حوار مع الدكتور حميد لشهب والدكتورة ميادة كيالي "جسور الترجمة: نحو فكر عربيّ متجدّد ومعرفة بلا حدود"
فئة : حوارات
حوار مع الدكتور حميد لشهب والدكتورة ميادة كيالي
"جسور الترجمة: نحو فكر عربيّ متجدّد ومعرفة بلا حدود"
"عملية الترجمة ليست فقط تعريباً، بل هي فتح نافذة لفهم كيف يفكر الآخر"
أرحب بكم جميعًا في هذه الندوة الأولى ضمن سلسلة الندوات التي تخطط مؤسسة مؤمنون بلا حدود لعقدها في موضوع الترجمة. وضيفا ندوة اليوم الدكتورة ميادة كيالي، والدكتور حميد لشهب. وسأعطي الكلمة بدايةً للدكتورة ميادة كيالي، لتحدثنا عن رؤيتها للترجمة وتجربة مؤسسة مؤمنون بلا حدود التي ترأسها في هذا الخصوص. والدكتورة ميادة باحثة وكاتبة سورية، تحمل شهادة الدكتوراه في الحضارات القديمة. تشغل حاليًّا منصب مديرة مؤسسة سراج للأبحاث والدراسات في الإمارات العربية المتحدة، والمديرة العامة لمؤسسة مؤمنون بلا حدود في بيروت والشارقة. ساهمت الدكتورة ميادة في إنتاج ونشر أكثر من 400 إصدار، شملت كتبًا وأبحاثًا متميزة في مجالات الفلسفة والفكر والدراسات الدينية. صدر لها مؤلفات إبداعية، منها: "أحلام مسروقة" (2010)، و"رسائل وحنين" (2013)، وأخرى أكاديمية، منها: "المرأة والألوهة المؤنثة" (2015). و"هندسة الهيمنة على النساء، الزواج في حضارات العراق ومصر القديمة" (2018).
تفضلي دكتورة ميادة؛
دة. ميادة كيالي:
شكرًا جزيلًا دكتور حسام؛ "الترجمة هي رقصة بين اللغات، حيث لا تقتصر على نقل الكلمات، بل تشمل إيصال الروح والمعنى"، هكذا وصف الشاعر المكسيكي أوكتافيو باث دور الترجمة في ربط الثقافات. في هذا السياق، تبرز مؤسسة "مؤمنون بلا حدود" بوصفها واحدة من المؤسسات التي سعت إلى بناء جسور تواصل معرفية بين العالمين العربي والغربي، مستندةً إلى رؤية استراتيجية تدرك أنَّ الترجمة ليست مجرد وسيلة نقل نصوص، بل هي إحياءٌ للفكر وتوسيع لآفاق العقل. الترجمة، كما قال المفكر الإيطالي أمبرتو إيكو، هي "لغة الحضارات"؛ فالتفاعل الثقافي والحضاري لا يمكن أن يتحقق بفعالية، إلا من خلال التواصل العميق بين الشعوب، وهو ما تُتيحُه الترجمة عبر السماح للقراء بالاطلاع على أفكار ومناهج تفكير من ثقافات مختلفة، مما يعزز الفهم، ويمد جسور التواصل. في هذا السياق، تتبنى مؤمنون بلا حدود استراتيجية لتوفير محتوى مترجم يسهم في مواكبة التقدم الفكري العالمي، ويتيح للقرّاء العرب فرصة التفاعل مع أهم النصوص التي شكلت معالم الفكر الإنساني المعاصر.
منذ تأسيسها، جعلت مؤمنون بلا حدود الترجمة ركنًا أساسيًّا في مشاريعها الفكرية، حيث قامت بترجمة العديد من المؤلفات الغربية التي تتناول موضوعات فلسفية، ودينية، واجتماعية، تسهم في إغناء الثقافة العربية وتعزيز النقاشات الفكرية. وقد نجحت المؤسسة في جلب أعمال لمفكرين مرموقين، مثل ميشيل فوكو وشتيفان فايدنر، وهانس كوكلر وجان غريتش وإيمانويل طود وكريستان جامبيه وغيرهم، والتي تطرح قضايا نقدية مهمة حول السلطة والهوية وتحدّيات العصر الحديث، مما ساعد في توفير مرجعيات فكرية نوعية في العالم العربي.
قبل أن أستفيض في الحديث عن تجربة مؤمنون بلا حدود في ميدان الترجمة، دعوني أروي لكم تجربتي مع الترجمة التي تعود إلى عام 2007. عندما انخرطت في مشروع المفكر السوري الراحل محمد شحرور، الذي قرّر حينها نقل أفكاره في القراءة المعاصرة إلى الغرب عبر ترجمة ركائز منهجه وتطبيقاته، شاركت في فريق عمل هذا المشروع، حيث كان عليّ تلخيص أفكار الدكتور محمد شحرور مع زميلة لي، وتحضيرها للمترجم، وهو الدكتور أندرياس كريسمان. كنا أربعة عناصر في الفريق، إضافة إلى مشاركة الدكتور ديل إيكلمان الذي قدم للكتاب.
جمعتنا جلسات طويلة مع د. كريسمان ود. شحرور، حيث كان د. أندرياس، وهو عالم لسانيات يتقن عدة لغات بما فيها العربية، ينخرط في حوارات معمقة مع د. شحرور لفهم الأفكار بشكل دقيق قبل تقديمها بلغته. هذه التجربة وضَحت لي أهمية ودقة الترجمة، ومدى التأثير الذي يمكن أن تحدثه الفروقات البسيطة أو الأخطاء في نقل الأفكار، حيث قد يؤدي سوء الترجمة إلى تشويه المعنى. ولم يخطر ببالي حينها أنّني سأؤسّس لاحقاً مؤسسة سراج للدراسات والأبحاث عام 2008، ومن ثم سأسهم في تأسيس "مؤمنون بلا حدود" عام 2013، وأشرف على دار النشر الخاصة بها نهاية عام 2015، ولتصبح الترجمة عموداً أساسيًّا في رؤيتنا وطموحنا.
في البدايات، تعاونّا مع دور نشر متمرسة في الترجمة، حيث كانت لنا تجربة أولى، على سبيل المثال، مع الدكتور حميد لشهب ضيفنا اليوم، من خلال ترجمة كتاب "البرهان الفينومينولوجي الواقعي على وجود الله" للمؤلف يوسف سايفرت، الذي صدر عام 2015 بالتعاون مع دار جداول حينها. تلك كانت شراكة، ولم تكن إصداراً خالصاً ﻟ "مؤمنون بلا حدود" من ألف القصة إلى يائها. وهذا ما جعل تجربة الأمس مختلفة عما أضحت عليه اليوم من تراكم الخبرات والمعارف والثقة التي جعلت مؤسستنا قادرة على شراء حقوق الترجمات مباشرةً، وتوليها الترجمة ومن ثم الطباعة والنشر والتوزيع.
كما تعلمون جميعاً، كانت تجربة جائحة كوفيد-19 محطة فارقة لنا. ففي خضم الأزمة التي أثرت في المجال الثقافي، كان لدينا حوالي خمسة وعشرين كتاباً في انتظار الصدور، بعد أن اكتملت ترجمة أكثر من نصفها. وقد واجهنا حينها خيارين: إما التخلي عنها جميعاً، أو العمل على إصدار ما اكتملت ترجمته مهما كلفنا الأمر من جهد. فاخترنا الخيار الثاني. وبفضل تضافر جهود الجميع معنا، خرجت تلك الكتب إلى النور، رغم كل التحديات، وأصبحت كأنَّها أطفال خُدّج خرجوا إلى الحياة وسط ظروف صعبة.
أودّ أن أشكر جميع المترجمين الذين ساهموا معنا في نجاح تلك التجربة وتجاوز الأزمة، وأشكر الدكتور حميد لشهب الذي قدّم دعماً كبيراً من خلال ترجمة كتب بمبادرة شخصية ودون تكاليف شراء الحقوق. كما أشكر مركز أبو ظبي للغة العربية، وكلّ جهة دعمت مشاريعنا في الترجمة.
أما عن نوعية الأعمال المترجمة، فقد أولت "مؤمنون بلا حدود" اهتمامًا خاصًّا بترجمة الأعمال الفكرية الغربية التي تعكس أعمق القضايا الفلسفية والسياسية والدينية والاجتماعية. وقد استطاعت المؤسسة بناء جسر فكري بين الغرب والعالم العربي من خلال اختيارها لترجمات كتبٍ تحمل طابعًا نقديًّا ومعرفيًّا عميقًا. ساهمت "مؤمنون بلا حدود" في تقديم ترجمات مهمة لعدد من كبار المفكرين الغربيين، مثل: ميشيل فوكو في كتابه "حكم الذات وحكم الآخرين"، حيث قدمت المؤسسة هذا الكتاب الذي يعرض نظرة فوكو النقدية حول السلطة والذات، مما يسهم في تعريف القراء العرب بالخطابات السياسية الحديثة. شتيفان فايدنر في كتابه "ما وراء الغرب"، الذي يمثل محاولة لفهم الشرق من وجهة نظر غربية نقدية. هانس كوكلر من خلال ترجمة محاضراته المنتقاة، والتي تضمنت تحليلات فلسفية للديمقراطية والتواصل الحضاري. وعناوين عديدة تضيق المساحة لذكرها، وبفضل السمعة التي حظيت بها "مؤمنون بلا حدود"، نتيجة التزامها بأعلى معايير الجودة في اختيار الكتب المترجمة، وتقديم إصدارات تراعي الترجمة الحِرَفية والدقة التحريرية والصياغة العربية المتينة، بالإضافة إلى الأناقة في الإخراج، أبدت العديد من دور النشر الغربية الكبرى اهتمامًا متزايدًا بعرض أحدث إصداراتها علينا. ومن بين هذه المؤسسات Cambridge University Press وIndiana University Press، بالإضافة إلى دور نشر رائدة أخرى، مثل Oxford University Press وGallimard وFlammarion.و، Fayard
هذا التعاون مع دور النشر العالمية يعكس ثقة تلك المؤسسات في قدرة "مؤمنون بلا حدود" على نقل مؤلفاتها بجودة عالية إلى القارئ العربي، وبأسلوب يضمن المحافظة على روح النص وأصالته. وقد حصدت هذه الترجمات العديد من الجوائز، ووصلت للقوائم الطويلة والقصيرة لجائزة الشيخ زايد للكتاب على عدة سنوات، مما عزز من سمعتنا، وأرسى قاعدة قوية بات الجميع ينظر إليها بإعجاب.
لقد شكلت الترجمات أكثر من 25٪ من إصداراتنا منذ نهاية 2015، ولدينا العديد من الترجمات قيد الاشتغال، والتي ستصدر قريباً. وإلى جانب الجهود التي تبذلها "مؤمنون بلا حدود" في ترجمة الكتب الغربية إلى اللغة العربية، أطلقت المؤسسة تجربة تطمح لترجمة بعض إصداراتها إلى اللغة الإنجليزية. وتهدف هذه الخطوة إلى نقل الفكر العربي المعاصر إلى جمهور واسع من القراء الأجانب، لا سيما ما يتعلق بالقضايا الدينية والفلسفية والاجتماعية التي تتعلق بالعالم العربي، والتي قد تجد ترحيبًا دوليًّا وتفتح المجال للحوار الثقافي العابر للحدود. هذا النجاح في الترجمة إلى الإنجليزية يعكس قدرة المؤسسة على المشاركة في النقاشات العالمية وتوسيع نطاق تأثيرها. وقد عبرت "مؤمنون بلا حدود" عن أملها في توسيع هذه المبادرة التي تسهم في بناء صورة إيجابية وشاملة عن الفكر العربي لدى الجمهور الأجنبي.
تشكل الترجمة التي تقوم بها "مؤمنون بلا حدود" جسرًا يربط بين الثقافات، وتفتح آفاقًا جديدة للقراء العرب لاكتشاف أفكار مؤثرة وملهمة من مختلف أنحاء العالم. وبفضل التزامها الدائم بنشر المعرفة وتقديم محتوى ثقافي عالي الجودة، أصبحت المؤسسة نموذجًا يحتذى به في نشر الفكر والمعرفة، وأداة فعالة لتعزيز الحوار الثقافي العالمي.
د. حسام الدين درويش:
شكرًا جزيلا دة. ميادة؛ ما تحدثت عنه يدعو إلى الفخر، لكن بحاجة أيضا لربما لمناقشات أكثر، وسيكون المجال مفتوحاً أمام الجميع لطرح أيّ تساؤلات أو تعقيبات على هذا الأمر.
أنتقل مباشرة إلى د. حميد لشهب، وأقدّم تعريفًا موجزًا به؛ فهو في مؤمنون بلا حدود وخارجها، شخصية معروفة، سواء في الترجمة أو في مجال الفكر. الدكتور حميد حاصل على درجة دكتوراه قسم الفلسفة، علوم اللغة والتواصل وعلوم التربية، جامعة ستراسبورغ الفرنسية. له الكثير من الكتب والدراسات والترجمات والمقالات في ميدان الفلسفة والفكر والبيداغوجيا والسيكولوجيا والسياسة والهجرة، نُشرت في مجلات متخصصة وجرائد في العالم العربي والعالم الجرماني. حاور العديد من المفكرين والفلاسفة العرب والجرمانيين، كما حاورته العديد من وسائل الإعلام المرئية والمسموعة والمقروءة. نال العديد من الجوائز منها "الجائزة العالمية إريك فروم لسنة 2004"، والميدالية الإقليمية لمحافظة الفوغالبيرغ النمساوية عام 2009، و"الجائزة العالمية للترجمة "جيراردو دي كريمونا" كـ"مترجم الضفة الجنوبية للمتوسط" عام 2019".
د. حميد لشهب:
تحية المودة للحضور الكريم؛ تحية المحبة للأستاذة دة. ميادة؛ تحية صادقة للأستاذ د. حسام؛ وأودّ أن أشكر منظمي هذا اللقاء المهم؛ لأن موضوع الندوة، وإن لم يكن جديدًا، إلا أنه يرافقنا يوميًّا تقريبا؛ لأننا نحتاج الترجمة في الكثير من مناحي حياتنا، وليس فقط في أنشطتنا الأكاديمية والفكرية والفلسفية. ولن أخبركم بالشيء الجديد، عندما أقول إن الترجمة ليست فقط تمرير معنى ومضمون ما من لغة إلى أخرى، بل هي في العمق وسيلة لالتقاء البشر، للتواصل في المقام الأول والتعارف المتبادل ومعرفة طريقة تفكير الآخر، في سبيل الحوار المثمر والتعايش في عالم أصبح أكثر تعقيدًا مما مضى، وقابلًا للتناطح أكثر من التحاور.
الترجمة، وهنا أتحدث من طبيعة الحال عن تجربتي الشخصية، هي محبوبة عنيدة. ما إن يرتبط المرء بها، حتى تقيده وتشدّه لها بآلاف الحبال والسلاسل الغليظة، خاصة عندما يحبّها المرء وينساب في هذا الحب بعينين مغمضتين، كما حدث لي. إنها محبوبة غيورة، لا تسمح للمحبّ بمشاهدة شيء آخر، باستثناء وجهها الصبوح. هذه المحبوبة مرهقة جدّا أيضا، تفرض على المحبوب العمل بانتظام وعدم الانقطاع؛ أي تطلب كمهر الاستمرارية والشغف بها، وهي إلى هذا تأكل دون شبع، تلتهم ما يُقدّم لها وتطلب المزيد. ومع مرور الوقت، تصبح إدماناً حقيقيًّا أو شبه إدمان، لا يهدأ المحب، إلا عندما يستمر في الترجمة، مشروعاً وراء الآخر وكتاباً تلو الآخر. هذه المحبوبة تطلب من المحبّ، أو المريد إن شئنا، اليقظة والحيطة والحذر؛ لأنها مهووسة بالدقة واختيار الفساتين التي تصلح لكل مناسبة. إضافة إلى هذا كلّه، تفرض نظاماً دقيقاً في التعامل معها، ولا تحبّ الفوضى والارتجال أو العبارات التقريبية.
أتمنى ألا تكون كلماتي هاته عن هذه المحبوبة تهديدًا للمبتدئين فيها، بل فقط كلمة سر من الضروري أن يتعرفوا عليها، ليعرفوا ماذا ينتظرهم، وليفهموا أن دخول قصر هذه الأميرة، حتى وإن كان بابه دون حراس، فإنه محروس بعيون خفية، تطارد المحب، حتى تتأكد من أنه صالح للاقتراب من الأميرة ومصافحتها، ولربما تَقْبِلَهُ بين جدران قصرها الجميل هذا. في آخر المطاف، وعلى الرغم من أنها تطالب بحقوقها جميعا، وتحققها بالإلحاح، فإنها محبوبة حنونة، معطاء، تفتح قلبها، عندما تعرف أن قلبك صاف تجاهها، وأن تقربك منها صادق وبحسن نية؛ أي خدمة لمثالها الأسمى: تسهيل التواصل بين بني البشر.
حُمْتُ طويلاً حول قصر هذه الأميرة، وكنت شغوفاً بها، وأحلم بلقائها، كانت تلاحقني من نوافذ قصرها بنظراتها وتختفي، تاركة إياي أنتظر، إلى أن احتضنتني مرة و"استعبدتني"، شربت من جَرَّتِها، جرعة، جرعة، ولم أرتم قط، بل كلّما شربت، كلّما كبر عطشي. عندما أرمي نظري مرة على رفوف كتبي، أشعر وكأن ما ترجمته من كتب (ما يناهز 25) تُلَوِحُ لي بيدها، مذكرة إياي بتفاصيل انعكافي عليها وظروف وملابسات اهتمامي بها والوقت الذي قضيته معها. تذكرني أيضا أن الترجمة بالمفرد لا وجود لها، بل كل مشروع ترجمة يفرض شروطاً محددة، طبقاً لطريقة كتابة المؤلف، وخلفياته الفكرية والثقافية ولربما الأيديولوجية. ومعنى هذا، أن الترجمة ليست ماكينة ندفع لها النص الأصلي من جهة، ويخرج مترجماً من الجهة الأخرى، بل هي عملية متعبة، تتطلب التأنّي واختيار استراتيجية معينة للعمل. وفي هذا الإطار، تعودت منذ أول مشروع ترجمة لي على استراتيجية ثلاثية الأبعاد: نقل ما أترجمه، دون الابتعاد عن النص الأصلي في كلّ تفاصيله، ثم القيام بنوع من التنقيح؛ أي غربلة أولى للتيقن من أن مضمون الجمل والفقرات يبقى وفيًّا لمضمون النص الأصلي، وفي الأخير أقوم بإدماج النص في اللغة العربية، ليستقيم المعنى وأتجنب الركاكة ولربما التكرار والإطناب. وفي كل هذا، يعني في الأبعاد الثلاثة، أحاول ألا أبتعد عن طريقة كتابة المؤلف الأصلي، بهدف إفساح المجال للقارئ من الاقتراب من طريقة تفكيره؛ بمعنى أن عملية الترجمة ليست فقط تعريباً، كما يقال، بل هي فتح نافذة لفهم كيف يفكر الآخر؛ لأن هذا قد يسهل عملية التواصل والتفاهم. لا يكفي أيضا التعامل مع النص المترجم بنوع من الحياد العلمي؛ لأن المرء يفقد عادة المرق المغذي الذي تمثله شخصية المترجم. لذا، فإن غالبية ما ترجمته كان لفلاسفة على قيد الحياة، ربطتني بهم علاقات صداقة إنسانية شخصية، إما في إطار العمل أو في إطار ندوات ولقاءات علمية. هذا الارتباط الشخصي يسمح لي بفهم أفضل للكتاب، وغالباً ما أرجع للمؤلف للاستفسار عن أمر ما يتعلق بالكتاب الذي أترجمه، وأعتبر هذا قيمة إضافية، لربما لا تتوفر لكل المترجمين والمترجمات.
بنيت على مدى السنوات الفارطة علاقة فكرية وثقافية مع ثلة من الأساتذة الجامعيين، في الدول الناطقة بالألمانية (النمسا، ألمانيا، سويسرا) والمغرب. عند كل إنهاء ترجمة ونشرها، كنت أدخل في تعاون مباشر مع الجامعات المغربية ونظيراتها الجرمانية لتنظيم ندوات في رحاب الجامعات، بدعم مادّي ومعنوي من هذه الجهات، فيما يخص مصاريف السفر والإقامة والنقل في عين المكان. كان المؤلف الأصلي يرافقني، وعادة ما كنا نزور ثلاث جامعات مغربية على التوالي، لعقد لقاءات تتمحور حول موضوع الكتاب المترجم. لم تكن هذه الجولات الفكرية والفلسفية بهدف الدعاية لترويج الكتاب المترجم، بل في غالب الأحيان كنا نموّل مجموعة من النسخ، وصلت في بعض اللقاءات إلى أكثر من 500 نسخة، كانت توزع مجاناً بعد اللقاءات على الطالبات والطلبة، لمعرفتي التامة بأن ميزانية الطالب المغربي لاقتناء الكتب تكون محدودة جدًّا، أو منعدمة، وفي كثير من الأحيان على حساب تغذيته وتطبيبه. كنت حريصاً على تنظيم مثل هذه اللقاءات، أولا اعترافاً منّي بما تعلمته في الجامعات المغربية، حيث تكونت، وثانياً لتكون قراءة الترجمة فيما بعد ممتعة؛ لأن الاحتكاك المباشر بالمؤلف الأصلي، والدخول معه مباشرة في حوار حول موضوع الكتاب يحفز أكثر لقراءته. الشيء نفسه كنت أقوم به، باستدعاء مفكرين عرب لتقديم محاضرات في الجامعات الجرمانية.
أمرٌ آخر يما يتعلق بترجماتي، ويتمثل في أن الطريق السيار الذي اخترته منذ البداية في اختيار ما أترجمه، لم يتغير؛ أي إنني لا أترجم إلا ما يتوافق وتصوري للعالم والإنسان؛ أي ما يخدم السلم والحوار بين الشعوب، وما يخدم أمتي وأهلها. لا أترجم بهدف الربح المادي؛ لأنني لم أختر الترجمة كمهنة، بل هي التي اختارتني كمناضل في صفوفها، ولأنني أتحرّى الدقة ولا أترجم إلا في الخط الذي اخترته، فمن المستحيل أن أعيش من الترجمة وحدها؛ لأنني أترجم في أفضل الظروف مؤلفاً سنويًّا، ولا يسمح ما أكسبه من ترجمته لكي أعيش، خاصة في أوروبا. ولا يعني هذا بالكاد أن الترجمة عندي "خضرة على طعام"، كما يقول المغربي؛ أي "خضرة فوق الكسكس"؛ بمعنى إكسسوار، أو نوع من قضاء الوقت الثالث، بل آخذ كل ترجمة بجدية كبيرة، ولا أبرحها إلا بعد إنهاء العمل.
ترجمت لناشرين عرب كثيرين، وكنت دائما حريصاً على اختيار ناشري بعناية فائقة، وأعلن منذ البداية عن الخط الذي اخترته في انتقاء ترجماتي. فإما أن يتفق الناشر مع هذا الخط، أو يختار مترجماً آخر غيري، والاتفاق كان بنسبة مئوية عالية جدًّا، تقريبا مئة في المئة. لكن لتعاوني مع مؤمنون بلا حدود نكهة خاصة جدًّا، لها علاقة بالأساس بشخصية شخص، عندما تعرفت عليه عن قرب، ولمست فيه الجدية في العمل وروحاً مرحة، أحببته في الله، حبًّا حقيقيًّا. أتذكر جيّدًا أول اتصال هاتفي بيننا، حدثني بلهجة مغربية-شرقية، افترضت أنه لبناني، وأخبرني أنه عاش مدة طويلة في المغرب، واشتغل فيه ويعرف العقلية المغربية جيّدًا "مزيان"، كما نقول. هذا الانتماء المشترك لم يهمني كثيرًا؛ لأنني أعتبر نفسي أولا قوميًّا عربيًّا من حيث الثقافة، وثانياً مواطناً عالميًّا. السيد الأخ مهيار أقنعني لأن نفحة إنسانية، عبق إنساني فاح عبر الأثير ووصل أنفي، وتيقنت حدسيًّا أن أمور مؤمنون بلا حدود جدية ومهنية للغاية، ثم تعرفت بعد ذلك على سفيرة السلام، الحمامة البيضاء، لمؤمنون بلا حدود، الفاضلة الدكتورة ميادة، التي تتعامل بمهنية عالية، ولها قدرة على التواصل الإيجابي.
هذا على المستوى الشخصي. أما على المستوى المهني، وبإلقاء نظرة خاطفة على منشورات المؤسسة، سواء الورقية أو الإلكترونية، يتضح بأنها مؤسسة اختارت أيضا خط نشر واضح: تنوير الساحة الثقافة العربية، بما يسهم في خدمة صقل الوعي وشحنه بإعمال العقل وملكة النقد، وعدم قبول كل ما يمكن نشره، كما تقوم بذلك بعض دور النشر في البلاد العربية، التي لا مشكل عندها في نشر كتاب فكري إلى جانب كتب في الطبخ أو حكايات "أحمد والعفريت" أو "كيف تصبح مليارديرا في أسبوع" إلخ. هذا الخط كان حاسما بالنسبة لي للمضي قدماً في التعاون مع مؤسسة مؤمنون بلا حدود. رسالة المؤسسة واضحة، وجمعها لنخبة من المفكرين العرب هو عربون وفاء، ليس فقط لهم، بل وأيضا للثقافة العربية الهادفة. ونعلم كلّنا أن مهنة النشر في العالم العربي، وبالخصوص في أيامنا هذه، جدّ صعبة ومعقدة، فكم عدد دور النشر التي بدأت "المغامرة" وفشلت قبل الوصول حتى إلى نصف المشوار. وها هي مؤمنون بلا حدود ما زالت صامدة، محاربة، متحدية، ورأسمالها الكبير هم المفكرون، الذين تنشر لهم، وقرّاؤها في ربوع الوطن العربي الكبير. والدكتورة ميادة الساهرة على هذه الجمهورية الفكرية، تشبه أثينا الإغريقية، بحكمتها وجديتها ومؤهلاتها التنظيمية وكفاءاتها الإنسانية في تعاملها مع من يحيط بها.
لن تفوتني هذه الفرصة للتذكير أيضا بالجودة العالية للمنتوج النهائي لمنشورات مؤمنون بلا حدود، بطبيعة الحال أقارن هنا لا محالة مع ناشرين عرب آخرين، سواء من حيث الإخراج أو الغرافيك أو التدقيق اللغوي الصارم للمؤسسة قبل إخراج أيّ عمل، ولو لم أكن أعرف بعض الأشخاص الساهرين على المؤسسة، لحسبت الدار ألمانية، للمستوى العالي للدقة التي تتعامل بها المؤسسة، وسهرها على أن يكون ما تنشره على أعلى مستوى من الاحترافية.
إذا رجعت ولو في عجالة إلى أسلوبي في الترجمة، فقد أقول إن منهج سيسرون يستهويني كثيرًا؛ لأنه يليق جيّدًا للترجمة من الألمانية إلى العربية، والعكس. ومفاد هذا المنهج هو البقاء وفيًّا إلى "أسلوب الكاتب وروح لغته"؛ لأننا لا ننقل في الترجمة المعارف والأفكار فقط، بل وأيضا طريقة تفكير، توظف اللغة للتعبير عن نفسها. وفي الطريق نفسه، ذهب القس "جيروم" في ترجمته للكتاب المقدس من اليونانية إلى اللاتينية. لا بأس أيضا من ذكر "مارتن لوثر" في ترجمته للكتاب المقدس إلى الألمانية عام 1522، ومن المعروف أنه كان ضد الترجمة الحرفية، لكنه عبر كذلك عن حرية شبه مطلقة للمترجم، وهو أمر لا نشاطره معه؛ لأنه قد يقود إلى الخيانة في الترجمة.
تطورت نظرية الترجمة أكثر في الغرب في العصر الحديث، تزامناً مع لحظات تاريخية طبعت طريقة التفكير الغربية واندلاع الثورات السياسية. وكان اللاهوتي والفيلسوف والمترجم الألماني "فريدريك شلايرماخر"، أول من تحدث، حسب علمنا، عن الترجمة التجارية والترجمة الأدبية، التي تتضمن أيضا الفلسفة ومجمل العلوم الإنسانية التي أتت من بعد. وحاول الأمريكي "يوجين نايدا" بناء منهج قياسي، يقترب أكثر إلى العلوم الطبيعية، وهو الذي تحدث عن تكافؤ الأسلوب Formal Equivalance؛ أي الحفاظ على أسلوب المؤلف الأصلي، وتكافؤ السياق Dynamic Equivalance؛ أي نقل معنى النص وفحواه إلى اللغة المترجم إليها، وفقًا لسياقها وأعرافها.
الواقع، أو لأقل أعترف، إنني أزاوج في ترجماتي بين هذين الأسلوبين في الترجمة؛ فتكافؤ الأسلوب يحافظ على أسلوب المؤلف؛ لأنني أترجم لجمهور من الطلاب والجامعيين المتخصصين، وهم في حاجة للاطلاع على أسلوب الكاتب. وأدخل بدرجات متفاوتة، حسب الكتاب المترجم، أسلوب تكافؤ السياق؛ لأنه أنسب لجمهور أوسع من القراء. لكن لا يعني هذا أنني متفق مع محاولة إدخال يوجين للمذهب الطبيعي في الترجمة؛ لأن الظاهرة الإنسانية لا تخضع للتطويع الرياضي إلا بنسبة قليلة، على الأكثر لجمع المعطيات وتفريغها وتأويلها. ومن نافلة القول تكرار كون الترجمة عرفت ظهور العديد من المناهج والنظريات وضعت الترجمة في مكانها الصحيح بين العلوم الإنسانية وليس الطبيعية. وإذا كنت تحدثت إلى حد الآن عن مناهج الترجمة، فإنني لم أنس "جيمس هولمز"، الذي هاجر من الولايات المتحدة الأمريكية إلى هولندا، واشتغل عام 1964 في القسم الجامعي الجديد بجامعة أمستردام، كمتخصص في الترجمة. وفي هذه الجامعة، رسم عام 1972 ما اقترح على تسميته: خريطة لنظرية الترجمة، ويرى "هولمز" أن بحوث الترجمة تنقسم عامة إلى دراسات تطبيقية ودراسات بحثية، وتنقسم هذه الأخيرة بدورها إلى قسمين؛ واحد نظري، والثاني وصفي.
لن أعرج على كل نظريات الترجمة هنا؛ لأن ذلك يتطلب وقتاً طويلًا، بل أذكر ببعض من أثروا في نظرية الترجمة منذ منتصف القرن الماضي، كـ "ميشال فوكو" بنظرية تحليل الخطاب، والألمانية "كاتارينا رايس" والألماني "هانس فرمير"، اللذين طورا بجامعة هايدلبرغ نظرية "الغرض"؛ أي ما يعرف عموماً بالترجمة الوظيفية، التي ترى أن الهمّ الأساس للمترجم هو فهم وظيفة النص؛ أي الغرض والهدف المرجو من ترجمته.
فيما يتعلق بي شخصيًّا، فإنني حملت همًّا ثقافيًّا وحضاريًّا منذ أن غادرت جامعة فاس المغربية، ووعيت بما يكفي أننا في علاقتنا الفكرية مع الغرب نعيش نوعاً من التجاذب، إما أننا ننبهر به ونحسبه المثال الذي يجب أن يقتدى، وإما أننا نرفضه كلية، ولا نعترف له بأي فضل علينا. عندما درست في فرنسا، وبعدها في النمسا، وعيت أن هذه القطبية الثنائية توجد أيضا في دواخلنا، حاضرة باستمرار، نحكي في الجلسة نفسها عن الغرب الشيطان، وعن الغرب الملاك، بل نمرّ بين الشيطان والملاك باستمرار، دون أن ندرك أن هناك صورة أخرى وراء هذا التصور، لابد أن نعيها إن كنا نريد "الاستشفاء" من عقدنا تجاه هذا الغرب. ونقطة التحول التي علينا الوصول إليها هي تجاوز التصورين معا، والوصول إلى تصور جديد، مبنيٌّ أساسا على موقف محايد، لكي نصل إلى الموضوعية قدر الإمكان، ولكي يتسنّى لنا إعمال عقلنا في علاقتنا مع الغرب وليس عواطفنا فقط. ويتمثل هذا الحياد في نوع من إعادة النظر فيما نتلقّاه من الغرب، بالإصغاء العميق وعدم الانخراط في نظرية بعينها؛ لأننا لا نعرف في واقع الأمر إلا القليل عن هذه النظرية، لعدم توفرنا على الكافي من الترجمات للإلمام بنظرية غربية ما.
من هذا المنطلق، فإن كل ترجماتي تتبع هدفاً جزئيًّا أوليًّا: توسيع أفق معرفتنا بالغرب، وعدم التسرع بإصدار أحكام عن واقعه الفكري؛ لأن الصورة لم تكتمل بعد. أما الهدف الجزئي الثاني، فهو أنني بعيشي في الغرب واحتكاكي المباشر بأهله، وتعاملي مع مختلف طبقاته الاجتماعية، ومشاركتي السياسية في تسيير أموره، فهمت أن طريقة تفكيره في نفسه وحياته وظروفه المادية والمعنوية مغايرة تماماً لنا، ومن هنا ينبع الصراع وعدم التفاهم، وفي كثير من الأحيان سوء التفاهم. ويقودنا هذا كلّه إلى إصدار حكم عام، لربما جماعي، يتمثل في أحسن الظروف في كون الغرب خصماً لنا، إن لم يكن عدوًّا على الإطلاق. ننسى إذن، أن هناك أقلية من المفكرين الغربيين، يفهمون المواقف الغربية تجاهنا وميولات التحكم والسيطرة علينا، المملاة من واقعة كون الغرب هو المسيطر على العالم حاليًّا، ومثل هؤلاء المفكرين يهمّونني في ترجماتي.
أتمنّى ألا أكون أثقلت كاهلكم، أشكركم على الاهتمام وحسن الاستماع، وأرجع الكلمة إلى رئيس الجلسة، الأستاذ د. حسام.
د. حسام الدين درويش:
شكرًا جزيلًا. لديّ الكثير من الأسئلة، وقد أجبت أنت مسبقًا عن بعضها، لكن سأحاول التوسع فيها. لديّ سؤال مزدوج لكليكما؛ دة. ميادة، ود. حميد. يوجد تمييز بين نوعين من الترجمة أو حتى نوعين من المترجمين. من ناحية أولى، هناك محترفو الترجمة؛ أي الأشخاص الذين يرتزقون من هذه المسألة. وأنت، دكتور حميد، لم يكن ذلك محركًا أو هدفًا لعملك في الترجمة. وأنت كذلك، دة ميادة، ليس هذا الهدف، على الإطلاق، من اهتمام مؤسسة مؤمنون بلا حدود بمسألة الترجمة. من ناحيةٍ أخرى، هناك المترجمون الذين لديهم أهداف معرفية وقيمية، أهدافٌ تتجاوز المسائل المادية، ليحققوا من خلال الترجمة أشياءً أخلاقية، إنسانية، معرفية... إلخ.
سؤالي لك، دكتورة ميادة، ما سبب هذا الاهتمام عند مؤسسة مؤمنون بلا حدود، منذ نشأتها، وهذا الكمّ الكبير من الترجمات التي بلغت أكثر من ربع الكتب الصادرة عن المؤسسة؟ اهتمام مؤمنون بلا حدود بالترجمة ليست لأسباب مادية، وإنما لأن هناك التزاماً حقيقيًّا. فلماذا ترين أن الترجمة مهمّة حتى هذه الدرجة؟ وما سبب اهتمام مؤسسة مؤمنون بلا حدود بالترجمة منذ نشأتها؟ وكيف عالجتم مسألة نوعية الترجمة التي تواجه أزمة في المترجمين المتخصصين، خاصة في المجالات المعرفية والفكرية؟
دة. ميادة كيالي:
شكراً على هذا السؤال المهم؛ في مؤسسة مؤمنون بلا حدود، كان اهتمامنا بالترجمة ينبع من رؤيتنا لبناء هيكل معرفي متكامل، يعتمد على المزج بين الإنتاج الفكري العربي والأفكار العالمية. كنا ندرك منذ البداية أن الترجمة ليست مجرد وسيلة لنقل النصوص، بل هي عملية ثقافية وفكرية تُثري المكتبة العربية، وتفتح أفقاً جديداً للتفاعل مع الفكر العالمي.
واجهنا في البداية تحدّياً كبيراً ليس في قلة عدد المترجمين، بل في ندرة المترجمين المتخصصين الذين يستطيعون نقل النصوص بعمق ودقة، وبما يضيف إلى النص الأصلي وليس مجرد نسخه أو نقله. لهذا السبب، وضعنا أصولاً واضحة للعمل في مجال الترجمة، تماماً كما وضعنا أسساً صارمة للكتابة البحثية والنشر. أحد هذه الأسس كان تشكيل لجان محكّمة تتكون من خبراء متخصصين لمراجعة وتقييم الترجمات، لضمان تناسب جودة الترجمة مع المستوى العالي لأبحاث المؤسسة وكتبها المؤلفة باللغة العربية. بالإضافة إلى ذلك، ركزنا على اختيار مترجمين لديهم شغف حقيقي بالترجمة، مثل الدكتور حميد لشهب، الذي تجسد أعماله مقولة جورج ستاينر: "الترجمة ليست مجرد فن، بل شكل من أشكال الحياة." هذا التماهي مع النصوص التي يترجمها يعكس روح الترجمة كعملية إبداعية وليست تقنية بحتة.
نحن نعُدّ الترجمة في "مؤمنون بلا حدود" حجر الزاوية في تحقيق رسالتنا: بناء حوار ثقافي ومعرفي عابر للحدود، يثري الفكر العربي، ويمكّن القارئ العربي من التفاعل مع الأفكار العالمية بعمق ووعي.
د. حسام الدين درويش:
سنعود لمسألة المترجم، لكن بالنسبة إلى المؤسسة المسألة ليست تجارية، وإنما هناك رسالة معرفية قيمية أخلاقية، من خلالها؟
دة. ميادة كيالي:
شكراً على السؤال الذي يتيح توضيح رؤية المؤسسة؛ الترجمة في مؤمنون بلا حدود ليست نشاطاً تجاريًّا بأيّ حال من الأحوال، بل هي رسالة معرفية وقيمية وأخلاقية نؤمن بأهميتها في بناء جسور بين الثقافات وتعزيز التفاعل الفكري العالمي.
كانت تجربتي مع مؤسسة سراج، في بداية عملي بالترجمة، بمنزلة درس عميق عن أهمية الترجمة الاحترافية ودورها في إيصال الفكر بشكل دقيق وأمين. عندما عملنا مع الدكتور أندرياس كريسمان لترجمة أفكار الدكتور محمد شحرور، شهدت بنفسي كمّ الجهد الذي استلزمه هذا العمل، ليس فقط من حيث الترجمة التقنية، بل من حيث النقاش المستمر على كل جملة تقريباً لضمان دقة المعنى وسلامة الفكرة. الدكتور كريسمان، بصفته عالماً في اللسانيات ومتقناً للعديد من اللغات بما في ذلك اللغة العربية، جسّد الترجمة كعملية إبداعية تحتاج إلى تفاعل وتفكير عميق.
هذه التجربة جعلتني أدرك أن الترجمة ليست مجرد نقل كلمات من لغة إلى أخرى، بل هي استثمار معرفي وثقافي يحتاج إلى موارد وإمكانات كبيرة. لهذا السبب، دعمت مؤسسة سراج في وقتها هذا المشروع، مما مكننا من تحقيق مستوى احترافيّ عالٍ. ونواصل هذا النهج في مؤمنون بلا حدود، حيث ننظر إلى الترجمة كعملية تتطلب دعماً ماليًّا وتنظيماً معرفيًّا لضمان تقديم محتوى يثري المكتبة العربية، ويعكس قيمة الفكر العالمي بأمانة ودقة. ويمكنني القول بثقة إن الترجمة بالنسبة لنا ليست مجرد وسيلة، بل هي رسالة تُعبّر عن رؤيتنا للتواصل الثقافي وتعزيز القيم الإنسانية المشتركة.
د. حسام الدين درويش:
لنبقَ في مجال الحبّ والعشق؛ أنا كنت طوال حياتي أتجنب أن أكون مترجماً؛ لأنني أراها مهمّة مستحيلة بالفعل، ولن أكون راضيًّا عنها مهما فعلت. لذا يثير دهشتي دكتور حميد عشقك للترجمة وحديثك عنها بلغةٍ شاعرية، بوصفها المعشوقة والمحبوبة. وهذا العشق يبدو مضادًّا للترجمة بوصفها محنةً، وهو ما سنتحدث عنه لاحقًا. فكما تعلم، بول ريكور وغيره تحدثوا عن محنة الترجمة؛ وتحدث أنطون بيرمان، في هذا الخصوص، عن محنة الغريب. بالطبع، أقدّر عمل المترجمين والمترجمات؛ لأنهم يقومون بالفعل بمهمة عظيمة. لكن ما سرّ هذا العشق للترجمة، رغم أنها محنة؟ لماذا تعشق الترجمة حتى هذه الدرجة؟ تفضل د. حميد.
د. حميد لشهب:
الحبّ محنة أصلًا، وهذا الحب أصله الحقيقي هو نوع الصدمة الثقافية التي عشتها عندما رحلت نهائيًّا إلى فرنسا، يعني لأدرس في فرنسا. عندما كنت في قريتي الصغيرة بالمغرب "مطماطة"، وفي هذا الإطار أحيّي صديقي الأستاذ يوسف الذي يتابعنا من أمستردام، وكان من بين الناس الذين يعرفونني، وكنت أُسمّى "مهموم" في قريتي؛ لأنني كنت اخترت الفلسفة وعلم النفس كدراسة. وقع لي في فرنسا هذا النوع مما أسميه الآن نوعاً من الانفراج، فهمت أن الغرب الذي كنا نحلم به، ونحن في جامعاتنا ليس هو الغرب نفسه الذي أعيش فيه. إن الغرب ليس شيئا آخر باستثناء بشر كجميع البشر؛ شعوب مهمومة أيضا بمعاشها اليومي، تقاتل لتعيش؛ كنا نحلم بأشياء مثالية، كنا نحلم بديمقراطية وحرية وكذا...وعندما وصلت إلى واقع الأمر وجدت أن هناك نوعاً من الفرق بين ما درسناه وما تعلمناه، والواقع الفعلي الغربي. شيء آخر، أخذته معي، على الأقل في الجيل الذي درست فيه لم تكن هناك ترجمات كثيرة، أو حتى كتب متوفرة بلغات أجنبية أخرى، سواء الفرنسية أو الإنجليزية أو أيّ لغة أخرى. كان أساتذتنا الكرام، ومنهم الأستاذ أفرفار في قسم علم النفس بمجهوده الشخصي يترجم أشياءً لنتعلمها في المحاضرات. هذا الهمّ أخذته معي أكيد، وكنت أودّ أن أفتح المجال للطلبة الشباب، لكي يتعرفوا أكثر على الفكر الغربي بصفة عامة، واخترت خصوصا الفكر الألماني؛ فقد كانت لي قناعة تتمثل في أن الفكر الألماني أو الجرماني بصفة عامة، هو فكر مهم بالنسبة إلى الذين يدرسون العلوم الإنسانية بصفة عامة. فهذا مشروع كان عندي منذ البداية، وهو مشروع شخصي، لكنه أصبح تقريبا مؤسساتيًّا في تعاملي مع مؤسسات مختلفة لترجمة نصوص معينة. هذا الحب للترجمة آت من حبّي للغة، أتكلم اللغة الفرنسية بطلاقة، لكن عندما اكتشفت اللغة الألمانية؛ لأني درستها في ستراسبورغ، وستراسبورغ لمن يعرف تاريخها، مرة كانت ألمانية، ومرة كانت فرنسية. عندما اكتشفت اللغة الألمانية عشقتها؛ لأنها ذكرتني باللغة الأمازيغية عندنا في المغرب، انكب كل اهتمامي على اللغة الألمانية، وعندما شعرت أن هذا الحب حقيقي، كان تعلمها نوعاً ما سهلا بالنسبة إلي، فتحت لي قلبها وفتحت لها قلبي.
د. حسام الدين درويش:
جميل جدًّا أن يشعر الشخص بالحب تجاه عمله. وأظن أن الدكتورة ميادة كتبت، منذ مدة قليلة، منشورًا حول هذه المسألة: أن يحبّ الشخص ما يعمل، وأن يعمل ما يحب. فالعمل بحاجة إلى التبرير. وثمة بالفعل أساطير لتبرير العمل، لكننا في هذا السياق، لسنا بحاجة إلى التبرير، نظرًا إلى وجود همّ أو انهمامٍ معرفيٍّ وقيميٍّ أخلاقيٍّ، ورسالة ما من خلال الترجمة. السؤال هنا عن المعايير، إلى أيّ حدّ يمكن أن تكون أحادية؟ هل نترجم ما يتسق مع رؤيتنا ومع أهدافنا ومع قيمنا؟ أم نترجم ما ينبغي أن نعرفه بغض النظر عن اتفاقنا أو اختلافنا معه؟ والسؤال هنا أيضا لكليكما: للدكتورة ميادة، بوصفها مديرة مؤسسة مؤمنون بلا حدود، وللدكتور حميد، بوصفه مترجماً.
دكتورة ميادة، عندما تقبل مؤسسة مؤمنون بلا حدود أو تقرّ أو تتبنّى ترجمة مشروع أو نصٍّ ما، ما المعايير التي تستند إليها؟ هل المعيار هو ما ينبغي أو من المفيد أن نعرفه بغض النظر عن اتفاقنا أو اختلافنا معه؟ أم المعيار هو ما يتسق مع وجهات نظر وقيم معينة، وتوجهات معرفية وأخلاقية معينة؟
هذا السؤال مهمٌّ وأشكرك عليه؛ لأنّ الإجابة عنه تعكس بلا شك جوهر عملنا في مؤسسة مؤمنون بلا حدود. في الحقيقة، نحن لدينا معايير واضحة لاختيار النصوص التي نقوم بترجمتها، حيث نركز على المحتوى الذي يحمل قيمة معرفية وأكاديمية عالية، سواء في القضايا الفلسفية أو في القضايا التي تتعلق بسؤال الدين أو الدراسات ذات الصلة به. نحن نحرص على تقديم دراسات تتميز بالجدة والرصانة، وتسهم في إثراء النقاش الفكري والمعرفي في العالم العربي.
ما يميز مؤمنون بلا حدود هو تقديم مروحة واسعة من المواضيع التي لا تقتصر على اتجاه فكري واحد أو رؤية محددة، بل نسعى أحياناً إلى تقديم الموضوع ونقيضه؛ لأننا نؤمن أن هذا التنوع يُثري النقاش ويسهم في تطوير الفكر النقدي.
إضافة إلى ذلك، نحن نهتم بمعايير أكاديمية دقيقة ومعايير إنسانية وفكرية تنعكس في الأعمال التي نترجمها. نسعى من خلال هذه الترجمات إلى فتح نوافذ جديدة للحوار الثقافي والمعرفي، وتشجيع القارئ العربي على التفكير في قضايا معاصرة بعمق وتجرد.
هذا التوجه المتوازن بين تقديم محتوى يثير الجدل الفكري، وبين الالتزام بالمعايير الأكاديمية والإنسانية يجعل من عملنا في الترجمة رسالة قيمية بقدر ما هو مشروع معرفي. نحن لا نترجم فقط ما يتسق مع رؤيتنا، بل نترجم أيضاً ما ينبغي معرفته بغض النظر عن الاتفاق أو الاختلاف؛ لأن هدفنا النهائي هو إثراء النقاش الثقافي وتعزيز الحوار بين مختلف التيارات الفكرية.
د. حسام الدين درويش:
وبهذا المعنى، الجملة التي توضع أحيانا كالتالي: "المؤسسة لا تتبنى بالضرورة الآراء الواردة في هذا الكتاب" ينبغي أخذها بجدية؛ لأن هناك آراء متناقضة، وهذا في رأيي ضروري، أن يكون هناك أكثر من رأي.
دة. ميادة كيالي:
بالفعل، عبارة "المؤسسة لا تتبنى بالضرورة الآراء الواردة في هذا الكتاب" تعكس موقفاً جوهريًّا لمؤسسة مؤمنون بلا حدود. نحن نؤمن أن وجود الآراء المتناقضة في إصداراتنا لا يُعبّر عن ضعف، بل هو ضرورة فكرية تهدف إلى تعزيز النقاش وتوسيع الأفق الثقافي. الهدف الأساسي هو تقديم محتوى يدفع القارئ للتفكير والتأمل، وليس فقط تقديم إجابات جاهزة.
مع ذلك، هناك خط أحمر واضح بالنسبة لنا: لا يمكن للمؤسسة أن تتبنى عملاً يفتقر إلى الرصانة الأكاديمية أو يحتوي على خلل في معاييره العلمية. نحن نحرص على أن تكون جميع الأعمال التي ننشرها، سواء اتفقت مع رؤيتنا أم لا، ملتزمة بأعلى المعايير البحثية والأكاديمية. هذا الحرص على الجودة هو ما يضمن أن تكون إصداراتنا مصدر ثقة وأداة لإثراء الفكر العربي.
د. حسام الدين درويش:
دكتور حميد؛ رأيت في الكتابين اللذين ترجمتهما مع مؤمنون بلا حدود أن الاتجاه الذي تتبنّاه هو نقد الغرب، ونقد الهيمنة الغربية، ونقد المركزية الغربية، وتعريتها... إلخ. فهل هذا هو الاتجاه الذي تتبنّاه وتترجم على أساسه؟ فهل تترجم ما يتسق مع توجهاتك المعيارية والأيديولوجية، أم تترجم ما ترى أن ينبغي لنا معرفته حتى لو لم تكن تتفق معه؟
د. حميد لشهب:
الرغبة في نقد الغرب آت بالنسبة إليّ من مسلّمة أخرى في تفكيري، هي أننا لنتحاور مع الغرب، لا بد أن نعرفه، موقفي من الغرب موقفٌ بسيط.
د. حسام الدين درويش:
قبل الإجابة عن هذه الجزئية، ما معاييرك للترجمة؟ هل تترجم ما تراه متسقاً مع توجهاتك الفكرية أو المعيارية، أم تترجم ما ترى أنه ينبغي أن نعرفه حتى لو كان مختلفاً معها؟
د. حميد لشهب:
لأكون صريحاً، لا أترجم إلا ما يوافق توجهاتي المعيارية، ولربما الإيديولوجية؛ لأن فكرتنا عن الغرب فكرة خاطئة، التي نحملها عن الغرب فكرة خاطئة؛ لأن الغرب الذي أعيشه وأعرفه، هو غير الغرب الذي عشّش في مخيلاتنا. لا يمكن أن أقوم بكل هذه المجهودات، لأترجم أشياء أخرى من غير الذي يكون في خطي، الخط الأساس هو تعرية الآفاق التي لم نتعرف عليها بما فيه الكفاية؛ يعني كل الأمور تأتي "شوية شوية" كما نقول. بدأنا نعيب ما هو الغرب بثنائياته؛ كنا نعرف جانباً فقط، بينما الجانب الآخر كان مخفيًّا علينا؛ يعني الأحداث المتصارعة في السنين الأخيرة حكمت على الغرب أن يعري عن نفسه للشعوب الأخرى.
د. حسام الدين درويش:
فلنقل إن المعيار هنا هو الرصانة، وأن يكون مفيدًا في النقاش والمعرفة حول هذا الموضوع. قبل أن نتحدث عن بعض الصعوبات أو ما سميتها بالتحديات التي تواجه المؤسسة والمترجمين، وواجهتك. قبيل بدء الندوة، تحدثت السيدة كنزة عن وجود أزمة الترجمة في العالم العربي. لكن أنت قدمت المسألة، بطريقةٍ أخرى، وقلت إن الوضع حاليًّا أصبح أفضل أو أقل سوءًا من الماضي؛ فهناك تسارع في الترجمات، وهناك مؤسسات، كمؤسسة مؤمنون بلا حدود. تهتم بهذه المسألة. كلاكما أنت ودة. ميادة، تحدث عن المسألة من منظور إيجابي، بسبب وجود اهتمام مؤسساتي أكبر. السؤال، ما رؤيتكما، كلٌّ من موقعه، لوضع الترجمة حالياً عموماً في العالم العربي؟ وهنا نتحدث عن الترجمة إلى اللغة العربية. لنبدأ معك دكتورة ميادة.
دة. ميادة كيالي:
بناءً على تجربتي المزدوجة مع مؤسسة سراج ومؤسسة مؤمنون بلا حدود، وأيضاً تجربتي في الإمارات العربية المتحدة، أستطيع أن أقول إن وضع الترجمة في العالم العربي اليوم أفضل مما كان عليه في الماضي، خاصة مع وجود مشاريع مؤسساتية بارزة مثل مشروع "كلمة" في الإمارات، الذي شهدت انطلاقته قبل حوالي 17 أو 18 عاماً، واستهدف ترجمة ملايين العناوين. هذه الجهود تستحق التقدير؛ لأنها تسهم في تعزيز حركة الترجمة ودعم الكتاب العربي.
لكن إذا تحدثنا عن الأزمة، فهي ليست في عدد المترجمين، بل في ندرة المترجمين المتخصصين. الترجمة الرديئة قد تفسد العمل الأصلي، بل وتؤثر سلباً على سمعة المفكر أو الكاتب. ولهذا، أحد أبرز ما يميز أعمال الترجمة في مؤمنون بلا حدود هو حرصها على وجود فريق يقوم بمراجعة الترجمة لضمان جودتها، إضافة إلى دور المؤلفين أنفسهم في هذه العملية. فقد ساهمت معرفة بعض المؤلفين وإتقانهم للغة العربية في الوصول إلى ترجمات بمستوى عالٍ جدّاً، ما يعكس حرص المؤسسة على تقديم محتوى يليق بالقارئ العربي.
مع ذلك، هناك تحديات أخرى تعوق حركة الترجمة، أبرزها التمويل. الترجمة تتطلب موارد مالية كبيرة، وفي العالم العربي، حيث دور النشر تواجه صعوبات في بيع أعداد كبيرة من النسخ، يصبح من الصعب استرداد تكلفة الترجمة من عائدات النشر. هذا يختلف عن الوضع في الغرب، حيث هناك دعم كبير لمشاريع الترجمة، سواء من الجامعات أو من المؤسسات، بالإضافة إلى أن الإصدارات غالباً ما تنشر بأعداد كبيرة تغطي تكاليف الترجمة والإنتاج.
في عالمنا العربي المثخن بالجراح والآلام، والمثقل بالتحديات، يبقى دعم مشاريع الترجمة حاجة ماسّة لضمان استمراريتها وجودتها. لذلك، المطلوب هو تكاثف الجهود بين المؤسسات الثقافية والجهات الداعمة لإحداث فرق حقيقي في هذا المجال الحيوي.
د. حسام الدين درويش:
استخدمتِ، دكتورة ميادة، مصطلحات تثير الشجون جدًّا، (الجراح والآلام)، ومع ذلك أنت ترين أن هناك تحسّناً أو يمكن أن يحصل تحسن حتى في الكوادر البشرية، في المترجمات والمترجمين، وأن العامل الحاسم هو توفر الإمكانيات المادية والدعم المؤسساتي، ودعم الدولة، وهذه مسائل في الأهمية والحسم.
د. حميد، تحدثت دة. ميادة عن أهمية وجود المترجمين المختصين، وأنت تعلم أن ثمة مشكلة كبيرة وخاصة في الترجمة من اللغة الألمانية إلى اللغة العربية. فمع الفرنسية كان هناك مترجمون ومترجمات كثر، ولا سيما من المغرب العربي. وكذلك هو الحال مع الترجمة من اللغة الإنجليزية، لكونها اللغة العالمية الأولى. لكن مع اللغة الألمانية كانت هناك وربما مازالت مشكلة، وربما أصبح الوضع حاليًّا أقلّ سوءًا. وبسبب هذه المشكلة، هناك أعمال كثيرة ترجمت عن طريق لغة وسيطة، كعمل هابرماس، القول الفلسفي للحداثة، الذي تُرجم من الفرنسية، وكانت ترجمته سيئة جدًّا. حدثنا عن هذه المسألة إذا سمحت؟ تفضل.
د. حميد لشهب:
المشكل الذي أراه يتكون من ثلاثة رؤوس؛ الأول هو أن تكوين المترجمين المتخصصين شبه منعدم، لربما أتحدث من جديد عن البلد الذي أعرفه جيّدًا وهو المغرب، المتخصصون في الترجمة شبه منعدمين. توجد مدرسة الترجمة المعروفة في شمال المغرب في مدينة طنجة، تؤهل الخريجين لترجمة الوثائق الإدارية والأشياء التقنية وما إلى ذلك، لكن في العلوم الإنسانية ليس هناك تكوين في هذا المجال، وفي أي تخصص، هذا من جهة. من جهة ثانية، أن المؤسسات الأكاديمية المغربية أو العربية بصفة عامة، يعني الجامعات، لا تخصص ولو 0.01% من ميزانيتها الضئيلة لمشاريع ترجمة؛ فالجهات الأكاديمية معنية بالأمر بمعنين: ترجمة من اللغات الأجنبية إلى اللغة العربية، ومن اللغة العربية إلى الجانب الآخر. إضافة إلى هذا، ليس هناك وعي سياسي من الجهات المسؤولة لإنشاء مشروع ترجمة عربية؛ يعني مؤسسات حكومية للترجمة؛ فكل المؤسسات التي نعرفها هي مؤسسات تقريبا خيرية تبنت موضوع الترجمة لأسباب تخصها، لكن الجهات المسؤولة غائبة، وليس هناك تنسيق ليكون هناك نوع من الوحدة في تأسيس مؤسسة حكومية في الدول العربية بهدف الترجمة. في الجامعات الغربية كما نعرفها، هناك دائما ميزانيات مخصصة للترجمة، للأقسام التي تعنى بالترجمة، بينما في العالم العربي لا وجود لها. أعرف لربما أطالب الجامعات العربية بما لا تطيق؛ لأن ميزانيتها كما قلت ضئيلة جدّاً.
د. حسام الدين درويش:
إذن أنت تتفق مع دة. ميادة، في أن العامل المادي المؤسساتي عامل حاسم في هذه المسألة؟
د. حميد لشهب:
والبشري بطبيعة الحال، أقصد اليد العاملة؛ أي المتخصصون في الترجمات في اللغات. وفي ما يخص الترجمة من الألمانية إلى العربية، هناك خصوصية بالفعل، وهناك تطور ملحوظ، يعني نوع من الاجتهاد الشخصي من شخصيات مرموقة برعت في هذا الأمر، لا سيما من طرف الإخوة في تونس حيّاهم الله، وبعض المغاربة يترجمون من الألمانية إلى العربية، لكن هناك خصاص؛ أي لم نصل بعد إلى تكوين مشروع ترجمة من الألمانية إلى العربية، وأنا أعرف لو تم ذلك، لا يمكن أن أبدأه أنا؛ لأنني بحكم أمور عدة لا يمكنني أن أبدأ، وأنا أعرف لو تم التفكير في مشروع مثل هذا القبيل، سواء من الخواص أو من الحكومات العربية، أنا على يقين بأن الجهات الرسمية في العالم الجرماني ستكون مستعدة على الأقل في البداية للمساعدة المادية أقصد.
د. حسام الدين درويش:
ربما ينبغي أن نتحدث عن المؤسسات العربية المهتمة بالترجمة حتى لا تكون الصورة قاتمة. أشارت دة. ميادة إلى مؤسسة "كلمة"، ولدينا المنظمة العربية للترجمة، والهيئة المصرية للكتاب، وهيئة الأدب والنشر والترجمة في السعودية. إذن، هناك بالفعل حراك في هذه المسألة، وهناك توجه متزايد للاهتمام بها. لن أستفيض هنا في الحديث عن أهمية الترجمة، وستتضح هذه الأهمية تدريجيًّا في سلسلة ندوات مؤمنون بلا حدود عن الترجمة. ما أودّ التشديد عليه، هنا، هو أن الاهتمام بالترجمة لا يعكس شعورًا بالنقص أو الفقر المعرفي، بل يعبّر عن الوعي بضرورة الاستزادة المعرفية والاطلاع على الإنتاج المعرفي باللغات الأخرى. وقد يكون مفيدًا، في هذا السياق، الإشارة إلى أن اللغة الألمانية هي أكثر لغة مستقبلة للكتب المترجمة، وألمانيا بحال كبير من القوة والمعرفة.
أودّ الآن التركيز على التحديات التي واجهتك في عملك مترجمًا. في تقديمك لترجمتك لكتاب "ما وراء الغرب" لشتيفان فايدنر، الصادر عن مؤسسة مؤمنون بلا حدود، تحدثت عن ثلاثة تحدّيات أساسية واجهتك، وهي، من ناحيةٍ أولى، أن الكاتب أو المؤلف يعرف اللغة العربية؛ فإذا قمت "بخيانته" كما سنتحدث، لاحقا، الترجمة بوصفها خيانة، فسيكشفك. ومن ناحية ثانية، تحدثت، وأنت الخبير والضليع في الترجمة، عن أن لديه أسلوباً مميّزًا مختلفاً عن كل الذين سبق أن ترجمت لهم. وتشكل هذه الفرادة تحديًّا. والتحدي الثالث تجسد في أسلوبه الخاص في بناء المواضيع المختلفة في الكتاب. حدثنا عن هذه التحديات التي واجهتها في ترجمتك لهذا الكتاب؟ فهذا يمكن أن يبيَّن بعض أهم الصعوبات التي يمكن أن تواجه المترجم، رغم أنها تبدو فريدة في هذه الحالة. تفضل د. حميد.
د. حميد لشهب:
تجربتي مع الصديق فايدنر بالإضافة إلى أنه ألماني دقيق، استطاع أن ينجح في هضم ثقافات أخرى، وخاصة الثقافات الشرقية، لا أتحدث هنا عن العربية فقط، لكن ثقافات أخرى. وكون له هذا الهضم نوعاً من الديناميكية الفكرية الجد معقدة؛ يعني يكتب بالألماني ويعرف أن شعوباً أخرى تفكر بطريقة أخرى، ويكتب للألماني لكي يفهم أن هناك شعوباً أخرى. في هذا الكتاب، وهذه هي الرسالة كما فهمتها شخصيًّا. ما وراء الغرب لا يعني نهاية الغرب وطلوع نجم حضارات أخرى، لكن يحاول أن يقول للغرب، وهذه هي الصعوبة، يحاول أن يقول على الأقل للألمانيين، إن سلوك الغرب تجاه الشعوب الأخرى ليس سليماً. لا بد أن يأخذ الإنسان بعين الاعتبار أن للثقافات الأخرى مكانها ومكانتها.
د. حسام الدين درويش:
لنعد إلى مضمون التحديات الثلاثة؟
د. حميد لشهب:
التحدي بالضبط هو هذا، هو في طريقة كتابته، في طريقة توصيله لمختلف مضامين الكتاب؛ أي إن هناك تشابكاً في طريقة كتابته. يتقن لغات كثيرة، وطريقة نسج أفكاره، يشعر المرء أن فيها البنائي، وفيها الوظيفي، وفيها السيكولوجي، وفيها اللغوي، وفيها كلّ شيء، وفيها حتى الديني والسياسي كثير، وهذا التشابك هو أصعب شيء في ترجمة هذا الكتاب.
د. حسام الدين درويش:
هل خفَّت أو خفتت مشاعر العشق للترجمة أم بقيت مع هذه الصعوبات الشديدة؟
د. حميد لشهب:
الصعوبات زادت أكثر؛ لأنني أعدت قراءة كتيب، أظن كان أول كتاب لشتيفان، كتبه عن المدينة العتيقة لفاس ونظيرتها مراكش؛ يعني جزء منه عن مدينة فاس، وجزء آخر عن مدينة مراكش. قرأته بعيون أخرى؛ في أول الأمر قرأته بطريقة الإثنولوجي الذي ذهب إلى مدينة فاس، وإلى المدينة القديمة في مراكش، ويحكي للألمانيين عن الشرق، عن مخيال الشرق، وعندما قرأته للمرة الثانية ثم الثالثة، بعد الترجمة، فهمت رسالته ومقصده، كتبه بطريقة أدبية.
د. حسام الدين درويش:
سأسألكما عن مسألة أن يكون المؤلف الذي نترجم له حاضرًا حيًّا موجودًا، ونتفاعل معه. أنت تعلم د. حميد أن مؤسسة مؤمنون بلا حدود، استضافت المؤلفيْن فايدنر، وكوشلر، وأجرت معهما حوارات مطوّلة، وصارا من الأصدقاء المقربين للمؤسسة. إلى أيّ حدٍّ ترى أهمية وإيجابية هذه المسألة؟ أنت هنا قدمتها كعائق، ولكن إلى أي حد هي عامل مساعد أيضا؟ هي تحدّ أو عائقٌ؛ لأن المؤلف يمكن أن يحاول فرض سلطته ويقول المعنى المقصود هو هذا لا ذاك، والترجمة الدقيقة هي هذه لا تلك، ...إلخ. ومع ذلك، قد تكون لهذه المسألة إيجابيات، ما رأيك؟ تفضل.
د. حميد لشهب:
بصورة مختصرة، إن اللقاء الفيزيقي مع المؤلف، كان بالنسبة لي مهمًّا، وخاصة للمُرْسَل إليه، أولا وقبل كل شيء الطالب المغربي والطالبة المغربية، ليعرفوا أن هذه الشخصية موجودة فعليًّا، يمكن لهم أن يحاوروها مباشرة. شتيفان يتكلم العربية، وكان مرات عديدة في المغرب، وكوكلر، كان أكثر من عشرين مرة في المغرب. يعرف المرء كوكلر في المغرب، وللباحثين المغاربة علاقة جيدة معه، يتكلم الفرنسية والإنجليزية. وما هو بالنسبة لي هو أن يأخذ الإنسان فكرة، ليس فقط عن الكتاب المترجم، لكن عن الشخصية وعن الخلفيات الفكرية والثقافية والإيديولوجية للمفكر، يعني مباشرة وبدون وساطة. وهذا ما أسميته بالعمل اللحظوي، يعني لا يمكن للإنسان أن يقوم به كل مرة، لكن العمل اللحظوي هو الذي يبقى عند الطلبة والطالبات في ما بعد.
د. حسام الدين درويش:
دكتورة ميادة، أرى أن مؤسسة مؤمنون بلا حدود تحاول أن تستثمر وجود المؤلف، وتسعى إلى اللقاء معه، وإقامة الندوات والحوارات معه وعنه. حدّثينا عن أهمية هذا الأمر، ووجهة نظرك ونظر مؤمنون بلا حدود في هذا الخصوص، وما قامت به المؤسسة، في هذا الصدد، في الفترة الماضية؟
دة. ميادة كيالي:
صحيح، في مؤمنون بلا حدود، نحن نحرص على استثمار وجود المؤلف وإقامة حوارات وندوات حول أعماله. هذا ليس مجرد جزء من العملية الإنتاجية للكتب، بل هو تجربة غنية تُثري عملية الترجمة وتُضفي بُعدًا حيويًّا عليها.
تجربتي مع المؤلف الألماني شتيفان فايدنر هي خير مثال على ذلك. في عامي 2020-2021، حصلت مؤمنون بلا حدود على حقوق كتابه خلال معرض أبو ظبي الدولي للكتاب، حيث كانت ألمانيا ضيف الشرف. بفضل نصيحة أحد الأصدقاء، تعرفت على أهمية هذا الكتاب وحصلت على حقوقه. وفي الوقت ذاته، كان شتيفان فايدنر مدعوًّا للمشاركة في المعرض، والتقيته هناك لأول مرة. كان اللقاء بمثابة بوابة للتعرف على فكر المؤلف عن قرب، خاصة وأنه كان مطلعاً على بعض الأعمال العربية، ومن بينها أعمال الدكتور الراحل محمد شحرور.
واجهت في البداية تحدّيات كبيرة في إيجاد مترجم متخصص في الألمانية، وشعرت أحياناً أنني قد تورطت في هذا المشروع. لكن المفاجأة كانت أن هذا الكتاب أصبح مدخلاً لبناء علاقة متميزة بيني وبين شتيفان فايدنر والدكتور حميد لشهب، الذي تولى مهمة الترجمة. كان العمل مترابطاً بشكل جميل، حيث كنا نتبادل النصوص بين المترجم والمؤلف، ونجري نقاشات معمقة حول النصوص وأفكار الكتاب. كان شتيفان فايدنر متفاعلاً للغاية، حتى إنه شارك في كتابة المقدمة، وناقش معنا أدق التفاصيل.
الجميل في هذه التجربة هو الروح التي يحملها شتيفان فايدنر، فهو يتمتع بخلفية شرقية واضحة من خلال تعامله وعاداته، مما أضفى عمقاً خاصًّا على عمله. شعرت وكأنه "من أهل البيت"، يحمل مزيجاً رائعاً من الثقافتين الشرقية والغربية، وهذا ما جعل العمل معه تجربة فريدة وممتعة.
هذه اللقاءات والنقاشات مع المؤلفين تُظهر أهمية وجودهم في عملية الترجمة، حيث تُضفي دقة على العمل وتُعزز فهم النصوص بروحها الأصلية، مما يجعل الترجمة أكثر عمقاً وتأثيراً.
د. حسام الدين درويش:
تبيِّن الترجمة أن في كل شخص شيء من الآخر، ويتبيَّن في أي احتكاك مع أي غريب وجود شبه وقواسم مشتركة معه، ووجود اختلاف معه أيضًا. والسؤال في هذا السياق، كيف يمكن البناء على القواسم المشتركة، وكيف يمكن استيعاب الاختلاف واحترامه؟ فليس ثمة غريب مطلق نختلف معه اختلافًا كاملًا، وليس هناك آخر متماثل معنا تماثلًا كاملًا، وهذا ما نكتشفه في كل لقاء مع الآخر في الترجمة.
قبل أن أعطي لكما المجال للتعقيب على هذه المسألة، أودّ الإشارة إلى مسألة ازدواجية الألم والمتعة في الترجمة التي تحدث عنها الدكتور عبد السلام شرماط؛ فثمة سرور وحبٌّ وشغف في الترجمة؛ لأن فيها الكثير مما يمكن أن ننجزه. في المقابل الترجمة محنة لاستحالتها، ولاضطرارنا إلى خيانة أحد السيدين (اللغتين) اللذين نعمل على خدمتهما والوفاء لهما. وقد وجدت صعوبة في تصنيفك في خصوص الوفاء لأحد السيدين المذكورين. وبدا لي أن المراحل الثلاث للترجمة التي تحدثت أنت عنها (حرفية، مقارنة، ثم إدماجه في اللغة العربية) تشبه الأنواع الثلاثة التي تحدث عنها طه عبد الرحمن: (الترجمة التحصيلية، الترجمة التوصيلية، الترجمة التأصيلية). وإذا أخذنا بجدية القول إن الترجمة أشبه بخدمة سيدين في وقت واحد، فإلى أيّ سيد تميل في ترجمتك؟ هل تميل إلى اللغة المستقبلة، اللغة العربية، كما يدعو طه عبد الرحمن، حيث تخضع اللغة أو المعاني المنقولة بالكامل للغة المستضيفة/ العربية، أم تقوم باستضافة الغريب وإفساح المجال له لأن يكون موجودًا، وهو ما يدعو إليه ريكور ودريدا وآخرون؟ تفضل د. حميد.
د. حميد لشهب:
أولا فيما يخص الألم والمتعة، الألم يكون عادة عندي ألماً جسديًّا؛ فبعد العمل الذي يقتات منه المرء، يأتي إلى البيت ويجلس طويلا لممارسة الترجمة. وبعد سنوات يشعر أن الجسد يتألم في الترجمة، كثيرًا ما أكون أشتغل، وبعدها أشعر بألم في جسدي، ولا أفارق؛ لأن فيه شغفاً وإدماناً. بالنسبة إلى السؤال الثاني، وقد أجاب عنه الأستاذ الدكتور حسام، لي طريقتي الخاصة في الترجمة. إنني أعرف بعض النظريات في الترجمة، وأحترم كل النظريات، وكما قلت لا بد في الأول، وهذه قناعتي، يعني طه عبد الرحمن حتى إيديولوجيا لسنا من الخندق نفسه، ولا أريد أن أقول شيئا في هذا المضمار، لكن طريقة أسلوبي طوعته في الممارسة، اقتنعت بالأسلوب الذي يوافقني أنا شخصيًّا للترجمة، والذي ساعدني في هذا هو أن اللغة الألمانية كمثيلتها العربية تسمح بالكثير، وخاصة إذا كان الإنسان يعرف من جهة الكاتب، ومن جهة الوسط الاجتماعي الذي يعيش فيه؛ لأن ثمة كلمات خاصة تستعمل في الكتاب الأصلي، لا تُفهم إلا إذا كان المترجم على دراية كافية باللهجة الإقليمية أو المحلية للمؤلف. مع هايدغر مثلا، إذا لم يكن الإنسان يعرف المنطقة أو المدينة التي عاش فيها، لا يمكن أن يترجم، من المستحيل؛ لأنه كان يستعمل لهجة محلّية بمنطقة ميسكيرخ في قلب الغابة السوداء، وهذا الأمر بالنسبة لي جدّ مهم. من بعد تأتي عملية التطويع، بعد ما أقارن الفقرات....تأتي العملية الإبداعية في الترجمة، ليس لديّ مشكل في أن أطوّع اللغة الألمانية خدمة للترجمة إلى العربية، وفي هذا التطويع يكون هناك بالكاد نوع من التأويل لما يقوله المؤلف بمنطق لغته الإقليمية.
د. حسام الدين درويش:
ربما في هذه المسألة يمكن الحديث عن أن بول ريكور وآخرين اعتبروا أن الترجمة هي الأنموذج المثالي أو المثال النموذجي للهيرمينوطيقا: أن تترجم يعني أن تفهم، أن تفهم يعني أن تترجم. وقد تكلم بول ريكور عن الترجمة الداخلية. فالعلاقة وثيقة جدًّا بين الهيرمينوطيقا والترجمة إلى درجة لا يمكن الفصل بينهما. لكن نعود إلى سؤالين أحدهما يتعلق بالعلاقة بين الترجمة والذكاء الاصطناعي، والآخر طرحه الصديق اليمني العزيز الدكتور قاسم المحبشي عن جدوى الترجمة أو الفائدة المتوقعة أو المرجوة منها. وطريف أن يسأل الفيلسوف سؤالًا عن الفائدة والجدوى؛ لأن الفلسفة متهمة غالبًا بأنها غير مفيدة ولا مجدية. فما الفائدة أو الجدوى من الترجمة؟
د. حميد لشهب:
نحن نكذب على أنفسنا عندما نعتقد أن هناك ذكاءً اصطناعيًّا. إن هذا الأخير هو في آخر المطاف ذكاء إنساني. الإنسان هو الذي برمج ما نسميه الذكاء الاصطناعي. التقنيات لا يمكن أن نترجمها في جميع اللغات، هناك ماكينات تشتغل على هذا الأمر، لكن اليد الإنسانية لا زالت حاضرة، وستكون دائما حاضرة. فيما يخص هذا الأمر والترجمة، لا يمكن للذكاء الاصطناعي أن يشعر بما يشعر به الإنسان في ترجمته لنص إنسان آخر؛ لأن ثمة مسائل إنسانية تمر في الترجمة لا يمكن أن أعبر عنها حتى ولو كنت سيكولوجيًّا. وأرجع إلى مسألة الألم، عندما أترجم نصًّا نقديًّا لفيلسوف غربي، أشعر بألمه، أشعر تقريبا حتى بخيبة أمله من ثقافته ومن حضارته.
د. حسام الدين درويش:
ما الفائدة أو الجدوى من الترجمة؟
د. حميد لشهب:
الفائدة من الترجمة هي توسيع نطاق فكرنا أولا، وساحتنا الثقافية ثانيا. هي فتح الباب "للغريب" ليجلس بيننا، هي خطوة مهمة لالتقاء الآخر، محاورته، الخصام معه، التصالح معه، الدخول في تواصل إنساني مثمر، بناء ثقافة أخذ وعطاء. ولا يخفى علينا أن العرب، في أوج حضارتهم أغنوا الثقافة الغربية بصفة خاصة والعالمية بصفة عامة بترجمات، لولاها ما كان الغرب اكتشف ذاته (الثقافة اليونانية مثلا) وبنى صرح ثقافته وحضارته وعلومه. مدن مثل طليطلة وبغداد ولربما فاس وتونس كانت معقل المترجمين العرب. أعطى العرب للغرب في العصور القديمة، والآن نأخذ قسطاً من معارف الغرب بترجمة مؤلفاته.
دة. ميادة كيالي:
كتاب "الترجمة رؤية فلسفية" هو أحد إصدارات مؤسسة مؤمنون بلا حدود. وكنت أرغب في استضافة د. محمد جديدي، لكنه منشغل بالمعرض، وهو يقول في المقدمة: لدينا سؤال مهم جدًّا؛ لماذا نترجم؟ وهو سؤال يتفرع إلى سؤالين؛ ما الترجمة؟ وكيف نترجم؟ ويقول إلى حدّ الآن الفلاسفة يسعون بكل جهودهم للإجابة عن هذا السؤال. إذن نسأل فعلاً، ماذا استفدنا من الترجمة؟ بالتأكيد استفدنا؛ أولا تلاقح الأفكار وتبادلها، وأيضا تطوير في اللغة العربية، كم من المصطلحات تم اشتقاقها بسبب الترجمة، كم من الأشياء التي وسعت المدارك والاطلاع، وساعدت على تطوير الأفكار. فالترجمة، لابد أنها ساهمت بشكل كبير مثل ما ساهمت الترجمات في العصر الذهبي الإسلامي لحفظ الإرث الفلسفي ونقله والاشتغال عليه وحمايته، أيضا اليوم نحن نستفيد من هذه الترجمة. بالنسبة إلى الذكاء الاصطناعي وحضوره اليوم، هو أداة بيد من يستطيع استخدامها؛ الذكاء الاصطناعي يمكن أن يختصر الزمن، ويوفر كمًّا هائلاً من المعاني والمرادفات التي يصعب على الإنسان، مهما كانت لغته قوية، أن يلمّ بها، ولكن كما قال د. حميد أين هي الروح؛ لأن الترجمة ليست فقط ترجمة نص، بل هي ترجمة حالة، ترجمة روح، ترجمة معنى وما وراء المعنى أحيانا. لذلك، إذا كان الإنسان كسولاً، ويريد أن يتكل، سيخرج ترجمات عادية، وهذا الفرق أيضا بين المترجم العادي والمترجم المتخصص، والمترجم الذي يحب ويعشق الترجمة كما أشار في تقديمه د. حميد؛ أن يحبّ وينغمس في هذا النص ويتعايش معه، ويتماهى مع المؤلف، حتى يخرج النص بروح جميلة.
د. حسام الدين درويش:
شكرًا جزيلاً دكتورة ميادة؛ الترجمة مهمة بقدر ما المعرفة مهمة، إذا كانت الترجمة توسع معارفنا وتعمقها، فهي مهمة وضرورية بالتأكيد. أودّ الآن الحديث عن الترجمة من اللغة العربية إلى اللغات الأخرى. تتذكرين، دكتورة ميادة، أننا عندما كنّا في معرض فرانكفورت، كانت هذه من المسائل المهمة التي ناقشناها مع شخصيات وأطراف مختلفة. وقد ذكر الدكتور صابر إن الترجمة ليست مجرد نقل أفكار الآخرين، بل يمكن أن تسهم في تصحيح الأفكار عن الآخر. فإلى أي حد يمكن للترجمة من اللغة العربية إلى اللغات الأخرى أن تسهم في تصحيح أفكار الآخرين "عنا"؟ السؤال لكما، دكتورة ميادة ثم دكتور حميد. تفضلا.
دة. ميادة كيالي:
يعكس هذا السؤال المهم جانباً آخر من دور الترجمة، وهو تصحيح الصورة النمطية ونقل الثقافة العربية إلى الآخر. أذكر خلال زيارتنا لمعرض فرانكفورت، كيف لاحظنا بوضوح أن الترجمة من العربية إلى اللغات الأخرى ما زالت تواجه تحدّيات كبيرة؛ أبرزها غياب المبادرات الفاعلة لدعم هذه العملية بشكل مؤسسي.
معرض فرانكفورت ليس معرضاً لبيع الكتب كما في معظم المعارض الأخرى، بل هو منصة عالمية لشراء حقوق الكتب المهمة والاطلاع على آخر تطورات صناعة النشر. هناك، يدرك الزائر أن الترجمة غالباً ما تتم في اتجاه واحد: من اللغات الأجنبية إلى العربية، في حين يندر أن نجد من يأتي لطلب إصدارات عربية لترجمتها إلى لغاتهم. هذا الفراغ يعكس غياباً في المبادرة من جانبنا كعرب لتعزيز الترجمة العكسية.
يعتمد الغرب بشكل كبير على المؤسسات الداعمة للترجمة، مثل معهد جوته والمركز الثقافي الفرنسي وغيرها، التي تقدم منحاً مالية لدعم ترجمة الكتب. في مؤمنون بلا حدود، ندرك أهمية هذا الجانب، ونسعى إلى وضع خطة ربما في العام القادم، للبدء في ترجمة بعض أهم إصداراتنا إلى الإنجليزية، أو إلى لغات أخرى. وإذا تمكنّ الناشر العربي من ترجمة بعض الأعمال الرائدة أو أمهات الكتب إلى لغة واحدة على الأقل، سيكون ذلك بمثابة خطوة أولى نحو بناء جسر ثقافي متين بيننا وبين الثقافات الأخرى. لكن لتحقيق ذلك، نحن بحاجة إلى دعم مؤسسي أكبر، سواء من داخل العالم العربي أو من خلال شراكات دولية؛ لأن هذا الجهد لا يقتصر على مؤسسة واحدة، بل يتطلب تعاوناً أوسع لضمان نجاحه واستدامته. نأمل أن يشكل هذا التوجه بداية جديدة نحو تعزيز الحضور الثقافي العربي على الساحة العالمية.
د. حسام الدين درويش:
دكتورة ميادة، عندما كنّا في ندوة المصحف وقراءاته، كان هناك حديث عن ترجمة المقدمة إلى اللغة الإنجليزية، وهناك إمكانية إصدار لباحثين باللغة الإنجليزية أيضا، وسبق كما ذكرنا أول كتاب ترجم إلى اللغة الإنجليزية.
دة. ميادة كيالي:
بالفعل، كما ذكرتم، في ندوة المصحف وقراءاته التي شارك فيها الأستاذ الدكتور عبد المجيد الشرفي والأستاذ الدكتور نادر حمامي، تم التأكيد على أهمية ترجمة مقدمة هذا المشروع الضخم إلى اللغة الإنجليزية. هذه الترجمة تُعدّ خطوة ضرورية لتعريف العالم بهذا العمل المهم، وتوسيع نطاق تأثيره ليصل إلى جمهور عالمي.
إضافة إلى ذلك، لدينا تجربة سابقة في هذا المجال، حيث قمنا بترجمة كتاب "المرأة والألوهة المؤنثة في حضارات وادي الرافدين" إلى اللغة الإنجليزية بالتعاون مع الأستاذ الدكتور نجيب عوض. هذا الكتاب يُعدّ باكورة إصداراتنا المترجمة إلى الإنجليزية، ونعوّل على هذه التجربة لتكون نقطة انطلاق نحو المزيد من الترجمات المماثلة. نسعى مستقبلاً إلى ترجمة أبرز عناويننا لتعريف العالم بالفكر العربي، ودعم الحوار الثقافي على نطاق أوسع.
د. حسام الدين درويش:
ما رأيك بمسألة الترجمة من اللغة العربية إلى اللغات الأخرى دكتور حميد؟
د. حميد لشهب:
مشروع الترجمة المضادة؛ أي من العربية إلى اللغات الأخرى، له علاقة بالقوات المسيطرة في الغرب، لو كانت هذه الأخيرة تريد هذه المشاريع، لكانت استثمرت فيها، وأعني الاستثمار الإنساني. وحتى مراكز البحث في أوروبا انتقائية في مساعدتها للترجمات الأخرى؛ يعني لا بد أن يكون الإنسان يعرف التوجه الإيديولوجي لهذه المراكز البحثية، ليقبل أن تموّل له ترجمته. وهذا أمر عادي، فبما أن الآخر هو الذي يسيطر، فلا رغبة له في أن يتعرف على ثقافة الآخر؛ لأنه يريد تصدير ثقافته. إضافة إلى هذا، عندما يتعلق الأمر بترجمات مؤلفات ثقافية وفكرية وفلسفية؛ أي ما يساهم فيما بعد في تغلغل ثقافة الغرب في أقطار أخرى، فلا تكون هناك إشكالات كبيرة. لكن هناك حيطة وحذر من طرف الغرب فيما يتعلق بترجمات علومه وتكنولوجيته؛ أي مصدر قوته وهيمنته على الشعوب الأخرى. لربما ليست هناك أي ترجمات تذكر في هذا الإطار؛ لأن السرية التي تحيط بهذه العلوم وخوف الغرب من تمكن دول أخرى من هذه العلوم وقلب موازين القوة، كما يحدث حالياً بوضوح في الصين، تجعل الغرب هذا يلجأ في حالات معينة إلى التصفية الجسدية لعلماء من دول أخرى، وأعني هنا بالضبط الدول غير الغربية.
د. حسام الدين درويش:
شكرًا جزيلا. سأطرح ثلاثة أسئلة دفعة واحدة.
الأول، وانطلاقا من وجود ما لا يمكن ترجمته، الذي تحدث عنه الدكتور أُنس الطريقي، إلى أيّ حد أنت مع التعريب لبعض الكلمات؛ يعني نعرّب الكلمة ونجعلها مكتوبة بأحرف عربية، مثل الهيرمينوطيقا، التي لا أرى هناك أي كلمة مقابلة بالعربية مناسبة لها. والتعريب تجسيد لمبدأ الضيافة اللغوية؛ فما الذي يعنيه أن نستضيف شخصًا ولا نريد له أن يترك أيّ أثر منه، بل نريد أن نتخلص من كل غرابة أو من كل اختلاف؟
الثاني، لست متأكدًا، د. حميد، من المنهج الذي تعتمده في الترجمة، هل تترجم الكلمة كما تكتب أم كما تنطق؛ فعلى سبيل المثال، أنت ترجمت اسم Köchler بكوكلر، مع أنه يُلفظ بالألماني بكوشلر. وهكذا يلفظه صاحبه أيضًا، وهو أخبرني بذلك شخصيًّا؛ لأنني سألته عن اللفظ الصحيح لاسمه من وجهة نظره.
الثالث، إلى أيّ حد ترى أن هناك بالفعل ضرورة أن يكون في نهاية الكتاب المترجم قائمة بالكلمات الرئيسة، مع وضع المقابل الأجنبي لها؟ فهناك نصوصٌ ومفاهيم يصعب فهمها من دون معرفة المقابل الأجنبي لمفرداتها الرئيسة. تفضل دكتور حميد.
د. حميد لشهب:
بخصوص ترجمة ما لا يقبل الترجمة، طورت تقنيتي الخاصة، المتمثلة في علاقتي الشخصية بصاحب الكتاب. أنا لي علاقة خاصة، يعني عندما أصل إلى اللامترجم، أرجع إلى الأصل، وأطلب الشرح أو إعادة صياغة لأفهم المقصود، وخاصة مثلا مع ستيفان، في بعض الأحيان لا يمكن أن يفهم الإنسان ما يقصده الآخر إلا إذا سأله، سلاحي الوحيد هو هذا. ولذلك، كان اختياري لترجمة نصوص لفلاسفة يعيشون (معاصرون) مبني على هذا الأساس كذلك. أكيد في بعض اللحظات، يصل الإنسان إلى نهاية الشارع، إلى الحائط، ويقول ماذا يريد أن يقول هذا. ويتصل الإنسان عبر الهاتف، ويأخذ موعدًا، ويقول: أنا أريد أن أناقش معك الصفحات المعينة. وقد عاش هايدغر هذا الأمر مع الترجمات الفرنسية لكتبه، ومن المعلوم أنه كان يتحدث اللغة الفرنسية. لم يكن راضيًّا عن ترجمات كتبه إلى الفرنسية؛ لأن هناك أشياء، كما قلت قبل هذا، إذا لم يكن الإنسان يعيش في المنطقة التي عاش فيها، لا يمكن أن يترجمها؛ لأن حتى الألمان لم يترجموا بعد فكر هايدغر؛ لأن لغته خاصة، فيها الكثير من بيئته اللغوية المحلية. وبغض النظر عن هذا، عندما يعيش الإنسان فترة طويلة في مكان معين، يتكلم لغة البلد، لا بد أن يطور قدراته اللغوية، ولو كان يعيش في منطقة نائية في كندا أو في أستراليا.
د. حسام الدين درويش:
ماذا عن الترجمة الحرفية لكلمات مثل ستيفن - شتيفان، كوكلر- كوشلر
د. حميد لشهب:
نعم، عندنا شاهد، أخونا المصري الذي يعيش معي في النمسا، اسم Köchler يُنطق في النمسا كوكلر، بما في ذلك منطقة التيرول، أصل كوكلر هذا. لا ينطق اسمه في النمسا من غير كوكلر، لا ينطق بطريقة شمال ألمانيا؛ المترجمون الأوائل العرب ترجموا في بعض الترجمات من الإنجليزي إلى العربي، كوشلر، وهو تركها في ذهنه هكذا، وهي ترجمة غير صحيحة. تنطق CH في النمسا "ك" K. إضافة إلى هذا، فإن ترجمة اسم العلم لا تزيد ولا تنقص من قيمة ترجمة المؤلَّف. فحتى الغربيون يترجمون مثلا اسم محمد بطرائق مختلفة: شخصيا أحبذ ترجمة أسماء المؤلفين، كما ينطقها المرء في البلد الأصلي لهم.
د. حسام الدين درويش:
في كلّ الأحوال، ما الآلية أو الفلسفة التي تتبعها، في هذا الخصوص؟ هل تترجم الصوتي أم المكتوب؟
د. حميد لشهب:
هذا في الأسماء فقط، وكنت قد أشرت إلى هذا الأمر في مقدمة كتاب شتيفان، فقط في الأسماء، لماذا أسمّي شخصية ألمانية بعربية، إذا كان من الممكن أن أكتب اسمه بالعربي كما ينطقها الألماني، هذا هو الجواب المختصر.
د. حسام الدين درويش:
وماذا عن ثنائية الترجمة والتعريب؟ هناك كلمات ينبغي أن نعربها ولا نحاول ترجمتها؟
د. حميد لشهب:
هذه مسألة تقنية فقط، ففي خضم الترجمة يصل الإنسان إلى قرارات، في كل عملية ترجمة لا بد أن تأخذ قرارًا لغويًّا، إما أن تحتفظ على المعنى وتعبر عن فكر الفيلسوف باللغة المترجم إليها، أو أنك تأخذ تقريبا ما قاله الكاتب إذا كان مفهوماً باللغة التي كتب بها، وهذا ممكن. الشيء الجميل هو أن اللغة الألمانية واللغة العربية في قواعدهما في كثير من الأمور، تمنح هذه الإمكانية.
د. حسام الدين درويش:
لكن أحياناً التخيير واضح، مثل الكتاب القادم الذي نتمنى رؤيته قريبا "Bye Bye"؛ فهل نستضيفها ونترجمها أم نعربها حرفيًّا "باي باي"، أم نترجم المعنى "مع السلامة" أو "وداعًا"؟
د. حميد لشهب:
من الأفضل أن تستضاف؛ لأنها كلمة نستعملها على الأقل في لهجاتنا.
د. حسام الدين درويش:
النقطة الأخيرة، مسألة القائمة بمعنى الكلمات، هل تراها مهمة؟
د. حميد لشهب:
هي مهمة بالنسبة إلى المتخصصين.
د. حسام الدين درويش:
ما بالك بالنسبة إلى غير المتخصصين، كيف سيفهمون، إن لم تكن هذه القائمة موجودة؟
د. حميد لشهب:
عندما نترجم، لا بد من الأخذ بعين الاعتبار هذه المسألة. إنه عمل مضن في آخر المطاف، يعني عندما ينهي الإنسان الترجمة، وينتبه إلى غير المترجَم، ويشرح لماذا تُرجم هذا الأخير بهذه الطريقة وليس بغيرها، يدخل أفقاً آخر في الترجمة. وفي كثير من الأحيان، يكون الإنسان ملزماً بتاريخ معين لإنهاء الترجمة. هذا إذا لم أقل مع نفسي إن هذه الترجمة تستحق سنة، ولا أنهيها. قدمت مثلا لائحة بمفاهيم لهايدغر في نهاية كتاب لهانس كوكلر، سبق وأن ترجمته (هيدجر وريبة الكينونة). اخترت المفاهيم الصعبة التي جاءت في الكتاب، وعرضتها على كوكلر، الذي قام بترجمتها. أضيفت اللائحة كملحق في الكتاب، لكن كما قلت هو عمل إضافي مضن للمترجم وللمؤلف على حد سواء.
د. حسام الدين درويش:
إذن دكتورة. ميادة، ما قولك في وجود جهات داعمة للترجمة، وأهمية وجود المترجم المختص، ومسألة فهرست المصطلحات؟
دة. ميادة كيالي:
سأحاول باختصار التعليق على هذه المسائل الثلاث، والتي تفتح باباً واسعاً للنقاش حول الترجمة ودورها المحوري. أولاً، فيما يتعلق بدعم الترجمة، "نحن في مؤمنون بلا حدود" سعينا للتعاون مع جهات داعمة مثل مركز أبو ظبي للغة العربية، الذي قدم دعماً لبعض ترجماتنا. لكن المهم هنا هو أنّ هذا الدعم لا يتدخل مطلقاً في اختيارنا لما نترجم؛ فالقرار يعود بالكامل إلى لجان التحكيم التي نقوم بتشكيلها لدراسة النصوص المرشحة للترجمة، وتحديد مدى ملاءمتها.
بالنسبة إلى المترجم المختص، فإننا نعُدّ التخصص شرطاً أساسيًّا لضمان جودة الترجمة. لا يكفي أن يكون المترجم قويًّا في اللغة التي يترجم منها أو إليها، بل يجب أن يمتلك معرفة عميقة بالمجال الذي يترجمه، سواء كان نصًّا فلسفيًّا، علميًّا، أدبيًّا أو غير ذلك. هذه المعرفة هي التي تُحدد مستوى الدقة والاحترافية في العمل. على سبيل المثال، لا يمكن لشخص غير ملمّ بالفيزياء أن يترجم نصًّا علميًّا بدقة أو يقدم محتوى يتسم بالمصداقية.
أما بالنسبة إلى مسألة فهرست المصطلحات، فنحن نوليها أهمية كبيرة في المؤسسة. لدينا جدول موحد لجميع المصطلحات التي استخدمناها في أبحاثنا وكتبنا المترجمة، يتضمن طريقة كتابتها وتفسيرها وشرحها، وهو متاح أيضاً عبر موقعنا الإلكتروني. هذا النهج يهدف إلى توحيد استخدام المصطلحات وضمان تناسقها عبر جميع إصداراتنا، مما يسهل على القراء والمتخصصين متابعة وفهم النصوص.
ختاماً، أودّ أن أشير إلى أن هذا الجهد في الترجمة وتوحيد المصطلحات يعكس رؤية "مؤمنون بلا حدود" لدور الترجمة كجسر للتواصل الثقافي، ووسيلة لتعزيز الحوار الفكري بين مختلف اللغات والحضارات.
د. حسام الدين درويش:
ممتاز، وهذه مسألة في غاية الأهمية، ويعرف من عانى من هذه المسألة مقدار أهميتها. أحبّ أن أختم بكلمة أخيرة منكم عن المشروعين القادمين أو المشروع القادم. ما الكتاب الذي تعمل حاليًّا، دكتور حميد، على ترجمته؟ ومتى تتوقع أن تنهي ترجمته؟
د. حميد لشهب:
بالنسبة إلى الكتاب الذي ينتظرنا هو لفيلسوف نمساوي، اسمه يوسف سايفرت، من المتخصصين في الفينومينولوجيا الواقعية، والتي لم يصلنا عنها في العالم العربي لربما لا شيء. والفلسفة – الفينومينولوجيا الواقعية تأسست على يد هيلدا برانت، والذي كان طالباً مباشرًا لهوسرل، وكان قراره هو أخذ ما تركه هوسرل بين قوسين، يعني الدين ودراسته بالمنهج الفينومينولوجي الواقعي. يوسف سايفرت هو ممثل الفيلسوف المسيحي الكاثوليكي حالياً، اشتغل أستاذًا للفلسفة في أمريكا، وفي النمسا، وفي إمارة الليختنشتاين، وهو متخصص أساساً في محاولة إعادة الأهمية لدراسة فكرة الله من وجهة نظر فينومينولوجية واقعية. يحاول أن يبني براهين على وجود الله؛ تعارض براهين عدم وجوده. والخلفية الشخصية، لربما أقول الذاتية، التي شجعتني على الاهتمام بهذا الموضوع، هو محاولة تنبيه ساحتنا الثقافية العربية-الإسلامية إلى أن موضوع الله، والدين بصفة عامة، لم ينته في الغرب، كما توهمنا بعض الأيديولوجيات الغربية (العلمانية، اللائكية، إعطاء ما لقيصر لقيصر، وما لله لله). فحتى الملحدون الغربيون، فلاسفة وعلماء، انبروا وينبرون إلى اليوم -ولا داعي لذكر أسماء هنا- إلى الاهتمام بالله، ولو بطريقة سلبية؛ أي بمحاولة البرهنة على عدم وجوده. هذا الموضوع بالضبط، هو الذي جعلني أنتبه عندما بدأت حياتي الدراسية بفرنسا إلى أن موضوع الدين حاضر بقوة في جميع البلدان العربية، بمستويات مختلفة، بل إن الكثير من الملكيات الغربية (إنجلترا، السويد، إسبانيا إلخ) لا تخبّئ انتماءها لكنيسة من كنائس المسيحية. أقول هذا، لأنني أنتمي إلى جيل من الطلبة، حشانا بعض أساتذتنا في المغرب، وبعض مفكرينا في الشرق، بفكرة "أفول نجم الدين في الغرب" وكانت التقليعة، التي ربونا عليها هي "موت الله". والواقع أن ما مات فينا هو تحريك ملكة النقد، والاقتراب أكثر من مضامين أفكار بعينها، في آخر المطاف ما يهمنا أكثر، من أجل إقلاع فكري وفلسفي، هو عدم اجترار ما يصلنا، بل فحصه بأدوات نقدية. ولعل ترجمتي للمناظرة بين هابرماس والكردينال (فيما بعد البابا) رايتسنغر، حول الدين والعلم كان أيضا في هذا الاتجاه، ونعرف الآن "المنعطف" الذي أخذه هابرماس نفسه، فيما يتعلق بهذا الموضوع.
د. حسام الدين درويش:
أنت الآن تعمل عليه، ومتى تتوقع أو تخطط للانتهاء منه؟
د. حميد لشهب:
سأنهي ترجمة هذا كتاب "أجوبة عن الاعتراضات"، إن شاء الله، في حدود نهاية هذه السنة، وهو في العمق تتمة للكتاب الآخر لسايفرت "وداعا دوكينز وداروين" أو إن شئت "باي، باي دوكينز وداروين"، المقرر أيضا ترجمته بعد ذلك.
د. حسام الدين درويش:
شكرًا جزيلاً لك، وننتظر جديدك.
د. حسام الدين درويش:
أشكرك دكتور ميادة على مشاركتك، وشكرًا للدكتور حميد، وأتمنى أن نراكم في لقاءات قادمة. أرجو من الدكتورة ميادة أن تخبرنا عن الندوة القادمة؟
دة. ميادة كيالي:
وأنا بدوري أودّ أن أؤكد أهمية الترجمة كجسر للتواصل الثقافي والمعرفي بين الحضارات. وأنها بالنسبة لنا ليست مجرد وسيلة لنقل النصوص، بل هي عملية إبداعية تسهم في بناء عالم أكثر تفاهماً وتواصلاً. ونعدكم التزامنا بمواصلة عقد ندوات أخرى حول الترجمة. ولهذا أطلقنا عليها سلسلة "جسور الترجمة"، إيماناً منا بأنها ليست فقط نشاطاً فكريًّا، بل هي مشروع ثقافي حيويّ يحتاج إلى استمرارية وتطوير.
وأوجّه شكري الجزيل للدكتور حميد لشهب على مساهماته القيّمة في مشروع الترجمة في مؤمنون بلا حدود، وللدكتور حسام الدين درويش على إدارته الرائعة للحوار وتوجيهه للنقاش نحو قضايا جوهرية في مجال الترجمة. كما أشكر جميع الحضور والمشاركين على دعمهم واهتمامهم، وأتطلع إلى لقاءاتنا المقبلة ضمن هذه السلسلة التي نسعى من خلالها إلى إحداث فرق حقيقي في مجال الترجمة.
د. حسام الدين درويش:
شكرًا لكما، دكتورة ميادة، ودكتور حميد، وشكرًا جزيلًا لكل من حضر وشارك وأسهم في هذه الندوة.