقع، أم مجرد حقل قابل للاستهلاك والتلقي؟ وهل ثمة إنتاج للدلالة Semiotics في هذا العالم الرّحب الفسيح، والذي ينفتح فيه مجال الثناء والتغني حتى لا يكاد يلتمس له نهاية؟
إن الواقع يظلّ كاشفا عن طريقة أحادية جاهزة يتم فيها الكشف عن الدلالة فيه، تلكم التي لا تخرج البتة عن أحوال التطابق مع الصورة المرتجاة والمبتغاة والمشتهاة. طريقة لا تبتعد كثيرا عن الدلالة الراسخة والمأمولة، والساعية نحو إلغاء ما دونها، حتى كان المستقر لــلفظ المروءة (كلمة أم علامة)، عند علامة قوس قزح وألوان الفرح البيضاء والوردية، والانغماس في شفافية الحلم المنّعم بالمجمل من قيم الوفاء والصدق والعفة والطهارة والنقاء والجمال والحق. عالم ملائكي لا لوثة فيه، حتى ضيّق مجال البحث فيه، ولم تعد فيه من سعة للبحث العميق الدال. عالم من الفرح والسعادة والشغف الذي لا ينقطع، تتحرك فيها الروح الملائكية والتضحية والبذل والشغف والفروسية والنبل والشهامة والعفة والطهارة، لاسيما حين تنتهي الجملة باستشهاد ضاف من ديوان العرب؛ والجود بالنفس أقصى غاية الكرم؟!
المروءة النقية البريئة بكثافة السرد الكامن فيها، صارت تحجب أحوال الابتزاز التي يمارسه نموذج الكريم الجواد السخي بحق المجتمع، حيث العلاقة السلالية تلك التي يتم ارتهانها بـــبيت الأجواد؟! حتى لتتبدى الممارسة الفعلية وقد تحولت إلى فعالية المقايضة بحرفية تاجر البندقية الشكسبيري! أهلا بكم إلى مائدتي العامرة، ولكن تحت ظلال كثيفة من كاميرات السلفي، أفلام الفيديو القصيرة، وما يتبعها من إشهار وإعلان يتم في التو واللحظة عبر برامجي الفايسبوك Facebook، والستابشات Snapchat.
أضحت المروءة في عصر الثورة الرقمية والمعلوماتية، أشد كلفة وأكثر تعقيدا، مقارنة مع العصر الصناعي أو الزراعي. الكلفة العالية تبدأ من الفاتورة المرتفعة للموائد العامرة، تلك التي راح الخيال الخصب للمتخصصين في مجال فنون الطعام يبتكرونها، حتى صار الشخص العادي يقف على المقارنات المباشرة بين مائدة هذا ومائدة ذاك، بعد أن يتم استعراضها في الفضاء الرقمي. مائدة زاخرة بأصناف الطعام العالمي العربي والهندي والصيني، فيما تحول الكرم الحاتمي إلى مجرد نموذج شديد القزامة، بإزاء ما يتم استعراضه من موائد ترصف عليها أطنان من اللحوم الحمراء والبيضاء، وأصناف لا تخطر على بال أحد؟! الكرم بالطبع لا يقف عند حيز الموائد العامرة، بل يتخطاه نحو المساعدات العينية، تلك التي راحت تطالها حمى الوجاهة والتكلف والمبالغة.
قيم الاستهلاك صارت تطغى على واقع المروءة، حتى أن قراءة معمقة لها لم تعد مجدية، دون التوقف العميق عند هذه الشفرات التي تحفز المعاني المتداولة، والتي غدت بمثابة المدخل نحو فهم وإدراك آلية إنتاج المعنى في حقل المروءة الراهن. إنه الحضور الطاغي والمكتسح لأحوال الصورة الزائفة Simulacrum، حيث التسيد لظلال الأشياء وليس حقيقتها. فيما صار معنى العالم بالنسبة إلى السّخي الجواد الكريم مرتهنا بمدى حصوله على النماذج الجاهزة، والتي باتت تشكل حاجزا بينه وبين الواقع. إنها الغيبوبة التي يعيشها الإنسان في الواقع الافتراضي عبر جهازه المحمول، لأنه بات من العسير أن تلمح وجها كاملا لقسمات وملامح شخص، دون أن يكون منحنياً بكامل وجهه نحو الجهاز الإلكتروني. لقد تم ارتهان معنى العالم من خلال نموذج (الآلة الحاسبة)، والتي غدت بمثابة بوابة الإنسان من أجل الولوج إلى العالم. إنها العلاقة بين الإنسان وصورة العالم وليس العالم الفعلي، ومن هنا نكون وقد وجدنا أنفسنا نقف على محاكاة للواقع، وليس التفاعل الحي والعميق مع الواقع؟!
عزيز العرباوي: هل تؤكّد مسألة تقدير اللاجئ وعابر السبيل على وجه الخصوص، خاصة ما يلقاه اللاجئون السوريون اليوم في أغلب البلدان العربية من اهتمام وتقدير وعناية أم أن الأمر مختلف وأن اللاجئ السوري لم يلق الترحاب الحقيقي الذي كان ينتظره من أشقائه؟ وهل ما تعرض له اللاجئ السوري منذ سنوات، والمبادرة التي أطلقتها بعض الدول الأوروبية كألمانيا مثلاً لاستقبال اللاجئين السوريين، يمكنها أن تؤكد تراجع صفة الكرم لدى العرب؟
إسماعيل نوري الربيعي: سؤالك في منتهى الدقة والموضوعية، لاسيما وأنك تتعاطى مع موضوع يشغل العالم برمّته، ولكن دعني أنحى بالسؤال إلى فضاء أكثر انفتاحا، حيث التوقف عند مسألة أحوال المحاكاة التافهة، تلك التي تفرض بحضورها الكثيف على مفهوم المروءة، من خلال تصّدر الصورة المقلدة، التي يعوزها التكامل، ومهما بلغت درجة تقانة المدخل المقلّد، فإنه يبقى يعاني من الضعف والهزال مقارنة مع الواقع الحقيقي، صورة عامة تعيش على تحاشي الاتصال مع الشكل المثالي الحقيقي الذي يقوم عليه الواقع.
كيف يمكن ترصد سلوك المروءة سعيا نحو تمييز القيم فيه؟ هل يقوم الأمر على الأخذ بنموذج محدد، وجعله بمثابة التمثيل للمجمل من القيم السائدة، أم أن الأمر يقوم على سلسلة من التفاعلات للمزيد من النماذج داخل المنظومة القيمية؟ يقود الضبط المنهجي نحو أهمية التوقف المدقق والفاحص لجماعة ما أو مجتمع محدد، سعياً نحو الوقوف على رموزه الدالة، والمعبرة عن المجمل من الأنشطة التي تميزه. إنه البحث في ولادة الأفكار وطريقة صياغتها، وانتشارها وأسلوب التعاطي معها والهضم والتمثل لها. إنه البحث في طرق الإفصاح والتعبير والتصريح والمكبوت والمضمر، بحث يسعى نحو الوقوف على المعاني المتداولة، من خلال ترصد أنماط السلوك الإنساني، وكيف تتشكل المعاني داخل الجماعة الواحدة، وكيف يتم التعاطي مع وسائل التعبير والتواصل، عبر الكلام واللغة والملابس والألوان والإشارات وتقاطيع الوجه وحركات الجسد.
إنها محاولة تتطلع نحو دراسة تفاعلات الرموز وطريقة التعبير عن الكل والجزء، وأحوال الخفاء والتجلي في المعاني المتداولة، وأوضاع التضمين وإحلال فكرة محل الأخرى، وطريقة التعاطي مع القيم السائدة، بوصفها وسيلة لضمان التعايش والتكيف داخل الوسيط الاجتماعي أولاً، والعمل على توظيفها في سبيل الترقي الطبقي عبر استخدامها كوسيلة للوجاهة والتميز، وتعزيز محال الصدارة الاجتماعية، باعتبار العمل على حيازة القبول والرضا العام، من دون الوقوع في دوامة التقاطع مع الرموز والمعاني والمضامين السائدة. تعد القيم هنا بوابة الولوج في الإطار الاجتماعي، عبر التعاطي الدقيق والصارم مع النسق System؛ بوصفه التراكم التاريخي للأفكار والمعاني والعلامات والسياق Context باعتباره المجال الذي يحتوي الأنساق الثقافية والاجتماعية. فيما تبقى طريقة التمثل الصادرة من قبل الفرد للقيم ماثلة وحاضرة، حيث التباين الواضح والفاضح في القدرات الإنسانية، لاسيما على صعيد السلوك الفردي وأسلوب التعاطي مع القيم، والنتائج المنتظرة من قبل المجتمع حول ما يصدر عن الفرد من أفعال وممارسات وسلوكيات وتفسيرات وهنات وإشارات وردّات فعل.
تتخذ القيم طابع الثبات على الصعيد الخارجي، حيث المظهر الذي تتبدى به للناس والجمهور قيم مثل الصدق والكذب والشرف والإيثار والشجاعة والبطولة والكرم والبخل، تكاد تكون حاملة لذات الصفات والسمات لدى المجمل من المجتمعات والثقافات، لكن هذه الصلادة والتماسك سرعان ما تذوب تحت وابل لسعات التأويل. وقد تغدو البطولة تهوراً، والبخل اقتصادا، والكذب شطارة ودهاء، والصدق رعونة والإيثار غباء؟! وبالقدر الذي تقوم العلاقة بين الفرد ومنظومة القيم مستندة على (المرسل، الرسالة، المرسل إليه)، إلا أن هذا يبقى مرتبطا وبشكل رئيس بالإنسان، بوصفه: (المنتج، والمستخدم) للقيم. ومن هذا تتبدى أهمية قراءة الشفرة Code، بوصفها الوسيلة التي يتم من خلالها تمييز المعنى، وبالتالي منح الإنسان القدرة على التعاطي مع الواقع، بما يؤهله للعيش داخل الوسيط الاجتماعي، من خلال القدرة على فهم الرموز والعلامات والإشارات، وبالتالي الانخراط في تجليات التفاعل الاجتماعي (إنتاجاً، واستخداماً، وتوظيفاً).
عزيز العرباوي: يعتبر إكرام الضيف من مكارم الأخلاق والقيم العربية الأصيلة، وجميل الخصال التي تحلَّى بها الأنبياء والأولياء على مرِّ التاريخ، وحثَّ عليها الإسلام لما لها من إيجابيات ومقاصد كبرى تعمل على ترسيخ التكافل الاجتماعي والتفاعل الإنساني الإيجابي، ولقد اتصف بها العديد من الأشخاص الذين طفقت أسماؤهم آفاق الفكر والثقافة والتاريخ، وكانوا مضرب المثل في ذلك مثل: عبد الله بن جدعان الذي عاش في العصر الجاهلي. إلى أيّ حد تمكن عرب اليوم من الحفاظ على هذه الخصال؟ وكيف يمكن للعرب اليوم أن يحافظوا على هذه القيمة الاجتماعية والدينية دون أن يشعروا بإحراج أو بضغط اقتصادي واجتماعي معين؟
إسماعيل نوري الربيعي: تحاول المعالجة المنهجية الإفادة من (التحليل الوظيفي للثقافة) عبر التركيز على تحليل العناصر الرئيسة التي تشكل بنية الثقافة العربية، والسّعي نحو قراءة المجتمع موضوعيا، باعتبار ترصّد أحوال التناغم القائمة بين عناصر النسق الثقافي، والتطلّع نحو تمييز مفاصل التغير من خلال التوقف المدقق عند أوضاع التماس الثقافي. إنها المحاولة السّاعية نحو فرز الحاجات الإنسانية، والطريقة التي يتعاطى بها الفرد في التعبير عن تلك الحاجات. القراءة الثقافية تساهم وإلى حد بعيد في وضع اليد على التناقضات والملابسات، لاسيما وأن التطلع يقوم على البحث عن الحلول الجمعية لمشكلات فردية، والتي تسعى نحو وضع المعالجات داخل حقلها الاجتماعي، باعتبار البحث عن المعنى، فما هي القيمة المرتجاة من البحث عن قيم التحصيل على سبيل المثال، دون العمل على ربط معنى التحصيل بحقل التعليم؟ قراءة القيم والعمل على تحليلها، إنما تقوم على البحث والتقصي في صميم داخلها، سعيا نحو الوقوف على تمييز الذهنية الخاصة.
مفهومان متقاطعان، المروءة بنبلها وخيرها وانفتاحها، بمتغيراتها والتباساتها وتداخلاتها بإزاء القيم تلك المستندة إلى الرسوخ والتجذير والتوجيه للمجتمع والثقافة. الكريم المضياف والسخي الجواد بإزاء منظومة القيم التي تشكل عمد البيت وهيكله الثقافي والاجتماعي، باعتبارها محدداً للسلوك ومعياراً في التوجيه، ومضمونا يحدد المواقف ومبادئ تحدد الأحكام، إنها المثل العليا التي تميز ثقافة مجتمع ما. بإزاء المروءة، تلك المنظومة القائمة على التنشئة والتربية والمكونات النفسية والملكات الفردية. مقارنة تنحو نحو القيم وتأثيراتها المباشرة على منظومة المروءة، هكذا تفصح العلاقة المباشرة بين الطرفين، فيما تبقى القراءة الموضوعية تشير إلى المزيد من السعة من دون تضييق.
ترّسم أوضاع التحديد في منظومة القيم، لا يلغي ترصد الاتجاهات فيها، ما بين المثالي؛ المستند إلى الثبات وعدم التغير، والواقعي القائم على النسبية، والبراغماتي الرافض للقيم الأخلاقية، وتبقى منظومة القيم وتفاعلاتها رهنا بمصادرها تلك التي تتوزّع ما بين؛ الديني، والعقلي والمجتمعي. فيما تتوزع خصائصها وتتعدّد ما بين؛ الذاتي والموضوعي والنسبي والمكتسب والجدلي، والمتسامي والمتغير والمثالي والهرمي والإنساني، والمتعدد والوجداني والارتقائي. ومن هذا الواقع تتبدى أحوال صعوبة قياسها، وعليه تطلع المتخصصون نحو تصنيف القيم في سبعة مستويات، بدءا من المحتوى السياسي والاجتماعي والديني، والمقاصدي؛ حيث الأهداف والوسائل والشدة، باعتبار الإلزام والتفضيل والمثالية والوضوح، بحكم الصريح والضمني والتاريخي، انطلاقا من التقليدي والعصري ومستوى الدوام؛ الدائم والعابر والتعميم القائم على العام والخاص. وتبقى مصادر تكوين القيم مستندة إلى التقليد، الاقتناع، المثل الأعلى والنموذج المتداول في الوسيط الاجتماعي، لاسيما عبر وسائل الإعلام والخضوع للعادات والتقاليد والأعراف الدينية والثقافية.
عزيز العرباوي: هل هناك وصفة معينة للحفاظ على قيمة الكرم لدى العرب والمسلمين اليوم؟ وهل لدى المجتمع العربي عموماً القابلية لاستضافة الوافدين عليه واللاجئين إليه، سواء على المستوى الفردي أم على المستوى الجماعي؟
إسماعيل نوري الربيعي: تندرج الثقافية العربية في جاهزية التوصيف للمروءة، شغف يصل إلى الغنائية والتغزل بهذه المروءة اللذيذة الجميلة الرائعة الشفافة، فيما يتم التغافل عن الوعي بالمروءة! بمعنى طريقة التعاطي مع المروءة من منطلق التأويل الفردي والجمعي ومحاولة ترصد تفاعلاته السياسية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية، تأويل يبقى منقادا للتصوّرات والرّؤى السّائدة، وتفسيرات لا تفتأ تستحضر المعاني الراسخة المتداولة عبر المنظومة القيمية الرائجة والسّائدة والمتداولة.
تفسيرات لا تفتأ تعيش أحوال الاختلاط والتداخل ما بين المعاني القديمة التي درجت ونشأت عليها، بإزاء الحاضر الذي يتم تكييفه بما يتوافق والمنظومة الراسخة. ومن هنا تبدأ رحلة القطيعة مع الواقع، باعتبار الغطاء الذهني الذي يتلبس المجمل من التأويلات والتفسيرات، لاسيما أن المعالجة للواقع الراهن الحالي، الذي يعيش أحوالا وتفاصيل خاصة مستحدثة، يتم وضعه تحت طائلة المعالجات القديمة التي برزت خلال فترة لها خصوصيتها وتفاصيلها المتعلقة بشروط إنتاج العلاقات والمعاني خلال حقبة معينة، لها شروطها الثقافية والاجتماعية والاقتصادية الخاصة بها. وهكذا يتبدى الحال وكأننا نتوجه بكل ما أوتينا من جهد نحو إلباس ثوب شديد الضيق لجسد كبير الحجم.
وهكذا، تتم أحوال التعاطي مع مفهوم المروءة انطلاقا من المضامين الراسخة والمتجذرة، لتكون العواقب وقد تمثلت في العجز المقيم، والذي يعلن عن انعدام إمكانية إنتاج رؤى وتصورات علمية قادرة على مواجهة الواقع، بقدر ما ينطوي الأمر على اجترار ما هو رائج ومكرور في الأدبيات العلمية التي ينتجها الغرب المتقدم في جامعاته ومعاهده العلمية المتخصصة.
ما انفك وعينا يعجز عن إنتاج رؤية نظرية خاصة بواقع المروءة العربية، لا شك أن الأكاديمي والمتخصص العربي قد قدم الجهود الجليلة في دراسة القيم والعادات والتقاليد، ودُبجت الدراسات المعمقة والأوراق العلمية التي تابعت التفاصيل الدقيقة بكل ما يتعلق بهذا الحقل الواسع، إلا أن المرجعيات الفكرية لهذه الدراسات كانت تنهل عن المعين الغربي، باعتبار البحث عن الرؤية المكتملة والمنجز الجاهز. وهكذا، برزت المؤسسات والهيئات العربية التي تعالج شؤون المجتمع، دون التوقف العميق بالمجتمعات العربية، إلى الحد الذي بات الغياب فاضحا ومدويا للإنسان العربي؟! حيث المقارنات والاجتهادات والقراءات التي لا تنفك تقرأ المجتمع العربي، ولكن بعين ورؤى وتحديات وتداعيات الآخر. إنها أحوال المرجعيات المستعارة، والتي جعلت من المجتمع العربي يعاني الغياب أو في أحسن الأحوال التداعي والوهن في طريقة التعاطي مع الإنسان.
وقعت المروءة العربية ضحية الذهنية المستحكمة، حتى غدت ضحية بين مطرقة الوقائع وسندان التمثل. واقعة المروءة بحسب التأويلات والتفسيرات الفردية والجمعية، ظلت تدور في فلك التأطير المؤسسي المباشر، حيث الحاكمية البيروقراطية، فيما تم تغييب أثر الفاعل السياسي والاجتماعي والاقتصادي عليها. جل المعالجات للمروءة العربية لم تخرج عن إطار التفاعل الشكلي الساعي نحو القراءة السطحية والمعالجة الموسمية. فيما تعالى الفكر العربي على المروءة وتعاطى معها بوصفها شأنا ثانويا لا يرقى إلى اهتماماته ومشغلاته الرئيسة، تلك التي تركزت في قضايا مثل؛ المثقف والسلطة والهوية والتسامح والاختلاف ونهاية التاريخ وصراع الحضارات. ولم تتوان الحركات الأيديولوجية العربية من اقتحام حقل المروءة، ولكن من أجل تجنيد هذه الفئة والعمل على احتكارها وارتهانها باعتبار السعي نحو ضمان المستقبل.
ما انفكت المروءة في الواقع العربي تعيش أحوال الكلام والإفراط في التعاطي العلاماتي لها. إنها المروءة تلك التي لا تزيد عن محتواها اللغوي، بمعناها المباشر حيث المحتوى القائم على الخطابية المباشرة Speech، فيما عجزت عن التفاعل مع الواقع لتتبدى في خطاب Discourse يحوز القدرة على توجيه الفكر والمعنى والتأويل. وهكذا بقيت المروءة في المجال العربي تعيش أحوال التداولية اللسانية، لغة لم تستطع أن تكون خطابا Discourse يكون لها الدور المؤثر في التواصل الاجتماعي العربي، باعتبار حضورها الشبحي وغير المستقر في الذهنية العربية. مروءة تحضر تارة، وتغيب تارة أخرى، في حركة بندولية دون أن تتفاعل في صميم الواقع. ما انفكت المروءة تعيش على سطوح الوعي العربي، ومن هذا فشلت في أن تكون جزءا من المشغلات الرئيسة والفاعلة لدى المجتمع العربي.
تبرز أحوال التكيف مع العادات والتقاليد والمضامين السائدة، كشرط رئيس وفاعل من أجل التواصل مع المجتمع، إنه المسعى نحو عملية التوفيق بين الوعي الذي يحمله الفرد بإزاء الواقع الموضوعي الزاخر بالتفاصيل، وصولا إلى الوقوف على المعاني المتداولة، من خلال تنظيم مستوى العلاقة بين الظواهر الاجتماعية والوسائل اللغوية، تلك الأخيرة التي تعد وسيلة التمييز والتعبير والتواصل. الأمر هنا لا يقوم على القواعد الراسخة والثابتة، حيث الانغلاق في مجال البديهيات والمسلمات، هذا الواقع سيجعل من الواقع مجرد ساحة مواجهة بين الأطراف المختلفة، التي تندرج في لعبة المراقبة والمعاقبة، باعتبار رصد التعاطي مع القيم السائدة، وطريقة التعبير عنها، وفق العلاقات الصورية الخالية من التفاعلات العميقة داخل الوعي الجمعي. علاقات لا غاية لها سوى ترصد المنظومة الصورية والمحاولات الدائبة للحفاظ على النموذج الجاهز والراسخ، انطلاقا من استحضار روح التأويل والتفسير القديم، فيما الواقع الموضوعي يعيش أحوالا وأوضاع شديدة الاختلاف، لا شك أن الماضي يحضر في مكوناتها، لكنه لن يكون الموجه الرئيس والوحيد.
هنا تتبدى أزمة التعاطي مع مفهوم المروءة في الواقع العربي، والتي يتم فيها تكييف المروءة بما يتناسب والوعي السائد والذهنية الحاكمة، وجعلها مجرد وعاء قابل لإعادة التعبئة والتفريغ للقيم، وكأن المروءة عبارة عن خزان خاضع لإرادة صاحب القرار والموجه والراعي. في الوقت الذي ما انفكت الحياة الراهنة، تكشف عن المزيد من التناقضات، التي باتت المروءة تقوم بفرزها وكشفها وتمييزها. مروءة اليوم شديدة الاختلاف عن مروءة الأمس، الأمر هنا لا ينطوي على تمييز مستمد من ترصد أحوال التزامن والتعاقب بين نموذجين جاهزين، بقدر ما ينطوي الأمر على طبيعة التعاطي مع الواقعة الاجتماعية، انطلاقا من؛ الاستدلال، الإدراك، التأويل.
كيف يمكن الوقوف على دلالة المروءة؟ هل يمكن الاكتفاء بالإشارة المباشرة إلى هذا الحقل الواسع الواضح الحضور على سدة الواقع، لنكون قد أسقطنا الفرض، بعد أن ملأنا الفضاء العام والوسيط التداولي بالخطب البلاغية التي تشيد بالمروءة وتؤكد على أهميتها وضرورة العناية بها؟! أم أن الواقع الذي تعيش في كنفه يستدعي منا قراءة أخرى، تقوم على البحث الدال والعميق في خطاب المروءة باعتبار البحث في الذهنية الجمعية وطريقة تأويلها؟
يعد مضمون المروءة من المواضيع التي أشبعت بحثا وتمحيصا وقراءة ودرسا ومحاضرات وندوات ومؤتمرات وورش عمل ومقررات دراسية في المعاهد والجامعات، لكن خطاب المروءة بقي الغائب الأهم وسط هذه اللجة من التمحيصات والدراسات، وبقيت فعالية تحليل خطاب المروءة تعيش أوضاع المحاولات الخجولة والمترددة، باعتبار التركيز على المضمون، فيما غاب عن كل هذا الجهد والتأصيل لحركة خطاب المروءة. بقيت قراءة مضامين المروءة تدور في فلك القراءة الاجتماعية الكبرى Macro، فيما تستدعي قراءة حركة خطاب المروءة العناية بالوحدات الصغرى من الظاهرة الاجتماعية Micro.
تبقى ذهنية الوحدات الكبرى، راسخة الجذور في القراءة العربية، وتلك الأعراض تأتي متساوقة مع التراث المعرفي المتداول في الفضاء العربي، بناء على الموقع الذي يتخذه الدارس والمحلل للظواهر، وبما يتوافق والمعطيات التي تفرضها مضامين القوة والسلطة والثروة والمعرفة السائدة. القراءة التقليدية تسعى نحو ترصد أوضاع الاكتمال والتناسق، والانغماس في سردنة الواقع بحثا عن النهاية السعيدة المتوقعة والمأمولة في أعقاب بداية الحكاية القائمة على (كان يا ما كان)؟!
العالم الراهن بعلاقاته المتغيرة بتسارع يقترب من اللهاث، صار يفرض أهمية إمعان النظر في تجديد زاوية النظر إلى المروءة، وطريقة التعاطي معها بما يتوافق والتحولات القصوى والكبرى، لاسيما أن السيادة المطلقة لوسائط الاتصال وهيمنتها على المجمل من المفردات الاجتماعية والثقافية والسياسية والاقتصادية. صارت تحيلنا شئنا أم أبينا على مساحات مستحدثة من المعطيات التي لم يتم التفكير فيها سابقا، لاسيما وأن الإعلام الجديد بوسائطه الاجتماعية جعل من العالم برمته، وقد أضحى مشغلا عاما للتعبير عن الرأي، بملامح وسمات وإمكانات وقدرات لم تتح للإنسان في المجمل في حقبات تطوره التاريخي. أصبح الإنسان يدير مؤسسته الصحفية الخاصة من تحت كفه، بفضل الجهاز المتداول والمنتشر في العالم الراهن. وبفضل ما توفره شركات الاتصال من دفق معلوماتي، واتصال سريع، وبرامج تجعل متطورة، تحقق حلم المؤسسات العالمية المتخصصة في مجال النشر والإعلام.
الكريم والسخيّ والجواد في عالم اليوم، وبما متاح له من وسائل اتصال، بحاجة إلى إعادة صياغة التعاطي معه. لم يعد من المجدي التوقف عند المضمرات والخشية عليه من الموضوعات الحساسة والدقيقة. فضاء التفاعل الرّاهن يجعل من الجميع يعيش أحوال الشفافية المطلقة، حيث العالم وقد تعّرى كليا. ومن هذا نقف على نتيجة قوامها أنه ليس من المجدي أن نتعاطى مع صاحب المروءة بمعيطات مستجلبة من خارج الواقع!؟ لم يعد من المجدي التعاطي مع المروءة سعيا للبحث في المضمون الذي تقوم عليه المروءة، بقدر ما تتبدى أهمية الغور في البحث عن آلية خطاب المروءة والتطلع نحو فرز العلاقات الكامنة فيها. لم تعد المروءة قضية قابلة للطرح والتعاطي معها وفقا للآليات التقليدية المتعارف عليها، بل إن إعادة الصياغة للمجمل من هذا الحقل بات أمرا أساسيا وملحا. لاسيما في ظل التحديات والتحولات التي بات يفرزها حقل المروءة نفسه.
يستدعي إعصار التحول الراهن بتحدياته الراهنة، بإنتاجه للعلاقات والمفاهيم الجديدة، والتي راحت تشكل سلسلة من العقبات العصية على الفهم، الوقوف الطويل والمتأمل حول ما يحدث من حولنا. لقد انتهى عصر الطمأنينة والتعاطي مع المفاهيم العتيقة القائمة على المسؤولية والإشراف المباشر والشغف بالمعاني والمصطلحات الجاهزة. علينا أن نمعن النظر في (نص المروءة) والعمل على إعادة قراءة مفرداته وعلاقاته وما ينتجه من معان، والسعي نحو تفحص وتحليل المستويات المتعددة فيه والطبقات المتخفية في نسيج خطاب المروءة، ومحاولة الكشف عن الوعي المتخفي في داخله.
القيمة الأبرز في المروءة أنها تشكل لحظة الديمومة والتواصل للجنس البشري، ومن هنا فإنها لن تكون مجرد عارض مرحلي، بقدر ما هي مكون أساس للحياة. أسّ الإشكال في التعاطي مع المروءة يقوم على هذا الفصل بين المستويين من الإدراك (العارض _ المكوّن). هل المروءة نص قابل للقراءة والتفسير والفهم والشرح، أم أن المروءة خطاب له دلالاته ومعانيه الخاصة به؟ الواقع أن الأمر برمته يعود إلى طريقة القراءة، المروءة يمكن لها أن تكون نصا قابلا للقراءة لا شك في هذا، فيما القراءة المعرفية تستدعي المزيد من الغور في المسالك والِشعاب والمنزلقات والتعقيدات التي تعيشها مفاهيم اليوم. كريم الأمس كان فضاؤه الاجتماعي يقوم على العائلة، وفي أحسن الأحوال المجتمع المحلي. ومن هذا يتبدى النموذج المتوافق مع الثقافة السائدة التي يحملها الراعي المسؤول، فيما كريم اليوم يجد نفسه أمام كم من المفاجآت التي لا تنقطع، إن كان على صعيد تشكيل الجمل اللغوية أو المهارات السلوكية. إنها السلسلة التي لا تنقطع من الأفكار التي يقدمها الكريم السخي الجواد، بفعل تواصله مع الفضاء الاتصالي الأرحب، وهكذا تتسع ذائقته وخياله وأفكاره وردود أفعاله.
لا يقوم الأمر هنا على تقويم بقدر ما ينطوي على محاولة في الفصل بين نموذجين لكل منهما علاقاته الخاصة به، وهكذا تتبدى أحوال الوصف بين نموذج المروءة العفوية، حيث العلاقات المباشرة القائمة على التلقي والاستهلاك وسيادة قيم الطاعة والتقديس والاحترام وطغيان السلطة الأبوية، بإزاء المروءة الرقمية - الافتراضية؟! إن جاز التعبير، المستندة إلى القيم المتحولة والعلاقات المتغيرة بسرعة لاهثة. وما بين هذين النموذجين، تبقى الثوابت الإنسانية تؤدي دورها بفاعلية وحضور غير قابل للشك؛ فالإنسان طفلا كان أم رجلا مسؤولاً راشداً، يعيش في هذا الواقع من خلال طريقة تمثله للتفاصيل التي تزخر بها الحياة. هكذا، هي الفروق الفردية بين شخص يخشى حيوانا أو حشرة ما، بإزاء شخص آخر يهيم عشقا وشغفا بذات الحيوان أو الحشرة، بين شخص يرتعد خوفا من موقف ما، بإزاء آخر لا تهتز له شعرة من ذات الموقف. إنها أحوال التفاعل الاجتماعي ذاك الذي يقوم على؛ (الإنتاج، الاستخدام، التوظيف)، فيما تتشكل الصورة العامة لمجتمع ما من خلال ترصد أحوال التبادل القيمي وطريقة تمثلها في الحياة الثقافية والاجتماعية، القيم هنا تعد بمثابة الموّجه الرئيس الفاعل في ديمومة التفاعل الاجتماعي، فهي البوصلة والموجه والمرشد، إذ لا يمكن للسلوك البشري أن يتبدى ظاهرا للعيان دون أن يكون متلازما مع السلوك القيمي، هذا بحساب أن المعنى الإنساني الذي ينزع نحوه الكائن البشري لا يمكن الوقوف عليه أو حتى إنتاجه إلا من خلال الوعي بالقيم، وبالتالي الانغماس في منظومة التواصل الإنساني، حيث الحياة الفعلية والحقيقية.
[1]- مجلة ذوات العدد43