محمد ممدوح: علاقة أفلاطون وأرسطو علاقة علمية وإنسانية
فئة : حوارات
سفيان البطل: من يكون دكتور محمد ممدوح؟ وما هو مساره العلمي والفلسفي؟
محمد ممدوح علي عبد المجيد: باحث مصري، وكاتب فلسفي، ولد في عام 1982م، في محافظة الدقهلية بمصر، وحصل على ماجستير الفلسفة من جامعة المنصورة عام 2009م، بتقدير ممتاز، ثم على الدكتوراه في فلسفة القانون والفلسفة اليونانية من جامعة القاهرة عام 2014م، بمرتبة الشرف الأولى، وله تسعة مؤلفات علمية منشورة، عربيًّا ومحليًّا، بالإضافة إلى ستة عشر بحثًا علميًّا، في مجلّات ومواقع علميّة محكمة، بالإضافة إلى مقالات فكرية ثابتة، في؛ جريدة الوفد المصرية، وجريدة الرؤية الإماراتية الأشهر خليجيًّا.
سفيان البطل: من خلال اهتمامكم بالفلسفة اليونانية وقضاياها؛ هل ما زالت فكرة العبقرية اليونانية حاضرة اليوم في التأريخ للفلسفة أم أن هناك طرحًا آخر؟
محمد ممدوح: هذه القضية تطرح ثلاث إشكاليات ذات قيمة؛ الأولى: الأصول الشرقية للفلسفة اليونانية، وعلى رأسها الفلسفة المصرية. والثانية: الجو السياسي الذي تمتعت به أثينا في حقبة من الزمن، لم تتجاوز، طولًا وعرضًا، حجم الثلاثمائة سنة، مرت فجرًا، فربيعًا، فشتاءً، فصيفًا وانقراضًا. والثالثة: أن تاريخ الفكر الإنساني متصل الحلقات، لا يمكن فصل مرحلة عن أخرى، ولا يمكن اقتطاع جزء من التراث الفكري الإنساني، ولكن يبقى الحضور الكامل للعبقرية اليونانية، في جهات ثلاث؛ تتمثل الأولى: في طرح الأفكار بجرأة، والثانية: في انتظام القضايا الفلسفية، ونسجها منهجيًّا ومذهبيًّا، والثالثة: في ذلك الأسلوب الفلسفي المتأدب، الذي امتازت به تلك الفلسفة، والذي يتضح بجلاء في محاورات أفلاطون.
سفيان البطل: كيف نؤسس لفكرة التأثير بين الثقافات؛ أي بين الحضارات السابقة والحضارة اليونانية؟
محمد ممدوح: يقفز إلى الذهن مباشرة، أثر الحضارة المصرية القديمة على الفلسفة اليونانية، خاصة بعد زيارة أفلاطون لمصر، وتعلمه الحساب والفلك فيها، ثم تأثر فلاسفة العصر الروماني بالفلسفة اليونانية، خاصة في مذهب "الأباثيا"، والذي ظهر جليًّا عند سينيكا، وماركوس أوريليوس، وشيشرون، وانتقال هذا التأثير إلى فلاسفة العصر الوسيط والفلسفة الإسلامية، جنباً إلى جنب، ومنهما إلى عصر التنوير، ثم العصر الحديث.
وهنا، لابد من أن نفهم جيدًا أن الفكر الفلسفي: هو ميراث بشري حُر، وملك للجميع، لذا؛ فهو يخضع للتأثير والتأثر في كافة جوانبه، من ذلك، مثلًا، فكرة العدالة؛ فالبعض يظنها وليدة يونانية محضة، مع أن أصولها شرقية بحتة، عند الملك المصري (أخناتون)، حينما نادى بالعدالة والمساواة بين جميع أبناء الجنس البشري، وأطلق صيحته الشهيرة "عالم واحد وإله واحد يحكم الجميع".
ثم انتقلت هذه الفكرة، تحديدًا، إلى سقراط، ومنه إلى أفلاطون، ومنه إلى أرسطو، ومنه إلى شيشرون، ومنه إلى فلاسفة الإسلام والعصر الوسيط، ثم العصر الحديث، ثم، أخيرًا، إلى جون رولز؛ فيلسوف العدالة الأمريكي، في تواصل فكري متسلسل الحلقات، ومبرهن تمام البرهان على اتصال الفكر البشري، وكونه إرثًا إنسانيًّا في المقام الأول من ناحية، وإلى وجود تأثير وتأثر بين الفلاسفة في الملاحمات الفكرية والإشكالات الفلسفية، من ناحية أخرى، ولكن هذا لا يعني أبدًا سيادة الحضارة اليونانية على غيرها من الحضارات، بقدر ما يعني؛ أن كل البشر ساهموا في صنع الحضارة الإنسانية، بصفة عامة، مؤثرين ومتأثرين؛ فكلّ يدخل التاريخ بمبدأ الأخذ والعطاء، وكلّ يعطي بمثل ما يأخذ.
سفيان البطل: أليس الأمر يحتاج، اليوم، إلى إعادة كتابة تاريخ الفلسفة اليونانية؟
محمد ممدوح: صيغة السؤال تأتي وكأنها توجه الإجابة في اتجاه واحد، وهو اتجاه (نعم)، وهي إجابة حق، لا يأتيها الباطل من بين يديها، ولا من خلفها، ولكن المشكلة تكمن في آلية تلك الكتابة فقط.
ما الذي يتوافق معنا، حاليًّا، في التأريخ للفلسفة اليونانية؟ الاعتكاف عليها في ثياب عصرها، أم إلباسها ثوب عصرنا؟ قراءتها في واقعها وظروفها، أم قراءة واقعنا في ضوء الفلسفة اليونانية؟ تلك هي إشكالية التأريخ الكبرى للفلسفة اليونانية؛ فليست العبرة، أبدًا، بسرد الأفكار، ولكن العبرة، كل العبرة، بالاستفادة من تلك الأفكار؛ لذلك، عندما أجد، على المستوى الشخصي، كتابًا يحمل عنوان "تاريخ الفلسفة اليونانية"، لا أعطيه اهتمامًا؛ لأن العنوان ذاته، يعني مجرد سرد للأفكار الفلسفية، وليس إعادة قراءة تلك الأفكار، على هذا المنوال، تسير كتب التأريخ للفلسفة اليونانية، ولم يشذ عنها غير المفكر المصري الدكتور (مصطفى النشار)؛ حيث وضع عنوانًا غير تقليدي في تأريخه للفلسفة اليونانية، وتناول فيه قضايا وإشكالات غير تقليدية أيضًا، وعرض لها بروح عصرنا، لا بروح العصر اليوناني؛ فجعل تلك الفلسفة قراءة للواقع، والواقع قراءة لها، في جدلية فكرية تنم عن عبقرية في التناول، كان ذلك في مؤلفه الضخم "تاريخ الفلسفة اليونانية من منظور شرقي" بأجزائه الخمسة؛ فقد كان تناولًا جديدًا كل الجدة، ورائعًا كل الروعة، وهو ما ينبغي أن نسير على منواله اليوم، وعندي فكرة قريبة من تلك الفكرة التي سبق بها أستاذنا مصطفى النشار.
سفيان البطل: كيف تشرح لنا علاقة أفلاطون وأرسطو، واختلاف التأويلات حول هذه العلاقة؟ وما هي نظرتكم الخاصة في هذا الأمر؟
محمد ممدوح: لم تكن علاقة أفلاطون بأرسطو علاقة أستاذية للأول، وتلمذة للثاني، هذا مفهوم، للأسف، مغلوط إلى حد كبير؛ لأنها كانت علاقة أقرب للندية منها للتلمذة والأستاذية؛ فلم يكن أفلاطون يبدأ دروسه في الأكاديمية، إلا بعد حضور أرسطو، فإذا حضر قال "الآن نبدأ"، وهي؛ شهادة أفلاطونية، تشهد بعمق العبقرية الأرسطية، هذا مع الأدب الجم الذى يتمتع به أرسطو مشاعريًّا تجاه أستاذه؛ حيث يعترف بأستاذية أفلاطون له، مع وضع أثر تلك الأستاذية في مؤلفات الشباب لأرسطو، لدرجة أن مؤرخي الفلسفة اليونانية، يقسمون الفلسفة الأرسطية إلى قسمين؛ مؤلفات الشباب: ذات الأثر الأفلاطوني، ومؤثرات الفيزيقيا المجردة من كل أثر لأفلاطون، ولذا؛ كان أرسطو يصدع بالقول: "أحب أفلاطون، وأحب الحق، وأوثر الحق على أفلاطون".
إذن، علاقة أفلاطون وأرسطو علاقة علمية وإنسانية، على حد سواء، علمية؛ حيث سعة أفق التلميذ. وإنسانية؛ حيث حب الأستاذ للتلميذ، واعترافه بعبقريته، مضافًا إلى ذلك؛ طبيعة الندية التى جعلت بعض المؤرخين يتوقفون عند حدود أرسطو، في العصر ما قبل الهلينستي، باعتباره نهاية للإبداع الفلسفي اليوناني الأصيل، واعتبار من جاؤوا بعده، مجرد مقلّدين لا مجددين أو مبدعين.
لذا؛ أرى أن أرسطو كان مكملًا لأفلاطون، وأن أفلاطون كان باعثًا لأرسطو، وليس مكملًا له، بمعنى؛ أن مثالية أفلاطون، خلقت واقعية أرسطو؛ فأكمل أرسطو نسق أستاذه الفلسفي، واندمجت المثالية في الواقعية، وأعطى الاثنان للفلسفة اليونانية، رونقاً ذا مذاق خاص، يبعث على احترامها وتقديرها عبر العصور كافة.
سفيان البطل: هل تعتقد أن قضايا العصر الراهن المعاش تحتاج لإعادة قراءة في الفلسفة اليونانية؟ وأيهما أجدر بتمحيص النظر، فيما يتعلق بالعالم العربى، أهو أفلاطون المثالي أم أرسطو الواقعي؟
محمد ممدوح: من لم يقرأ التاريخ ويعتبر به، فلا عقل له؛ لأنه يبدأ من حيث بدأ الآخرون، لا من حيث انتهوا، وتلك بداية الجهلاء والأغبياء، وكفى بذلك وصية القرآن الكريم بالاعتبار ممن سبقنا، في أكثر من مرة، حينما قال سبحانه: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُوْلِي الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَـكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ} لفتاً للأنظار إلى الاعتبار، وأمراً للعقول بالتدبر وحسن الإبصار، ومن ثمّ؛ فإن مشكلات عصرنا الراهن، لابد من قراءتها عبر التاريخ، بما في هذا، التاريخ الفلسفة اليونانية؛ لأن القضايا ليست جديدة كل الجدة؛ بل لها أصول سابقة، ولها جذور قديمة، من ذلك، مثلًا، قضية المواطنة؛ التي كانت آخر محطاتي البحثية منذ شهرين؛ حيث خرجت ككتاب بعنوان "المواطنة في الإسلام ومعضلاتها"؛ فهذه القضية، بكافة أبعادها وتشعباتها، ذات جذور عند اليونان، سواء بتوفير العدالة والمساواة بين المواطنين، أو باحترام آدمية العبيد، أو بإزالة الفوارق الطبقية، كل هذه الإشكالات التى ترتدي ثوب العصر الراهن، ذات ظل سابق لا يمكن محو أثره، وتاليًا، وبالقياس على تلك القضية؛ يمكننا قراءة كافة قضايا عصرنا في الفلسفة اليونانية فقط، مع مراعاة الاختلاف بين بيئتين، وبين عصرين، وبين ظرفين.
أما عن أيهما أجدر بتمحيص الرؤية عربيًّا؛ مثالية أفلاطون، أم واقعية أرسطو؟ فلا يصح أبداً التوجه في اتجاه واحد؛ بل ولا يمكن هذا، بحال من الأحوال؛ لأن فصل المثالية عن الواقعية، هو فصل للروح عن الجسد، وفصل للفيزيقي عن الميتافيزيقي، وهو فصل يفت في عضد البناء، بل لا غنى عن الاثنين في مواجهة مشكلاتنا العربية، سياسيًّا، واقتصاديًّا، واجتماعيًّا، واجتماعهما لا تنفصل عراه بين المثالية والواقعية.
على سبيل المثال؛ نلتمس المثالية من أفلاطون، في إقامة السلام الذاتي، عربيًّا، ونلتمس الواقعية من أرسطو؛ في إصراره على حكم الطبقة الوسطى، كأحد أهم دعائم وضمانات السلام، ومن مجموع الاثنين، يمكننا الوقوف على حلول لكافة مشكلاتنا العربية.
سفيان البطل: كيف تتصور العالم بدون فلسفة؟ وكيف ترى فلسفة اليوم متجاوزة للفلسفة اليونانية؟
محمد ممدوح: أولًا: العالم بدون فلسفة، كالجسد بلا عقل؛ بل وبلا روح وبلا نبض؛ لأن الفلسفة: هى سرّ التكريم ومناط التفضيل لهذا المخلوق الذي كرمه ربه، وفضّله على كثير ممن خلق، والاستغناء عن الفلسفة، كما هو حادث الآن للأسف في بعض بلداننا العربية، يُعد بمثابة انتحار للعقل، وقضاء متعمد على إنماء التفكير، ولا أتصور البلدان التي تُحرم الفلسفة، إلا بلدانًا تُصرّ على ركب التخلف والانتحار، حضاريًّا وفكريًّا، هذا على المستوى الفكري.
أما على المستوى الواقعي؛ فإن الفلسفة لم تؤثر كثيرًا على واقعنا عربيًّا، وقد سبق وأن وجهت النقد إلى الفلاسفة العرب، في مقالتين متتاليتين، الأولى: بعنوان "الفلسفة والعلم وواقعنا عربيًّا" لدى مؤسستكم الموقرة، والثانية بعنوان: "فشل الفلاسفة العرب" لدى جريدة الأهرام المصرية، وقد انتقدت دور الفلاسفة العرب حاليًّا، ولا زالت أعدهم أحد الأسباب الرئيسة في تخلفنا حضاريًّا، وفى انهيارنا قيميًّا وأخلاقيًّا، وفى ضياعنا سياسيًّا واقتصاديًّا، وفى تعجرفنا اجتماعيًّا؛ لأنهم لم يصنعوا عصرًا للتنوير العربي، مثل ما فعل فلاسفة عصر التنوير الأوروبي، ولأنهم، أيضًا؛ لم يقتحموا المصاعب والأهوال، ويدافعوا بجدية عن قضايا الأمة، مثل ما دافع سقراط عن قضية التعليم وقاده دفاعه إلى الإعدام، ومثل ما فعل فشته في دفاعه عن قضية تحرير ألمانيا ضد الاحتلال النابليوني الفرنسي، وكادت أن تقضي ثورته تلك على حياته، ومثل ما فعل سارتر، وقاد المظاهرات في الداخل الفرنسي مطالبًا باستقلال الجزائر الشقيق.
هذه أدوار واقعية للفلاسفة، وهذا دور الفلسفة الرئيس: تقديم الحلول لكافة مشكلات المجتمع، وقياسًا على ذلك؛ أين هم الفلاسفة العرب، وأين دورهم؟ للأسف، لم يتعد دورهم مجرد مشروعات فكرية، بين دفتي مؤلف أو عدة مؤلفات، تزين المكتبات دون أي مردود لها واقعيًّا.
لقد جاءت أدوار الفلاسفة العرب شبه هامشية، جاءت للإعلان عن أسماء لا مبادئ، وعن أشخاص لا قيم، وعن ذات لا آخر، ولم يهتم الفلاسفة العرب يومًا بمبدأ، بقدر ما اهتموا بصناعة اسم رنان، ولم يسعوا لبناء الآخر، كما سعوا إلى بناء الذات، ولم يعتبروا يومًا بتضحيات الفلاسفة الذين أضاؤوا السُرُج بحقّ لمجتمعاتهم؛ فقدموا الذات فداءً للآخر، ورسخوا للمبدأ، ولو على حساب الحياة ذاتها، وأحيوا أممهم على حساب حياتهم، وقدموا أرواحهم فداءً لمجتمعاتهم، وهذه النماذج، كافة، من الموكب الشريف للفلاسفة، قد قدموا أرواحهم لأجل وطنهم تارة، ولأجل الإنسانية تارة أخرى، ويحكمهم المبدأ، وتسيطر عليهم القيم في كل حركاتهم وسكناتهم؛ فلم ينظروا إلى الحياة الشخصية، ولكن نظروا إلى القيم الأخلاقية، ولم يعبؤوا بمستقبلهم، بقدر ما بحثوا في مستقبل أوطانهم، ولم يبحثوا عن غاية ذاتية، بقدر ما ضحوا لأجل غاية إنسانية؛ فخرجت أقوالهم مطابقة لأفعالهم، وأفعالهم من ذات نبع أقوالهم، دون النظر إلى أي مصير يتهدد وجودهم؛ بل أعينهم متجهة فقط إلى الحق والحقيقة، وإلى المبدأ والقيمة، وتلك، على الدوام، مهمة الفلاسفة وغايتهم؛ فمهمتهم رسم خارطة الطريق لأوطانهم على أقل تقدير، أو اتساع نظرتهم للترسيخ لقيم إنسانية ومبادئ أخلاقية، تسود الكون، وتعم البشرية، قياسًا على هذا الدور المشهود، لأولئك الصحب الكرام من الفلاسفة السابقين، علينا مواجهة الذات بمصارحة ومكاشفة، بحثًا عن دور الفلاسفة العرب المحدثين والمعاصرين، ماذا فعلوا للوطن؟ وباتساع نطاق السؤال، أيضًا، ماذا فعلوا للبشرية؟
الحقيقة التي تثير اليأس والسخط، والتي لا مفر منها؛ أن الفلاسفة العرب لم يفلحوا في تقديم أي شيء يُذكر للقومية، ولا للإنسانية.
نعم، لقد أحسنوا الصنع نظريًّا، ولكنهم فشلوا، كل الفشل، عمليًّا، وأيًّا كان سبب هذا الفشل؛ الساسة، أم الجماهير، أم هم ذاتهم، فالنتيجة واحدة، وهي: أن فشل التحقيق واقعيًّا، وفشل الانتقال من النظرية إلى التطبيق أيضًا.
مؤتمرات وندوات كثيرة، وعناوين براقة، ولكن الرحى تدور ولا طحن، لم يتعد نشاطهم حدود بضعة ندوات، ومؤتمرات، ورحلات عربية قومية، وابتسامات عريضة تملأ وجوههم، في الوقت الذي تغرق فيه أوطانهم في بحار من الدماء، واهتمام واختلافات بالغة حول المقابل المادي لكتاباتهم وأفكارهم، التي ينشرونها ككتب، أو كمقالات للصحف والمجلات العربية، في الوقت الذي تقبع فيه أوطانهم تحت حد سكين الفقر، والجهل، والمرض، والعوز، والإملاق، منتهى التناقض بين المبدأ وداعيه، ومنتهى الانتهاك لكافة القيم النظرية عمليًّا.
يبقي التساؤل الأهم، بعيداً عن التباكي واجترار الآلام: ما السبب الذى يقف وراء عجز الفلاسفة العرب عن القيام بدورهم الأتم على كافة الجبهات؟ ثم ما الحل، واقعيًّا، للارتقاء بدورهم وتفعيل مشروعاتهم على أرض الواقع؟
أما السبب فلا يتعدى أربعة أسباب؛ الأول: يتمثل في الذاتية المفرطة التى تسيطر على الفلاسفة ذاتهم؛ فهم لم يتعاونوا فيما بينهم فكريًّا برحم العلم، وبقرابة الفكر، وبمودة العقل؛ بل ساد بينهم الصراع، وكل منهم يبحث عن الزعامة، والمصالح الشخصية البحتة، دون النظر إلى المصلحة القومية، وأقصى أمنية للفيلسوف؛ هي أن تهتم المجلات والجرائد بمقالاته ونشر آرائه، ويشعر في ذاته بعظمة الجاهلية الأولى، ماذا قدمت كتاباتك أيها المفكر؟ لا شيء. ما وقعها على الأرض؟ لا شيء. هل غيرت المسير أو ساهمت في صنع المصير؟ هي مجرد كتابات خرجت بحثًا عن الشهرة من ناحية، وعن الربح من ناحية أخرى.
أما السبب الثاني: هو استمرار للسبب الأول، أيضًا؛ حيث ركون الفلاسفة إلى السلطات الحاكمة على الدوام، وتبرير أفعال السلطة بدلًا من نقدها أو تقويمها. والسبب الثالث: يتمثل في عدم وجود أية حرية فكرية تسمح بالجدلية الفكرية، التي تنمو النهضة على إثرها. والسبب الرابع: يتمثل في وجود ديكتاتوريات عربية، أو أنظمة استبدادية في بعض بلداننا العربية، تقضي على الفكر، وتستنبت العنف كبديل غير شرعي للفكر المستنير.
تلك هي الأسباب التى أفضت إلى تخلي الفلاسفة عن دورهم الحقيقي في صناعة عصر التنوير العربي، مما أفضى، في نهاية المطاف، إلى تخلف عربي على كافة المستويات، مع الأخذ في الاعتبار كون الفلاسفة مدانين في هذا الوضع؛ لأنهم بطريقة أو بأخرى تسببوا في وجوده، ولأن الحكام ما استقووا إلا بتخاذل الفلاسفة عن دورهم ورسالتهم الحقيقية، وما تراجعت أوطاننا إلا بتراجع دور الفلاسفة والفلسفة.
ما الحل، إذن؟
تلك المواجهة المصيرية للذات حبًّا لا بغضًا، ونقدًا لا نقضًا، تفرض علينا، أيضًا، وضع تصور للخروج من الأزمة، لإعادة التوازن بين الفكر والواقع، وبين الفلاسفة والجماهير، وبين المفارق والمتحيز، وبين الفيزيقي والميتافيزيقي، تصحيحًا لمسار الأمة، وصناعة لنهضة وطن.
ويبدأ الحل من ثلاثة سُبُل متوازية ومتساوية القيمة؛ الأول: يتمثل في توحيد جهود الفلاسفة، وعمل جبهة فلسفية للتحدث باسم القومية أولًا، وباسم الإنسانية ثانيًا؛ لتصحيح مسار الطريق إلى الوطن، وتلك المهمة تحتاج إلى تضافر جهود جميع الفلاسفة لأجل إتمامها، إعلاءً للمصلحة القومية على المصالح الذاتية، وللقيم الإنسانية على القيمة الشخصية. والثاني: يتمثل في منح الساسة وصناع القرار لمساحات أكبر من الحرية الفكرية، لينمو الفكر وتتحرك المياه الراكدة فلسفيًّا؛ لأن صناعة النهضة لن تولد من رحم الديكتاتورية أو الاستبداد أبدًا؛ بل هي وليدة الحرية، والشورى، والديموقراطية.
أما السبيل الثالث: فيتمثل في إعادة بناء النظم التعليمية في الوطن العربي، لتركز على بناء الإنسان؛ روحًا، وفكرًا، ونفسًا، ولتضفي القيمة المطلقة على الفكر وفعل التفلسف إجرائيًّا، ليشارك المجتمع، ككل، وفق هذه الرؤية التعليمية في صناعة حاضره، وبناء مستقبله.
تلك أهم معوقات الفلاسفة العرب عن صناعة النهضة العربية، وهاكم آليات الخروج من المأزق، بقيت فقط إرادة الفلاسفة وصدق الحكام، اللهم بلغت، اللهم فاشهد.
أما كيف تكون الفلسفة اليوم متجاوزة للفلسفة اليونانية؛ فهذا لا يتعدى طور الفارق بين عصرين، وبين ظروف سياسية وتقدم تكنولوجي، فرض واقعًا جديدًا أكثر ألمًا للبشرية.
سفيان البطل: ما العلاقة بين فلسفة القانون والفلسفة؟
محمد ممدوح: أشبه بعلاقة الأم بالابن؛ ففلسفة القانون: هي أحد فروع الفلسفة التطبيقية التي اتجهت إليها الأنظار مؤخرًا؛ حيث سعة الرؤية للإنسان، بما هو موجود، لا بما هو مفارق، بالنظرة إلى حياته الواقعية، لا تصوراته المثالية، وقد انتشرت فلسفة القانون في الوطن العربي إلى حد كبير، ولكنها لا زالت تعاني صعوبات أكاديمية في مصر، كفى بها دليلًا على أنه لا يوجد، حتى الآن، سوى متخصص واحد في هذا الفرع، وهو ما يؤكد عدم الجدية لدى المختصين، والوعي لدى المسؤولين بأهمية هذا الفرع من فروع الفلسفة، لا باعتبار الفلسفة أمًّا للعلوم، ولكن على الأقل باعتبار فلسفة القانون ابنة شرعية للفلسفة؛ فالعالم كله اليوم في مسيس الحاجة إلى فلسفة القانون، لا تفعيلًا لدراستها وبحثها فقط؛ بل وتفعيلًا لمضامينها وإشكالاتها الحقيقية، والتي تمثل محور اهتمام العامة والخاصة على حد سواء، مثل قضايا العدالة وقوة القانون؛ قانون الأقوى، وإلزامية النص، أم إلزامية الروح، وضعف العدالة، وسرعة التقاضي، ووضع الخصوم أمام القضاء، والصفات التي ينبغي توافرها في القاضي وأخلاقيات التقاضي.
كل هذه الإشكالات، مما تتناولها فلسفة القانون، وتحاول تقديم إجابات وحلول لها، في إطار علمي فلسفي، ونسقي اجتماعي، وكفى بتلك القضايا، التي تبحثها فلسفة القانون، وتنال اهتمام العامة والخاصة، دليلًا على مدى أهمية هذا الفرع الفلسفي الهام.
سفيان البطل: ألا تختلف نظرة القانوني إلى العدالة عن نظرة الفيلسوف؟
محمد ممدوح: يوجد، قطعًا، بون شاسع بين رؤية القانوني للعدالة، ورؤية الفيلسوف، وذلك من وجوه متعددة؛ لعل أبرزها: أن القانوني يراها جزئية، في حين يراها الفيلسوف كلية، ويتعامل معها القانوني قطعة قطعة، وقضية قضية، في حين يتعامل معها الفيلسوف كمبدأ عام؛ فالقانون لدى الفيلسوف كحدّ السيف، أما لدى القانوني؛ فمتعرج بدون ملامح ثابتة.
الفيلسوف يطمح إلى العدالة، ويضع لها أطرًا وآليات، دون وجود أدنى هدف للربح، أما القانوني؛ ففضلًا عن أنه يتكسب من مهنته، إلا أنه عاجز، بعض الشيء، عن إدراك عقل الفيلسوف في رؤيته للعدالة، وعن إلمامه بقضية روح القانون، تلك التي يبدع فيها الفيلسوف أيّما إبداع.
سفيان البطل: كيف تلقّى المسلمون الموروث اليوناني الأفلاطوني؟
محمد ممدوح: لاشك أن علاقة التأثير والتأثر بين الأفكار والفلسفات والحضارات؛ هي التي تسيطر على جدلية التاريخ الإنساني؛ فالعلاقة بين الأفكار الفلسفية حاضرة على كل جانب، ولكن بنسب متفاوتة، بمعنى؛ قد تجد صدى واسعًا للمثالية الأفلاطونية عبر محاورة الجمهورية في الفلسفة الإسلامية عند الفارابي؛ فالذي يفصل الفارابي عن أفلاطون، الإسلام والاستشهاد بالقرآن الكريم، فقط، وكذا تجد فكرة صفات الإله، التى تحدث عنها أفلاطون، حاضرة بقوة عند إخوان الصفا، ولكن، أيضًا، لا ننس النقد الإسلامي لفلسفة أفلاطون وأرسطو، خاصة، وللفلسفة بوجه عام، ولعل زعيم هذا النقد، هو: الإمام الغزالي في قضاياه الشهيرة التي ناقشها في كتابه "تهافت الفلاسفة"، وتزعم فيلسوف قرطبة "ابن رشد" للرد عليه في كتابه "تهافت التهافت"؛ فهي جدلية لا تنقضي أبدًا، ولكن يبقى أفلاطون حاضراً بقوة في الفلسفة الإسلامية.
سفيان البطل: هل يمكن أن نعتبر أن أنظمة الحكم، كما أوردها أفلاطون، حاضرة في المدونة السياسية في تاريخ الإسلام؟
محمد ممدوح: هذا السؤال ذو شقين؛ الأول: يمكن الإجابة عنه بالرفض، على اعتبار أن المثال السياسي الذي عاش أفلاطون ومات لأجله، هو: الحاكم الفيلسوف، أو ما يسمى (نموذج استبداد العقل)، وهو غير وارد في الأنظمة السياسية عند المسلمين؛ لأنهم، أقصد المسلمين، قد يذعنون لحكم الفرد، ولكن ليس عن طريق الفلسفة؛ بل عبر مسميات أخرى؛ كالطغيان، أو الاستبداد، أو الغلبة، أوالقوة، أو القهر، أو عبر الصندوق الانتخابي في صورة الديموقراطية، وهو ما يتنافى مع صورة استبداد العقل لدى أفلاطون.
أما الشق الثاني: فيمكن الإجابة عنه بالقبول؛ لأن دولة القانون، التي يرسخ لها أفلاطون في محاورة (القوانين)، مترسخة فكريًّا في الأنظمة السياسية العربية والإسلامية، والتقسيم السداسي للأنظمة السياسية عند أفلاطون، هو نفسه عند ابن رشد، وابن سينا، وبعض فلاسفة الإسلام الآخرين، كما أننا نرى تحقيق بعض هذه الأنظمة واقعيًّا؛ فأفلاطون من كافة الزوايا حاضر إسلاميًّا، على المستويين الفكري والواقعي.
سفيان البطل: لماذا لم يحضر أفلاطون عند العرب كما حضر أرسطو؟ هل الأمر يعود لأسباب سياسية أم لاعتبارات فلسفية؟
محمد ممدوح: محاولة إنكار وجود أفلاطون عربيًّا، محاولة يائسة من كل الوجوه، نعم أفلاطون حضر مسيحيًّا وسيطيًّا أكثر منه عربيًّا؛ فقد رأينا القديس أوغسطين متأثرًا به، ومطلقًا عليه لقب "القديس"، وتوما الأكويني كان يعتبره "نبيًّا"، ولكن هذا لا ينفي وجوده عربيًّا، على أقل تقدير فلسفيًّا، ويكفي للتدليل على ذلك؛ أن الحرية الفكرية التي تمتع بها أفلاطون في مشروع جمهوريته، هى ذاتها الروح التي تمتع بها فلاسفة العرب المحدثين؛ الجابري، وطه عبد الرحمن، ومصطفى النشار، وكفى بهذا دليلاً على حضوره عربيًّا، بدرجة تقترب من الوجود الأرسطي، ولكن تفوق الحضور الأرسطي على الحضور الأفلاطوني، عربيًّا، يرجع، في ظني، إلى تأثر العرب بواقعية أرسطو وعلميته، أكثر من مثالية أفلاطون وطوباويته.
سفيان البطل: ما هي مشاريعكم القادمة؟
محمد ممدوح: أسعى، إن شاء الله، إلى الترسيخ لفلسفة القانون، في قضاياها وإشكالاتها المتشبعة، عبر عدة مؤلفات، بدأت أولها منذ عام تقريبًا؛ بكتاب "مدخل إلى فلسفة القانون"، بالاشتراك مع المفكر العربي الدكتور (مصطفى النشار)، وسأتبعه بعدة مؤلفات، بإذن الله، في ذات الإطار، منفردًا تارة، ومشتركًا مع المفكر العربي الخلوق الدكتور أيمن شندي؛ أستاذ الفلسفة في جامعة جنوب الوادي في مصر، وأتمنى التوفيق في تلك المهمة العسيرة.