حوار مع الباحث التونسي الشريف الفرجاني: نشأة وتطوّر العلاقة بين الدين والسياسة في الإسلام
فئة : حوارات
حوار مع الباحث والمفكّر محمّد شريف فرجاني
حاوره: أنس الطريقي
- أ. ط: الباحث والمفكّر محمّد شريف فرجاني أستاذ العلوم السياسيّة والدراسات العربيّة، الحقول البحثيّة: العلوم السياسيّة، والدراسة المقارنة للأديان، وتاريخ الأفكار السياسيّة والدينيّة في العالم العربيّ.
صاحب أطروحة في علم السياسة بعنوان: العلمانيّة وحقوق الإنسان في الفكر السياسيّ العربيّ المعاصر(بالفرنسيّة)، نوقشت بجامعة ليون 2 عام 1989، وشهادة التأهيل للإشراف على البحوث الجامعيّة في الدراسات العربيّة: محاور وإشكاليّات البحث في علم الإسلاميّات والبوليتولوجيا المطبّقة على العالم العربيّ، جامعة ليون 2 عام 1989.
من أعمالكم:
- كتاب: الإسلام السياسيّ والعلمانيّة وحقوق الإنسان (1991) بالفرنسيّة، وهو كتاب أعيد إصداره بعد مراجعة من طرف المؤلّف لبعض المسائل، والأحكام، وتحيين لأفكار رئيسيّة، ضمن منشورات دار أمل (تونس، 2013)
- كتاب: سبل الإسلام: مقاربة علمانيّة للوقائع الإسلاميّة (1996) بالفرنسيّة
- كتاب: السياسي والديني في المجال الإسلاميّ (2005) بالفرنسيّة، وقد ترجم إلى العربيّة، والإسبانيّة، وهو يترجم إلى الإنجليزيّة
هذا فضلا عن مجموعة هامّة من الأعمال المشتركة مع باحثين مختصّين، والمقالات، والندوات، والمحاضرات في كافة بلدان العالم.
هذا يجعلكم من أبرز المختصّين في موضوع العلاقة بين الديني والسياسيّ في المجال الإسلاميّ.
ماذا يمكن أن تضيفوا لهذا التعريف؟
- م. ش. ف: ما يمكن أن أضيفه يتعلّق بتصوّري الشخصيّ لشروط الباحث الأكاديميّ الذي تكوّن عندي من تجربتي البحثيّة و الإنسانيّة، فبعد كلّ بحث نجد أنفسنا في وضعيّة وعي بأنّ ما لا نعرفه أكثر ممّا عرفناه عن الموضوع المدروس خلال البحث المنجز حوله ، فكلّ بحث يكشف للباحث أنّ قدر معرفته بالموضوع أدنى بكثير من حقيقة الموضوع، تبقى حقيقته أفقا عامّا يدفعنا إلى طرح أسئلة جديدة حوله لاستكشاف زوايا نظر أخرى قد تساهم في إنارته، و هذا طبيعيّ في ميدان المعرفة لا سيما بالظواهر الإنسانيّة التي تتراكب فيها مستويات عدّة تعقّد عمليّة الإحاطة بها.
زوايا النظر بدورها تتوسّع من تجارب الإنسان، وتجربتي السجنيّة سجينا سياسيّا (بين 1975 و1980، ثم 1983) كانت من المدارس التي أثرت معرفتي بالإنسان، بجوهره، ففيها يصبح الإنسان شفّافا، ويتخلّص من أغلفته الاجتماعيّة، كأنّنا نتعرّف على الإنسان الطبيعي، المعرّى من كلّ المضافات الاجتماعيّة. والعلاقات التي تبقى بعد هذه التجربة لا يمكن أن تزول. وهذا يساهم في مزيد من المعرفة بالإنسان الظاهرة، وبالظواهر المتعلّقة به.
- أ.ط: تمثّل قضيّة العلاقة بين الدينيّ والسياسيّ الموضوع الرئيسي لأعمالكم، والمعروف عنكم أنّكم تتبنّون في تناولها خطّ المثقّف الكونيّ، أي الذي يعتبر بأنّها ليست مسألة محلّيّة بل هي كونيّة، هل تنفون هذا التمايز بين العالمين الغربيّ والعربي والإسلاميّ الذي يؤكّده الكثير من الدارسين الغربيّين من معتنقي أطروحة برنار لويس وحتّى العرب، كما هو شأن حمّادي الرديسي في كتابه الاستثناء الإسلاميّ (بالفرنسيّة)؟
- م. ش. ف: بالفعل أعمالي تركّز على نشأة وتطوّر العلاقة بين الدين والسياسة في الإسلام، وفي التجربة التاريخيّة المتّصلة به، فلا بدّ من التمييز بين الإسلام الدين، والتجربة التاريخيّة الإنسانيّة لهذا الدين. بل على الأكاديمي ألا ينطلق من مقدّمات إيمانيّة تعتبر وقوع الوحي حقيقة ثابتة، هو كذلك بالنسبة إلى المؤمن لا إلى الباحث. أردت أن أتثبّت من حقيقة الأحكام الاستشراقيّة خاصّة القائلة بخصوصيّة إسلاميّة في موضوع العلاقة بين الدينيّ والسياسيّ، وعلاقة القانونيّ بالعقديّ. بداية أبحاثي الفكرة القائلة بأنّه لا وجود في الإسلام للمقولة المسيحيّة "أعطوا لقيصر ما لقيصر وللّه ما للّه" التي سمحت للمسيحيّة بالفصل بين الدينيّ والسياسيّ بعد الصراع التاريخيّ بين الكنيسة والدولة في التاريخ الغربي. والذي تبيّن لي أنّ هذه المقولة في حدّ ذاتها لم تكن تعني الفصل بل العكس هو الأصحّ، فقد عنت الرّبط بين القداسة والسلطة، وهذا ما تكشفه رسالة القدّيس بولس إلى الكورنثيّين، ففيها دعوة صريحة إلى طاعة السلطة لأنّها مستمدّة من اللّه. قد يطول الحديث عن الأدلّة على هذا الارتباط في المسيحيّة و في غيرها من الأديان، فمقارنة الأديان و هي حقل بحثيّ مفيد جدّا للموضوع، تكشف أنّ هذه الخاصيّة موجودة في الأديان جميعا، و في السلطة عامّة: هاجس السلطة هو تأمين استمراريّتها و استمراريّة النّظام الاجتماعيّ، و أفضل وسيلة لذلك هي إضفاء القداسة على الماسك بالسلطة، لهذا تخترق فكرة "السلطان ظلّ اللّه في الأرض" كامل التاريخ الإنسانيّ، فنجدها منذ الفراعنة في الفرعون الممثّل للامتداد الأرضي للإله الشمسيّ، و هي في التاريخ المسيحي منذ تحوّل المسيحيّة إلى ديانة رسميّة للدولة (الامبراطوريّة ) مع قستنطين (312م)، و مستمرّة في كتب التنظير السياسي الديني في المسيحيّة القروسطيّة، ثمّ في العصور الحديثة بعد الثورة الفرنسيّة، و حتّى في واقع الدولة العلمانيّة الفرنسيّة المعاصرة.
وقد أكّدت هذا التشابه بين المسيحيّة والإسلام في بعض دراساتي ومحاضراتي، ومشكلة الرّبط في واقع الكيانات السياسيّة ليست في الأديان، بقدر ما هي في الأسس التي تقيم عليها هذه الكيانات شرعيّتها، وما ينبني على تلك الأسس من تصوّر للعلاقة بين الدين والسياسة. كلّ تنظيم للسلطة يحاول أن يشرّع نفسه عبر تعيين مراجع مقنعة أو متوافقة مع طبيعة المعرفة المهيمنة في حقبة تاريخيّة معيّنة. ولهذا كان الارتباط المستمرّ بين الكسمولوجي والسياسيّ والطبيعي والسياسيّ. وحدث ذلك منذ العهد اليونانيّ، إذ وقع إضفاء صبغة طبيعيّة على تصوّر تنظيم المجتمعات، هناك نموذج طبيعي يحاول استنساخه أو الإيهام بهذا الاستنساخ في الواقع المجتمعي. ويقع إضفاء القداسة على هذا التصوّر الطبيعي ليقدس تصوّر التنظيم الاجتماعي. ويمكن ملاحظة ذلك بالنسبة إلى فلسفة الحقّ الطبيعيّ التي تستمرّ منذ الفلسفة الرواقيّة تغذّي مفهوم الدولة في الغرب إلى الآن عبر المعابر المعروفة للفلسفة العقديّة وتحويراتها من غروتيوس وبوفندورف إلى هوبس وروسّو. فكرة الطبيعة عوّضتها الأديان أو حاولت ذلك، وبدل قوانين الطبيعة ظهرت قوانين الأديان، ورجال الدين حاولوا في التاريخين المسيحي والإسلاميّ أن يبنوا على هذه القوانين نفوذهم. والسلطان أو الحاكم وظّفهم لخدمة سلطته، فأحد السلاطين العثمانيين دفن كلّ الذكور المولودين لأقاربه، ليضمن عدم ذهاب السلطة لغير نسله الشخصيّ، ودعا علماء الدين ليخطبوا في الناس بالشرعيّة الدينيّة لهذا الفعل.
- أ.ط: أنتم تجمعون في دراسة إشكاليّة الدين والسياسة بين العمل على النّصوص النظريّة، والدراسات التطبيقيّة في مراكز بحث عديدة في فرنسا خاصّة، والعمل الميداني الذي قادكم إلى الاتّصال المباشر بممثّلين واقعيين لتصوّرات عن العلاقة بين الدين والسياسة، في المغرب، وفي اليمن، وفي مصر، وفي غيرها من البلدان. هل يعني هذا اقتناعا بقيمة الدراسة المتعدّدة المناهج للظواهر، أي الدراسة البينمناهجيّة؟
- م.ش.ف: نعم، ثمّة شروط كثيرة للبحث الأكاديمي الجيّد، تتّصل بطريقة مقاربة الظواهر، وهي شروط تتضاعف بالنسبة إلى الظواهر الإنسانيّة، منها أنّه لا يمكن فهم فكر جماعة فكريّة معيّنة إلاّ بعد الاطّلاع على نصوصها، ومراجعها ويقود هذا إلى دراسة تتّجه اتّجاهين زمانيين هما الماضي المرجعيّ، وماضي النشأة الأولى للأفكار، والحاضر عامّة، وحاضرها في فكر الجماعة التي تمثّلها، من خلال النّصوص ومن خلال عيّناتها أيضا. ولهذا السبب درست أغلب النّصوص الخاصّة بالفرق الأساسيّة في الإسلام، وأجريت لقاءات ميدانيّة مع ممثليها أو معتنقيها المعاصرين، ففي المغرب مثلا اتّصلت برابطة العلماء المسلمين، وببعض المجموعات الإسماعيليّة. وهذا الاتّصال الميداني الشبيه بعمل الأنثروبولوجي مفيد جدّا في تكوين فكرة دقيقة عن التمايزات الموجودة بين النماذج المحليّة للجماعة الواحدة، تفاديا للتعميمات المغالطة التي كثيرا ما تسبغ الوحدة على ظواهر متباينة في الغالب. وإيماني بأهميّة الدراسة متعدّدة المناهج يجعلني أنكبّ في هذه الفترة على إعداد كتاب حول أبستمولوجيا الدراسة المقارنة للأديان. فهذه الدراسة من شأنها أن تساعد على تبيّن حقيقة المغالطة الرئيسة في موضوع الدين والسياسة التي أهتمّ بها في أعمالي لا سيما في كتابي: الدينيّ والسياسيّ في المجال الإسلاميّ. يجب أن نقارن بين النصوص في ديناميكيّتها التاريخيّة. والأديان تشترك في شيء جوهريّ هو الوعي الدرامي بمحدوديّة الوجود الإنسانيّ، كلّ الأديان أجابت بنفس الطريقة عن محدوديّة الحياة، فاعتبرت الموت انتقالا إلى حياة أخرى. وفي ارتباط بذلك جاء البعد المعياري لجميع الأديان، أي وجود معايير للسلوك تضمن الانتقال.
الدين من عناصر تكوين المعنى، وهناك منتجات أخرى للمعنى كإنجاب الأبناء، واصطناع الأهداف وتحقيقها. الإبداع أيضا من وسائل إضفاء المعنى على الوجود. لكنّ كلّ الأديان أيضا عندما تكون في وضعيّة اضطهاد تنسّب تصوّراتها ومعاييرها، فإن تحوّلت إلى وضع القوّة فهي تفرض معاييرها وتحوّلها إلى معايير سياسيّة. وهنا تكمن مشكلة العلاقة بين الدينيّ والسياسيّ، وهي ليست مشكلة مميّزة للعالم العربي أو الإسلاميّ.
- أ. ط: كيف ترون وضع العلاقة بين الدينيّ والسياسي في الغرب وفي العالم العربي، هل نتحدّث عن لائيكيّة النموذج الفرنسي، أم عن علمانيّة حسب الفهم الأنجلوساكسونيّ، أم عن ضدّهما؟
- م.ش.ف: أوّلا لا بدّ من تفادي المقابلات الآليّة بين الغرب والشرق أو العالم العربي أو الإسلاميّ، هذا يوقعنا في تعميمات غير مطابقة للواقع الفعليّ، فتركيا مثلا هي أشبه في علاقتها بالدين بالغرب من ألمانيا وهي الدولة الغربيّة، في مستوى العلاقة بين الديني والسياسيّ. بل يوجد التمايز في وضع هذه العلاقة داخل مقاطعات البلد الواحد كما هي الحال في المقاطعات الفرنسيّة، فالوضع مختلف بين مقاطعة الألزاس والموزال عن باقي فرنسا، كذلك هي الحال بين فرنسا والجزر التابعة لها.
وثانيا يجب التثبّت جيّدا من حقيقة اللائيكيّة التي تتبنّاها الدولة، فمقابل حياد الدولة الدينيّ نجدها تتدخّل في تنظيم شؤون الجاليات الدينيّة، كما هو شأن الجالية المسلمة في فرنسا. وهناك مظاهر عديدة على تدخّل الدولة في الدينيّ تصل حدّ التوظيف، منها ما يجري في التعليم الذي كان أوّل أساسات تعريف اللائي كية الفرنسيّة في بدايتها المؤسّساتيّة مع جول فيري (1905). وهذا يعني أنّ اللاّئيكيّة المعلنة رسميّا، وأنا أخيّر عليها مصطلح علمانيّة، ليست واضحة الحدود في مستوى التطبيق. والمتأمّل بإمكانه أن يستنتج أنّ السياسي في كلّ البلدان هو الذي يحدّد دور الدين ومفهومه وحيّزه. ومعنى هذا أنّ العلمانيّة أو اللاّئيكيّة تبقى مجرّد آفاق عمل للدولة، وربّما عناوين تؤكّد بها تصريحها بالتزامها بالأساس الديمقراطيّ للشرعيّة.
اختلاف الدول المسمّاة علمانيّة عن غيرها هو في أسس الشرعيّة التي تستند إليها الدولة في ممارسة السلطة والسيادة، فالديمقراطيّة جعلت السلطة تستغني عن حاجتها إلى الدين في تأسيس شرعيّتها، ولكنّ هذا لا يمنعها من أن تدرج الشأن الدينيّ ضمن صلاحيّاتها بل ويصل هذا حدّ التوظيف.
- أ. ط: قضيّة العلاقة بين الدينيّ والسياسي في الفكر العربيّ المعاصر قديمة ومتجدّدة. وهي تعود بعد الثورات العربيّة في تونس، ومصر، وليبيا، لتطرح بنفس الحجج التي طرحت بها بين دعاتها ومعارضيها قبل قرن من الزمن أي بين فرح أنطون، وشبلي شميل، وسلامة موسى من جهة، وجمال الدين الأفغاني، ومحمّد عبده من ناحية أخرى. لم يحرز الفكر العربيّ أيّ تقدّم في معالجة هذه القضيّة؟
- م.ش.ف: السبب في نظري هو أنّ المشكلة لم تعالج في العمق، وكانت هذه المعالجة تؤجّل في كلّ مرّة تحت ضغط الوضعيّات التاريخيّة التي كانت تتطلّب حلولا عاجلة، أجّلت هذه القضيّة في فترة محاربة الاستعمار ولم يهتمّ وقتها بتحديد نوع الدولة التي سيقع تبنّيها لاحقا بعد نهاية المعركة التحرّريّة، ولهذا لم تثر مسألة طبيعة الشرعيّة التي ستبنى عليها الدولة، ثمّ لمّا بدأ تجسيم مشاريع البناء الوطني في سياق دولة الاستقلال. وعندما أثير بعض الجدل وقع إخماده بحجّة البناء الوطني، ولم تطرح القضيّة للنقاش العميق، ولم يفتح ملفّ الدين لحوار تتجادل فيه الأطروحات، وتغلّبت الحلول العمليّة التي اختارتها الدولة على الطلبات الاجتماعيّة التي كانت تعبّر عن حاجتها الأكيدة لهذه المراجعة.
- أ.ط: رغم أنّ تعريفات العلمانيّة أنجزت منذ قرن من الزمان تقريبا، وأعيد شرحها وتعريفها في فترات متلاحقة (فؤاد زكريا، عزيز العظمة، محمّد أركون، عبد الوهاب المسيري...) لم يستمرّ الخلط بينها وبين اللاّئيكيّة، بل يتحوّل هذا الخلط إلى أداة رئيسة في كسب المعركة على السلطة؟
- م. ش. ف: السبب هو أنّ القدسنة أداة أساسيّة في امتلاك السلطة، نابليون بونابارت كان يصرّح بأنّه ملحد ولكنّه مع هذا كان يصرّح أيضا أنّه لا يستطيع أن يفرّط في الدين وسيلة لضمان اللّحمة الاجتماعيّة، وتقديم الإجابات عن أسئلة الجماعة حول معنى حياتها. والجماعات الإسلاميّة استغلّت هذا الأمر لصالحها فساهمت في تكريس هذا الخلط ربّما لخلطها هي بين المعنيين المختلفين، ولكنّها في النهاية كانت توظّف الدينيّ في كسب المعركة السياسيّة.
- أ. ط: بم تفسّرون تمكّن الأطروحات الداعية إلى الربط بين الدين والسياسة من الانتصار في المعركة الانتخابيّة في كلّ من تونس، ومصر، وليبيا، والمغرب؟
- م.ش. ف: الأسباب كثيرة في الواقع، وما يحضرني منها السبب الإجرائيّ فالأحزاب السياسيّة لم توضّح تمايزاتها من جهة المشاريع التي تتبنّاها وهي تدخل المعركة الانتخابيّة، والقوائم الانتخابيّة غير الواضحة شتّتت الأصوات، وقد عشت ذلك شخصيّا واحتججت عليه. من الأسباب أيضا ما يتمثّل في الحاجة المستمرّة إلى الدين عند الشعوب العربيّة و الإسلاميّة باعتباره أبرز منتجات المعنى في الحياة. يضاف إلى ذلك ما استقرّ في الذهنيّة الجماعيّة من ربط الكمال الأخلاقي بالتديّن، ولذلك اعتبر أنّ انتخاب الساسة المتديّنين ضمانة من كلّ استغلال للسلطة في سبيل المصلحة الشخصيّة وسرقة أموال الشعب. هذه الشعوب تقيّم الكفاءة السياسيّة لا بالنجاعة في الأداء السياسيّ إنّما بالتقوى الدينيّة التي تعتبر عندها شرط الانضباط الأخلاقيّ.
لكن لا بدّ من الانتباه إلى أنّ هذه النتيجة للانتخابات ليست متوقّفة على العالم العربيّ أو الإسلامي، ففي بولونيا وإسبانيا وقع الأمر نفسه.
- أ.ط: صدّرتم كتابكم "الديني والسياسيّ في المجال الإسلاميّ" بقولة ماركس حول استغناء الدولة الديمقراطيّة عن الدين ليكون اكتمالها السياسيّ، لأنّ أساس الدين متحقّق فيها. هل هذا يعني أنّكم مع السياسيّ المتحرّر من كلّ إكراه؟ ما نوع العلاقة التي تتصوّرون بين الدينيّ والسياسيّ، هل تتبنّون نظرة السوسيولوجيا والأنتروبولوجيا حول الأهميّة الاجتماعيّة للدين أم نظرة اللاّئيكيّة التي تعتبره شأنا ضميريّا؟
- م.ش.ف: العلاقة بين الدين والدولة في نظري علاقة تكامل، فالدولة تستعمل الدين أو تستخدم قوالبه في ضمان الرباط الاجتماعيّ، ولكن المرفوض هو تحويل الدين إلى أساس للشرعيّة، ففي السياق الديمقراطيّ لا شرعيّة غير الشرعيّة التعاقديّة على شروط حقوق الإنسان وعلى رأسها الحريّة.
- أ. ط.: ما مستقبل العلاقة بين الدين والسياسة في هذه الشعوب العربيّة؟ وهل تتوقّعون إمكانيّة أن يؤدّي اختبار السلطة إلى تعديلات أساسيّة في تصوّرات دعاة الإسلام السياسيّ لمفهوم الارتباط بين الديني والسياسيّ؟
م.ش.ف.: هذا السؤال أجبت عنه في كتابي "الدينيّ والسياسي في المجال الإسلاميّ"، ما أتصوّره أنّ ظاهرة تسييس الدين، مرتبطة بالاستبداد، وغياب الديمقراطيّة، ففي ظلّ غياب الديمقراطيّة تكون الأسطر الإيديولوجيّة بالدين أو باسم أيّة إيديولوجيا أخرى أمرا حتميّا، وكلّ من يتصوّرون السلطة غنيمة يجب الحصول عليها أو الاحتفاظ بها يستدعون الدين لإضفاء القدسيّة على نفوذهم ورمي خصومهم بالإلحاد. ولكنّ ما ينسونه أنّ الدين إذ يوظّف بهذه الطريقة يمثّل سلاحا ذا حدّين، فقد يسمح بشرعنة السلطة كما قد يسمح بنزع الشرعيّة عنها. أعتقد أنّ هذا التوظيف للدين آيل إلى الزوال متى تحقّق الحلم الديمقراطي، فالشرعيّة الديمقراطيّة تقصي من اعتبارها العامل أو الانتماء الدينيّ، لتقيم أساس السلطة على مفهوم المواطنة الذي ينبني على معايير مباينة للمعيار الدينيّ. إنّ مسار العلمنة الذي لا محيد عنه سوف ينهي هذه الآليّة الإيديولوجيّة متى تحقّقت فعلا عمليّة تحرير الضمير.
انتهى