حوار مع الحائز على نوبل للفيزياء لسنة 2022 ألان أسبي نظرية الكمّ هي النظرية الأكثر خصوبة في تاريخ الفيزياء


فئة :  حوارات

حوار مع الحائز على نوبل للفيزياء لسنة 2022 ألان أسبي  نظرية الكمّ هي النظرية الأكثر خصوبة في تاريخ الفيزياء

حوار مع الحائز على نوبل للفيزياء لسنة 2022

ألان أسبي[1]

نظرية الكمّ هي النظرية الأكثر خصوبة في تاريخ الفيزياء

أجرى الحوار: جون فرنسوا هيت

ترجمة: يحيى بوافي

الباحث الفرنسي الذي حَصَل سنة 2022 على جائزة نوبل في الفيزياء، عن أعماله حول تشابك الجسيمات، يتوقّفُ في هذا الحوار عند الثورة التي مثّلَتها ميكانيكا الكمّ في تاريخ العلوم، وما أتاحته اليومَ من تطبيقات غير مسبوقة في مقدمتها الحاسوب الكمّي.

جون فرنسوا هيت: حصلت في الرابع من أكتوبر الأخير على جائزة نوبل في الفيزياء رفقة زميليْكَ: الأمريكي جون كلوزر(John F. Clauser) والنمساوي أونطون زايلينغر (Anton Zeilinger)، كيف كان شعورك حين تلقيْتَ الخبر؟

ألان أسبي: تذكّرت جميع من جعلوا هذه الجائزة ممكنةً، بدءا من أستاذي الذي درّسني مادة الفيزياء بثانوية أجين(lycée d’Agen) الذي منحني الشغف بهذه المادة، إلى جانب العديد من المدرسين والزملاء والطلبة، وأنا أستحضر الطلبةَ على الخصوص، فحين تُدرّسٌ يكون لزاما عليك أن تشْرَحَ، والقيام بذلك يحقِّقُ لنا فهما أفضل للموضوع الذي نشتغل عليه، كما استحضرت في ذهني جون بيل الذين كتب المُتباينات التي أتاحت حسْمَ الجدل الذي كان قائما بين آينشتاين ونيلز بور والذي ستكون لنا إليه عودةٌ في ما سيلي من هذا الحوار.

جون فرنسوا هيت: لقد صارت فيزياء الكم اليوم من بين الكلاسيكيات، وهي الحالة التي لم تكنْ كذلك دائما، هل يمكنك لِلحظةٍ استحضارُ أصولها؟

ألان أسبي: يمكننا العودة إلى حوالي 1900، الفترةُ التي أراد فيها عالم الفيزياء الألماني ماكس بلانك (Max Planck) فهم "إشعاع الجسم الأسود"، وبتعبير آخر، واقعة أن الجسم الذي يتم تسخينُه يبعث الضوء، وما حصل هو أن النظريات الكلاسيكية عجزت عن تأويل الملاحظات التجريبية، فوجد بلانك نموذجا "أمبريقيا"، حيث تقدم بأطروحة مفادُها أن تبادلات الطاقة بين الإشعاع والمادة لا تتم بكيفية مُتصلة، بل عن طريق حُزم، هي الكوانتُم (quantum)؛ أي الكمية الأولية من الطاقة، وسنة 1905 سيدخلُ أينشتاين على الخط، حيث سيذهب أبْعَدَ من النقطة التي بلغَها ماكس بلانك، عبر وضعه لفرضية أن الضوء نفسُه يتكون من حُبيْبات، ستتم تسميّتُها فيما بعدُ بالفوتونات، وبذلك استطاع آينشتاين تفسيرَ التأثير الفوتوضوئي photoélectrique، مَا خَوّلَهُ الحصول على جائزة نوبل في الفيزياء سنة 1921، وقد أكّد آينشتاين سنة 1909 على أنّ للضوء طبيعة مزدوجة؛ فهو يسلك كموجة وكشعاع من الجسيمات، الشّيء الذي مَثّلَ تقدّما مهما جدا، وفي سنة 1923 قام الفرنسي لويس دو برولي (Louis Victor de Broglie)بتعميم هذه الخاصية لتشملَ حالة الجزيئات المادية، عبر دفعِه بفرضية أنَّها هي نفسُها تسلك كموجات.

جون فرنسوا هيت: من هم الفاعلون الآخرون في هذه الفيزياء الجديدة؟

ألان أسبي: نجد من بينهم على الخصوص الدانماركي نيلز بور(Niels Bohr) [حصل على جائزة نوبل للفيزياء سنة 1922] الذي اقترح سنة 1913 نموذج للذرة فيه تدور الإلكترونات حول نواة مُتّبِعةً مسارات لا يمكنها أن تأخذ إلا قيمةً دقيقةً، وبذلك يكون قد استطاع أن يقدم تفسيرا لبعث الفوتون وامتصاصه، باعتباره يتم عبر القفز من مسار إلى آخر، لا نعرف أين بحث عن هذا ! لأننا عندما ندرس الفيزياء يمكننا أن ننتقل تدريجيا من الميكانيكا الكلاسيكية إلى نظرية النسبية... وليس إلى الفيزياء الكوانطية أو فيزياء الكم؛ يبدو لي أنه أتى من اللاّمكان! إنها قطيعة مدهشة على المستوى المفاهيمي، وفيما بعد جاء فيزيائيون آخرون، هايزنبرغ (Werner Heisenberg) وشرودنجر (Schrödinger) وديراك (Dirac)، أخذوا على عاتقهم مهمة تَمْتِين أًسُس نظرية فيزياء الكم ومنحها صورة واضحة الملامح.

جون فرنسوا هيت: لقد انخرط إذن كل من آينشتاين ونيلز بور في جدل شهير....

ألان أسبي: نعم، هو جدلٌ انصب على الخاصية الاحتمالية لميكانيكا الكم، حيث يمكن لقياس يرتبط بالإلكترون أن يعطي العديد من النتائج الممكنة؛ فنقوم بحساب احتمالية كل نتيجة، بيد أن آينشتاين لم يزعم أو يدعي أن فيزياء الكم خاطئة، بل ما قاله هو أنه من اللازم أن توجد نظرية ضمنية تكون أكثر دقَّةً لأجل وصف خواص كل موضوع، والحالة الكمومية لا تسمح بأن يتم تدقيق سرعة جسيم وموقعه تماماً في ذات الوقت، حيث يتم وصفهما بواسطة قوانين الاحتمال، وقد واصل آينشتاين محاولا، من خلال استعماله ببراعة لصورية فيزياء الكم، إيجاد الوضعيات حيث يتم تحديد الموقع والسرعة بكيفية أكثر دقة مما تقوله لنا قوانين الاحتمال، وغالبا ما نستشهد بجملته الشهيرة: "الله لا يلعب النرد"، التي تعني أن نتيجة قياس إن تم تقديمها وعرضها من قبل النظرية بكيفية احتمالية، فتلك الشهادة على أن تلك النظرية غير مكتملة أو غير تامة، وأن كلّ جُسيْم له في الواقع موْضعُ وسرعةٌ محدّدين بدقة. وأثناء مؤتمرات الفيزياء الذي تم تنظيمُها من طرف رجل الصناعة البلجيكي سولفاي Solvay، وكان أشهرُها هو المؤتمر الذي انعقد سنة 1927، حيث عمل فيه بور(Bohr)على تفنيد ودحض الخلاصات التي انتهى إليها ألبرت آينشتاين، بكيفية مقنعة.

غير أن هذه المناقشات كانت تنصبُّ في كل مرة على سلوك الجسيمات الكمومية المفردة، وبعد أن فهم أنّه لن يتوصل إلى إيجاد ثغرة في نظرية فيزياء الكم ببقائه في هذا الإطار، نشر آينشتاين سنة 1935 مع زميليه بودولسكي (Podolski) وروزن (Rosen)، المقالة الشهيرة بالاسم المختصر « EPR » التي درست هذه المرّة سلوك جسيمان، وقد أدرك وجود حالات "متشابكة" داخل الصورية الرياضية لفيزياء الكم، مع خواص مدهشة سنسميها فيما بعد "باللاّموقِعيّة" (non localité): حتى وإن كان هذان الفوتونان المتشابكان بعيدين جدا عن بعضهما البعض، فإنّهُما يستمران في تشكيل كلٍّ هو أكثر من مجرد مجموع خواصهما.

جون فرنسوا هيت: ما يعنيه ذلك إذن هو أنّ تغيير حالة فوتون واحد من الفوتونيِن، معناه تغيير الآخر في الحال؟

ألان أسبي: نعم إذا لبثنا في صورية فيزياء الكم دون أن نكملها، لكن آينشتاين لم يعتقد في "اللاّموقِعيّة"؛ لأنه برهن على ألاّ شيء أسرع من الضوء، وبالتالي من الضروري بالنسبة إليه، إدخال بارامترات إضافية، أو ما نطلق عليه أحيانا اسم المتغيرات الخفية، وقد قدّمَ برهنَتهُ في الورقة المشار إليها آنفا والمعروفة بالاسم المختصر، « EPR » والتي كانت مقنعة ًجدا في نظري. أما إجابة نيلز بور، فقد كانت أكثر عمومية، وبالتالي كانت تلك بالفعل معركة ٌ بين عملاقين، غير أن مدارَها لم يكن حول الصورية (la formalisme)، ومنذ تلك اللحظة اعتبرت غالبية ُعلماء الفيزياء أنّ الجدل الدائر بين آينشتاين ونيلز بور هو جدلٌ إبيستيمولوجي خالص، ليتم الانتقال إلى المستوى الثاني؛ إذ أتاحت فيزياء الكمّ أشكالا مدهشةً من التقدُّم على صعيد فهم خواص المادة الميكانيكية، والكهربائية والبصرية، كما سمحت أيضا بابتكار وإعمال تطبيقات مستقلة عن هذا الجدل، أقصد الترنزيستور والليزر، اللّذان شكلا قاعدة لمجتمعنا الذي هو مجتمع المعلومة والتواصل، وقد كان لزاما انتظار سنة 1965 حتّى يُبَرهِن عالم الفيزياء الإيرلندي جون بيل على أن وجهة نظر ألبرت آينشتاين لا تتوافق مع بعض التنبؤات الكمومية، اللهم إلا إذا قبلنا باللاّموقعية، وأنّ تجربة البرهنة عليها تبقى ممكنة.

جون فرنسوا هيت: وما التحدي الرئيس لهذه التجربة؟

ألان أسبي: إنها تستندُ على مصدر للفوتونات المتشابكة، وعلى مستقطبيْن (polariseurs) موجّهَيْن وعلى كاشفيْن؛ فأما المُستقطبيْن فيسمحان بقياس خاصية الفوتون والاستقطاب، ولا يمكن للنتيجة إلا أن تكون مساوية لـ +1 أو -1. وقد تمثل المشكل المطرح في التوفر على مصدر فعّال، وبالفعل توصّل بعض الباحثين في الولايات المتحدة الأمريكية، بعد جهود مُضنية إلى انتاج بعض الأزواج، غير أن ذلك استغرق الكثير من الوقت، وقد كانت لي إمكانية استخدام أشعة اللّيزر التي كانت قيد التطوير، لأجل الحصول على مصدر يكون أصغر وأكثر كثافة، وقد استغرقتُ، بمعية مُهندسَيْن، خمْسَ سنوات لاستحداثه وتطويره، قبل أن يلتحق بنا طالبان مدشنان بذلك مسارهُما العلمي بصورة متميِّزة هما: فليب غرونجييه (Philippe Grangier) وجون داليبار (Jean Dalibard).

جون فرنسوا هيت: وما النتائج التي حصلتم عليها؟

ألان أسبي: لقد قمت في البداية بإعادة انتاج التجارب الأولى للباحثيْن الأمريكيين، مع دقة جيدة جدا، ثم استعملت سنة 1982 مستقطبات من نوع جديد ومحوّلات (aiguillages) بصرّية تولّيتُ بنائها بنفسي، وقد جرت المباعدة بين المستقطبين والكاشفين بمسافة 12 مترا، لأجل البرهنة بكيفية قاطعة ولا غُبار عليها على اللاّموقعية الكمومية، ثم عَمَدتُ إلى تغيير توجيه المستقطبيْن في آخر لحظة، من أجل تفادي كل تأثير يمكن أن يمارسهُ أحد المستقطبين على الآخر. وقد أظهرتِ هذه التجربة في نهاية المطاف أن الفوتونان، حتى مع وجود مسافة 12 مترا الفاصلة بينهما، يتبادلان التأثير عن بعد بكيفية فورية وأن وجود اللاَّموقعية الكمومية قائم ومؤكّد دون أدنى شك، ولن تتم إعادة انتاج التجربة من قبل فريق بحثي آخر إلا سنة 1998 في النمسا، بينما أظهر فريق في سويسرا أن اللاّموقعية تظهرُ على بعد مسافة 30 كيلومتر! لكن حذار لابد من الانتباه إلى أن ذلك لا يعني أن في إمكاننا إرسال وبثُّ إشارةٍ تكون سرعتُها أكبر من سرعة الضوء وتكون قابلة للاستخدام، إن ما قامت به البرهنة الدقيقة هو أنها وضعت الخاصية الاحتمالية لنظرية فيزياء الكم على المحك.

جون فرنسوا هيت: ما هي نتائج التشابك وآثاره؟

ألان أسبي: تمثلت أولى نتائج الثورة الكمومية في اكتشاف ثنائية الموجة –الجُسيْم وتطبيقاتها. أما نتائج الثورة الكمومية الثانية، فكانت هي التشابك، واستغلال الموضوعات الكمومية الفرديّة التي تعلّمْنا خلق تشابك بيْنَها: ذرة واحدة وفوتون واحد، أو زوج من الفوتونات، وأيون واحد...فالنسق التشابكي يكون أكثر غنى بكثير من مجموع خواص الجسيمات التي تكوّنه، وهو ما يمثل مكسبا استثنائيا بكل ما تعنيه الكلمة من معنى، فظهر مفهوم "البيت الكمومي" "bit quantique"، أو ما اشتهر بـ"الكيوبيتات qubits"، التي يمكننا خلق تشابك بينها من أجل صناعة حاسوب كمّي، الذي كانت انطلاقة فكرته سنة 1982 مع عالم الفيزياء ريتشارد فاينمان، بـ 10 بيتات (10 bits) كمومية متشابكة، يمكننا تخزين كم من المعلومات كان تكويدها وترميزها من قبل حاسوب تقليدي ليتطلب عددا بيتات هو أكثر من عدد جسيمات الكون بأسره ! وهو ما يدفعنا للحلم، ولكن كان تلزمنا 100 بيتات كاملة، لكننا عاجزون اليوم عن انتاجها، في انتظار ذلك، من المؤكّد أن هناك تكنولوجيات كمومية، هي أقل إدهاشا واستثنائية، تمّ انتاجها في المختبرات، وتطويرها تجاريا بعد ذلك من قبل شركات فرنسية ناشئة ... الكثير منها أسّسَهُ طلبة لي قبلا في سلك الدكتوراه.

جون فرنسوا هيت: وما هي هذه التطبيقات الأخرى؟

ألان أسبي: المثال المهمّ هو الكريبتوغرافيا [آلية كشف الكتابة السرية] (la cryptographie) الكمومية فهي تشتغل فهي تشتغل حتى وإن كان من الصّعب تفعيلها، فبينما كان الأمن في الكريبتوغرافيا الكلاسيكية، يستندُ إلى مُسلَّمة أن الخصم الذي يبحث عن تفكيك شفرة رسالتك السرية يكون ممتلكا لحواسيب أو مبرهنات رياضية ليست أعلى من تلك التي تمتلكها، نجدُ في حالة الكريبتوغرافيا الكمومية، أننا لسنا بحاجة إلى هذه الفرضية؛ لأن الأمن يكون مستندا على القوانين الأساسية لفيزياء الكم. وعمليات البرهنة على ذلك حصلت بالفعل خصوصا في أوربا وفي الصين.

جون فرنسوا هيت: هل هناك تحديات نظرية جديدة أمام الباحثين وعلماء الفيزياء المتخصصين في فيزياء الكم؟

ألان أسبي: إن عملية فهم أكثر من موضوعين كموميين؛ أي موضوعات كمومية تكون متشابكة فيما بينها في حضور اضطرابات خارجية، تبقى بمثابة تحدٍّ، يمكن لرفعه وتدليله أن يقود إلى ابتكار حواسيب تستند على بيتات(bits) كمومية تامة. إنه عمل نظري، يعبّئ له العديدُ من الباحثين جهودَهُم، وفيزياء الكم هي بالفعل النظرية الفيزيائية الأكثر خصوبة في تاريخ الفيزياء ومن المؤكّد أنها تخبّئُ لنا مفاجآت جديدة؛ لأن الثورة الكمومية الثانية لا زالت لم تبتدئ بعدُ.

[1] Alain Aspect : "La théorie quantique, la plus fructueuse de l'histoire de la physique", propos recueillis par Jean Francois- Hait, sciences et avenir, Numéro spécial, Janvier / Mars 2023