حوار مع الدكتور محمد حبش -الجزء 2 -
فئة : حوارات
حوار مع الدكتور محمد حبش
الجزء الثاني
عبد السلام شرماط: شهدت أرض الإمارات العربية التسامح والانفتاح مع الواقع منذ تاريخ قديم، وقد عبّرتم عن هذا في مفتتح كتابكم "توام التاريخ الغائب"، كيف أثرى دخول الإسلام قيمة التسامح في هذه المدينة؟
محمد حبش: دخلتُ الإمارات عام 2012 وحصلتُ فرصة عمل في جامعة أبو ظبي، وبدأت تدريس المساقات الإسلامية في كليتي الآداب وكلية القانون، وكان كثير من محاضراتي في فرع الجامعة في العين، حيث قمت بالتدريس فيه نحو ست سنوات، الأمر الذي منحني وصالاً وقرباً بهذه الأرض الطيبة، ورأيت من الوفاء أن أتحدث عن تاريخ الإمارات بشكل خاص في مرحلة دخول الإسلام التي بدأت تحديداً من مدينة العين.
لقد حاولت أن أقدم سردية ممتعة لأيام التحول الأولى للإسلام، ومن الرائع أن التحول كان سلميّاً بالكامل، وقد تم على يد اثنين من الصحابة عمرو بن العاص، وأبو زيد الخزرجي، وتضمن الكتاب سردية ممتعة لحوارات عمرو بن العاص وجيفر وعباد ابني الجلندى، ومن المدهش أن الرسول كان يرسل إلى الملوك كتاباً واحداً، في حين أكد سائر المؤرخين وكتاب السير أنه أرسل إلى عمان كتابين اثنين إلى ملكي عمان، مما يؤكد وجود حاضرتين اثنتين في تلك الفترة من التاريخ.
وتشير الدراسة بوضوح إلى ظاهرة الانتشار السلمي للإسلام في توام، ومنها إلى كل مناطق أرض الإمارات، ويتضح كيف انعكس ذلك على الواقع السياسي والمجتمعي في القرون التالية؛ ففي حين اتخذت عمان موقفاً إباضياً معارضاً لخلافة علي وكذلك للخلافة الأموية والعباسية، فإن أهل الإمارات اختاروا سياقاً سليماً وكانوا باستمرار على وفاق مع الخلفاء، بل إن قبائل الإمارات شاركت بفعالية في الحضارة الإسلامية، وخاصة في دولة المهلب بن أبي صفرة وذريته التي استمرت قرناً ونصف وحكمت بلاد فارس وطرفاً من العراق.
كذلك، فإن الكشوف الأثرية أكدت وجود كنيستين تاريخيتين على الأقل يعودان للعصـر الإسلامي الأول، وهما كنيسة صير بني ياس، وكنيسة ساحل أم القيوين، وهذا يكشف عن روح من التسامح تحلّى بها حكام المنطقة بعد دخولهم إلى الإسلام.
وتتعين الإشارة هنا إلى الجيوش التي قدمت إلى المنطقة في سياق حروب الردة، فقد وقع قتال بالفعل على تخوم الفجيرة في بلدة دبا التي سيطر عليها خصم سياسي لجيفر، هو لقيط بن مالك، وهو أمر مؤسف بكل تأكيد، وشخصيّاً لا أبرر حروب الردة، وأميل إلى رأي عمر بن الخطاب الذي عارض الحرب طيلة عصـر أبي بكر، وأوقفها تماماً في الأسبوع الأول لحكمه، ولكن تجب الإشارة إلى أن هذا الجيش كان مكلفا بطرد الفرس من المنطقة. وبالفعل، فقد خاض حرباً ضارية ضد الفرس الذين كانوا يتجمعون في دستجرد قرب صحار، وبالفعل خرج الفرس من شرق الجزيرة العربية، وكان تحرير المنطقة من الاستعمار أحد النتائج الأساسية لدخول الإسلام إلى أرض الإمارات.
وما تجليات التسامح والتعايش اليوم في دولة الإمارات؟ وما دوره في تحقيق الهوية الوطنية؟
في الواقع، فإن روح التسامح أصيلة في الإمارات، وهو توجه رسمي للدولة الإماراتية، وهي تحتاج باستمرار لبرامج في التسامح، حيث تعتبر الإمارات وفق تقرير المجلس الاقتصادي والاجتماعي للأمم المتحدة 2019 أكثر بلد مضياف في العالم؛ ففي حين تتراوح نسبة المهاجرين إلى المواطنين على مستوى العالم 4% فإنها ترتفع في الخليج عموماً إلى 61% ولكنها تبلغ في الإمارات تحديداً 89%، وهو أعلى رقم في العالم لاستضافة مهاجرين ومقيمين وافدين، وهذا الرقم يفرض تحديات أساسية على بلد يريد العيش بنجاح وسلام، ويستضيف وافدين من 200 جنسية حول العالم، يختلفون في أديانهم وألوانهم وثقافاتهم وأعراقهم.
لقد طرحت الإمارات باقات فريدة من التسامح في العالم، حيث تستضيف أكثر من 84 كنيسة ومعبداً لغير المسلمين، كما أقامت صرح العائلة الإبراهيمية التي يتجاور فيها مسجد وكنيسة وكنيس، كما أصدرت قانوناً خاصّاً يعاقب على ازدراء الأديان، كما استضافت أول قداس لبابا الفاتيكان في البلاد الإسلامية بحضور أكثر من مائة ألف مشارك، كما أنها الدولة الإسلامية الأولى التي تستضيف معبداً هندوسياً وبوذياً وسيخياً وبهائياً، وتسهر على رعاية هذه المشاريع وزارة متخصصة منحت اسم وزارة التسامح، ومنحت صلاحيات استثنائية، وهي تعقد مؤتمرات قمة التسامح، وقد أطلقت المعهد العالي لدراسات التسامح، كما أنها تقوم بضخ مبادرات التسامح في سائر الجهات الحكومية والشعبية والأهلية في الدولة.
لقد توضحت الهوية الوطنية للإمارات في عنوانين رئيسين الإسلام والعروبة، وينص النشيد الوطني على عبارة شعبية محببة: عشت لشعب دينه الإسلام هديه القرآن، حصنتك باسم الله يا وطن.
إنني أعيش في الإمارات وأعمل كأخصائي أول في التسامح والهوية والوطنية، وقد أطلقت على الصعيد الشخصي مركزًا خاصّاً لدراسات التسامح والإخاء الإنساني، وأشعر أن البيئة حاضنة بشكل مثالي لجهود التسامح والتراحم وإعذار المختلف وتقديم نموذج متقدم عن روح التسامح والمحبة في الإسلام.
وفي سياق حماية الهوية الوطنية، فقد حصلت على ترخيص تطوعي لتأسيس فريق حماية اللغة العربية، وهو فريق حيوي يشارك فيه الآن 350 متطوعاً يعملون لحماية الهوية الوطنية واللغة العربية في الإمارات؛ ذلك أن الانفتاح والتسامح لا يجوز أن يكون على حساب الهوية الوطنية، وينبغي أن يعمل المخلصون على حماية الهوية الوطنية للبلاد، حيث هي مسؤولية مشتركة بين الدولة، وبين كل من يقيم على هذه الأرض الطيبة.
وفي ترسيخ ثقافة التسامح في الإمارات أود الإشارة إلى أمر ذي دلالة، فقد كتبت دراسة خاصة حول مصطلح “العدو” عدو الوطن وعدو الشعب وعدو الأمة وعدو الثورة، هذا المصطلح الذي تلقيناه في الدول الثورية مع حليب أمهاتنا، وتعاقبت المدارس والمساجد، والكنائس، والحكومات، والأمهات والآباء على التحذير منه، منه حتى باتت قناعة العربي في الدول الثورية أن العالم كلّه يتآمر عليه، ففي بلادي مثلاً تبداً فكرة العدو من إسرائيل بوصفها كياناً غاصباً، ثم تتبعها أمريكا بوصفها داعماً لإسرائيل، ثم أوروبا بوصفها تابعة للأمريكيين، ثم الدول العربية بوصفها متخاذلة عن نصـرة الحق العربي، ثم يبدأ اكتشاف الأعداء في الداخل، فيتم تخوين المختلف حزبياً ودينياً وسياسياً وحتى اقتصادياً، واعتبارهم جميعاً خونة متآمرين، وتصدر لوائح الترصد والاعتقال، وسيشعر المرء بأن أعداء الوطن يحيطون بالوطن من شعبه الأربع وأنهم في الداخل أكثر منهم في الخارج، وإذا كانت لديك عشـر رصاصات، فاضرب تسعا منها في رؤوس مواطنيك من الخونة ورصاصة واحدة للعدو!!!.
هذه الثقافة التي تبدو طبيعية وعادية في التعليم المدرسي والجامعي والحزبي والإعلام الحكومي والشعبي في البلاد العربية الثورية، غير موجودة على الإطلاق في الإمارات، وخلال ثلاثة عشـر عاماً مرت بي في هذا الوطن السعيد، لم أسمع من أي مسؤول حكومي كلمة “أعداء الإمارات” أو “أعداء الوطن” ولا يعيش الإماراتي هذا الجو المشحون بالكراهية لأي سبب، وهكذا تعيش الإمارات كمتحف للتعدد الديني والقومي والعرقي، ولكن الناس لا تعيش عقدة المؤامرة ولا يستعملون مصطلح العدو، ويعملون في سياق تعاون بناء يتحاوز العرق واللغة والدين، وقد منحهم هذا الموقف المتسامح صداقة شعوب الأرض، ويمكن للإماراتي أن يدخل 181 بلداً في العالم بدون فيزا، وهو أقوى جواز سفر في العالم، ولا شك أن ذلك نتيجة طبيعة لرؤية التسامح والتكامل مع شعوب العالم.
نستطيع اليوم أن نقول بلا تحفظ، إن هناك دولاً إسلامية باتت رائدة في ثقافة التسامح والتعاون الدولي ولا شك ان الإمارات هي أبرز تلك الدول.
عبد السلام شرماط: جاء كتابكم الصادر عن مؤسسة مؤمنون بلا حدود معنوناً بـ: "توام التاريخ الغائب"، ما سبب هذا التوصيف؛ التاريخ الغائب؟ هل غائب أم مغيّب؟ ولماذا؟
محمد حبش: على الرغم من العناية بمدينة العين، ولكنني فوجئت بإهمال شديد لحقبة أساسية من تاريخها، حيث يتحدث الأرشيف الوطني في الإمارات عن العصر الحجري والنحاسي والحديدي الأول والحديدي المتأخر، ولكن الأرشيف يقفز فوراً من العصـر الحديدي المتأخر حوالي 300 ق.م مباشرة إلى العصـر البرتغالي عام 1507 ميلادية.
لقد آلمني غياب فترة تاريخية مهمة لمدينة العين، ولم أجد فيها كتابات وافية، الأمر الذي دفعني إلى البحث عن المدينة الغائبة في التاريخ، وبالفعل فإنك لن تجد شيئاً باسم العين، ولكن عليك أن تبحث عن الأسماء التاريخية التي أطلقت على المنطقة. وبالفعل، فإن الاسم الذي عرفت به خلال التاريخ الإسلامي هو توام، وقد أدهشني حجم المصادر التي تحدثت عن هذه الفترة ووجدت ثلاثة عشـر مصدراً من الكتب الأمهات في التاريخ والسيرة تتحدث عن توام وكلها في القرون الهجرية الأولى.
وتوام كما يعرفها ياقوت الرومي الحاضرة الثانية في عمان، وهي حاضرة الجوف (الأحواف) وصحار حاضرة (الأسياف) البحر، وقد ربطتها بقريش رابطة الهجرة القديمة، حيث هاجر إليها سامة بن لؤي، وهو عم جد النبي قصي بن كلاب، وقد وصل سامة مع عشيرته الكبيرة إلى توام وأقام فيها، وكان علينا في الدراسة أن نبحث عن الأخبار الباقية لهذه الأسرة الكريمة، ودورها في تحول توام إلى الإسلام وكذلك في جهود بناء الحضارة الإسلامية الآتية الأمر الذي أشار إليه العلامة ابن خلدون في إشارة مهمة، وهي أن الدولة السامانية التي حكمت وسط آسيا من بخارى طيلة القرن العاشر الميلادي هي من بني سامة بن لؤي في توام.
لقد قامت حكومة الإمارات بعمل جيد، حيث أطلقت الاسم التاريخي للعين على عدد من المنشآت الحيوية في العين، حيث دوار توام ومشفى توام ومدرسة توام، وهي تحفيز جيد للعمل على إحياء هذه الفترة المهمة من تاريخ العين.
نعم، إن غياب التاريخ المدون لتوام أمر محير، حيث يتم الاعتماد كلية على المصادر الروائية للتاريخ العماني، وهي بحاجة إلى ظهير محلي. وعلى كل حال، فإن عملنا هو الإسهام في الكشف عن هذه الحقبة التاريخية ولا شك أن آخرين يعملون على ذلك، وقد نجحت في توثيق حضور توام التاريخي في ثلاثة عشـر مصدراً من الكتب الأصول في التاريخ الإسلامي، ونتمنى من الأرشيف الوطني أن يهتم بهذه الدراسة التي تؤرخ لفصل بالغ الأهمية في تاريخ المنطقة.
عبد السلام شرماط: يعد مفهوم التسامح في الثقافة العربية جانباً حاسماً من جوانب التوازن الاجتماعي وخلق بيئة ثقافية متنوعة، كما أنه شرط ضروري للدولة الحديثة والمواطنة وسيادة القانون ومبادئ التسامح والتعددية. تعد دراسة التسامح في الثقافة العربية أمرا بالغ الأهمية لفهم التحديات التي تواجه المجتمعات العربية اليوم، ما العلاقة بين الدولة والمواطنة، ومن ثم مبادئ الحرية والعدالة وسيادة القانون؟
محمد حبش: لا شك أن التسامح هو جوهر الدولة الحديثة، ومنذ معاهدة وستفاليا 1648م تغير العالم، وتوقفت الأفكار القديمة التي كانت تنص أن الناس على دين ملوكها، وتم الإعلان عن حق الإنسان في الحرية والتدين واللاتدين.
ولكن قيام تسامح حقيقي يفرض على قادة الفكر الإسلامي أن يقوموا بجهود جبارة لتصحيح ما استقر في الذهنية الشعبية من تكريس للدولة الثيولوجية وما تنتجه من تعصب وتزمت وسحق لحقوق الإنسان.
في الواقع الإسلامي يجب الاعتراف بأن كتب الفقه الإسلامي كرست حدوداً قاسية ضد المختلف في الدين، حيث فرض الفقهاء حد الردة، الذي يتم فيه قتل من ترك العقيدة الإسلامية، كما فرضوا أحكام الجهاد والجزية في حق المخالفين من الأديان الأخرى، فيما اختار الشافعية والحنابلة موقفاً أشد تعقيداً، حيث أمروا بقتل كل إنسان لا يقبل الإسلام، وقصروا الجزية فقط على أهل الكتاب من غير العرب، فلا يقبل من العربي إلا الإسلام أو السيف! ولا يقبل من غير الكتابي إلا الإسلام أو السيف.
وفي موقف أشد غرابة واستهجاناً، فإن كتب الفقه لا تزال تنص بوضوح على قتل تارك الصلاة، أو منكر ما علم من الدين بالضـرورة، وفي العام الماضي خضت جدلاً كبيراً مع أهم واعظ سوري في هذه الأيام وأكثرهم انتشاراً على يوتيوب، حيث أفرد شريطاً خاصاً تحدث فيه بوضوح وصراحة عن واجب الدولة في قتل كل تارك للصلاة!! سواء كان تركها جحوداً أو حتى كسلاً!! وحين واجهتُ هذه الفتاوى، فإنهم قذفوني بأكثر من مائة عنوان لكتب فقهية شهيرة تنص على ذلك بدون تحفظ في كتب المذاهب الأربعة!!
وكذلك، فإن الحدود الآمرة بالرجم والقطع والصلب والجلد لا تزال في كتب الفقه التعليمية كما كانت في العصور الوسطى، ولم يطرأ عليها تطور حقوقي يتناسب مع لغة العصر وروح الإسلام.
إن هذه الحقائق المرعبة لا زالت في كتب الفقه الإسلامي، ويتم تدريسها بشكل آلي دون الانتباه إلى نتائجها المدمرة على المجتمع الإسلامي نفسه قبل المجتمعات الأخرى.
وحتى لا نتهم بالمبالغة، فإن أول ما يدرسه طلبة المدراس الدينية الشافعية والحنبلية اليوم هو كتاب الأربعين النووية الذي يفتتح بحديث: أمرت أن اقتال الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوها عصموا مني دماءهم.
ومن المدهش أن الدول الإسلامية قاطبة تركت من الناحية العملية تطبيق شيء من ذلك، بل إن 54 دولة إسلامية من أصل 57 غيرت قوانينها بوضوح بمشاركة عدد من كبار فقهاء الشريعة وعلمائها، ولم يعد فيها حد الردة أو حكم الجزية أو وجوب الجهاد، ولكن الفقهاء شيء ورجال الدين شيء آخر، ولا تزال منابر رجال الدين تنكر هذا كله، وبدلاً من أن ترى في توجه الحكومات إلى هذا التطور الحقوقي استجابة لمقاصد الإسلام ف ينشر السلام والرحمة، فإنهم يرون هذا كله ردة عن الإسلام، ويكرسون منصاته للهجوم على هذا التهاون في حدود الله، ويطالبون بوسائل شعبوية متعددة بوجوب ترك هذه الأحكام الوضعية والعودة إلى الفقه القديم، وإعادة الحدود كلها بما فيها قطع السارق ورجم الزاني وقتل المرتد وصلب المحارب.
وبهذه المناسبة، فإنني حريص على التفريق بدقة بين الفقيه وبين رجل الدين، وقد شرحت ذلك في فصل من كتابي: نور يهدي لا قيد يأسر، حيث أوضحت فيه أن الفقيه هو ذلك الحقوقي البصير الضليع في الفقه والقانون، والمطلع على قوانين الأمم، والذي تكلفه الدولة بإعداد القوانين، كما هو حال فقهاء الإسلام الكبار، الذين كتبوا قوانين الدولة الإسلامية في التاريخ، من أمثال القاضي أبي يوسف والقاضي الماوردي والجويني وابن الخطيب والقاضي ابن رشد، وهم اليوم يؤدون الدور نفسه، ويكتبون للدولة دساتيرها، ويكتبون قانون المعاملات المدنية وقانون العقوبات وقوانين الأحوال الشخصية، وهي قوانين حضارية في الغالب، تنص بوضوح على مرجعية الإسلام فيها، وهي معمول بها في كل العالم الإسلامي.
أما الفقيه، فهو الواعظ المتخصص بالرواية عن الكتاب والسنة ومسؤوليته الأخلاق والتربية والعبادات والدار الآخرة وليس تشـريع القوانين، ومن غير المعقول أن يكلف الواعظون لمجرد كفاءتهم في الخطابة والصوت الحسن وحفظهم للقرآن بكتابة القوانين التي تنظم شؤون الحياة إلا إذا طوروا أنفسهم، وتحصلوا على علوم القانون من مصادرها وعرفوا قوانين الأمم والقانون الدولي.
وقد فصلت القول في هذا الأمر بالذات في كتابي الذي يصدر نهاية العام بعنوان: فقهاء لا كهنة.
نعم، إن دساتير الدول الإسلامية وقوانينها باتت قوانين حضارية، تنافس ما هو معمول به في الدول الحضارية المتقدمة، ويعمل الجميع في إطار الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، ولكن يجب القول إننا ما زلنا نعاني أمرين اثنين: الأول: هو رجال الدين من الواعظين الذين يرون هذه القوانين قوانين وضعية كافرة يجب نبذها والعودة إلى الفقه القديم، والثاني وهو والأخطر والأنكى، وهو الاستبداد الذي يكتب أجود القوانين ويقوم بأسوأ الممارسات.
عبد السلام شرماط: هل ترى في الدعوة إلى التسامح حلاًّ لمواجهة إشكالية التأخر التاريخي، على غرار رواد النهضة مثل محمد عبده وعبد الرحمن الكواكبي وغيرهم؟
محمد حبش: يجب القول إن التسامح والإخاء الإنساني ليس برنامجاً كافياً لقيام أمة؛ فالنهوض الحضاري يتطلب رؤية وقوانين ونظماً إدارية متقدمة، ولكن التسامح جزء من بناء الدولة السعيدة. إننا نعمل في هذا الحقل بهدف رفع القيود والآصار التي ألقاها التعصب على القيام الإسلامي، وبذلك فإن دور الإصلاح الديني برمته لا يرقى إلى مستوى بناء الدولة، ولكنه ضروري جدّاً لرفع العوائق التي توضع أمام برامج البناء الحقيقية.
لقد قام رواد النهضة بدور أساسي في ذلك ولا زالوا يقومون، ولكن النجاح الذي حققناه لم يبلغ شأو النجاح الذي حققته فلسفة عصر الأنوار في مواجهة التصلب الكنسي، ويبدو أننا لم نتعلم ما يكفي من التاريخ، ومن لم يتعلم من التاريخ، فهو محكوم بإعادته، وهذا بالضبط ما يحصل، وعلينا أن لا نصاب بالإحباط جراء الأثر المحدود الذي حققه الإصلاح.
لم يكن لدى الأفغاني ولا محمد عبده ولا رفاعة الطهطاوي ولا علي عبد الرازق ولا طه حسين ولا قاسم أمين برنامج نهضة، لقد كانوا فقط أصواتاً تحث على القيام، وتميط الأذى عن طريق القيام، وهذه الإرادات الطيبة تحتاج لهمم قعساء تتولى وضع برامج وطنية حقيقية للقيام، ترفعها قوى شعبية واجتماعية، في إطار دستوري لتحقيق النهضة المأمولة.
لقد قام الرواد بجهود جبارة لنشر الوعي في المجتمع، وانتبهت حكومات أساسية في العالم الإسلامي إلى مطالب النهضة، وشهد العق الأخير تغييرات مهمة في العالم الإسلامي وخاصة في أندونيسيا والسعودية وتركيا، وصار من الواضح أن المطلوب هو وعي مختلف للإسلام لا ينحبس في مناهج المدارس الدينية، بل ينفتح على العالم، بروح واعية بصيرة/ نتقبل عنهم أحسن ما عملوا ونتجاوز عن سيئاتهم.
إنها روح العصر وسنة الله في العالم، فأما الزبد، فيذهب جفاء، وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض.