حوار مع الباحث الأردني إبراهيم غرايبة : الحركات الإسلامية السياسية متجهة إلى الانحسار والاختفاء
فئة : حوارات
حوار مع الباحث الأردني إبراهيم غرايبة[1]:
الحركات الإسلامية السياسية متجهة إلى الانحسار والاختفاء
اعتبر الباحث الأردني إبراهيم غرايبة، أن جماعات الإسلام السياسي على اختلافاتها وتعددها، فإنها تتفق في مرجعيتها الفكرية على كتاب "معالم في الطريق" لسيد قطب، إضافة إلى المصادر التقليدية والتاريخية المعروفة والمتبعة لدى الأمة بشكل عام، معتبرا أن هذه المراجع، هي من تشكل سلوك ورؤية هذه التيارات، وحركيتها أيضا ضمن المجالين الاجتماعي والسياسي.
كما أبرز أن الصعود السياسي للحركات الإسلامية لم يكن مفاجئا، باعتبار أن حركيتها السياسية لم تكن وليدة "الربيع العربي"، بقدر ما كان مسارا طويلا من التفاعل السياسي منذ مرحلة الثمانينيات، سواء في التعبيرات التي كانت تشكل تحديا للأنظمة السياسية أو من خلال المشاركة السياسية الواسعة.
وفي معرض تقييمه لتجربة الإسلام السياسي، أكد غرايبة أن هذه التجربة قد راوحت بين الفشل والصراع والانقسام الاجتماعي والسياسي أو المشاركة العادية والباهتة التي لم تضف شيئا إلى الحياة السياسية والاقتصادية، مقدما بذلك نماذج عديدة من مصر والجزائر والسودان وغيرها، والتي تشكلت فيها بنظره حالة من التقسيم والصراع والتفتت، نتيجة التعصب والصدام المرجعي، معتبرا أيضا أنه في الوقت الذي غلب على جماعات الإسلام السياسي في الشرق الفشل والصراع وضعف الخبرة والأداء، إلا أنه وفي تونس والمغرب وجزئيا في الجزائر كانت جزءا غير مميز من الحالة السياسية العامة.
وختم الباحث غرايبة الحوار، بترجيحه أن تيارات الإسلام السياسي تتجه اليوم أكثر نحو الانحسار والاختفاء، مبينا أن سبب ذلك يرجع أساسا إلى التناقض بين السلوك الواقعي والخطاب النظري المعزول عن تطورات وتعقيدات الحياة المعاصرة والعلاقات الخارجية والداخلية للدول، ومضيفا سببا آخر مرتبط بالتناقض والصدام مع الاتجاه العالمي المعاصر القائم على الحريات الدينية والشخصية والاجتماعية.
ويعد الباحث والكاتب غرايبة، أحد أبرز الباحثين في العالم العربي اهتماما بمجال الحركات الإسلامية والإسلام السياسي، وله العديد من المقالات والدراسات والحوارات المنشورة مع مراكز ومؤسسات صحفية وبحثية. ومن أبرز إنتاجاته: "قوة الإسلام"، و"الخطاب الإسلامي والتحولات الحضارية والاجتماعية"، وغيرها من الإنتاجات الأخرى.
محمد قنفودي: كيف بدأ العمل السياسي لحركات الإسلام السياسي في العالم العربي؟ وما هي أهم الأحزاب السياسية التي تم تأسيسها؟ وكيف كان وضعها قبل ما سمي "بانتفاضات الربيع العربي"؟ وكيف كانت تدبر علاقتها مع الدولة والمؤسسات السياسية الرسمية؟
إبراهيم غرايبة: تشكل الإسلام السياسي في العشرينيات، في ظل حالة مشجعة على ذلك من اتجاهات ومداخل عدة؛ مثل الحالة التي سادت في عالم العرب والمسلمين لأجل استئناف الخلافة، بعد إنهائها في تركيا، والاتجاه الرسمي والاجتماعي الذي تنامى لأجل استيعاب معاصر للإسلام أو العمل على إقامة دولة معاصرة تتواءم مع الإسلام، والاتجاه التحرري لمقاومة الاحتلال الذي تعرضت له معظم دول العالم الإسلامي؛ وبخاصة بعد الحرب العالمية الأولى، وفي تطورات كثيرة من المد والجزر عاد الإسلام السياسي إلى النمو والانتشار في سبعينيات القرن العشرين في ظل موجة دينية عالمية سادت وفي حالة الشعور بالهزيمة الانكسار التي أنشأتها حرب 1967.
النواة الفكرية الأساسية للإسلام السياسي تقوم على مسألة الحكم في الإسلام، وشجع الحالة هذه ضعف وانحسار الخطاب الديني الرسمي، وفي هذا الفراغ كان خطاب الإسلام السياسي يعمل وينتشر، بل إنه شكل العمود الفقري للمناهج التعليمية والكليات والمؤسسات الدينية التي ترعاها وتنفق عليها السلطات السياسية.
قدم الإسلام السياسي نفسه بديلا للنموذج القائم في الدول الإسلامية المعاصرة، ولأنه نموذج لم يطبق بالفعل، فقد كان نموذجا أقرب الى الحلم او المثال الذي يداعب خيال وحلم المسلمين والمستمد من التاريخ في مراحل زهو وتقدم العالم الإسلامي، ويجب الاعتراف أنه خطاب، رغم عدم واقعيته يمثل اليوم أكبر تحد للدول والمجتمعات الإسلامية والعالم أيضا، فهو ملهم الإرهاب والتطرف وكثير من الأزمات والانقسامات السياسية والاجتماعية.
يمكن القول، إن جماعات الإسلام السياسي على اختلافاتها وتعددها تكاد جميعها تنهل من كتاب "معالم في الطريق" تأليف سيد قطب، وهناك مراجع وكتب كثيرة أخرى تخص الجماعات المتشددة إضافة إلى "المعالم" والمصادر التقليدية والتاريخية المعروفة والمتبعة لدى الأمة بشكل عام.
لقد مثل سيد قطب حالة اكتسحت عالم الإسلام السياسي، وهي مسألة تحتاج إلى توقف وتفسير وتحليل. وفي كثير من الأحيان تجد أعضاء الجماعات الإسلامية وشبابها يحملون أفكار سيد قطب ومقولاته دون أن يقرؤوا كتبه أو يعرفوا أنها له، لقد أصبحت منظومة فكرية تتلقاها الجماعات على نحو جماعي وشفاهي وخفي، بل إنها متجذرة وحاضرة في أذهان وتفكير كثير من المتدينين غير المنتظمين في جماعات، والأكثر غرابة أن نسبة كبيرة من المشتغلين بالمؤسسات الدينية الرسمية في التعليم والأوقاف والإفتاء والقضاء يؤمنون بأفكار المفاصلة والرفض القطعي التي أنشأها قطب، وإنك لتعجب كيف يوفقون بين ولائهم السياسي للحكومات والأنظمة وبين أفكارهم المتشددة التي يؤمنون بها.
يعتبر د. عبد الإله بلقزيز كتاب "معالم في الطريق" بمثابة الإعلان الإسلامي المقابل للمنفستو الشيوعي، أو بيان الحزب الشيوعي الذي كتبه كارل ماركس وفريدريك إنجلز عام 1848، ويقول غازي القصيبي على لسان بطل روايته "العصفورية" إن كتاب معالم في الطريق أهم كتاب عربي ألف في السنوات الخمسمائة الأخيرة...
يقول سيد قطب إن وجود الأمة المسلمة يعتبر قد انقطع من قرون كثيرة، ولا بد من إعادة وجود هذه الأمة؛ فالعالم اليوم يعيش كله في "جاهلية" ونحن اليوم في جاهلية مثل التي عاصرها الإسلام أو أظلم، كل ما حولنا جاهلية، .. تصورات الناس وعقائدهم وتقاليدهم وعاداتهم، وثقافتهم وفنونهم وآدابهم وشرائعهم وقوانينهم، حتى الكثير مما نحسبه ثقافة إسلامية ومراجع إسلامية وفلسفة إسلامية وتفكيرا إسلاميا هو كذلك من صنع الجاهلية، ولأجل ذلك لا بد لنا من التخلص من ضغط المجتمع الجاهلي، والتصورات الجاهلية، والتقاليد الجاهلية والقيادة الجاهلية، في خاصة نفوسنا، وإن أولى الخطوات في طريقنا هي أن نستعلي على هذا المجتمع الجاهلي وقيمه وتصوراته، وألا نعدل نحن في قيمنا وتصوراتنا قليلا أو كثيرا لنلتقي في منتصف الطريق، كلا! إننا وإياه على مفرق الطريق، وحين نسايره خطوة واحدة، فإننا نفقد المنهج كله ونفقد الطريق.
ويكون الجهاد في سبيل الله لأجل إقامة "مملكة الله في الأرض" التي لا تقوم إلا بأن تكون شريعة الله هي الحاكمة، وأن يكون مرد الأمر إلى الله وفق ما قرره من شريعة مبينة، ولذلك فإن كل قتال دفاعا عن أوطان أو صد عدوان عليها ليس جهادا، فلا جهاد إلا لأجل تحرير الإنسان برده إلى عبودية الله، والتي هي اتباع ما أمر الله، ويدخل في العبادة التشريع، فالذين يتبعون مشرعين من دون الله إنما يعبدونهم، .. وحيثما وجد التجمع الإسلامي الذي يتمثل فيه المنهج الإلهي، فإن الله يمنحه حق الحركة والانطلاق لتسلم السلطان وتقرير النظام، .. وإذا كف الله أيدي الجماعة المسلمة فترة عن الجهاد فهذه مسألة خطة لا مسألة مبدأ.
ولكن ما هو المجتمع الجاهلي؟ وما هو منهج الإسلام في مواجهته؟ يتساءل سيد قطب، ويجيب إن المجتمع الجاهلي هو كل مجتمع غير المجتمع المسلم، وإذا أردنا التحديد الموضوعي قلنا إنه كل مجتمع لا يخلص عبوديته لله وحده، متمثلة هذه العبودية في التصور الاعتقادي، وفي الشعائر التعبدية، وفي الشرائع القانونية، وبهذا التعريف الموضوعي تدخل فعلا في إطار المجتمع الجاهلي جميع المجتمعات القائمة اليوم في الأرض. تدخل فيه المجتمعات الشيوعية، .. والوثنية التي مازالت قائمة في الهند اليابان والفلبين وإفريقية، والمجتمعات اليهودية والنصرانية في أرجاء الأرض جميعا، .. وأخيرا يدخل في إطار المجتمع الجاهلي تلك المجتمعات التي تزعم لنفسها أنها مسلمة.
فالأصل الذي يجب أن ترجع إليه الحياة البشرية بجملتها هو دين الله ومنهجه للحياة، والأصول المقررة للاجتهاد والاستنباط مقررة وليست غامضة، .. أن يكون مصدر السلطات هو الله سبحانه لا (الشعب) ولا (الحزب) ولا أي من البشر.
وفي المقابل، فإن المجتمع الإسلامي هو المجتمع الذي يطبق فيه الإسلام عقيدة وشريعة وعبادة ونظاما وخلقا وسلوكا، ويمتد ذلك إلى الثقافة والفنون والمعارف الإنسانية والاجتماعية، وليس من مجال للتلقي في الحضارة والثقافة عن غير الله، .. يمكن ذلك في العلوم البحتة والتقنية... فشريعة الله تعني كل ما شرعه الله لتنظيم الحياة البشرية، وهذا يتمثل في أصول الاعتقاد وأصول الحكم وأصول الأخلاق وأصول السلوك، وأصول المعرفة أيضا. ويجد سيد قطب أن اتجاهات الفلسفة بجملتها واتجاهات تفسير التاريخ الإنساني بجملتها، واتجاهات علم النفس بجملتها، ومباحث الأخلاق بجملتها واتجاهات دراسة الأديان المقارنة بجملتها واتجاهات التفسيرات والمذاهب الاجتماعية بجملتها، .. كلها في الفكر الجاهلي أي غير الإسلامي قديما وحديثا متأثرة تأثرا مباشرا بتصورات اعتقادية جاهلية، وقائمة على هذه التصورات ومعظمها إن لم يكن جميعها يتضمن في أصوله المنهجية عداء ظاهرا أو خفيا للتصور الديني جملة وللتصور الإسلامي على وجه خاص.
وليست وظيفة الإسلام أن يصطلح مع التصورات الجاهلية السائدة في الأرض ولا الأوضاع الجاهلية القائمة في كل مكان؛ فالإسلام لا يقبل أنصاف الحلول مع الجاهلية، لا من ناحية التصور، ولا من ناحية الأوضاع المنبثقة من هذا التصور، فإما إسلام وإما جاهلية!
هذا الفكر ألهم جماعات الإسلام السياسي والأجيال المقبلة على الدين، والتي تشعر بالهزيمة والانكسار والفشل، ومنحها شعورا بالتميز والاستعلاء، وفي قدرة سيد قطب على استيعاب النازية والفاشية وتقديمها في صياغة دينية وفي لغة أدبية بديعة ومدهشة تحولت الجماعات وأفكارها إلى كتل هادرة ومندفعة إلى الموت في حماس ومتعة لا نظير لها في التاريخ والجغرافيا.
محمد قنفودي: كيف واكبت حركات الإسلام السياسي موجة "الربيع العربي" في المنطقة؟ وما كان حجم تأثيرها السياسي والتنظيمي؟ وهل كانت تلك الحركات دافعا لهذه الانتفاضات أم مستفيدا منها؟
إبراهيم غرايبة: "الربيع العربي" حالة اجتماعية اقتصادية تراكمية بفعل منظومة من التفاعلات والأحداث الطويلة منذ قيام الدولة العربية الحديثة، ومتصلة أيضا بتداعيات الشبكية الناشئة عن سيادة تقنيات الحاسوب والاتصالات المتطورة وانتشارها وتطبيقها في الإعلام والتعليم والحياة اليومية، ولا علاقة له (الربيع العربي) بالإسلام السياسي، إذ إنه ليس إلا جملة معترضة أو حالة ظرفية عابرة في موجة تحولات كبرى ومعقدة تطال كل شيء تقريبا ولا تخص العرب وحدهم.
ففي هذه التحولات الاجتماعية والاقتصادية المصاحبة لموجة التقنيات الجديدة وتطبيقاتها تتشكل ثورة هائلة لا تقل عمقا وتأثيرا عن الثورة الصناعية التي حدثت في القرن الثامن عشر، وأنشأت تحولات جذرية في العالم الحديث، ويمكن ملاحظة شبكة واسعة من الأسباب والعوامل والتحولات التي تجري في العالم والدول العربية منذ سنوات طويلة، والتي تجعل أو يجب أن تجعل الربيع العربي منتظرا ومتوقعا، وربما كانت المفاجأة أنه تأخر كثيرا، فقد كان مفترضا أن تجري تغييرات سياسية واسعة في أواخر الثمانينيات وأوائل التسعينيات، كما حدث في أجزاء واسعة من العالم، مثل الاتحاد السوفيتي السابق وأوروبا الشرقية والبلقان وأمريكا اللاتينية وشرق آسيا وجنوب أفريقيا، ..
وقد جرت بالفعل في دول عربية عدة تحولات سياسية، ولكنها لأسباب عدة لم تتطور إلى حالة سياسية ديمقراطية، فقد جرت تحولات ومبادرات سياسية واسعة في الجزائر (1988) ولكنها انتكست عام 1992، وتحولت إلى صراع دموي طويل، والسودان (1985) ثم أجهضت عام 1989، والأردن عام 1989، كما أجريت انتخابات نيابية وبلدية وشكلت مجالس استشارية في دول الخليج.
وجاء الربيع العربي من خلال منظومة واسعة من العولمة الشاملة، الاتصالاتية والاقتصادية والسياسية والثقافية، والتداعيات والتحولات المتشكلة حول المعلوماتية والاتصالات واقتصاد المعرفة، والإحاطة المتاحة والشاملة بالمعلومات والمعرفة والأحداث والتطورات التي أصبحت تمتلكها المجتمعات بمختلف شرائحها الاجتماعية والاقتصادية، والتي منحتها فرصة واسعة للاطلاع والمعرفة، والفرص والآفاق المتاحة للعمل والتأثير من خلال شبكات الإنترنت والتواصل الاجتماعي، والتحولات الاقتصادية والاجتماعية المصاحبة للخصخصة والتغيير في علاقات الدولة والمجتمع والدور الاقتصادي والاجتماعي والرعائي للدولة، والأزمة المالية والاقتصادية العالمية، والتي أدت إلى مراجعة برامج الخصخصة والليبرالية الاقتصادية وأعادت الاعتبار للدور الاقتصادي والاجتماعي للدولة في ظل الرأسمالية الاقتصادية ومشاركة الدولة والمجتمعات والشركات.
يمكن وصف الربيع العربي بمقولة "الطبقة الوسطى مضافاً إليها شـبـكة الإنترنت"، ففي ملاحظتها وإدراكها الواضح للفــرق بين واقعها وما تتطلع إليه تبحث الطبقة الوسطى عن أدوات فاعلة وسلمية للتغيير، وقد أتاحت الشبكية القائمة على الإنترنت وشبكات التواصل فرصة جديدة لتنظيم اجتماعي شبكي عملاق يسعى للعمل والتشكل نحو أهدافه وتطلعاته، وفي التعولم التقني والاقتصادي والثقافي الذي يشكل العالم اليوم تشكل لدى المجتمعات وعي وإدراك بما تحب أن تكون عليه، مستمد من اطلاعها الواسع على ما يجري في العالم من أحداث وتطورات، هذه القدرة الواسعة على الاطلاع والمشاركة التي أتاحتها الشبكة عرفت المجتمعات بما ينقصها وما يمكن أن تفعله وما يجب أن تكون عليه.
لقد عبر "الربيع العربي" عن لحظة ولادة مجتمعات جديدة وموارد وأعمال ونخب وقيم وأفكار وفرص جديدة، منقطعة عن الماضي، وتحمل قدرا هائلا من التحولات الكبرى والجذرية، وتبدو الدول والمجتمعات اليوم بصدد تشكلات اقتصادية وسياسية واجتماعية وثقافية جديدة ومختلفة، وظهور نخب وقيادات ومجموعات جديدة ومختلفة أيضا.
وفي الوعي المجتمعي الجديد والرقابة الإعلامية المتشكلة بفعل ضغط المجتمعات ورغباتها كونها مستهلك للإعلام، وتحول الشبكة إلى أداة مجتمعية متاحة وسهلة الاستخدام، فإنه لم يعد سهلا مواصلة ممارسات الفساد وإخفاء المعلومات عن المجتمعات، ولا الاستمرار في تهميش المجتمعات، ذلك أنها تتحول إلى شبكة منظمة ومؤثرة وشريكة للحكومة والقطاع الخاص.
وبالطبع، فإن هذه المنظومة السياسية الجديدة سوف تنشئ حالة اجتماعية وثقافية جديدة، فسوف تكون النخب معرضة بشكل تنافسي مفتوح للدخول إليها والخروج منها حسب مخرجات الانتخابات والتنافس على الفرص الخاضع للرقابة المجتمعية العلنية، وبذلك ينتهي إغلاق النخب واحتكارها للفرص والتأثير، وسوف تعود من جديد فرصة البيروقراط والتكنوقراط للصعود والمشاركة في القيادة والنخب.
محمد قنفودي: كيف يمكنك تقييم صعود التجربة السياسية لهذه الحركات، وقدرتها على الفوز الانتخابي في عدد من الدول العربية؟ على ماذا اعتمدت في استراتيجيتها السياسية؟ وما هي الشروط التي ساهمت في إنتاج هذا الصعود؟
إبراهيم غرايبة: ثمة ظاهرتان تبدوان محيرتين في علاقة الإسلام السياسي بالربيع العربي، إذ من المؤكد أن "الربيع العربي" حراك مجتمعي غير منظم، ويقوم على أسباب اجتماعية اقتصادية، ولا علاقة له بالإسلام السياسي من قريب أو بعيد، لكن من الواضح أيضا أن جماعات الإسلام السياسي صعدت بعد "الربيع العربي" صعودا غير مسبوق. كيف تؤدي حركة اجتماعية لا علاقة لها بخطاب الإسلام السياسي، ولم يكن للجماعات الإسلامية دور فيها إلى صعود هذه الجماعات، وأن تقطف ثمار الربيع العربي وتستولي على نتائجه كلها وكأنها هي التي صنعته؟ كيف اكتسحت جماعات الإخوان المسلمين والإسلام السياسي الانتخابات التي جرت في دول عربية عدة؟ لقد شغلت هذه الأسئلة العالم ووسائل الإعلام ومراكز الدراسات والتفكير، لكن الإجابة الكافية لم تتبلور بعد.
لكن ربما تكون الإجابة في طبيعة الديمقراطية نفسها وفي الحراكات الاجتماعية والسياسية، فمن المعروف تقليديا أن الديمقراطية أو الانتخابات في جميع أنحاء العالم تعمل غالبا، إن لم يكن دائما لصالح الأكثر تنظيما والأكثر مالا والأقدر على التأثير، وقد جاءت الانتخابات العربية في حالة فراغ سياسي وتنظيمي، وكانت جماعات الإسلام السياسي، وبخاصة الإخوان المسلمين، هي القوى السياسية الوحيدة القادرة على تنظيم نفسها وحشد المؤيدين والأنصار، ولم يكن ينقصها المال والقدرة على الوصول إلى وسائل الإعلام والمنبر والمساجد أو امتلاكها.
لكن يجب التذكير بأن الصعود السياسي للحركات الإسلامية لم يكن مفاجأة، فقد بدأت هذه الحركات منذ أوائل الثمانينيات تشكل حالة سياسية جديدة تعبر عن نفسها في تحديات للأنظمة السياسية أو مشاركة سياسية واسعة، هناك الثورة الإسلامية في إيران (1979) والمشاركة الإسلامية المؤثرة في تركيا منذ أوائل السبعينيات، والتي توجت بحصولهم على الأغلبية البرلمانية عام 2002، والثورة الإسلامية في أفغانستان (1979)، وفي مصر اكتسحت الجماعات الإسلامية الجامعات في السبعينيات، وقتل السادات على يد الجماعات الإسلامية (1981)، وبدأ الإخوان المسلمون مشاركة فاعلة في مجلس النواب في الثمانينيات، ووافق نواب الإخوان على التجديد للرئيس مبارك عام 1987، والثورة الإسلامية في سوريا (1979)، والمشاركة الإسلامية السياسية الواسعة في السودان منذ منتصف السبعينيات، ثم توجت باستيلاء الإسلاميين على السلطة بانقلاب عسكري عام 1989، وكذلك الحال في المغرب والجزائر والأردن والعراق واليمن ودول الخليج، ...
محمد قنفودي: كيف تقيم تجربتهم السياسية في الحكم؟ وهل من إشارات دالة على مستوى التدبير السياسي؟ وكيف كانت علاقتهم مع باقي الفرقاء السياسيين؟ وإلى ماذا ترجع حالة التشنج والصدام الدائم مع باقي التيارات السياسية؟
إبراهيم غرايبة: كما قلت في إجابة السؤال السابق، فإن الإسلام السياسي يشكل جزءا رئيسا من المشهد السياسي العام، سواء في الحكم كما في تركيا وإيران والسودان والعراق، أو المشاركة السياسية في الحكم والبرلمان كما في الأردن ومصر وباكستان وماليزيا والكويت واليمن والمغرب والجزائر، أو في الصراع السياسي والأمني كما في الجزائر ومصر في عقد التسعينيات، وأفغانستان وسوريا، أو في التأثير العام كما في معظم، إن لم يكن جميع الدول العربية والإسلامية، ثم هيمنت جماعات الإسلام السياسي على المشهد العام في السنوات الأولى من "الربيع العربي" وبخاصة في مصر وتونس.
يمكن بالطبع المعاينة بوضوح أن التجربة الإسلامية في الحكم والعمل السياسي راوحت بين الفشل والصراع والانقسام الاجتماعي والسياسي أو المشاركة العادية والباهتة التي لم تضف شيئا إلى الحياة السياسية والاقتصادية، ففي مصر والجزائر والسودان وأفغانستان دفعت بالبلاد والمجتمعات إلى التقسيم والصراع والهدر، وفي سوريا وليبيا واليمن والصومال كانت جزءا من حالة التقسيم والصراع والتفتت التي سادت، وفي تونس والمغرب تقدم جزءا مستقرا من الحالة السياسية لكنه أداء باهت.
غلب على جماعات الإسلام السياسي في الشرق الفشل والصراع وضعف الخبرة والأداء، لكنها في تونس والمغرب وجزئيا في الجزائر، كانت جزءا غير مميز من الحالة السياسية العامة.
محمد قنفودي: بماذا تفسر أفول حركات الإسلام السياسي في العالم العربي؟ وما هي العوامل التي أدت إلى ذلك؟ وهل يمكن اعتبار انعدام الخبرة والتجربة السياسية هو أحد مسببات الأفول؟
إبراهيم غرايبة: يفترض السؤال الاتفاق على أفول الحركات الإسلامية السياسية، وقد أختلف مع هذا التقدير، وإن كنت أوافق على فشل التجربة، وربما يكون التعبير الأصح هو الفشل وليس الأفول، ولذلك أسباب كثيرة، منها إضافة إلى ضعف الخبرة والتجربة السياسية إقحام الثابت المقدس في المتغير الإنساني، وتحميل الدين ما لا يحتمله، والدفع به إلى غير ما أمر الله، ما يذكر بقوله تعالى: "ويقولون هو من عند الله وما هو من عند الله" وإضفاء القداسة على التجارب التاريخية الإنسانية.
محمد قنفودي: ما هو مستقبل هذه الحركات؟ وهل يمكن أن تسترجع قوتها التنظيمية والسياسية وتتصدر المشهد الانتخابي والسياسي من جديد؟
إبراهيم غرايبة: مرجح أن الحركات الإسلامية السياسية متجهة إلى الانحسار والاختفاء لأسباب وتقديرات كثيرة، منها التناقض بين السلوك الواقعي والخطاب النظري المعزول عن تطورات وتعقيدات الحياة المعاصرة والعلاقات الخارجية والداخلية للدول، والتناقض والصدام مع الاتجاه العالمي المعاصر القائم على الحريات الدينية والشخصية والاجتماعية، وما يؤدي إليه من تهميش وضعف استقلال المجتمعات ودورها، سواء في تدينها أو في تحررها أو عدم تدينها، والصدام الشديد مع كثير من القوى والاتجاهات الاجتماعية والسياسية، وغياب رؤية دينية او فلسفية او سياسية محددة، فما يمكن اعتباره أداء سياسي إسلامي هو أقرب إلى الواقعية والتوفيق بين الأفكار والنظريات والتطبيقات السائدة، وضعف الاجتهادات الفكرية والتنظيرية.
يمكن على سبيل المثال تذكر مجموعة واسعة من التحديات التي أظهرت عزلة وعجز الإسلام السياسي عن المشاركة الإيجابية من القضايا المتعلقة بالحريات مثل التبني، وتعدد الزوجات، وضرب الزوجات، ومنح الجنسية لأبناء المرأة المتزوجة من زوج يحمل جنسية أخرى، وحق المرأة بالطلاق (الخلع)، وحق المرأة بالسفر والإقامة وحدها دون إذن من أحد، وحرية العلاقة بين الرجل والمرأة، (الحديث عن حرية العلاقة المثلية غير وارد ابتداء) وحق غير المسلمين في التعليم الديني في مؤسسات الدولة التعليمية، وحق الممارسة الدينية لجميع الأديان والمذاهب، ولأن المجتمع يغلب عليه الموقف المحافظ والمتشدد من هذه القضايا، ولأن الحكومات والأنظمة السياسية تتخذ موقفا ليس مختلفا عما يقدمه الإسلام السياسي؛ فلا يمكن بالتالي الانتظار من الحركة الإسلامية أن تأخذ موقفا متقدما على العلمانيين والنخب الحاكمة والسياسية من غير الإسلاميين، فهي في أحسن الأحوال ستكون حالة عادية غير مختلفة كما يحدث اليوم في تونس والمغرب.
[1]- مجلة ذوات العدد42