حوار مع الباحث المغربي الدكتور سعيد الصديقي
فئة : حوارات
حوار مع الباحث المغربي الدكتور سعيد الصديقي:
لا يمكن الحديث عن حركة شعبوية قوية خارج السياق الديمقراطي[1]
حاوره: الدكتور إدريس الكنبوري
يرى الدكتور سعيد الصديقي، أن الشعبوية هي نتيجة عوامل موضوعية سياسية واقتصادية واجتماعية، منها الفساد السياسي والهجرة وآثار العولمة الاقتصادية والأزمة الاقتصادية العالمية لعام 2008.
ويوضح أستاذ العلاقات الدولية بجامعة العين للعلوم والتكنولوجيا بأبوظبي، في حواره مع مجلة "ذوات"، أن من أهم القواسم المشتركة بين الحركات الشعبوية اليمينية دفاعها عن الثقافة الوطنية ومعاداتها للعولمة والتنوع الثقافي والمهاجرين، كما أنها تتغذى بشكل كبير من الخطاب القومي المتطرف، مما يجعلها تتصف بالانغلاق القومي.
وخلافا للرأي السائد يعتقد الدكتور الصديقي أن الشعبوية الجديدة لا تشكل تهديدا حقيقيا للديمقراطية في حد ذاتها، ما لم تتحول إلى حركات نازية أو فاشية، لأن ليس من أهداف هذه الأحزاب الشعبوية إلغاء الديمقراطية عكس الأحزاب الشوفينية التي تنزع إلى الاستبداد وإلغاء الآخر، لكنه يعتقد أن الشعبوية تشكل في المقابل تهديدا لبعض مظاهر الديمقراطية الليبرالية مثل حرية التعبير، وحرية الصحافة، والتعدد الثقافي.
وفي ما يتعلق بالعالم العربي، يرى الباحث المغربي أن الحركات الشعبوية العربية ترتبط عموما بالعملية الانتخابية التي تسمح لها بالظهور، والتي قد تتيح لها في حالات معينة الوصول إلى الحكم، لكن الشعبوية تظل ظاهرة تتحكم فيها السلطات التي تهيمن على العملية السياسية وتوجه الانتخابات، إذ رغم إمكانية حضور بعض عناصر الشعبوية في الخطاب السياسي لبعض الزعماء، إلا أن تأثيرها العملي لم يتخط الحدود التي ترسمها السلطات.
والدكتور سعيد الصديقي حاصل على درجة الدكتوراه في العلاقات الدولية من جامعة وجدة في المغرب في مارس (آذار) 2002، اشتغل أستاذاً للعلاقات الدولية في جامعة فاس ما بين عامي 2004 و2012، ثم التحق بعد ذلك للتـدريس بـ "جامعة العين للعلوم والتكنولوجيا" في الإمارات. نشر الدكتور الصديقي أربعة كتب، من ضمنها كتاب: "الدولة في عالم متغيّر: الدولة الوطنية والتحديات العالمية الجديدة"، الذي نشره "مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية"، ونشر أيضاً العديد من الأبحاث في دوريات محكّمة عربية ودولية، في موضوعات تتناول القضايا المعاصرة، ومنها: (الدبلوماسية الجديدة، والهجرة، وأسوار وسياجات الحدود الدولية، والسياسة الخارجية المغربية، والدولة-الوطنية، وتأثير وسائل الاتصال الجديدة، والتصنيف الدولي للجامعات، ...)، كما شارك في مؤتمرات علمية دولية كثيرة في المغرب وخارجه. وسبق أن حصل على بعض المنح الدولية، وأهمها: "منحة فولبرايت" لإجراء بحث في جامعة تكساس، و"منحة زميل بحث" في كلية الحلف الأطلسي للدفاع في روما، كما حصل على "الجائزة العربية للعلوم الاجتماعية" لعام 2015، في مصاف الأبحاث المنشورة في الدوريات العربية أيضاً عن بحث بعنوان: "الجامعات العربية وتحدّي التصنيف العالمي: الطريق نحو التميّز"، الذي سبق أن نُشر في مجلة "رؤى استراتيجية"، التي يصدرها "مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية".
إدريس الكنبوري: كيف تنظرون إلى الشعبوية كظاهرة متعددة الأبعاد: سياسية، ثقافية، أيديولوجية؟
سعيد الصديقي: على الرغم من أن الشعبوية يمكن أن تتخذ أبعادا متنوعة، إلا أن هناك شبه اتفاق عام على أن الشعبوية هي ظاهرة سياسية بالدرجة الأولى، وخضعت للدراسة أكثر من قبل علماء الاجتماع والسياسة، ومع ذلك لا يزال هناك جدل واسع حول تحديد مفهومها. فهناك من يرى أنها أسلوب سياسي، ومن يصفها بالأيديولوجية، ومن يرى فيها شكلا من أشكال التعبئة، ومن يعتبرها تعبيرا ثقافيا مسيسا، ومن ينظر إليها بكونها استراتيجية لإعادة توزيع السلطة السياسية بين المجموعات الاجتماعية التقليدية والجديدة. ومع كل هذا التنوع في محاولات تعريف هذه الظاهرة، فإن السمة المشتركة التي تميز الحركات الشعبوية هي معاداة "النخبة الفاسدة" وتمجيد الشعب. تُقسم الشعبوية المجتمع إلى قسمين: الشعب النقي، والنخبة الفاسدة. وقد تحمل هذه النخبة مسميات مختلفة حسب الدول، فتسمى النظام (Le système) في فرنسا، والمؤسسة الحاكمة (establishment) في أمريكا، والطغمة (La Casta) في إسبانيا، والنخبة السياسية في هولندا… وهي تشمل النخب الحاكمة والمعارضة على السواء، ولا تتعلق فقط بالمنخرطين في العمل السياسي بمعناه الدقيق، بل تضم شبكة واسعة من العلاقات القائمة على المصالح السياسية والاقتصادية وغيرها، فمثلا يصفها (بيبي جريلو) زعيم "خمس نجوم" في إيطاليا بالمخربين الثلاثة: السياسيون، والصناع، والصحفيون. ونجد خطابات الرئيس الأمريكي دونالد ترامب مشحونة دائما بانتقاده لما يسميه "المؤسسة"، حيث جاء في خطابه الافتتاحي في 20 يناير (كانون الثاني) 2017: "حمت المؤسسة نفسها، ولكن ليس مواطني بلدنا. لم تكن انتصاراتهم انتصاراتكم، لم يكن فوزهم فوزكم. وبينما كانوا يحتفلون في عاصمة أمتنا، كان هناك القليل للاحتفال به للعائلات التي تكافح في جميع أنحاء أرضنا". تعتبر الحركات الشعبوية نفسها الممثل الوحيد للشعب الحقيقي، أو ما تسميه أحيانا الأغلبية الصامتة، وتقدم نفسها بديلا للنخب الفاسدة، وهذا التقسيم أخلاقي وليس اقتصاديا، فـدونالد ترامب رجل ثري لكنه يعتبر نفسه جزءا من الشعب النقي والطاهر. وقد كان هذا التقسيم واضحا في الانتخابات الرئاسية الأمريكية في خطاب كل من دونالد ترامب وبيرني ساندرز بتبنيهما لشعار "نحن" ضد "هم" (us versus them) لحشد دعم الناخبين، لكن كان هناك اختلاف في القضايا التي ركزا عليها اهتمامهما. فبينما كان خطاب ترامب مشحونا بمخاوف الهجرة والتخويف منها، كان تركيز ساندرز منصبا أكثر على التفاوت في توزيع الثروة. جاء في خطاب ترامب الافتتاحي: "اليوم لا ننقل السلطة من إدارة إلى أخرى، أو من طرف لآخر فحسب، ولكننا ننقل السلطة من واشنطن العاصمة ونعيدها للشعب الأمريكي... 20 يناير (كانون الثاني) 2017، سيُذكر باعتباره اليوم الذي أصبح فيه الناس حكام هذه الأمة من جديد". لكن تختلف الحركات الشعبوية في هذا العنصر، فليست كلها تدعي احتكارها تمثيل الشعب، فمثلا بوداموس في إسبانيا رغم أنه ينتقد النخبة، لكنه لا يدعي أنه الممثل الحقيقي للشعب الإسباني، لذلك لا يعده بعض الكتاب شعبويا بالمعنى الدقيق للكلمة، وإن كان خطابه يتصف ببعض عناصر الشعبوية.
الشعبوية، كغيرها من الظواهر السياسية، هي نتيجة عوامل موضوعية سياسية واقتصادية واجتماعية، وتشكل المشاعر الوطنية - والدينية أحيانا- وقودها. ويعود صعود الشعبوية الجديدة في أوروبا إلى عدة عوامل، أهمها نمو التفاوت الاجتماعي، وارتفاع نسبة البطالة، وتضاعف أعداد المهاجرين واللاجئين، ومظاهر العولمة المهددة للسيادة الوطنية والثقافات المحلية. وقد سمح التطور الهائل في وسائل التواصل الاجتماعي بانتشار الخطاب الشعبوي، وفتح المجال لنقاش وتسييس بعض المواضيع الحساسة التي كانت تتحاشاها القوى السياسية التقليدية، مثل الهجرة، والإسلام في أوروبا. وإذا كانت آثار العولمة الاقتصادية والثقافية والتغير الديموغرافي وأزمة الديمقراطية التمثيلية ساهمت في الصعود الأخير للشعبوية في أوروبا، فإن الفساد والفشل في توزيع الخدمات العامة كانا أهم أسباب صعود الشعبوية في أمريكا اللاتنينية ونجاحها في بعض الانتخابات. ورغم أن الخطاب الشعبوي يتصف تقليديا بالسطحية والبساطة والعاطفة، فإن بعض الزعماء الشعبويين في أوروبا استطاعوا أن يطوروا برامجهم لتستجيب لمطالب فئات مختلفة من الناخبين.
وقد ظهرت الشعبوية المعاصرة في أوروبا منذ ثمانينيات القرن الماضي، واستهدفت بخطابها في الدرجة الأولى المهاجرين والأقليات الوطنية، وأما في أمريكا اللاتينية فقد اتسمت الشعبوية بتبنيها لخطاب شامل يستوعب هويات إثنية مختلفة. أما في الولايات المتحدة الأمريكية، فقد ارتبطت الشعبوية بأيديولوجيات اقتصادية وأحزاب مختلفة، من الحزب الشيوعي في القرن التاسع عشر، واليسار الجديد في عقد الستينيات من القرن الماضي، إلى ظاهرة اليمين الشعبوي مع الرئيس الأمريكي الحالي.
استطاعت بعض الأحزاب الشعبوية في أوروبا عبر توظيفها لهذه الأوضاع في خطابها، استلام مقاليد الحكم في العديد من الدول الأوروبية، مثل فنلندا، وهنغاريا، ولاتفيا، ولتوانيا، والنرويج، وسويسرا. وحتى في الدول التي لم تصل فيها الأحزاب الشعبوية إلى الحكم، مثل فرنسا وبريطانيا وألمانيا، فقد حصلت على تقدم انتخابي ثابت. ورغم أن الشعبوية أكثر انتشارا في أوروبا، إلا أنها ظاهرة عالمية، فهناك حركات وشخصيات شعبوية في مختلف القارات، لاسيما في أمريكا اللاتينية (مثل هوغو شافيز في فنزويلا، وجوان بيرون في الأرجنتين، وإفو موراليس في البيرو)، وآسيا (مثل رودريغو دوتيرتي في الفليبين، وشينزو آبي في اليابان، وناريندرا مودي في الهند)، وأستراليا (مثل بولين هانسون).
عادة ما تكون الشعوبية موجة عابرة، قد يطول تأثيرها أحيانا، لكنها حالة غير مستمرة في الزمان والمكان؛ فالإضافة إلى العوامل الموضوعية التي تشجع على ظهور الحركات الشعبوية واتساع تأثيرها، فإنها شديدة الارتباط بكاريزما الزعيم والقائد الملهم، حيث لا تخلو حركة شعبوية من زعيم، وهناك احتمال ضمور الحركة باختفاء هذا الزعيم أو تراجع شعبيته وتأثيره كما حدث في فنزويلا مع وفاة شافيز.
أما فيما يتعلق بالشعبوية الثقافية، فليس هناك أي تعريف محدد لها، ويُطلق بعض الكتاب هذا الوصف على كتاب آخرين بمجرد الاختلاف معهم، ولعل التعريف الأشهر هو الذي قدمه عالم الاجتماع البريطاني جيم ماكغيغان (Jim McGuigan) في كتابه الشهير المعنون بـ "الشعبوية الثقافية" (Cultural Populism) الذي حددها في الثقافية التي تتوجه بشكل أساسي إلى الناس العاديين، وتعطي قيمة للثقافة الشعبية ضد الثقافة "الجادة". ورغم الدراسات الكثيرة التي تصدت للثقافة الشعبوية، إلا أن هذا المفهوم لا يزال محط جدال، وتظلّ الشعبوية ظاهرة سياسية بالدرجة الأولى.
إدريس الكنبوري: هل تعتقدون أن الشعبوية نقيض الثقافة السياسية التقليدية، أم هي في خدمة هذه الثقافة؟
سعيد الصديقي: يختلف معنى الثقافة السياسية التقليدية كما تُستعمل في الصحافة العربية عن معناها في الدراسات الأكاديمية العالمية، حيث تحيل الثقافة السياسية التقليدية من الناحية الأكاديمية إلى الثقافة السياسية التي سادت في الحضارات القديمة، لاسيما لدى الرومان والإغريق والصينيين، والتي لا تزال بعض قيمها سائدة حتى الآن، وهي مناقضة تماما للثقافة السياسية الحديثة ولقيم الديمقراطية الليبيرالية. ومن الناحية العلمية، تتصادم الشعبوية في بعض الجوانب مع بعض قيم الثقافة السياسية الحديثة (الليبرالية) وليس الثقافة التقليدية. وأما الثقافة السياسية المعاصرة، فقد ارتبطت بشكل أساسي بالفكر السياسي الأوروبي الذي ستتحدد ملامحه بظهور نموذج الدولة الوستفالية بعد منتصف القرن السابع عشر الميلادي. وقد تطورت هذه الثقافة السياسية بتطور مؤسسات الدولة الوطنية لتتكرس أكثر مع نموذج الديمقراطية الليبرالية. يمكن القول إن الثقافة السياسية الحديثة تقوم على النسبية وقبول الآخر والديمقراطية التمثيلية. وتتناقض الشعبوية مع الثقافة السياسية الليبيرالية في ادعائها امتلاك الحقيقة في كل شيء، حيث تعتبر الحركات الشعبية نفسها الممثل الوحيد للشعب الحقيقي؛ وفي الآن ذاته، فإن الشعبوية تتحصن ببعض القواعد السياسية التي ارتبطت بظهور الدولة الحديثة، ومحاولة استعادة بعض أسس السياسة الوستفالية من قبيل الدفاع عن الدولة الوطنية والسيادة، ومعاداة العولمة والمؤسسات الفوق- وطنية، مثل الاتحاد الأوروبي الذي تحمله الحركات الشعبوية مسؤولية سياسات التقشف التي تنهجها بعض الدول الأعضاء.
كانت عناصر الخطاب الشعبوي حاضرة دائما ومجتمعة أو منفصلة في الخطاب السياسي، لكنه لم يكتمل باعتباره خطابا متميزا حتى القرن التاسع عشر مع حركات المزارعين في روسيا، وفي أمريكا في منتصف القرن العشرين. وقد اتسم تاريخ الشعبوية بالاضطراب، حيث كان مسارها عبارة عن موجات تتباعد في الزمان، تظهر وتختفي أو تضعف، ثم تعود للبروز عند وجود الظروف الملائمة. وهنا نشهد عودة جديدة للشعبوية مؤخرا في أوروبا والولايات المتحدة وأمريكا اللاتينية وفي بعض البلدان الآسيوية، وكأنها عدوى تنتقل من بلد إلى آخر، وهي تختلف في قوتها والقضايا التي تهتم بها ليس فقط من دولة إلى أخرى، بل حتى داخل الدولة الواحدة، وهذا ما جعل البعض يفرق بين الشعبوية الجيدة والشعبوية السيئة.
إدريس الكنبوري: إلى أي حد يمكننا القول إن الشعبوية مرادفة للانغلاق القومي والأيديولوجي؟
سعيد الصديقي: من القواسم المشتركة بين الحركات الشعبوية اليمينية دفاعها عن الثقافة الوطنية ومعاداتها للعولمة والتنوع الثقافي والمهاجرين، وهي تتغذى بشكل كبير من الخطاب القومي المتطرف، وهذا ما يجعلها تتصف بالانغلاق القومي، لكن الحركات الشعبوية ذات التوجه اليساري أو "الليبرالي" في إسبانيا واليونان مثلا، وحتى في أمريكا اللاتينية، فنجدها متسامحة مع "الآخر". لذلك، فإن الانغلاق القومي قد يظهر في حركات شعبوية دون أخرى، مما لا يجعلها مرادفة للانغلاق القومي الذي يتسم به عادة خطاب الشعبوية اليمينية. وهذا ما يميز الشعبوية عن التيارات الفاشية والنازية، رغم أن هذه الأخيرة تجد جذورها في الأولى، ولكن هذا لا يعني أن الحركات الشعبوية تنتهي حتما إلى الفاشية. لكن هناك بعض الحالات التي تحولت فيها حركات شعبوية إلى الفاشية أو النازية كما حدث في ألمانيا في مرحلة ما بين الحربين العالميتين. وهناك حالات لتحول فاشيين سابقين إلى الشعبوية والالتزام بالقوانين الديمقراطية كما في حالة (الحركة الاجتماعية الإيطالية)، التي تحولت إلى (التحالف الوطني)، ولديها الآن أعضاء في البرلمان. وعكس الفاشية والنازية اللتين ألغيتا الديمقراطية، فإن الشعبوية تدعي سعيها لتحسين أداء الديمقراطية، كما أن الفاشية تعتمد على المليشيات للوصول إلى الحكم وليس على الانتخابات فقط. والأمر ذاته يسري على علاقة الشعبوية بالانغلاق الأيديولوجي، فقد يتصف الخطاب السياسي لبعض الحركات الشعبوية بالتعصب والدوغمائية والتطرف، لكن هذه الخصائص ليست سمة مشتركة بين كل الحركات الشعبوية، لاسيما وأن أغلبها يفتقد إلى الانسجام الأيديولوجي، حيث نجد الشعبويات المعاصرة في أوروبا وأمريكا يدعمها أفراد ينتمون إلى مشارب فكرية وأيديولوجية متنوعة، وإلى فئات اجتماعية مختلفة (الطبقات الفقيرة والطبقة الوسطى)، يوحدهم العداء للنخبة "الفاسدة" والاستياء الشديد من الأوضاع الاقتصادية والسياسية السائدة، لذلك لا أرى أن الشعبوية مرادفة للانغلاق الأيديولوجي.
إدريس الكنبوري: نلاحظ أن الأحزاب القومية ذات الخطاب الشعبوي في أوروبا أصبحت في صعود لافت في الفترات الأخيرة، فما هي الأسباب برأيكم؟
سعيد الصديقي: اختلف الباحثون كثيرا في تحديد عوامل الصعود الجديد للشعبوية في أوروبا، وهناك فرضيات كثيرة تحاول أن تفسر هذه الظاهرة. وترى الفرضية الأولى أن نمو الشعبوية علامة على عدم رضا فئات واسعة من الشعب من النخب التقليدية وأداء المؤسسات التمثليلية؛ بمعنى أن الشعبوية هي نتيجة مباشرة لأزمة الديمقراطية التمثيلية وفقدان الثقة في المؤسسات السياسية التقليدية خاصة في أوروبا؛ فالتمايز الذي كان قائما بين اليسار واليمين حول القضايا الاجتماعية والاقتصادية ودور الدولة لم يعد قائما، وأصبحت جميع الأحزاب التقليدية متشابهة في خطابها وبرامجها، ولا تقدم إجابات لاحتياجات الكثير من فئات الشعب. وتربط الفرضية الثانية بين ظهور الشعبوية والأزمات الاقتصادية التي أدت إلى الركود الاقتصادي ونقص فرص الشغل وارتفاع نسبة البطالة؛ بمعنى أن الشعبوية - حسب هذه الفرضية- هي إفراز طبيعي لهذه الأزمات الاقتصادية. ويركز الكثير من الكتاب على الأزمة الاقتصادية التي تعرضت لها أوروبا منذ عام 2008، باعتبارها سببا مباشرا للموجة الأخيرة للشعبوية في أوروبا. ومما يقلّل من حجج هذه الفرضية أن هناك دولا ظهرت فيها الأحزاب الشعبوية دون أن تكون هناك أزمة اقتصادية، مثل الدول الإسكندنافية وهولندا، كما أنه بالمقابل هناك دول تعرضت لأزمات اقتصادية لكنها لم تظهر فيها حركات شعبوية ذات شأن مثل البرتغال وإيرلندا. وتفسر الفرضية الثالثة ظاهرة الشعبوية الجديدة في أوروبا بالتغير الديموغرافي والاجتماعي بسبب ارتفاع عدد المهاجرين، لكن ما ينقض ادعاء هذه الفرضية أن هناك دولا ساهمت فيها الأزمة الاقتصادية في صعود الشعبوية، لكن موجات الهجرة واللجوء إلى هذا البلد لم تؤدّ إلى بروز مشاعر العداء ضد الأجانب بشكل ملحوظ. ولعل أبرز مثال على هذا هي اليونان، التي تقدم لنا دليلا على عدم وجود رابطة تلقائية بين الشعبوية والهجرة. وترى الفرضية الرابعة أن الشعبوية هي أحد إفرازات العولمة التي تسببت في مزيد من التفاوت الاجتماعي والتفاوت في الفرص، وتكريس التعدد الثقافي، وتهديد للهويات والثقافات الوطنية، مما جعل بعض الفئات تشعر بالخوف من فقدان الهوية والسيادة الوطنيتين، فأصبحت تتحصن بالثقافة والانتماء الوطني ضد مختلف مظاهر العولمة. وخلاصة القول إن هذه الفرضية تعتقد أن الشعبوية هي رد فعل ثقافي وسياسي ضد هذه المخاوف.
إن هذه العوامل كلها مجتمعة أو منفصلة تساهم في إيجاد ظروف لظهور الشعبوية، لكن لا توجد هناك علاقة سببية حتمية بين هذه الظواهر والشعبوية، وحتى وإن وجدت هذه العوامل الموضوعية كلها، فإنها قد تؤدي إلى ظهور الشعبوية، لكنها غير كافية وحدها لنمو زخمها، بل تحتاج إلى شخصية كاريزمية لتقود الحركة، مثل ترامب في أمريكا، وسيزار في اليونان، وشافيز في فنزويلا، ولوبان (الأب والبنت) في فرنسا، وبرليسكوني في إيطاليا… ورغم أنه ليس هناك ارتباط بين ظهور الشعبوية والقيادة الكاريزمية، لأن هناك حركات شعبوية تعتمد على شبكات تنظيم غير مركزية، لكن التجربة أثبتت أن نجاح الحركات الشعبوية في الانتخابات، أو على الأقل حصولها على نسب عالية من أصوات الناخبين، مرتبط بوجود هذه القيادات القادرة على حشد الدعم لأحزابها من خلال خطاب مباشر وعاطفي وسهل الفهم. وتخوض هذه القيادات الشعبوية حربا كلامية ضد النخبة والحركات المعارضة، وتقدم رؤى غير واقعية لمشاكل معقدة، مستغلة بذلك وسائل التواصل الجديدة كما فعل ترامب خلال حملته الانتخابية.
إدريس الكنبوري: ألا يبدو أن النزعة الشعبوية في أوروبا اليوم، تهدد مكتسبات الفكر الليبرالي والقيم الديمقراطية والتعددية؟
سعيد الصديقي: لا أرى أن الشعبوية الجديدة تشكل تهديدا حقيقيا للديمقراطية في حد ذاتها، ما لم تتحول إلى حركات نازية أو فاشية، لأن ليس من أهداف هذه الأحزاب الشعبوية إلغاء الديمقراطية عكس الأحزاب الشوفينية التي تنزع إلى الاستبداد وإلغاء الآخر. تشكل الشعبوية في الحقيقة تهديدا لبعض مظاهر الديمقراطية الليبرالية مثل حرية التعبير، وحرية الصحافة، والتعدد الثقافي. ويظهر تهديد الشعبوية للديمقراطية الليبرالية في خطاب بعض الحركات والزعماء الشعبويين الذين يتصفون بالتعصب والعنصرية وكره الأجانب والمهاجرين والعداء للأقليات بمختلف أشكالها، وفهمهم الضيق لـ "الشعب" الذي يستعبدون منه "لآخر"، ونزعهم الشرعية عن خصومهم السياسيين الذين يرونهم أعداءً وأشرارا وليس مجرد خصوم. وتشكل الشعبوية أيضا تهديدا للأحزاب التقليدية من اليسار واليمين ولإنجازاتها في مجال الاندماج الأوروبي وحقوق المهاجرين واللاجئين. وهناك من يبالغ في خطر الشعبوية في أوروبا، ويرى أن الأحزاب اليمينية الشعبوية تدفع التجربة الديمقراطية الليبرالية إلى حافة الهاوية. ففي عام 2010 أعلن رئيس المجلس الأوروبي، هيرمان فان رومبوي، في خضم صعود الأحزاب اليمينية المعادية للأجانب، أن الشعبوية تشكل أكبر خطر على أوروبا. لا يكمن هذا الخطر حسب هذا التوجه، في إمكانية إلغاء العملية الديمقراطية، لأن هذا أمر مستبعد جدا لاسيما في أوروبا، بل يكمن هذا الخطر في احتمال ممارسة الحركات الشعبوية لاستبداد الأغلبية، كما حدث في بعض دول أمريكا اللاتينية، لأن هذه الحركات الشعبوية تعتقد أنها إذا فازت بالانتخابات ستكون قد حازت على تفويض من الشعب لمواجهة النخبة السياسية "الفاسدة".
لكن بالمقابل هناك اتجاه ثان يرى أن الشعبوية يمكن أن توسع من مجال الديمقراطية باستيعابها لفئات شعبية مهمشة، كما حدث مع الحركات اليسارية في أمريكا اللاتينية، لأن قدرة الحركات الشعبوية على حشد الملايين من المهمشين، والذين لم يكونوا مشاركين في العملية السياسية، وتوسيع مجال المشاركة السياسية قد يضفي الكثير من الحيوية على الحياة الديمقراطية التي باتت تعاني من الرتابة، لاسيما في أوروبا الغربية. ويمكن القول بعبارة أخرى، إن لدى الشعبوية نموذجا خاصا للديمقراطية، والذي يسميه فريد زكريا "الديمقراطية غير الليبيرالية" (illiberal democracy). أتصور أن الحركات الشعبوية في عمومها مؤيدة للديمقراطية، ومن الصعب أن توجد في المجتمعات غير الديمقرطية التي لا تسمح بالتعددية والانتخابات؛ فهي كما قلت لا تسعى إلى إلغاء الديمقراطية، بل بالعكس تدّعي أنها تريد إصلاح أعطاب الديمقراطية، وأنها هي التي تمثل الإرادة العامة للشعب، وتدافع عن آليات الديمقراطية المباشرة مثل الاستفتاء والانتخابات والتصويت، بل وتحتاج هذه الآليات أيضا لتحقيق أهدافها. ومما يقلل من مخاوف تهديد هذه الأحزاب للديمقراطية، أن الأنظمة الانتخابية وطبيعة التحالفات الحزبية ويقظة الرأي العام المستنير في أغلب البلدان الأوروبية، ستكبح طموحات الحركات الشعبوية وتحد من قوتها، وحتى إذا وصلت إلى الحكم فسيصعب عليها ممارسة استبداد الأغلبية.
إدريس الكنبوري: هناك من يرى أن المجتمع العربي ما بعد الربيع العربي صار له نصيبه من الشعبوية السياسية، أين يتقاطع التيار الإسلامي والسلفي مع الشعبوية؟
سعيد الصديقي: كانت بعض ملامح الخطاب الشعبوي حاضرة دائما في العالم العربي، ولم يسلم منها أي توجه سياسي أو فكري، ويعتبر هذا الخطاب أحد الخصائص المشتركة بين الزعماء السياسيين العرب في مرحلة الاستقلال، وقد استعمل للتواصل مع الشعب وحشد الدعم. وعكس الشعبوية الغربية التي نبتت في الوسط المدني، فإن هذا الخطاب استعمله بعض الزعماء العرب الذين جاؤوا من المؤسسة العسكرية عبر الانقلابات في بداية مرحلة الاستقلال، وذلك لتجييش المشاعر وتعزيز شعبية الزعيم، والتغطية على عجزهم على تحقيق تطلعات الشعب (ظاهرة عبد الناصر مثلا). لكن لا يمكن الحديث عن حركات شعبوية بمعنى الكلمة، كالتي شهدتها أوروبا، وأمريكا اللاتينية.
أما بالنسبة إلى التوجه الفكري أو الأيديولوجي للشعبوية، فأرى أنه ليس هناك لون واحد للشعبوية، فقد تتخذ بعدا يساريا (مثل ما يحدث في أمريكا اللاتينية) أو يمينيا (جل الحركات الشعبوية في أوروبا هي حركات يمينية أو يمينية متطرفة، باستثناء بوديموس في إسبانيا وسيريزا في اليونان). فالشعبوية ليست أيديولوجيا ولا مذهبا بالمعنى الدقيق للكلمة، ولا تقدم نظرة شاملة للاقتصاد والسياسة والمجتمع، بل هي "أيديولوجية رقيقة" (thin ideology) - حسب تعبير كاس مودي Cas Mudde- مثلها مثل القومية والسلطوية. بمعنى أنها لا تشكل وحدها أيديولوجية مستقلة، بل تحتاج إلى أيديلوجية "سميكة" (thick) تحتضنها أو تصطبغ بها، وقد تكون هذه الأيديولوجية "السميكة" يمينية أو يسارية أو ليبيرالية أو إسلامية…
وإذا نظرنا إلى الدول العربية متفرّقة، سنجد أن ظروفها السياسية مختلفة كثيرا، وهو ما لا يسمح بظهور خطاب شعبوي بمستوى واحد؛ ففي حالة المغرب مثلا اتسم الخطاب السياسي لبعض زعماء الأحزاب في مرحلة ما بعد الربيع العربي ببعض ملامح الشعبوية، مثل السطحية والعاطفة والديماغوجية وطرح الأسئلة أكثر من تقديم الحلول، وإثارة قضايا هامشية، لكن لا يمكن اعتبارهم شعبويين بمعنى الكلمة، لأن خطابهم لم يضع خطا فاصلا بين النخبة والشعب. لذلك، يمكن اعتبار خطابهم ديماغوجيا أكثر منه شعبويا. كما أنهم لم يتحولوا إلى ظاهرة عامة ومستمرة في الزمان، أولا لأن خطابهم ظل محدود التأثير، إذ اقتصر على حشد الدعم في الانتخابات، وتعزيز العلاقة الشخصية بين الزعيم ومناصريه، وثانيا لم يمتد تأثير هذا الخطاب ليصير قاموسا مشتركا بين المناصرين والأتباع، بل ظل قاموسا خاصا بالزعيم. وسيتوقف هذا التأثير بغياب هذا الزعيم عن المشهد السياسي أو دخوله منطقة الظل. ومن ثم، فإن هؤلاء الزعماء الديماغوجيين يمثلون حالات عابرة وليس ظاهرة شعبوية حقيقية.
أما فيما يتعلق بالأحزاب الإسلامية التي تشارك في العمليات الانتخابية، فلا أرى أنها تندرج ضمن الحركات الشعبوية لاعتبارات كثيرة، ولعل أهمها أنها لا تضع حدّا فاصلا بينها وبين "النخبةّ، ولا تسعى للقطيعة معها، بل على العكس من ذلك تعبر هذه الأحزاب غالبا عن استعدادها لتقديم المساومات مع النخبة الحاكمة، لأن أحد أهم انشغالاتها الأساسية في بعض الدول - مثل المغرب وتونس- هو تطبيع علاقاتها مع باقي الفاعلين السياسيين، ومن ضمنها مكونات "النخبة" النافذة في الدولة. ولعل الدافع وراء البحث الدائم عن قنوات التواصل مع هذه "النخبة"، هو أن الكثير من مكونات هذه الأخيرة لا تزال تشكك في الأحزاب الإسلامية وتتوجس من وجودها، وتخشى من اكتساحها المشهد السياسي. ولعل مشاركة هذه الأحزاب في تجربتيْ المغرب وتونس في حكومات إلى جانب أحزاب من مشارب أيديولوجية وسياسية مختلفة - بما في ذلك أحزاب محسوبة على جهات نافذة في النظام القائم أو النظام السابق- يبعد عنها صفة الشعبوية التي لا تقبل التوافق مع القوى المحسوبة على "النخبة". أما بالنسبة إلى الخطاب السلفي، فرغم تقسيمه الشعب إلى فسطاطين، إلا أن معيار التقسيم يختلف تماما عن الشعبوية. فقد نلاحظ بعض ملامح الشعبوية في خطاب بعض رموز السلفية الذين ينخرطون في العمل السياسي والانتخابات، لكن هذا لا يجعلهم يندرجون ضمن الشعبوية بمعناها المعروف حاليا، ويستبعد أن تتكرر تجربة جبهة الإنقاذ الجزائرية التي كانت شعبوية سلفية إلى حد كبير.
إدريس الكنبوري: ألا يمثل تراجع الأحزاب السياسية، وغياب المشاريع الكبرى للإصلاح في المنطقة العربية، إيذانا بهيمنة الشعبوية على مستوى الخطاب السياسي؟
سعيد الصديقي: لم تعش الحياة السياسية العربية عصرا ذهبيا للأحزاب السياسية، حتى نتحدث عن وجود تراجع في تأثيرها، ففي الكثير من البلدان العربية، ورغم اعترافها بالتعددية الحزبية، فإن العملية السياسية تتحكم فيها الدولة على مختلف المستويات، ولا تسمح بظهور أحزاب قوية. وحتى ما شهدته بعض الدول العربية من ظاهرة الحزب القوي، لم يكن في الواقع إلا حزب الدولة الذي لا تكاد تتضح معالم التمايز بينها وبين مؤسسات الدولة كما شهدته تجارب العراق وسوريا ومصر واليمن وتونس والجزائر. وفي دول أخرى، مثل المغرب، فحتى إذا لم يكن هناك حزب رسمي للدولة، فنجد أحزاب الدولة المستترة، والتي كان يطلق عليها في الماضي "الأحزاب الإدارية". ولا تزال هذه الظاهرة مستمرة حتى الآن، لكن بأسماء وأشكال أخرى. لذلك لا أرى أي تأثير لضعف المؤسسة الحزبية في الدول العربية على بروز الخطاب السياسي الديماغوجي.
أما فيما يتعلق بإمكانية هيمنة الشعبوية، سواء على مستوى الخطاب أو في الانتخابات، فيجدر الذكر أن الحركات الشعبوية ترتبط عموما بالعملية الانتخابية التي تسمح لها بالظهور، والتي قد تتيح لها في حالات معينة الوصول إلى الحكم. في العالم العربي، الذي لا تزال أغلب دوله تتحكم فيها السلطات في العملية السياسية وتوجيه الانتخابات، فرغم إمكانية حضور بعض عناصر الشعبوية في الخطاب السياسي لبعض الزعماء، إلا أن تأثيرها العملي لم يتخط الحدود التي ترسمها السلطات. عندما نتأمل بعض النماذج الشعبوية - أو بالأحرى الديماغوجية- في العالم العربي في مرحلة ما بعد الربيع العربي، نجد أغلبها حالات مصطنعة، تم دعم ظهورها من قبل السلطات لمواجهة قوة سياسية معارضة معينة، كما حدث في المغرب ومصر. وعكس أوروبا التي أدت فيها عوامل موضوعية إلى ظهور الحركات الشعبوية وزعماء شعبويين استغلوا رتابة الحياة السياسية ونقمة الناخبين على النخبة السياسية التقليدية، فإن الخطاب الديماغوجي في العالم العربي وبعض البلدان النامية، ليس نتاج ظروف موضوعية، بل هو مرتبط بظهور زعماء سياسيين استغلوا مظاهر التخلف والفساد والتفاوت لنسخ خطاب مباشر وبسيط وعاطفي يسهل فهمه من قبل عامة الناس، وهذا يمثل فقط أحد عناصر الشعبوية. ولا نجد مثلا في خطاب هؤلاء السياسيين العرب أية دعوة إلى تقسيم واضح بين النخبة الفاسدة والشعب النقي، كما أن خطابهم ليس مغرقا في النزعة الوطنية والقومية. وتسري هذه الملاحظة على مختلف القوى السياسية في العالم العربي، بما في ذلك الأحزاب الإسلامية. ربما كان هناك استثناء فريد يتمثل في حالة (الجبهة الإسلامية للإنقاذ) في الجزائر في نهاية الثمانينيات وبداية التسعينيات من القرن الماضي، التي كان خطابها السياسي يتضمن أغلب عناصر الشعبوية: تقسيم الشعب إلى فئتين، العداء للنخبة السياسية التقليدية، والعاطفة والبساطة في الخطاب، والعلاقة الشخصية بكاريزما الزعيم (عباسي مدني وعلي بلحاج)، وتمجيد الوطنية الجزائرية (الجزأرة)… وهذه حالة فريدة في العالم العربي التي اقتربت إلى حد كبير من نموذج الشعبوية المتعارف عليها. وما كانت لشعبوية جبهة الإنقاذ الجزائرية لتظهر وتكسب ذلك الزخم، لو لم تكن هناك تجربة ديمقراطية استثنائية في الجزائر في تلك المرحلة القصيرة قبل أن يقبرها الجيش.
قد نشهد خلال السنوات القادمة في بعض الدول العربية اتساعا لتأثير الخطاب العاطفي والديماغوجي في المجال السياسي، ولكن لا يعني هذا أنه سيؤدي حتما إلى بروز شعبوية مشابهة لما تشهدته أوروبا والأمريكيتين، لكن يمكن الحديث عن إمكانية ظهور شعبوية عربية تختلف في بعض خصائصها عن الشعبوية الغربية، لكن هذا الاحتمال مرهون بوجود هامش واسع من الممارسة الديمقراطية. ما شهدناه من حالات محدودة مما تطلق عليه وسائل الإعلام بالزعماء الشعبويين في بعض الدول العربية، هي ظاهرة متكررة لخطاب سياسي ديماغوجي مشحون بالعاطفة، يهدف إلى إنشاء علاقة شبه مباشرة بين الزعيم ذي الشخصية الكاريزمية مع أتباعه الذين ليسوا بالضرورة أعضاء في حزبه السياسي، وتعتبر الانتخابات المحطة الأساسية لتجسيد هذه الرابطة بين الزعيم والأتباع. لنضرب بعض الأمثلة من الدول العربية، فمثلا في المغرب والأردن، قد تسمح الانتخابات المتحكم فيها بظهور زعامات شعبوية لكن لفترة محدودة، ويمكن أن يتنامى الخطاب الشعبوي في تونس إذا استمرت الأزمة الاقتصادية وعجزت النخب التي تتعاقب على الحكومة على تجاوز الوضع الاجتماعي المحتقن، وقد يتمخض عن هذا كله حركة سياسية قوية معادية للنخبة، لكن هذا ليس رهينا فقط بعجز النخبة واستمرار الاحتقان، بل أيضا باستمرار التجربة الديمقراطية، إذ لا يمكن الحديث عن إمكانية بروز حركة شعبوية قوية خارج السياق الديمقراطي. وأما في لبنان، فإن الانقسام الطائفي الشديد يمنع ظهور حركات شعبوية. وفي الجزائر، يقلل تحكم المؤسسة العسكرية في الحياة السياسية من فرص تكرار تجربة جبهة الإنقاذ الإسلامية التي شكلت إلى حد كبير نموذجا شعبويا واضحا وفريدا في العالم العربي. ويمكن الحديث في مصر عن خطاب "شعبوي" - أو بالأحرى ديماغوجي مفرط - للقوى المساندة للنظام السياسي الحالي، والتي تستعمل هذا الخطاب بشكل غير مسبوق في وسائل الإعلام، لاسيما القنوات الفضائية لتشويهه الخصوم وشيطنتهم. ويتميز هذا الخطاب السياسي في الحالة المصرية بميزتين أساسيتين: أولا تقسيم الشعب إلى "نحن" و"هم"، لكن هذا التقسيم يختلف تماما عن ثنائية "النخبة الفاسدة" و"الشعب النقي" لدى الشعبويات الغربية. وثانيا تمجيد الجيش الذي يعتبر سمة مشتركة مع الكثير من الشعبويات في الغرب، مثل ترامب في أمريكا بإشاراته المتكررة في خطاباته إلى المحاربين القدامى وتعهده برفع الإنفاق العسكري، وبوتين في روسيا الذي يصف الجيش الروسي بكونه الأقوى من أيّ عدو محتمل، وفكتور أوربان في المجر الذي تعهد بأن يجعل جيشه من أقوى جيوش أوروبا.
[1] - مجلة ذوات 47