حوار مع الدكتور خالد قطب أستاذ فلسفة العلم في جامعة قطر "فلسفة العلم لها وضع خاص في واقعنا العربي"
فئة : حوارات
حوار مع الدكتور خالد قطب أستاذ فلسفة العلم في جامعة قطر
"فلسفة العلم لها وضع خاص في واقعنا العربي"
محمد الصغير: الدكتور خالد قطب أستاذ فلسفة العلم في جامعة قطر، هو واحد من أبرز فلاسفة العلم في مصر والعالم العربي الذين يعشقون هذا التخصص، في البداية نود الترحيب بكم في هذا الحوار، وأبدأ في سؤالك عن قصة هذا العشق لفلسفة العلم؟
د. خالد قطب: أولا شكرًا جزيلًا الأستاذ محمد تلميذي النجيب على هذه الدعوة، وإنه من دواعي سروري أن نلتقي بعد هذه السنوات الطويلة. بدأ عشقي للفلسفة، بوجه عام، عندما كنت طفلًا لم يتجاوز أحد عشر عامًا من عمره، عندما وجد أمامه ذخيرة كبيرة من الكتب الفلسفية في منزلنا، فقد كنت أستعير بعض الكتب الفلسفية من أخي الأكبر الذي تخرج في قسم الفلسفة، كلية الآداب، جامعة القاهرة، وعمل بتدريس الفلسفة في المدارس الثانوية، وكان يكبرني بـخمسة عشر عامًا. وقد زاد عشقي للفلسفة أيضًا عندما التحقت أختي، التي تكبرني بـست سنوات، إلى القسم نفسه، وكانت هوايتي حينذاك هي قراءة النصوص الفلسفية معها ومناقشتها، وعندما حصلتُ على شهادة الثانوية العامة، قررت أن ألتحق بقسم الفلسفة في جامعة القاهرة لكي أدرس الفلسفة دراسة أكاديمية عميقة. أما عشقي لفلسفة العلم، فأنا أجد أن فلسفة العلم هي القادرة على تجسير الفجوة المعرفية بين العلوم الطبيعية والعلوم الإنسانية والاجتماعية، وهي الفجوة التي تعاني منها مجتمعاتنا العربية، إذا نظرنا إليها على أنها المجال المعرفي الوحيد القادر على توجيه العلوم والحكم على نتائجهم.
محمد الصغير: لقد عملت في العديد من الجامعات داخل مصر وخارجها، فهل لك أن تلقي الضوء على مساركم العلمي والأكاديمي؟
د. خالد قطب: أعمل الآن أستاذًا لفلسفة العلم والإبستيمولوجيا في كلية الآداب والعلوم، جامعة قطر. وقد عملت في جامعات عدة. فقد بدأت مسيرتي الأكاديمية في قسم الفلسفة والاجتماع جامعة القاهرة، فرع الفيوم، ثم رئيسًا لقسم الفلسفة، في كلية الآداب جامعة الفيوم. وعملت أستاذًا مشاركًا في قسم الفلسفة في كلية العلوم الإنسانية والاجتماعية، جامعة الإمارات العربية المتحدة، ثم أستاذًا منتدبًا في جامعة مصر للتعليم الإلكتروني EELU، ثم أستاذًا زائرًا في كلية الفلسفة، في جامعة بريستول بالمملكة المتحدة، وأيضًا عملت أستاذًا منتدبًا في قسم الفلسفة جامعة القاهرة، واستاذًا منتدبًا في برنامج الفلسفة في معهد الدوحة للدراسات العليا بدولة قطر.
محمد الصغير: كنت أحد تلامذتك في أثناء الدراسة الجامعية، دائماً كنت تتحدث أثناء تدريسك لفلسفة العلم عن بول فايرآبند والعقلانية النقدية، وأيضًا عن القطيعة المعرفية، فهل لك أن تقربنا أكثر عن فيلسوف العلم فايرآبند ومفهوم القطيعة المعرفية؟
د. خالد قطب: فيلسوف العلم بول فايرآبند من الفلاسفة المحببين جدًا إلى عقلي، وقد تعلمت منه الكثير من الدرس المعرفي والمنهجي. فقد كان موضوعًا لدراستي التي تقدمت بها للحصول على درجة الماجستير في الآداب من جامعة القاهرة، وكانت بعنوان: العقلانية العلمية في فلسفة بول فايرآبند، (1996)، وكانت أول دراسة عن هذا الفيلسوف باللغة العربية على الإطلاق، وعلى الرغم من اعتراض العديد من الأساتذة المتخصصين في فلسفة العلم آنذاك على أن يكون لهذا الفيلسوف عقلانية أصلًا، جاءت وجهي نظري مغايرة، وقد دافعت عنها بقوة، وقد وجدت أن السبب في النظر إلى هذا الفيلسوف على أنه لاعقلاني، هو خلل مفهوم العقلانية العلمية في أذهانهم، ومنبع هذا الخلل هو إيمانهم بتصور الوضعية المنطقية لمهمة العقل، أو زعمهم أن العقلانية العلمية تكمن في صورة معينة من المنهجية التكذيبية، وهي التصورات التي تجاوزها فايرآبند. أيضا فايرآبند بالنسبة لي هو الممهد الحقيقي لتيار ما بعد الحداثة في فلسفة العلم، وأيضًا تيارات ما بعد الاستعمار التي أعادت النظر في تاريخ العلم.
أما "القطيعة المعرفية" والتي كانت موضوعًا لرسالة الدكتوراة التي عالجت مفهومي الاتصال والانفصال في علم الفيزياء (2000)، فقد فهمتها على أنها آلية منهجية يتحقق بفضلها التقدم في العلم، فالقطيعة المعرفية بالنسبة لي هي وعي تصويبي، عندما يتعامل العقل العلمي مع تاريخ العلم. فعن طريق هذه الآلية المنهجية يعيد العقل النظر في تاريخ العلم، ويعيد بناءه من أجل الكشف عن الخطابات الأيديولوجية القابعة خلف علم من العلوم، فكانت القطيعة المعرفية كآلية منهجية قادرة على تحرير أي علم من أشكال الخطاب التي قد توظفها مؤسسة ما تصف نفسها بالعلمية.
محمد الصغير: ما الذي يمثله مفهوم النموذج الإرشادي الذي قال به توماس كون بالنسبة إلى د. خالد قطب؟
د. خالد قطب: يمثل النموذج المعرفي الإرشادي (البرادايم) بالمعنى الذي يستخدم به المفهوم فيلسوف العلم الأمريكي توماس كون "المرجعية المعرفية" الضابطة للعقل عند تعامله مع الواقع، أو بعبارة أخرى، إنه بمثابة برنامج بحث موجه للعقل، ولقيمه، وسلوكه إزاء العالم. يقيس العقل على أساس هذا النموذج الذي يعتقد في صحة طروحاته: الصدق والكذب على المستوى المعرفي، والصواب والخطأ على المستوى السلوكي الأخلاقي، والحق والباطل على المستوى العقيدي، وهلم جرا. ولهذا وجد هذا المفهوم رواجًا كبيرًا في مجالات أخرى في العلوم الإنسانية والاجتماعية على اختلافها أكثر من رواجه في فلسفة العلم نفسها لما يحمله هذا المفهوم من مضامين فلسفية عميقة.
محمد الصغير: "نشأت ميكانيكا الكم منذ أكثر من ثمانين عامًا، وأصبحت جزءًا جوهريًّا أساسيًّا لاغنى عنه من ذخيرة عالم الفيزياء النظرية"... حدثنا عن أهم ما صادفت عندما ترجمت كتاب عالم الفيزياء الأشهر فيرنر هايزنبرج (الفيزياء والفلسفة.. ثورة فى العلم الحديث)؟
د. خالد قطب: كان وراء تكليفي من المركز القومي للترجمة بالقاهرة بترجمة كتاب عالم الفيزياء الألماني فيرنر هايزنبرج قصة؛ فقد كانت وجهة نظر المركز هي أن الجدير بترجمة هذا العمل هو فيلسوف علم، أو دارس لها وليس عالمًا متخصصًا في الفيزياء، فوقع الاختيار عليْ، وأنا سعيد جدًّا بترجمتي لهذا الكتاب المهم؛ لأنني تعلمت منه دروسا معرفية عدة منها على سبيل المثال: أن التقدم العلمي لا يأتي إلا عبر الحوار بين الواقع والفكر، أو بعبارة أخرى، بين العلماء والفلاسفة. إضافة إلى تأكيده أن الفلسفة والعلم يرشدان الإنسان/الباحث إلى طريقة جديدة في التفكير يعيد من خلالها علاقته بذاته من جهة، وبالعالم المحيط به من جهة أخرى، وهي الطريقة التي تتكفل بتقديمها فلسفة العلم. إن المعرفة العلمية الناتجة عن العلوم وسيلة للتفاهم والتواصل بين الشعوب. وكما تتخذ المعرفة العلمية طابعًا عالميًا كونها قادرة على حل المشكلات التي تواجه الإنسان، على اختلاف لغته، وجنسه، ومعتقده الديني.
محمد الصغير: كيف يمكن أن تسهم فلسفة العلم في نبذ العنف والإرهاب، وهل يعني التجديد مجاراة لما تم في الغرب من فصل الدين عن الدنيا؟
د. خالد قطب: للأسف الإرهاب في هذه الأيام يتخذ صورًا عدة، ربما تكون أكثر خطورة من الصور التي كنا نألفها من قبل. وتكمن خطورة الإرهاب الجديد في أنه يتخذ، في بعض الأحيان، صورة علمية تطبيقية عندما تستخدمه الدول والشركات لإرهاب دول أخرى وشعوب. وعلى سبيل المثال، يمكن أن نجد هذه الصورة من الإرهاب الجديد في التطبيقات المغرضة للتكنولوجيا الحيوية عندما تُستخدم لأغراض مادية نفعية، سواء في صناعة الأسلحة البيولوجية، أو بالتحكم في الإنسان وجيناته لدرجة أنه قيل: إن التكنولوجيا الحيوية تسهم في تقديم إنسان حسب الطلب السياسي الأيديولوجي، وهو أمر يمثل تحدّيًا كبيرًا أمام فلسفة العلم والمسؤولية الأخلاقية التي يتوجب عليها القيام بها، وأعني بالمسؤولية الأخلاقية لفلاسفة العلم هو أن يكون لديهم سلطة اتخاذ قرارات لها وزنها وانعكاساتها على المجتمع ككل، لا العلماء وحدهم أو رجال الدين هم من يتخذون قرارات بشأن نتائج العلم وتطبيقاته. باختصار، مهمة فلسفة العلم هي تنبيه الشعوب إلى الأخطار التي تواجه البشرية في الحاضر، والتي ربما تواجهها مستقبلًا، لاسيما الناتجة عن التطبيقات المؤدلجة للعلم والمعرفة العلمية.
محمد الصغير: لهذا قلت ذات مرة بأنّ من مهام فلسفة العلم توظيف المعرفة العلمية في سياستنا التربوية ونظمنا التعليمية، فكيف ترون هذه المهمة، وكيفية تحقيقها لخدمة قضايا الواقع؟
د. خالد قطب: تأتي أهمية فلسفة العلم من أنها قادرة على تهيئة العقل لعصر حقق فيه العلم تقدمًا كبيرًا؛ وذلك من خلال إمداد هذا العقل بالآليات المنهجية، والمعرفية النقدية والتصويبية الدؤوبة لمعالجة الخلل وإزالة المعوقات، وتجاوز التحديات التي تعوق عملية التنمية في الواقع. فغياب المعرفة العلمية والقدرة النقدية والتصويبية التي يتعين تعلمها وممارستها في نظمنا التعليمية هي من أهم معوقات التنمية. ولهذا تلفت فلسفة العلم أنظارنا إلى أن غياب المعرفة العلمية عن واقعنا العربي يمثل أهم العقبات التي تقف حائلًا دون تغيير هذا الواقع، وليس مرجع هذا الغياب إلى خلل ما في بنية العقل العربي وتكوينه كما يرى بعض المفكرين العرب المعاصرين الذين يصدرون حكمًا نهائيًا على العقلية العربية بأنها، بحكم بنيتها وتكوينها التراثي الثقافي، تتميز بارتباطها بكل ما هو معياري/أخلاقي، الأمر الذي يجعلها عقلية لا تقدر بذاتها على إنتاج معرفة تتصف بالعلمية، وهي الأحكام التي كذبها الواقع، بل إن مرجع الخلل الذي يعاني منه واقعنا راجع إلى نظرة عدم الاكتراث بالعلم والمعرفة العلمية والفلسفة لاسيما فلسفة العلم، والاكتفاء بالتكنولوجيا، وأحيانا الخلط بين العلم والتكنولوجيا.
محمد الصغير: تسعى في كتاباتك إلى التأكيد دوما على فلسفة العلم التطبيقية، فهل هناك حد فاصل بين فلسفة العلم التي تتعامل مع المعرفي والمنهجي على المستوى النظري وبين فلسفة العلم التطبيقية؟
د. خالد قطب: فلسفة العلم المطبقة أو التطبيقية حسب ما هو متداول بين الباحثين ليست فلسفة نظرية تأملية مجردة تحاول أن تبحث عن دعم ميتافيزيقي لها، وليست هذه فلسفة العلم المطبقة فلسفة نسقية ترتكن إلى نسق ثابت عند معالجتها لمشكلات معرفية منهجية، بل هي فلسفة تتجه مباشرة للممارسة والتغيير. تنطلق فلسفة العلم المطبقة من وجهة النظر القائلة إن الدور الحقيقي الذي ينبغي أن تتحمل عبئه فلسفة العلم اليوم هو وضع حلول للقضايا العملية في الحياة، لا سيما تلك القضايا التي يكون فيها العلم وتطبيقاته التكنولوجية حاضرين وبقوة. أو بعبارة أخرى، تقدم فلسفة العلم المطبقة تحليلًا نقديًا لهذه القضايا من جهة، وحلولًا لها تستند على بعد عملي أخلاقي قيمي معياري أساسي من جهة أخرى. باختصار، تسلط فلسفة العلم المطبقة الضوء على دور القيم الاجتماعية، والأخلاقية، والثقافية، والسياسية في قبول نظرية ما. وأيضا رفضها أو تهميشها. فالقيم المعيارية على سبيل المثال، تدخل بشكل واضح في سياق الاكتشاف وخاصة عندما يصدر العالم أحكامًا قبل قبول نظرية ما، أو أثناء إجراء التجارب للتأكد من صحة فرضية ما من الفرضيات أو كذبها. ومن ثم تظهر أيديولوجيا المؤسسة العلمية الموجهة للبحث بوضوح في توجيه العلماء في عمليتي القبول والرفض، وأيضا توجيه المجتمع عند اقناعهم بضرورة قبول نتائج نظرية ما.
محمد الصغير: لكم أكثر من دراسة في فلسفة العلم منها على سبيل المثال لا الحصر (أنسنة العلم) فهل لك أن تقربنا من هذا المصطلح "أنسنة"، وهل يمكن للعلوم الطبيعية أن يكون لها طابعها الإنساني؟
د. خالد قطب: ساد تصور خاطئ أن العلوم الطبيعية موضوعية كونها تتعامل مع وقائع وظواهر تخضع للتجريب، الأمر الذي يجعلها بمنأى عن التدخلات البشرية، وهو الزعم الذي نظّر له الاتجاهات الوضعية والتجريبية في الغرب، وللأسف لايزال يروج لها بعض المشتغلين بفلسفة العلم وغيرهم في واقعنا العربي. أنسنة العلم تعني أن العلم لم يعد موضوعيًا، أصبحت الموضوعية في العلم وهمًا؛ أي إن العلوم الطبيعية أصبحت أكثر تداخلًا مع العلوم الإنسانية والاجتماعية، لاسيما بعد الطفرة التي حدثت في مناهج البحث ودخول ما يسمى بالمناهج العابرة للتخصصات، والدراسات البينية.
محمد الصغير: وهذا الذي جعلكم تضعون عنوانًا لأحد كتبكم "حوار العلم والفلسفة: مقاربة جديدة في فلسفة العلم"؟
د. خالد قطب: بالطبع، لأن تجسير الفجوة بين العلم والفلسفة لا يأتي إلا من خلال الحوار. كانت المهمة القديمة لفلسفة العلم وفقًا للتصور الوضعي المنطقي والتجريبي الفج هو خدمة العلم من خلال تحليل المفاهيم التي ينتجها العلم ذاته، فكان على فلسفة العلم أن تنتظر حتى يفرغ العلم من إنتاج المعرفة العلمية لكي تفلسفها الفلسفة، إذا جاز هذا التعبير. ولهذا جاء العلم في عنوان كتابي حوار العلم والفلسفة قبل الفلسفة، وكان هذا الترتيب مقصودًا؛ لأن وفقًا للمقاربة الجديدة التي أقدمها في فلسفة العلم، العلم هو من يطلب الحوار مع الفلسفة لاحتياجه إليها من جهة، وأيضا لأن فلسفة العلم في منظورها الجديد أصبحت قيّمة على مناهج العلماء ونتائجهم، والكشف عن الخطابات التي تأخذ في بعض الأحيان صفة العلمية.
محمد الصغير: ولكن ما هي فلسفة التقدم العلمي، وهو أحد عناوين كتبك المهمة، هل يكمن التقدم العلمي في التكنولوجيا؟
د. خالد قطب: كان ولا يزال التقدم العلمي والتكنولوجي أمل المجتمعات التي تسعى إلى تحقيق النمو والتطور على عدة مستويات، الأمر الذي يجعل التقدم العلمي قانونًا يحكم حركة النمو والتطور في العديد من المجتمعات. كما أصبح واضحًا أن تقدم مجتمع من المجتمعات مرهون بوعي أفراده بهذا القانون. يبدأ التقدم العلمي أولًا بالتأسيس النظري، ومن هنا جاءت أهمية فلسفة العلم بالنسبة إلى المجتمعات، فهي القادرة على تحقيق هذا التقدم. لكن المشكلة تأتي عندما يظن البعض أن التكنولوجيا قادرة وحدها على تحقيق التقدم العلمي. فالتكنولوجيا لا تبني حضارة، ولا تصنع تنمية، فنقل التكنولوجيا يمثل خطرًا كبيرًا؛ وذلك لأن افتقار المجتمعات المستوردة للعقول البشرية يفقدها القدرة على تطوير هذه التكنولوجيا، ونظرًا لافتقارها إلى هذه العقول القادرة على وضع نظريات، وتصورات، وبرامج، ونماذج علمية تعمل على تطوير وإبداع تكنولوجيا جديدة تفيد المجتمع على مستويات عدة، يحول دون التقدم العلمي. ومن هنا كانت فلسفة التقدم العلمي هي محاولة تأسيس العقلية القادرة على إنتاج معرفة علمية تمهيدًا لإنتاج التكنولوجيا. فالتكنولوجيا هي تطبيق لنتائج العلم، أو تطبيق للمعرفة العلمية.
محمد الصغير: كانت هناك علاقة تربطكم بفيلسوف العلم المصري عبد الحميد صبرة الأستاذ في جامعة هارفارد. فما هي طبيعة هذه العلاقة؟
د. خالد قطب: بدأت علاقتي بعبد الحميد صبرة من خلال كتاباته القيمة عن تاريخ العلوم العربية ومنهجية التأريخ لها، لاسيما الكتابات العميقة التي قدمها عن ابن الهيثم وتحقيقاته لكتاب المناظر. تواصلت في البداية مع عبد الحميد صبرة، عندما كنت أعمل في جامعة الإمارات العربية المتحدة من خلال البريد الإلكتروني، وتبادلنا معًا أحاديث كثيرة حول كتاباته، وأفكاره، ومنهجيته. وأتذكر هذا الدرس الكبير في التواضع الذي تعلمته منه عندما كان يراسلني ويكتب بالإنجليزية (عزيزي خالد لو تسمح بدون ألقاب) والغريب في الأمر أن شخصية بهذه الأهمية لم تكن معروفة بالشكل الذي يليق بها في مجتمعاتنا العربية، وهذا يرجع إلى عدة أسباب منها أن معظم كتاباته باللغة الإنجليزية، وثانيًا لم يكن يحب الظهور والشهرة كما يفعل البعض من الأكاديميين والمثقفين في بلادنا الراغبين في صناعة هذه الشهرة بالطرائق المشروعة وغير المشروعة. فقررت أن أقدم هذه الشخصية إلى القارئ العربي فقمت بنشر كتاب كامل عن فلسفة التأريخ للعلم العربي: عبد الحميد صبرة نموذجًا، وهو أول كتاب في العالم عن هذه الشخصية. أبرزت في هذا الكتاب العديد من الجوانب الخفية في حياة عبد الحميد صبرة، وقصة خروجه من مصر في الستينيات من القرن العشرين، وقصة اهتمامه بالعلم العربي، لاسيما علم المناظر، وكيف كان فيلسوف العلم الأشهر كارل بوبر هو المشرف على رسالته لنيل الدكتوراه عن البصريات في القرن السابع عشر. أيضا تواصلت مع أسرة عبد الحميد صبرة خاصة أبنه الدكتور آدم صبرة الأستاذ في جامعة كاليفورنيا بالولايات المتحدة الأمريكية، الذي أمدني بالعديد من الصور النادرة لعبد الحميد صبرة. بالفعل اعتز بهذه الشخصية إيما اعتزاز.
محمد الصغير: صدر لكم كتاب بعنوان «العقل العلمي العربي: محاولة لإعادة الاكتشاف».. حدثنا عن مفهوم العقل العلمي وكيف يمكن استحداث آليات جديدة لمواجهة التحديات التي تواجهنا في مجتمعاتنا العربية؟
د. خالد قطب: عكفت لسنوات على إعادة اكتشاف العقل العلمي المنتج للمعرفة العلمية في التراث العلمي العربي. وقد كانت إعادة الاكتشاف تلك مستندة إبستيمولوجيًا على إعادة النظر في تاريخ العلم عامة، ومحاولة العثور على العقل العلمي المهمش في هذا التاريخ، فوجدت أن بعض مؤرخي العلم أضفى على هذا التاريخ طابعًا غربيًا، حيث أصبح العلم وما ينتجه من معرفة علمية نابعة من العقل العلمي الغربي وحده. ومن وجهة نظري، أن استحداث آليات جديدة للتجديد تحتاج أولًا إلى إعادة قراءة تاريخ العلم قراءة ناقدة، واكتشاف الأسباب الإبستيمولوجية (المعرفية) والسوسيولوجية (الاجتماعية) التي كانت مسؤولة عن ظهور هذا العقل في تاريخ العلم في فترات ازدها العلم العربي، وأيضًا الوقوف على أسباب تقهقر هذا العقل وتراجعه؛ أي باختصار إذا أردنا التنوير علينا أن ننور أولًا القائمين بالعملية ذاتها؛ أي أن يكون لديهم وعي ناقد بتاريخ العلم.
محمد الصغير: قمت بترجمة العديد من الكتب الفلسفية، حدثنا عن الصعوبات التي واجهتكم أثناء ترجمة بعض الكتب.
د. خالد قطب: يعرف الكثير أن الترجمة ليست نقل كلمات أو مصطلحات من لغة إلى أخرى، بل هي إحساس وشعور بالكلمات والنصوص والمعاني والدلالات التي تحملها تلك النصوص والكشف عن كوامنها أيضًا. الأمر الثاني المهم هو اختيار النص الذي ينبغي أن يُترجم؛ لأن هناك الكثير من الكتب لا تستحق الترجمة أصلًا، أي لابد أن يكون لدى الجهات المعنية بالترجمة وعيًا بأي من المجالات المعرفية التي تحتاج إلى سد فراغ عن طريق الترجمة، ولكن، للأسف العمل المؤسسي غائب في موضوع الترجمة، وهناك الترجمة التي يحكمها التربح. هناك صعوبات عدة تواجه المترجم، لاسيما عندما يترجم نصًا فلسفيًا يحمل دلالات وتأويلات، وقد قابلتني صعوبات عدة عندما شرعت في ترجمة مؤلفات الفيلسوف الكاميروني إشيل مبيمبي.
محمد الصغير: إشيل مبيمبي من الفلاسفة المهمين على مستوى العالم، وليس إفريقيا فقط، فهل لك أن تلقي المزيد من الضوء على هذا الفيلسوف؟
د. خالد قطب: ازداد مؤخرًا، على مستوى العالم، الاهتمام بالفلسفة الإفريقية الزنجية خاصة إفريقيا جنوب الصحراء. فقد ألقت الدراسات الثقافية، ودراسات ما بعد الاستعمار، الضوء على هذه الفلسفة، حيث تقدم قراءة تحليلية وتفكيكية للجهاز المفاهيمي للخطاب الاستعماري الذي يفرض دلالات بعينها ويهمش أخرى ليبرر فرضياته المسبقة عن الإفريقي والزنجي، وهي الفرضيات التي تحضر في صورة علامات وإشارات وضعها المستَعمِر لكي تعكس وحشية الإفريقي الزنجي وعنفه، ولهذا كانت الخطوة الأولى بالنسبة إلى الفلسفة الإفريقية هي إعادة قراءة هذا الجهاز المفاهيمي للخطاب الاستعماري من خلال إعادة اكتشاف تاريخ إفريقيا الزنجية المليء بالأسرار، والأساطير، والحكايات الشفاهية بحثًا عن مفهوم للهوية الزنجية يعيد لها ذاتها المسلوبة؛ أي الذات التي وضع لها المستعمر برنامجًا معرفيًا، وأيديولوجيًا، شموليًا جمع بين التاريخ، والأسطورة، والأنثروبولوجيا، والتحليل النفسي لتزوير تاريخ إفريقيا الزنجية، وطمس ذاكرتها. لهذا كان اهتمامي بالفيلسوف السياسي الكاميروني، وأستاذ الفكر السياسي في جامعة ويتواترسراند بجوهانسبرج جنوب إفريقيا إشيل مبيمبي. طرح إشيل مبيمبي العديد من الإشكاليات الفلسفية من خلال منهجه التفكيكي والتأويلي.
تواصلت مع إشيل مبيمبي ودارت بيننا أحاديث عن مشروعه الفلسفي السياسي، وقد سرّ كثيرًا أن كتاباته تترجم إلى اللغة العربية.
قمت بترجمة كتاب إشيل مبيمبي نقد العقل الزنجي: الزنوجة كمشروع للخلاص الإفريقي، حيث يتحدث إشيل مبيمبي في هذا الكتاب عن الزنوجة بوصفها نظامًا معرفيًا أنطولوجيًا موجودًا في بيئة من النضال ضد المستَعمِر، وهو هنا يستخدم الزنوجة لا بمعناها السلبي الذي كان سائدًا في وقت الاستعمار، بل بوصفها علامات مضيئة لإمكانية استعادة العالم وتغييره، ومن هنا تشير الزنوجة إلى سلسلة من التجارب التاريخية العاصفة التي مر بها الزنجي في واقع حياة فارغة عاشها، وخوف يشعر به المحاصرون من الزنوج داخل الهيمنة العنصرية المتجددة دائمًا، وذاكرة الألم عندما كان يرون أجسادهم وأذهانهم مسيطر عليها من الخارج، من الاستعمار، وعندما حول المستَعمِر دورهم إلى متفرجين يشاهدون أنفسهم في حالة أسر. الزنوجة كما يقول إشيل مبيمبي هي بمثابة رمز للرغبة الواعية في الحياة، وقوة متدفقة، وطاقة مرنة منخرطة تمامًا في فعل الإبداع، وقادرة على العيش في خضم أزمنة وتواريخ عدة في أن واحد، الزنجي هو طمي الأرض، وشريان الحياة الذي تحلم البشرية من خلاله بالتصالح مع الطبيعة، أو حتى التصالح مع الوجود كله، وستجد الإنسانية وجهها وصوتها وحركاتها الجديدة في هذا الزنجي.
لم أكتف بترجمة هذا الكتاب فحسب، بل قمت بترجمة كتاب آخر لإشيل مبيمبي بعنوان الخروج من الليل المظلم: مقالات في نزع الاستعمار من إفريقيا، وهو عنوان معبر عن قسوة الاستعمار ووحشيته. وقد آثرت أن أترجم مصطلح Decolonization إلى نزع الاستعمار لما لهذا المصطلح من دلالة تعكس القدرة على انتزاع الاستعمار انتزاعًا من جذوره؛ أي يحمل دلالة القصدية المقترنة بالإرادة. يحاول هذا الكتاب إعادة الدعوة إلى التجمع حول القارة الإفريقية؛ وذلك لوجود جهد كبير لبناء الفكر وتهيئة الذهنية الإفريقية إلى مستقبل عالمي. ولا يمكن أن يتحقق هذا المستقبل إلا عبر علاقة متشابكة الأطراف من تفكيك للأفكار الاستعمارية ونزع هذه الأفكار من البيئة الإفريقية، وإعادة خلق الذات الإفريقية، وهي دعوة إلى تشكيل مستقبل إفريقيا من خلال تحرير إطارها الاجتماعي والفكري من أسر الاستعمار، أو بعبارة أخرى، تحتاج إفريقيا إلى المضي قدما في اتجاهين: الاتجاه نحو الماضي من جهة، والاتجاه نحو المستقبل من الجهة الأخرى، إفريقيا الآن هي التي تتجه إلى القيام بدور الراعي لهذا العالم، والانغماس فيه، والاهتمام باللحظة الحاضرة. إفريقيا هي التي تخلق عالمًا يرحب بالجميع، حيث يكون الكل قادرًا على الدخول فيه من دون قيد، أو شرط. وسيكون الكل كما يقول إشيل مبيمبي قادر على معانقة بعضهم بعضًا بعيون مفتوحة على مصراعيها تجاه العالم. لا يمكن لإفريقيا الانفصال عن العالم، وعن طبيعته المتشابكة، والمركبة، وتكريمًا لهذه الأرض التي نتشاركها، وتكريمًا لسائر سكانها بما في ذلك البشر وغير البشر، كان لزامًا أن تنزع إفريقيا الاستعمار من عقولها أولًا.
محمد الصغير: قمتم بعمل عدة حوارات مع فلاسفة علم عالميين أمثال فيلسوف العلم نيكولاس ماكسويل، وفيلسوف العلم سمير عكاشة، كيف كان شعوركم أثناء إجراء هذه الحوارات الفلسفية الممتعة؟ وكيف يمكن الاستفادة منها في واقعنا المعاصر؟
د. خالد قطب: من وجهة نظري كانت هذه الحوارات مفيدة للغاية، فقد كان الهدف منها تقريب وجهات نظر فلاسفة العلم العالميين إلى العالم العربي بهدف الاستفادة من تجاربهم الشخصية، وكانت هذه الفكرة مفيدة للغاية خاصة أن إجابات هؤلاء الفلاسفة كانت مختصرة وعميقة في الوقت ذاته. تعرفت على نيكولاس ماكسويل أثناء إقامتي في المملكة المتحدة، حيث يعمل أستاذًا لفلسفة العلم في واحدة من أعظم الجامعات في المملكة المتحدة وهي كلية لندن الجامعية، حاولت من خلال هذا الحوار أن أطرح عليه أسئلة غير تقليدية مثل ما هو شعورك عندما تكتب في فلسفة العلم، أو تدّرس مقررات في فلسفة العلم لطلابك؟ وكانت إجاباته هي أنه من الضروري أن نغير منهجية التدريس في جامعاتنا، أن نجعلها أكثر ثورية. أن نجدد في طرح القضايا الفلسفية بحيث تأخذ طابعًا عالميًا. ومن الأسئلة التي طرحتها على نيكولاس ماكسويل: ما هي الرسالة الرئيسة التي تحب أن ترسلها إلى الفلاسفة العرب، فكانت إجابته هي: أنه من الخطأ تعقب المعرفة المتخصصة، فتعقب هذه المعرفة المتخصصة تعد خيانة للعقل، بل خيانة للبشرية قاطبة، ومهمة الفلاسفة بوجه عام هي إحداث ثورة في الجامعات، حيث تصبح المهمة الرئيسة هي البحث عن الحكمة وتعزيزها، وليس مجرد اكتساب المعرفة. الحكمة هي القدرة على إدراك قيمة الحياة، والسعي النشط نحو هذه القيمة، والرغبة فيها سواء أكان ذلك للذات أم للآخرين. فبدلًا من إعطاء الأولوية الفكرية لحل مشكلات المعرفة والجامعات، نحتاج إلى إعطاء الأولوية للمساعدة على حل النزاعات والمشكلات المعيشة، وقبل كل شيء المشكلات العالمية مثل أزمة المناخ التي تهدد مستقبلنا.
أما حواري مع صديقي سمير عكاشة فيلسوف العلم الإنجليزي، فكان حديثا ممتعا للغاية خاصة أن هناك علاقة صداقة قوية جمعت بيننا. سمير عكاشة هو أحد أكبر فلاسفة العلم في الوقت الحاضر. حصل على عدة جوائز عالمية تقديراً لإسهاماته المتميزة في فلسفة العلم، وهو كذلك زميل الأكاديمية البريطانية والرئيس الحالي للجمعية الأوروبية لفلسفة العلم، وهو أستاذ ورئيس قسم الفلسفة بكلية الفلسفة جامعة بريستول بالمملكة المتحدة، وهو على فكرة له أصول مصرية، ولكنه لا يعرف العربية. طرحت عليه سؤالًا حول اهتمامه بكتابة كتب المقدمات القصيرة جدًّا التي تضطلع بنشرها جامعة أكسفورد. فقد نشر حتى الآن كتابين فلسفة العلم: مقدمة قصيرة جدًّا، والآخر: فلسفة البيولوجيا: مقدمة قصيرة جدا. فكان رده هو أعتقد أن من الأهمية بمكان أن يكون لدى الفلاسفة القدرة على تفسير الأفكار الأساسية في حقلهم المعرفي بطريقة واضحة وبسيطة، حيث يمكن لأي شخص عادي يتمتع بقدر من الذكاء أن يفهمها. إنها مهارة غالبًا ما يتم تجاهلها. والسر في هذا الأمر هو العمل جيدًا على كتابة جمل بسيطة قصيرة، مع الاستشهاد بأمثلة ملموسة والحد من الرطانة الأكاديمية، إضافة إلى ضرورة الإفادة من "التعاطف الفكري" الذي يعني أن تضع نفسك في موضع القراء الذين لا يعرفون شيئًا عن الموضوع، وتطرح سؤالًا على نفسك: "هل سيفهمون هذا بالفعل أم لا؟
محمد الصغير: لكم اهتمام بفلسفة العلم النسوية، فهل تجد أن فلسفة العلم النسوية تقدم طرحًا جديدًا يختلف عن طرح التيارات المعاصرة في فلسفة العلم؟
د. خالد قطب: الفلسفة النسوية بوجه عام هي الفلسفة التي ترفض ربط الخبرة البشرية بخبرة الرجال وحدهم من دون أن تكون خبرة المرأة حاضرة. ولهذا أعادت الفلسفة النسوية النظر في تاريخ الفلسفة بوجه عام، وهو التاريخ الذي استخف بالمرأة واهتماماتها الفلسفية وطروحاتها، الأمر الذي جعل الفلسفة النسوية تعكس خبرة المرأة الفلسفية تجاه موضوعات، وقضايا، ومشكلات فلسفية عدة. فعلى سبيل المثال، بحثت الفلسفة النسوية عن الطرق الصريحة والخفية التي أدت إلى هذا الوضع المتردي للمرأة في شتى دروب الفكر الفلسفي. وأود أن ألفت نظركم أستاذ محمد إلى أن البعض من باحثينا في عالمنا العربي يخلط ما بين النسوية كمذهب، وبين الفلسفة النسوية. فالنسوية كمذهب، أو ما يصطلح على تسميته عبد الوهاب المسيري حركة "التمركز حول الأنثى"، حيث يركز المسيري على البعد الكلي الشامل للمصطلح، وارتباطه بالمنظومة الثقافية الفكرية الغربية الأشمل، يعبر عن حركة سياسية وثقافية تُعنى بحقوق المرأة ومساواتها بالرجل في شتى النواحي الاجتماعية والمعيشية. أما الفلسفة النسوية، فهي رؤية فلسفية ناقدة لها بعدها المعرفي والمنهجي كونها أولًا تحاكم العقل الغربي الذكوري، وتقدم في الوقت ذاته طرحًا معرفيًا/إبستيمولوجيًا تنتقد فيه الموضوعية العلمية الزائفة، إضافة إلى إعادة قراءة تاريخ العلم من منظور نسوي، وأيضًا نقد التوظيف الأيديولوجي الغربي للعلم ذاته.
كان اهتمامي بفلسفة العلم النسوية مبكرًا، حيث نشرت أول بحث من نوعه في هذا الموضوع باللغة العربية، ونُشر في العام 2001 في مجلة كلية الآداب جامعة القاهرة، وقد ركزت في هذا البحث على نقطة مهمة وهي كيف فككت فلسفة العلم النسوية العلاقة بين هدف العلم الغربي الحديث وهو الهيمنة على الطبيعة واستغلال مواردها والدعوات السياسية إلى استعمار الدول والشعوب غير الغربية، والهيمنة على المرأة ذاتها وقهرها واستعبادها. فقد اعتقد الرجل الغربي أن الطبيعة قد وجدت لخدمته، وظن أنه سيدها، يتصرف فيها كيفما شاء، فمارس كل أشكال القمع عليها مما تسبب في تدمير الطبيعة ذاتها، وقد انعكست هذه المفاهيم على ممارسات الاضطهاد على المرأة. وهذا يفسر لماذا يوجد اتجاه في فلسفة العلم النسوية يقدم تصورًا مهما للتعامل مع البيئة الطبيعية (المذهب البيئي النسوي الذي يدعو إلي بيئة نظيفة). فقد رصد الاتجاه النسوي البيئي الآثار السيئة التي خلفها الرجل نتيجة الاستغلال الخاطئ للموارد الطبيعية والتوظيف السيئ لمنجزات التقدم العلمي والتكنولوجي. من هذه الآثار ثقب الأوزون، وأسلحة الدمار الشامل، والتلاعب بالجينات، والتلوث الكيماوي. باختصار، اتجهت فلسفة العلم النسوية إلى نقد أشكال السلطة المعرفية الغربية التي هيمنت على العقل الغربي والتي للأسف امتدت إلى ثقافتنا العربية.
محمد الصغير: ما رأيكم في وجهة النظر القائلة إن التعددية المنهجية في فلسفة العلم (أعتقد أنه عنوان أحد كتبكم القيمة) تثري التلاحق الفكري والفلسفي العربي والعالمي؟ وفي ضوء ذلك، هل من الممكن أن يستعيد العقل العربي الريادة مرة أخرى وتكون له فلسفة علم مستقلة؟
د. خالد قطب: فلسفة العلم هي خطاب حول العلم، وهي حلقة الوصل التي تسد الفجوة بين الفلسفة والعلم. أو بعبارة أخرى، فلسفة العلم هي الجسر الذي يعبر من خلاله كل من الفيلسوف والعالم، ليلتقيا معًا ويقدما أفكارًا وتصورات ومناهج ونظريات، تتضافر مع عوامل اجتماعية وثقافية أخرى، فيحدث التقدم العلمي والمجتمعي. عندئذ نتجاوز التعارض الذي يبدو للناس بين العلم والفلسفة، وبين العلم والمجتمع، وبين المجتمع والفلسفة. لهذا حاولت في هذا الكتاب أن أوضح أن حل المشكلات المعرفية والمنهجية التي تؤسس معارفنا النظرية والتي بالطبع تطبق في صورة مشروعات وتكنولوجيات تحتاج إلى تعددية في وجهات النظر، وفي المقاربات، والمناهج، عوضًا عن وجهة النظر الواحدة، أو المقاربة الواحدة، أو المنهج الواحد. تساعد التعددية كمنهج في تقديم فهم أفضل للعالم، الأمر الذي ينعكس على القرارات المصيرية التي يتخذها العلماء بشأن القضايا الكبرى التي تواجه البشرية، ويكون لها تأثيرها على المجتمع ذاته، كقضايا البيئة، والهندسة الوراثية، والقوى النووية، وغير ذلك من القضايا المهمة التي تتعلق بالإنسان، أعني ضرورة إشراك الرأي العام في القرارات التي تُتخذ بشأن هذه القضايا، بعيدًا عن وصف هذا الرأي العام بمصطلحات ازدرائية (كالعامة، والدهماء، والحس المشترك، والموقف الطبيعي) إضافة إلى تقديم هذه التعددية الكثير من الحلول المتنوعة للمشكلات والأسئلة التي تركها العلماء بلا حل أو إجابة، إما لاعتقاد العلماء أنها ليست مشكلات من الأصل، أو لظنهم أن الأسئلة المثارة من قبل الفلاسفة ليس لها معنى.
محمد الصغير: كيف تنظر إلى مستقبل فلسفة العلم في ظلِّ توجهات العولمة؟
د. خالد قطب: أصبحت العولمة واقعًا لابد من التعامل معه، وليس معنى ذلك الاستسلام إلى الخطابات الأيديولوجية المعولمة، والتي غرضها السيطرة على عقول الشعوب ومقدراتها، بل ضرورة مقاربة هذه الخطابات المعولمة وفقا لمنهج نقدي، وهذا هو الحال الآن بالنسبة إلى فلسفة علم ما بعد الاستعمار. وكما قلت من قبل أحاول أن اختار ترجمة الكتابات التي تقدم إضافة معرفية ومنهجية إلى المكتبة العربية. فقد ترجمت كتاب إبستيمولوجيات وفلسفات علم عالمية (2023)، حيث يقع هذا الكتاب في نسخته العربية المترجمة في أكثر من خمسمائة صفحة. يضم هذا الكتاب نخبة من الباحثين وفلاسفة العلم العالميين الذين يقدمون منظورات جديدة عن فلسفة العلم، تتشابك هذه المنظورات بداخلها الفلسفات الأكاديمية التقليدية المختلفة، وعلم اجتماع العلوم، ودراسات ما بعد الاستعمار، والمناهج البينية، والعبرمناهجية، وتاريخ العلم العالمي، من أجل أن تسهم هذه المنظورات في تقديم النظرة النقدية في تناول القضايا العالمية التي تثيرها المعرفة العلمية وتطبيقاتها التكنولوجية. وتأتي أهمية هذا الكتاب في إنه يتخطى الحدود الجغرافية والتخصصات المعرفية الضيقة، ويطرح تساؤلات معقدة عن العلاقة بين إنتاج المعرفة العلمية وتفاعلاتها مع نظم المعرفة المحلية والتقاليد الاجتماعية خاصة عندما أثاروا قضية طبيعة المعرفة العلمية في الجزء الجنوبي من العالم، لاسيما في إفريقيا السوداء، مؤكدين على مفهوم مهم لا بد من طرحه من دون أيديولوجيات، وهو مفهوم العالمي في إنتاج المعرفة، لا سيما المعرفة العلمية منها، أيضا تأتي أهمية هذا الكتاب من أننا نواجه اليوم مشكلات عالمية خطيرة عابرة للدول، والمؤسسات، والحكومات وتتطلب إجراءات تعاونية أبرزها التعاون المعرفي، وهذا الطرح مغاير عن تلك الطروحات التي ارتبطت في عالمنا العربي من أن إنتاج المعرفة العلمية نابع من مصدر واحد ووحيد هو الجزء الشمالي من العالم. لقد أصبحت فلسفة العلم أكثر انخراطًا في معالجة المشكلات السياسية، والاجتماعية، والحياتية المعيشة، والمشكلات الناتجة عن العلم وتطبيقاته التكنولوجية، وأيضًا أثارت فلسفة العلم في منظورها الجديد الدور الذي يمكن أن يؤديه الخبراء أو العلماء في المجتمعات الديمقراطية، وتأثير غياب هذا الدور عن المجتمعات غير الديمقراطية، وكشف أشكال السلطة التي تمارسها المؤسسات على العلم والمعرفة العلمية. أيضا إثارة ما يسمى بالأخلاق الكونية والمبادئ العليا التي ينبغي أن يلتزم بها العلماء خاصة في تطبيقات التكنولوجيا التي أصبحت أداة دمار وهلاك للبيئة الطبيعية وللبشر معًا. ومن القضايا المهمة التي أثارتها فلسفة العلم في هذا المنظور الجديد والتي لها علاقة بسؤالكم عن فلسفة العلم في ظل العولمة، هو التصدي النقدي لسيادة عولمة لا منطق لها سوى منطق السوق وسيطرة رأس المال على مجموعة من الشركات والمؤسسات الرأسمالية الهادفة للربح فحسب. والتأكيد على دور فلسفة العلم في حماية حقوق الأجيال القادمة بحماية الموارد الطبيعية المشتركة بيننا في هذا العالم. باختصار كيف يمكن أن يكون لفلسفة العلم دورًا في تفادي الاستغلال المغرض للمعرفة العلمية وتطبيقاتها التكنولوجية على كافة المستويات.
محمد الصغير: يظن كثير من أبناء الأمة العربية أنّ الفلسفة بوجه عام وفلسفة العلم بوجه خاص لا جدوى منها، فكيف ترون علاقة فلسفة العلم بالمجتمع؟
د. خالد قطب: مشكلة جدوى الفلسفة أو عدمها في المجتمعات العربية هي مشكلة مطروحة في المجتمعات غير العربية أيضًا، وإن كان طرحها هناك مختلف بعض الشيء. أتذكر عندما كنت في جامعة بريستول كان موضوع أسباب عزوف الطلاب والطالبات عن أقسام العلوم الإنسانية والاجتماعية في أقسام كليات الجامعة مطروحًا، وحضرت اجتماعًا حول كيفية جذب طلاب إلى أقسام الفلسفة هناك. وطُرحت أيضا قضية احتياجات سوق العمل وغيرها من القضايا المطروحة في واقعنا العربي المعاصر. وفي رأيي، أن عزوف الطلاب والطالبات بوجه عام عن أقسام العلوم الإنسانية والاجتماعية في جزء منه راجع إلى طريقة طرح مقررات هذه العلوم. فلايزال هناك أكاديميين يطرحون قضايا قديمة ويتعاملون معها بمناهج مستهلكة من دون أن يطلعوا على ما هو جديد في هذه العلوم والقضايا المثارة الآن على مستوى العالم، ولا أقصد هنا بالعالم هو العالم الغربي فحسب، بل في أمريكا اللاتينية، وإفريقيا، وأستراليا على سبيل المثال. أيضًا هناك بعد اجتماعي ثقافي متأصل في الوعي العربي حول عدم جدوى هذه العلوم وخاصة الفلسفة بالنسبة إلى الواقع المعيش المثقل بمشكلات اقتصادية عدة. وهناك أيضًا زعم أن هذه العلوم مخالفة لنوع معين من الدين المؤول، أو أن الفلسفة تمثل خطرًا على سياسة بعينها وهذا الذي يجعل البعض يعزف عن هذه العلوم. ولا يمكن أن نستثني فلسفة العلم من هذا المشهد. لكن فلسفة العلم لها وضع خاص في واقعنا العربي.
محمد الصغير: ماذا تعني من قولك "فلسفة العلم لها وضعها الخاص في واقعنا العربي"؟
د. خالد قطب: فلسفة العلم لم تعد تقوم بدور المتسول لقضاياها من العلم، ولم تعد خادمة له، مطيعة لمناهجه، منصاعة لتوجهاته، لكن للأسف الشديد التصور السائد الآن بين المشتغلين بفلسفة العلم في واقعنا العربي، هو أن فلسفة العلم خادمة للعلم متسولة على فضلاته، وهي نظرة موروثة من دعاة الوضعية بشقيها المنطقي والتجريبي في جامعاتنا العربية، وقد أسس لهذه النظرة الدكتور زكي نجيب محمود (مصر) والدكتور ياسين خليل (العراق) وهناك بطبيعة الحال من حاول أن يجعل فلسفة العلم مجرد إبستيمولوجيا ناقدة للمعرفة العلمية التي تنتجها العلوم أمثال الدكتور سالم يفوت (المغرب) وهناك من حاول تفريغ مضمون فلسفة العلم كونها صناعة غربية بإضفاء طابع ديني عليها (أسلمة فلسفة العلم) لم يدرك هؤلاء أن هذه النظرة السطحية تنطلق من إحساس بدونية الفلسفة بوجه عام أمام العلم؛ إذ يشعر أصحاب هذه النظرة المُحقِّرة للفلسفة إلى ضآلة الفلسفة أمام العلم، ولا يمكن الاعتداد بفلسفة إلا إذا اتصفت بصفة العلمية على غرار التصور الموضوعي الساذج الذي عبر عنه أيضا الدكتور فؤاد زكريا في كتاباته.
محمد الصغير: في أحد كتاباتكم قلت إن ثمة تحولًا مهما حدث في فلسفة العلم، وهو اهتمام فلسفة العلم بالبيولوجيا بعد أن كان جُل اهتمامها بالفيزياء، فما تفسيرك لهذا التحول؟
د. خالد قطب: أشكرك على هذا السؤال المهم، خاصة أن الكثير من الباحثين لم يدركوا هذه النقطة، وهي اتساع مجال اهتمام فلسفة العلم وتطرقها إلى مجالات أخرى، سواء تعلقت بالعلوم الطبيعية، أو بالعلوم الاجتماعية والإنسانية. فقد كانت فلسفة العلم حتى منتصف القرن العشرين تستند على الفيزياء، وطرح معظم فلاسفة العلم قضاياهم استنادًا إلى الفيزياء، وكانت مهمة المنهج العلمي هو اختزال المعارف العلمية في مجموعة قليلة من المبادئ تكون بمثابة قواعد مرشدة، وكانت مهمة العلماء هي اكتشاف الحقائق في الطبيعة، وهو التصور الذي عبرت عنه الوضعية المنطقية والتجريبية. غير أن التطورات الهائلة التي حدثت في العلوم جعلت فلسفة العلم تتجه إلى طرح أسئلة تتعلق بالتطورات التي حدثت في المفاهيم والقضايا والتغيرات التي طرأت على المجتمعات نتيجة الاستغلال الرأسمالي للتطورات التي حدثت في العلوم البيولوجية وعلوم الحاسوب. فوجدنا فلسفة العلم تتطرق لعالم الكائنات الحية الذي يضم الحيوانات، والنباتات، والبكتيريا، والفيروسات، والإنسان، وتطرح العديد من التساؤلات منها على سبيل المثال: هل عالم الكائنات الحية يحكمه قوانين حتمية أم لا تنطبق مثل هذه القوانين على هذا العالم؟ وما معنى الحياة؟ وهل الحياة عملية مادية معقدة أم أن الحياة لها أبعاد أخرى ربما تندرج تحت مبحث الميتافيزيقا؟ وهل الكائنات الحية لها طبيعة فردية أم جماعية، أو بعبارة أخرى، هل نتعامل مع الكائنات الحية بوصفها أفراد أم كجماعات؟ ناهيك عن مشكلة التطور الذي يعطي لوجودنا معنى.
محمد الصغير: هل تعني بقولك إن فلسفة العلم الجديدة أصبحت متشابكة مع العلوم الاجتماعية والإنسانية؟
د. خالد قطب: بالطبع. فلسفة العلم كما قلت هي القادرة على تجسير الفجوة المعرفية بين العلوم. ولكن واقع الأكاديميين العرب والباحثين في العلوم الإنسانية والاجتماعية يشعرون بدونية العلوم الإنسانية والاجتماعية وتفوق العلوم الطبيعية لدرجة أن البعض أرجع تأخر العلوم الإنسانية والاجتماعية إلى كونها لا تتسول من مناهج العلوم الطبيعية. أيضًا زعم بعض الباحثين أن العلوم الإنسانية والاجتماعية تعاني من مشكلة تحتاج إلى حل، وهذا الحل يوجد في المناهج المستخدمة في العلوم الطبيعية، فاستعاروا منهج القابلية للتكذيب من كارل بوبر ليكون حلًا لمشكلة العلوم الإنسانية. ولكن في رأيي أن هذه المشكلة ليست بمشكلة، أو هي مشكلة مفتعلة. ولم يجانب هؤلاء الباحثين الذين قدموا كتب عن حل مشكلة العلوم الإنسانية الصواب. تأتي أهمية فلسفة العلم التي تجاوزت هذا النقاش والحوار من أنها أكدت أن فهم المعرفة العلمية لا ينفصل عن السياقات الاجتماعية والقيم التي تشكل المجتمعات. إضافة إلى أن كل علم له برنامجه الخاص في البحث، فالعلوم الإنسانية والاجتماعية لها برنامج بحث يختلف عن برنامج البحث في العلوم الطبيعية. ما أريد التأكيد عليه هو ضرورة تجاوز هذا الشعور بتدني منهجية العلوم الإنسانية والاجتماعية وتفوق العلوم الطبيعية ومناهجها النوعية والكمية. يتجلى هذا الشعور لدى البعض عندما يلجأون إلى الإحصاءات والملاحظات، والتجارب لظواهر بشرية اجتماعية قيمية سعيًا وراء الدقة الموضوعية، وقد غاب عن هؤلاء أن الموضوعية في العلوم الطبيعية لم تعد موجودة أصلًا، بل غدت وهمًا من الأوهام، وأن تعقد الظواهر الطبيعية والبشرية جعلت فلسفة العلم تؤكد أن المناهج العابرة للتخصصات هي السبيل إلى تجاوز التحديات التي تواجهنا، نظرًا لتداخل وتشابك المعارف على اختلافها مع الخلفيات الاجتماعية، والثقافية، والتاريخية وأدوارها في عمليات الفهم، والتفسير، والتنبؤ وهي العمليات الرئيسة في العلم. ولهذا تؤكد فلسفة العلم أن المعرفة العلمية ليست معرفة منعزلة عن الحياة، بل يدخل في تشكيلها الخبرة البشرية بما تحمله من تنوع وتعدد وثراء.
محمد الصغير: ما هي مشاريعكم المستقبلية؟
د. خالد قطب: أعمل الآن على قراءة المشروع العلمي الغربي قراءة تفكيكية للوقوف على العلاقة بين العلمي، والسياسي، والديني، والتكنولوجي، في تاريخ العلم الغربي. إضافة إلى استمراري في ترجمة أعمال إشيل مبيمبي الفيلسوف الكاميروني إلى اللغة العربية والتقديم لها.
محمد الصغير: نشكر لكم تفضلكم بهذا الحوار الفلسفي الممتع.
د. خالد قطب: الشكر لك أستاذ محمد على جرأة أسئلتك ووعيك بأفكاري وكتاباتي، وهو أمر ليس بغريب عنك، وأنت واسع الاطلاع واع بالمشكلات التي تواجهنا في واقعنا العربي والعالمي.