حوار مع الباحث والمترجم الدكتور محمد الجرطي
فئة : حوارات
محمد الجرطي باحث ومترجم مغربي، يشتغل أستاذا لمادة اللغة الفرنسية، ومهتم بالنقد الأدبي والترجمة والعلوم الإنسانية. حاصل على شهادة الدكتوراه في الأدب الفرنسي سنة 2015 من جامعة ابن طفيل بالقنيطرة. وصدرت له مجموعة من الدراسات والأعمال المترجمة أهمها: "إدوار سعيد من تفكيك المركزية الغربية إلى فضاء الهجنة والاختلاف"، "إدوارد سعيد الانتفاضة الثقافية"، "إدوارد سعيد الأنسني الراديكالي"، "تزفيتان تودوروف؛ نحو رؤية جديدة لحوار الحضارات"، "نهاية الحداثة اليهودية".
ما الفرق بين الوباء والجائحة؟
من المعلوم أن ثمة اختلافا بين الوباء ومصطلح الجائحة؛ فالوباء مرض معدٍ يتفشى في رقعة جغرافية معينة أو عدة أصقاع جغرافية متاخمة لبعضها البعض في فترة زمنية محدودة، حيث تبرز أعراض وآثار متشابهة لدى المصابين، وينتقل الوباء من خلال العدوى ضمن فضاء جغرافي محدد كما حدث منذ القدم مع الطاعون ومختلف الأوبئة. ويتم تحديد الوباء بظهور أول إصابة وينتهي بإعلان القضاء عليه، أو باختفائه. أما الجائحة، فتختلف عن الوباء من حيث سرعة الانتشار ، إذ ينتقل المرض إلى عدة دول في فترة زمنية قصيرة تتميز بفقدان السيطرة وعدم القدرة على التحكم في المرض كما هو حال البشرية اليوم مع فيروس كورونا الذي انطلق من الصين ليجتاح العالم برمته في فترة زمنية قصيرة أرهبت سكان العالم جميعا. وبطبيعة الحال، هناك أسس علمية تُصنف من خلالها الأمراض المعدية لتحديد ما إذا كان الأمر يتعلق بوباء أو جائحة تتمثل في نظر المتخصصين في معدل التكاثر وسرعة الانتشار والتفشي والتوطن، وللبشرية تاريخ طويل مع الأوبئة والجائحات التي عصفت بسكان العالم مثل الطاعون الأسود والجدري ...
ما أثر الجائحة (كوفيد 19) على مركزية الإنسان وهويته؟
لا شك أن لجائحة كوفيد 19 بالغ الأثر على مركزية الإنسان وهويته، هذا الإنسان الذي قطع أشواطا كبيرة في مجابهة الطبيعة وقسوتها من خلال اكتساب المعارف لتطويع كل شيء وفق رغباته، فابتكر واخترع وقاوم الأمراض والأوبئة بالعلم والابتكارات بعيدا عن الخرافة والأساطير، ليتمركز حول ذاته لبناء هوية منيعة تركز العالم في أناها، وجد هذا الإنسان في لحظة مباغتة نفسه عاجزا أمام هذه الجائحة التي اكتسحت العالم وأزاحت الإنسان عن مركز العالم، ليشعر بضآلة حجمه وخطورة الجائحة التي تهدد كيانه بالفناء والعجز عن مقاومة هذا المرض الفتاك المستمر في حصد الأرواح، حيث وقف العلم والعلماء عاجزين في القضاء عليه، وهو الأمر الذي زعزع الثقة في كل ما اكتسبه الإنسان من معرفة طيلة قرون مضت اعتقد خلالها البشر أنه سيد الفضاء الذي يعيش فيه، فانتاب الإنسان خيبة مريرة في قدرة العلم التي جعلت البشرية تشعر بصغر حجمها أمام جبروت الطبيعة والقوة الفتاكة للأمراض المعدية التي كبلت حركة الإنسان ونمط حياته اليومية، فأصبح شبه سجين مسلوب الحرية تنتابه مشاعر الخوف من العدوى.
يعني أن الإنسان استطاع التغلب على عدد من الأمراض المعدية (السل- الطاعون- الجذري) وهو يستعين بالعلم الذي طوره عبر تجارب عديدة؛ لكن ما نراه اليوم ونسمعه هو أن العلماء والأطباء المتخصصين عجزوا أمام هذا الفيروس (كوفيد19)، بل عجزوا على الحد من سرعته، رغم الجهود التي يبذلونها.
صحيح أن الإنسان تمكن من القضاء على العديد من الأمراض المعدية الأكثر فتكاً في التاريخ مثل الطاعون والجذري والسل؛ وذلك بفضل الاكتشافات العلمية التي طورها عبر قرون، لكن إذا عدنا إلى تاريخ هذه الأوبئة، سنلاحظ أن الإنسان لم يتمكن من مجابهة الأوبئة زمن ظهورها، بل كل ما فعله هو العمل على الحد من انتشارها؛ فالإمبراطورية البيزنطية رغم قوتها في ذلك العصر وقفت عاجزة أمام الطاعون الذي حصد ملايين الأرواح، وكان سبباً رئيساً في تقهقر بيزنطة. ونفس الأمر حدث مع طاعون لندن العظيم والجذري، حيث تطلب الأمر قرونا من الزمن لتتخلص البشرية من هذه الأوبئة، فلم تعلن منظمة الصحة العالمية إلا مؤخراً على القضاء بصفة نهائية على داء الجذري. لهذا وبناء على التجارب التي عاشها الإنسان مع الأوبئة، يصعب القضاء سريعا على جائحة كورونا، ومن البديهي أن يقف العلم عاجزاً أمام هذا الفيروس وما لفّه من غموض حول أصله وطريقة انتشاره وانقسام في الرأي بين صفوف المتخصصين حول ما إذا كان وباء طبيعياً أم مصطنعاً، حيث رجح العديد من الأطباء أن الفيروس متلاعب فيه لأغراض وأهداف تبدو غامضة لحد الآن. وهذا ما يفسر الهلع الذي انتاب الإنسان بسبب غياب معطيات علمية واضحة حول أصله وطريقة علاجه وزمن اختفائه أو القضاء عليه، بل بين ليلة وضحاها نصطدم بحقائق ومعطيات تارة جديدة، وتارة متناقضة جعلت الشك ينتاب الإنسان في العلم وفي مؤسسات رسمية ولعل ما نشاهده اليوم من جدل حول مدى فعالية الكمامة دليل قاطع على التخبط الذي تعيشه البشرية بسبب هذا الفيروس الذي أصبح هاجسا يخيم على حياة الإنسان. ولعلّ التجربة مع الأوبئة علمت البشرية أنه من الصعب القضاء على الوباء لحظة ظهوره، بل يتطلب الأمر دراسة أطول وأبحاثا عديدة ووقتاً طويلا قد يمتد إلى عقود، لتتمكن البشرية من القضاء على الوباء ودحره، وتبقى وسيلة العزل خير سلاح لمجابهته في لحظة ظهوره، لهذا يشدد علماء الأوبئة أن البشرية لم تتمكن من محاربة الوباء، ولم تعرف من وسيلة غير تجنب الاختلاط بالمرضى المصابين للحد من انتشار العدوى.
الجائحة التي ألمت بالعالم، هل يمكن توصيفها بالفعل الاجتماعي، أقصد هنا الإنسان الذي بنى علاقاته مع الأشياء والأرقام، أم هي ردّة بيولوجية تجاه الإنسان؟
في الواقع، إن الجائحة التي ألمت بالعالم يمكن توصيفها بردة بيولوجية تجاه الإنسان في علاقته بالطبيعة والنظام الغذائي الذي خضع لتحوير جدري، فكانت له عواقب وخيمة على صحة الإنسان وإضعاف مناعته، ولا سيما أن أصواتا علمية عديدة تعالت في الآونة الأخيرة تتحدث عن صناعة الأمراض الخطيرة كالسرطان بفعل الأنظمة الغذائية المضرة. لهذا يتحدث العلماء عن قياس النظام الغذائي ونوعيته وعلاقته في مقاومة الأوبئة، ولا سيما أن التحليل العلمي يشير إلى علاقة الفيروس باللحوم المصنعة والحيوانات الحية التي يقبل عليها الإنسان بإفراط، وكذلك المواد الحافظة وأضرارها على صحة الإنسان. فضلا عن هذا، ومن منظور ديني يتم الحديث عن عقاب إلهي يصيب البشرية في فترات زمنية متقطعة بسبب الإغراق في ارتكاب الفواحش. وبالتالي، يمكن الحديث هنا عن فعل اجتماعي من صنيعة الإنسان دوما.
صدر للروائي البرتغالي خوسيه ساراماغو رواية بعنوان "العمى"، ترجمها إلى اللغة العربية محمد حبيب، وهي رواية تناولت بالحكي جائحة العمى، وأنت تعلم أن العمى لا يعدي... كيف تعاملت العلوم الإنسانية مع الجائحة (كوفيد19) وهو مرض يعدي ويصيب؟
إن رواية "العمى" للكاتب البرتغالي ساراماغو هي تحفة أدبية تعبر عن سمو فكري ورؤية ثاقبة للوجود والشرط الإنساني بامتياز. ومن المعلوم أن هذا العمل الروائي يتحدث عن وباء غامض عصف بسكان إحدى المدن، حيث أصيب السكان بشكل مباغت بالعمى، مما خلق موجة من الذعر في صفوف المدنيين ورغم تدخل الجيش في إشارة رمزية إلى القوة العسكرية، فإن هذا التدخل لم يجد نفعاً فدبت الفوضى في المدينة. ولعل نقطة الضوء وسط هذا الظلام الحالك تمثل في موقف الطبيب وزوجته اللذين كافحا من أجل مد يد العون للسكان، ليتضح شيئا فشيئا أن العمى الذي يعاني منه السكان هو العمى الفكري، لأن زوجة الطبيب صاحت قائلة إننا عميان نرى وأن العمى الذي نعاني منه هو عمى تفسخ الأخلاق وموت الضمير الإنساني وانغماسه في ارتكاب الشر والرذيلة. ومجمل القول إننا عشنا بضعة شهور في مواجهة هذا الوباء، لهذا من الصعب تقييم موقف العلوم الإنسانية إزاء الجائحة المعدية، فمن المؤكد أن أعمالا أدبية وفكرية ستظهر قريبا لتبرز وتضيء جوانب عديدة في حياة الإنسان ومعاناته أمام هذا الفيروس القاتل. لقد شهدنا مواقف مؤثرة بسبب خيارات مؤلمة اضطر أطباء إلى التعامل معها على ضوء المفاضلة في إنقاذ المرضى المصابين بناء على عامل السن والنفعية الليبرالية المتوحشة، بعيدا عن الأخلاق والرفق بكبار السن. ولقد تحدث أوجست كونت عن غلبة الأخلاق على العلم والترتيب الحقيقي للأولويات، كما تحدث عن الصيغة المقدسة للدين الإيجابي والحب من أجل المبدأ والنزعة الإنسانية بعيدا عن البرجماتية.
أكيد مع هذه الجائحة، سيتغير فهمنا للعالم، وإعادة بناء العلاقات الإنسانية، كيف تتصور مستقبل الإنسانية بعد زوال الجائحة؟
صحيح أن البشرية عانت ولا زالت تعاني من ويلات هذه الجائحة الفتاكة، وإن كان لا بد من الحديث عن تغير في فهمنا للعالم، فلن يكون سوى الاقتناع التام بأنه رغم التطور العلمي الذي نشهده ونحققه يوما بعد يوم، يبقى الإنسان حلقة ضعيفة في الكون قد تعصف به في أية لحظة جائحة خطيرة تقوض نمط حياته وتهدده بالفناء. ورغم ذلك تبقى العلاقات الإنسانية غير متجانسة في بنائها بسبب نوعية المجتمعات وطبيعة صراعاتها الإيديولوجية والفكرية. وشخصيا لا أعتقد أن مستقبل البشرية سيشهد تغيرا ملحوظا بعد زوال الجائحة؛ لأن التاريخ يؤكد ذلك. لقد عرفت البشرية منذ قرون خلت العديد من الأوبئة والأمراض الفتاكة، وظلت مستمرة في تناحرها الطائفي والمذهبي، فأشعلت حروبا عالمية ولازالت مستمرة في غيها وظلالها. لم تتعظ البشرية من أوبئة الماضي، ولم تغير من طبيعة سلوكها ربما لأننا لم نعش ولم نعان وجوديا تلك الأوبئة مثل الطاعون الأسود أو الأنفلونزا الإسبانية، والتجربة تقول إن من عاش وعانى ليس كمن سمع وقرأ. ونفس الأمر مع جائحة كورونا، فبعد سنوات قليلة سننسى الأمر والأجيال القادمة ستسمع وتقرأ عن كورونا كما سمعنا نحن عن الطاعون الأسود، وستستمر في نمط حياتها. لهذا يجب على البشرية أن تعيد النظر في القيم السائدة لتغليب الأخلاق على مبدأ الربح المتوحش.