حوار مع الروائية السودانية آن الصافي
فئة : حوارات
حوار مع الروائية السودانية آن الصافي[1]
حاورها: عبدالله المتقي
ترى الكاتبة السودانية آن الصافي أنه كلما توانينا عن دراسة تاريخنا، كلما أسهمنا في زيادة الفوضى، التي تلم بحاضرنا، وبكل تأكيد سيزيد الوضع سوءاً لمن سيأتون بعدنا، وتقول إنه إذا لم ننظر للإبداع على أنه سبيل للإسهام في نهضة الفرد والمجتمع، فإننا سنعزل أنفسنا ومجتمعاتنا خارج خارطة الزمن، وسنحرم من التطور وإدراك ما فاتنا.
وتضيف الكاتبة السودانية المقيمة بأبو ظبي، أن الإبداع هو طريقنا للتغيير نحو الأفضل، وإنقاذ ما يمكن إنقاذه، شريطة أن يتم تقديم الجيد والمتنوع والممتع للقارئ، والاهتمام بكل الفئات العمرية ومتطلباتها وموافقة عقلياتها، خاصة الناشئة، وذوي الاحتياجات الخاصة، مشيرة إلى أنه لو استلهمنا من تراثنا الراقي والمتنوع من تمازجه أفضل المواضيع وطرائق التعبير، فيمكن أن نحدث طفرة حقيقية في المشهد الثقافي والاجتماعي باهتمامنا بهذه الفئات العمرية، وتشجيعها على الإنتاج الإبداعي، ودعمها بكل السبل المتاحة عبر المناهج التعليمية والأنشطة الثقافية.
وتوضح الكاتبة، التي لا تركن إلى عوالم مستهلكة أو مستوردة وتحفر في صخرة السرد لتتفرد بأسلوبها السردي، أنها تكتب منذ سنوات عدة، وحينما قررت نشر كتاباتها وضعت كتابة سردية مبتكرة أسمتها "الكتابة للمستقبل"، رغبت من خلالها الإسهام بما يترك بصمة في مسار السرد العربي، ويعبر عن هذه الحقبة من التاريخ الإنساني، حيث تحورات وتحولات طالت حياة الفرد والمجتمع.
وآن الصافي، شاعرة وقاصة وروائية سودانية مقيمة في أبو ظبي بدولة الإمارات العربية المتحدة، متحصلة على بكالوريوس هندسة الكمبيوتر، إعلامية، محاضرة ومُدربة في مجال الإدارة والتطوير المهني الاحترافي، من خريجي أكاديمية الشعر بأبو ظبي، الدفعة الخامسة، منسقة ثقافية في اتحاد كتاب وأدباء الإمارات/ فرع أبو ظبي، وعضو في مؤسسة بحر الثقافة بمدينة أبوظبي. تكتب بطريقتها كي تقبض على معاني الواقع الماثل، قارئة نهمة، وتجربة متميزة وباحثة عن مد الجسور بين كل الحقول المعرفية، أصدرت لحد الساعة ست روايات، هي: "فُلك الغواية" 2014، و"جميل نادوند" 2014، و"توالي" 2015، و"قافية الراوي" 2015، و"كما روح" 2016، ثم "إنه هو" 2017، إضافة إلى كتاب فكري ثقافي يحمل عنوان "الكتابة للمستقبل" 2015، سيصدر منه الجزء الثاني خلال هذا العام 2017، ولها قيد الطبع ديوان شعري.
عبدالله المتقي: يقول الشيطان لـ"فاوست": "انتبه ... إن أخطر ما صنع الإنسان هي الكلمات، ما مدى صحة هذه المقولة، ولتكن البداية كلماتك في روايتك الأخيرة: "كما روح"؟
آن الصافي: الكلمة لها أثر على الكاتب والمتلقي، المتلقي في أي وقت وفي أي مكان؛ عبر إيصال الفكرة بالكلمة قد تبني حضارة وقد تهدم حضارة. يفنى الإنسان ويترك أثره؛ التعبير الإبداعي ليس مجرد رمز لما يجول في وجدان المبدع، بل روح تحمل سمات، من المفترض أنها أسمى ما وصل إليه الحس الإنساني عبر حضارة شهدت تواجده. نعم، تتراكم آثار الحضارات ولا يخلد إلا المنتج الإبداعي الأكثر عمقاً وجمالاً وأصالة.
ونحن الآن في العقد الثاني من الألفية الثالثة بإقليمنا العربي، إن لم ننظر للإبداع على أنه سبيل للإسهام في نهضة الفرد والمجتمع ببساطة، لعزلنا أنفسنا ومجتمعاتنا خارج خارطة الزمن، وحرمنا من التطور وإدراك ما فاتنا، نبذاً للجهل والتطرف بأسلوب يحتفي بأفضل ما وصلنا من موروثات، من خلال التنوع الثقافي الذي يميزنا، ونبذ كل ما يفرقنا. الحرف كرسمة أو صورة أو صخر المنحوت يجسم شكلاً ما، كل هذا وأكثر له فعله في واقع حياتنا، إما أن يزيدها جمالاً أو قبحاً. إن كانت الكتابة بدون هدف أو رسالة لا تضيف لرصيد المبدع ومجتمعه، فما قيمة منجزه لمسيرة الإبداع؟ نحن في حقبة مهمة يلزمنا استثمار كل الطاقات المتاحة لتصب في خير الفرد والمجتمع بحيادية وسمو إنساني، إن لم نفعل فقدنا ثروات حقيقية تكمن في الإبداع.
عبدالله المتقي: لا يخلو أي نص إبداعي من نصوص حاضنة، فما النصوص الغائبة التي ترددت في الذاكرة، قبل وأثناء كتابة "كما روح"؟
آن الصافي: رواية "كما روح" لخصت قراءاتي لبعض التجارب والمشاهدات وما وصلنا من تراكمات ثقافية تحت بند (أسطورة). لم ابتدع الإنسان الأسطورة وما مدى أثر ذلك في حياته؟ ماذا فعلت بنا الأسطورة وماذا فعلنا بها؟ هل نحن بحاجة للأسطورة؟ كلما قرأنا شعرنا بقيمة التعمق في تاريخنا وموازنة ذلك مع معطيات واقعنا عبر أدوات موضوعية وعلمية تجعلنا أكثر وعياً بما نحن فيه. تحليلات ما مضى وأثره في حاضرنا، وإلى أين نحن ماضون. هناك خيط يجمع الواقع/الحاضر بالماضي كنتيجة لما قدم بالأمس، وبالتالي سيكون المستقبل حاملاً لنتائج ما هو ضمن معطيات اليوم/الحاضر. التحليل العلمي والبحث الموضوعي سيثمر الكثير لنرى صورنا الحقيقية وما علينا أن نقبل عليه. تكرار الأخطاء لن يقدم سوى المزيد من الأخطاء. كلما توانينا عن دراسة تاريخنا أسهمنا في زيادة الفوضى التي تلم بحاضرنا وبكل تأكيد سيزيد الوضع سوءاً لمن سيأتون بعدنا.
عبدالله المتقي: كيف قبضت على الجملة الأولى متلبسة في "فُلك الغواية"، وماذا عن اتقاد شعلتها الأولى؟
آن الصافي: في الوقت الراهن، نجد أن التجربة الإنسانية أمام معطيات ما توفرت سابقاً، منها سرعة التغيير في مناحي الحياة وما يترتب على ذلك من مسائل جوهرية وفرعية، تمس الذات الإنسانية، وهي تشق طريقها نحو القادم، فتنتقل بين الأمكنة والأزمنة والواقع والخيال، لنجدنا أمام أمر حتمي وهو تشظي هذه الذات في فضاءات تخصها، تنقلنا معها للاكتشاف والتفكير العميق في استفهامات وجودية، لتنسج مسارها وتستقرئ معطيات الحياة، وما خلفها بين النجاح والفشل والممكن وغير الممكن. فُلك الغواية أتت بهذه العوالم في إطار الغربة والهوية والحياة المادية، وشخصية محورية تخبرنا ماهية فُلك الغواية، من خلال تجربتها وخطوات حياتها في قالب سردي (تجريبي) إن جاز التعبير.
عبدالله المتقي: من أي مشتل جئت بهذه العتبة "جميل نادوند"، وما حكاية هذه المفارقة "قافية الراوي"؟
آن الصافي: "جميل نادوند"، رواية لكل الأعمار، وهدفي أن تكون في متناول الناشئة. هذه الفئة العمرية التي ظُلمت في الأدب العربي، ولم تأخذ حقها من الاهتمام، ففقدنا الكثيرين من المنتمين لأجيال الناشئة حقبة تلو حقبة، لنجدهم يقرؤون أدب الثقافات الأخرى التي درست عقليتهم وغذتها بما شاءت. بين المواضيع التي تتناول ما يهمهم، وأسلوب سرد يعتمد على الإدهاش والتنوع والخيال العلمي وشيء من الموضوعية في تحليل المشاهد الاجتماعية. "جميل نادوند" تعرض قضية طفل تعرض لنوع من الإعاقة، التقى في مرحلة مفصلية من حياته بآخرين فجمعتهم هوايات مشتركة. عوالم الناشئ جميلة تعرض مشكلات فئة المعاقين/ ذوي الاحتياجات الخاصة، والأيتام ومن ليس لهم من يرعاهم في مجتمع يركن للمادة، وهم من عوالم نقية يجمعها الحس الإنساني عبر الإبداع، فيما تتناول رواية "قافية الراوي" قضية الهوية والهجرة. هذه الرواية، من الممكن أن تعتبر تشريحا وتعمقا في عوالم العصر الراهن من خلال الشخصيات المحورية. في كل أعمالي أعتمد على تناول الذات، والتقرب من تفاصيلها، والتعمق في ماهيتها، وما تحمله، وما تعكسه في تواصلها مع من حولها.
عبدالله المتقي: "أكتب لأن العالم ليس مكانا مثاليا، ونحن لا نتصرف بشكل مثالي"، هذا ما قالته "تيري ماكميلان" لمجلة الكاتب، وآن الصافي لماذا تكتب؟
آن الصافي: بين الأدب والفن والعلم والحياة والتنوع الثقافي، وجدتني أمام بيئة خصبة وافقت هاجس أفكار تدور بخلدي، كان علي أن أضعها على الورق أمامي لأخاطبني بصوت جهور لأوصل نقاط أراها بذهني وهذه العوالم التي نحيا. أكتب منذ سنوات عدة، وحين قررت أن أنشر كتاباتي وضعت أهدافي عبر مشروع كتابة سردية ابتكرته وأسميته "الكتابة للمستقبل"، آملة أن أسهم بما يترك بصمة في مسار السرد العربي، ويعبر عن هذه الحقبة من التاريخ الإنساني، حيث تحورات وتحولات طالت حياة الفرد والمجتمع. لم الكتابة للمستقبل؟ الكتابة فعل يحدث منذ أن عرف الإنسان وسيلة للتعبير عما يدور في ذهنه عبر رسمة، ومن ثم حرف وصورة. الكتابة للمستقبل تتناول قضايا الإنسان الآن، واضعة في الحسبان ما أتت به الحضارة الحالية على عقلية الكاتب والمتلقي، ومسار الحياة الحالية. سيأتي المستقبل بمبدعيه وكتابه بدون شك، ولكن الآن، هل لنا أن نستمر بذات أسلوب الكتابة التي انتهجت قبل عقود سابقة دون الأخذ بالاعتبار أن العصر الحالي أتى بالتقنية والاتصالات والتواصل وثروة المعلومات والمعرفة وما قدموا من أمور جديدة أثرت في حياتنا وطريقة تفكيرنا؟ إذا لم نكتب للأجيال الحالية والقادمة محترمين عقلية المتلقي، فلم ولمن نكتب؟ّ! أية إجابة ترفض هذا المنطق، فهي تدور في حلقة مفرغة تنحي الفرد والمجتمع من التطور والترقي الإنساني.
عبدالله المتقي: ما الكتابة التي تقدم لك لذة حقيقية، الكتابة الأولى أم الكتابة الثانية؟ ومن هو القارئ الأول لرواياتك بعد التمحيص والتصحيح؟
آن الصافي: الكتابة السردية أو حتى كتابة الأوراق الفكرية الثقافية متى بدأت كتابتها، أنجزها خطوة بخطوة، حتى تكتمل. الكتابة بهذا التسلسل رحلة استكشاف وحوار شهي، يحمل لذته بتصاعد من مشهد لآخر. عادة أرسل النص بعد الانتهاء منه إلى عدد من معارفي، ولهم عادة خلفيات ثقافية مختلفة. أتعمد أن أحذف مشهد/مشاهد في بعض النسخ، وذلك كما في مختبر أنتظر النتائج لتأثير هذه المشاهد وتلقي كل ذائقة وثقافة من خلال آراء أفراد مجموعة القراء هذه. أدون الملاحظات التي تأتيني منهم، فأعود إلى النص، وعادة لا آخذ بالآراء التقليدية، وأكتفي بما أتيت به من جديد في كل نص ويوافق الفكرة التي أومن بها. الآراء التي أدونها فقط آخذ بها لتوضيح نقطة في مشهد، خاصة وأنني أتعمد التكثيف في اللغة. وبعد النشر أول نسخة تذهب ليد والدتي حفظها الله.
عبدالله المتقي: أعتقد أنه، لابد وأن أسألك عن الرواية السودانية بصيغة المؤنث، فما هو وضعها؟
آن الصافي: شهد المشهد الثقافي العربي خلال العقد الأخير عددا كبيرا من الإصدارات والأسماء الجديدة، وهذه ظاهرة جميلة، ولكننا نتطلع إلى الجودة والتنوع فيما يعتلي رفوف المكتبات. أسهمت المسابقات واستخدام التقنيات الحديثة في التواصل وتوفر القنوات الإعلامية والصحفية في الكتابة، وتنشيط عالم الطباعة والنشر. الإنتاج الإبداعي ينظر إليه كعمل إنساني سامي لا يركن إلى أي تمييز كان، أي لا عرقية ولا جندرية!
يمتاز الوطن العربي بالتنوع الثقافي وجمال اللغة، وكذلك وجود عقول إبداعية مميزة، بالإضافة إلى توفر كنوز تراثية خصبة، والطبيعة الغنية بالجمال والتنوع. كل هذا من الممكن أن يقدم نتاجا إبداعيا يحدث نقلة محلية وعالمية في مجال الأدب والفنون، لو فقط آمنا بأن هذا الثراء موجود لدينا وما علينا سوى الإيمان بجدوى العمل بموضوعية، وسعي هادف للنهوض بالأدب والثقافة، وبكل تأكيد سيجني الفرد والمجتمع نهضة حقيقية للأفضل. في إحدى أوراق "الكتابة للمستقبل" تناولت موضوع الاحتفاء بأدب الأقليات، على سبيل المثال في وطننا العربي، فلو فعلنا ذلك سنجني متعة وجماليات جديدة من الممكن جداً أن تسهم في تطور السرد ليس محلياً فقط، بل عالمياً. أومن بأن هذا الأمر ينطبق على السودان وجميع الدول العربية. يوجد حراك طيب في السودان وهناك أقلام واعدة ستحدث بصمة على المدى القريب والبعيد بمشيئة الله، لتميزها بنكهة تشبه التنوع الثقافي هناك، وكذلك خصوصية الطبيعة ونتاج حضارات ضاربة في القدم نستشفها في آداب وفنون السودان وحده.
عبدالله المتقي: هل كتابة التخييل لديك تحتاج إلى عادات وطقوس معينة، من حيث الزمان والمكان ..أم إنك تكتبين وكفى؟
آن الصافي: أكتب متى ما شعرت بذلك النداء الخفي، فتتملكني نشوة التعبير عبر الحرف. حلم أو خيال أو إحساس ينسج بواكير العمل، ويسير معي بشخوصه وأتعايش معهم، نتحدث كثيراً عن التدرج في الأحداث وتحليل كل موقف وتشريح نفسية وعقلية كل شخصية. أضع العنوان وفي قرارتي نية الكتابة، وهناك فكرة راسخة وواضحة عن العمل، ومن تم تتشكل معالم النص مع كل حرف أكتب. هناك دائماً عمل متواصل من حيث الاطلاع والقراءة في شتى مجالات العلوم الإنسانية ومواكبة الفن السابع، وحقول الإبداع بأنواعها؛ أي أن هناك جرعات اطلاع وبحث متواصلة والكتابة لها نصيب بشكل منتظم ما أمكن.
عبدالله المتقي: يبدو الحلم بارزا في روايتيك: "فلك الغواية"، و"قافية الراوي"، فهل كان لديك وعي به وأنت تكتبين؟
آن الصافي: في عصر نتعاطى فيه تطبيقات التواصل والهواتف الذكية، وانفتاح العالم أمامنا عبر القنوات الإعلامية والصحفية، وإمكانية السفر والتنقل توفرت وبكل يسر، والتعايش مع ثقافات متنوعة في ذات المكان، كسر جمود الزمن والمكان أصبح ممكنا جداً عبر تواصلنا مع من نعرف ومن نجهل عبر أدوات جديدة ما تيسرت إلا في الوقت الراهن. أناس يعيشون في توقيتات متباينة وأمكنة مختلفة ما علينا سوى أن نراهم ونسمعهم ونحدثهم إلا من خلال شاشة وهاتف. ألا يؤثر هذا كله في عقل الإنسان وتعاطيه للمواقف مع ذاته ومن حوله؟ المزج بين الحلم والواقع حدث في السرد سابقاً وليس بأمر جديد، ومع ذلك نجد بأن تسليمنا في الوقت الراهن لهذه الآلية في الكتابة السردية بعين جديدة أمر محتوم، حيث نعتمد على فكرة النص وخدمة الحلم/الخيال للنص. كلمة واقع هناك في حد ذاتها تتباين من شخص لآخر، سواء كاتبا أو متلقيا. هذا الواقع قد يكون للكاتب أو آخرين وله صلة بما لديهم من هموم وأفكار، الغوص في سحر الخيال عبر الواقع ووضعه في نص أمر جداً وارد ومحتمل، ويعتمد على ثقافة الكاتب وتوظيفه لأدواته لإيصال أفكاره. في "فُلك الغواية" المتنفس الوحيد للشخصية المحورية كان هو الخيال والحلم، نعم الوهم أكثر من الواقع. حال الإنسان في عصر التغريب والمادة. ما عاد هناك مفر، سوى مواجهة قسوة الحياة بكل الأدوات الممكنة، حتى وإن كانت من نسج الخيال للاستمرار بأقل الخسائر الممكنة، وعدم الاستسلام، وفي ذلك ترجمة لـ "فُلك الغواية". وفي "قافية الراوي" عين الحياة المادية هي بؤرة العمل التي نسجت حولها الشخوص والمشاهد والحوارات. للخيال والحلم دور كبير هنا للنجاة بالإنسان وقيمه وأمنياته، ليحققها بالرغم من الصراعات وويلات الإحساس بالغربة والمهجر ومسألة الهوية. إذن تشظي الذات والعمل بالخيال والحلم مع معطيات الواقع، لنسج النص نتاج الحياة العصرية جداً التي نحياها اليوم، لأجيب عن السؤال بنعم أم لا، حتماً (لا).
عبدالله المتقي: سرودك الروائية قريبة من الحداثة الجديدة، تتأنقين في تأثيثها والاعتناء بها، بدلا عن الفوضى واللانظام وما بعد الحداثة، ما تعليقك؟
آن الصافي: للحقيقة، بعض النقاد أدرجوا كتاباتي تحت تصنيف (ما بعد بعد الحداثة Post-postmodernism)، ومع احترامي لكل من كتب ويكتب ومن يقوم بالنقد، أجدني أعبر عن أفكاري دون التقيد بنظريات أو آراء. الرواية بشكلها المعروف أتت إلى إقليمنا العربي بشكل منتج مستورد؛ أي أن الترجمة ومحاكاة الكتاب الأجانب الذين سبقوا، كان أمرا شائعا في إقليمنا العربي. هناك من حاول التغيير وتعريب النص، ولكن بقيت أجواء أدوات السرد في الغالب كما هي. أنا أنتمي لجيل عاصر نقلة استخدام الهاتف الثابت إلى الهاتف الذكي، وتطبيقاته التي ألغت حواجز الزمان والمكان، التي كانت سائدة قبلاً. أجدني حيث الثورة المعرفية وما أحدثته من صناعات جديدة من قنوات فضائية، وتواصل السيد مارك زوكربيج، مالك الفاسبوك، مع رواد الفضاء عبر صفحته في مركزهم في مكان ما من الكون الشاسع. حين أحرك هاتفي عند صورة مكتبه بصفحته أستطيع أن أرى تفاصيل أثاثه وتفاصيله بتقنية 360 درجة تصوير، وبذات التقنية أرى مدنا ما زرتها قبلاً وعلى نطاق الـ 24 ساعة و7 أيام في الأسبوع. عبر تقنيات التواصل نشأ عالم افتراضي جمع الإنسان مع من يعرف ولا يعرف، وحدثت أنواع من التقاربات ما عرفتها البشرية قبلاً، من إحساس بمشكلات مجتمع ما من الكرة الأرضية والتعاطف معهم. نعم، ما عاصرت وجيلي مرحلة استعمار بلادنا العربية ولا تحررها من نير ذلك المستعمر، وليس من المنطق أن ننغلق على تلك الحقبة للأبد في بكائيات متواصلة، أنتمي لجيل يدرك ويحلل بحيادية ما كان، ولا نبني حاضرنا بعقد وأخطاء من كانوا. أنتمي لجيل يؤمن بالقيم والمثل كما يؤمن بالعلم ومعطياته الهادفة. أومن وجيلي بالتحليل الموضوعي نؤمن بأن الإنسان هو الإنسان لا فروقات قبلية أو لونية أو جندرية تحد من فهمنا لمشكلاتنا وتقييمها. نعتز ببعضنا البعض ونفهم معطيات مجتمعاتنا فقط نصبو لنعبر عن أنفسنا من خلال الإبداع والتواصل الهادف الذي يقدم الأفضل للفرد والمجتمع. فليسمّ نتاج ما نقدمه بأيّ مسمّى لا فرق، المهم نحن نعبر بلغة الضاد بوعي لأهمية ثقافاتنا وقيمنا، ونوازن ذلك ومعطيات العصر الحالي بكل موضوعية.
عبدالله المتقي: ما قصة هذا الزواج الأبيض بين العلمي والمتخيل في مجموع أعمالك الروائية؟
آن الصافي: تخصصي الأكاديمي هو هندسة الإلكترونيات والكمبيوتر، وأمن المعلومات، والتنمية البشرية، والتسويق والإدارة. بغرض الدراسة والعمل تنقلت بين عدة دول عربية وأجنبية. أقيم بمدينة أبوظبي، حيث ترعرعت هنا في هذه المنطقة من العالم التي أحدث البترول طفرة اقتصادية هائلة بها وفي زمن وجيز. هنا تماماً مدن حاوية للتنوع الثقافي والتعايش تحت قوانين تمنع التمييز عبر إتاحة فرص العمل لأكثر من 200 جنسية معاً. المؤتمرات والمهرجانات والسياحة كلها أسباب أتاحت لي فرصا جيدة للنهل والتعلم والتبادل الثقافي والمعرفي. عدا ذلك دور الأسرة في تكويني أن يكون لي قرار في كل شأن وتحمل المسؤولية كإنسان له كامل الحقوق في الاختيار، وكوني فتاة كانت دائماً ميزة أو صفة إيجابية. الثقافة والأدب طبق يومي في حواراتي منذ الصغر مع والدي ووالدتي، حيث شغفي بمعرفة المزيد عن الوطن الأم ونحن في البعد. من خلال كل هذه المعطيات، وجدتني دوماً مع الكتاب والاطلاع في صداقة متينة بين تحليل وتعمق في معطيات الماضي والحاضر والقريب والبعيد والمقدمات والنتائج وهكذا.علم الرياضيات والفلسفة أتيا من ذات النهر. الكتب العلمية بشتى المناحي والأدب العربي والعالمي شكلا ومازالا بيئتي المحببة. الجمع بين العلم والأدب ما خلته أمرا غريبا، هكذا وجدتني أفكر وأكتب. بكل موضوعية نجد مراكز الدراسات والأبحاث في العلوم الإنسانية تعتمد على معطيات حياة الإنسان بما فيها العلم والأدب. بما أننا نتلقى المعلومة العلمية من اكتشاف علاج جديد أو كوكب جديد أو تحليل وتفسير لظاهرة فيزيائية عبر هواتفنا الذكية والقنوات الفضائية، وفي ذات الوقت نتلقى أخبارا عن الاقتصاد والسياسة والتاريخ، ذات العقل المتلقي يمكنه أن يضع نصوصا تحمل هذه المعطيات عبر نص ليقوم متلقيا آخر بتعاطيها، لأن عقله وجد أن هذا ممكن وليس أمراً غريباً. هذه المعطيات تفتح لنا أبوابا جديدة للكتابة السردية من حيث الموضوع وآليات الكتابة؛ أي يمكننا هذا من تطوير السرد، ومن يقول غير ذلك، فهو مازال في الماضي الذي انتهى.
عبدالله المتقي: وما الذي أتت به "جميل نادوند" من غير التحدي للعقبات والانفتاح على كل الفئات العمرية؟ ومن أي القواميس، أو من أية التجارب تأتيك هذه اللغة البسيطة والعميقة كأفلام شارلي شابلن؟
آن الصافي: آمل أن تُقرأ هذه الرواية، بها الواقع والخيال في تمازج يصعب الفصل أحياناً بين عوالمهما. "جميل نادوند" حملت بعض مشكلات مجتمعاتنا. قدم لنا نيتشه نموذج السوبرمان وهوليوود وديزني لاند قدما لنا ذات السوبرمان وحملته القوى الخارقة والمواقف المفتعلة لحل المشكلات، وكأن المشكلات والهموم لا تحل إلا في وجود هذه القوة الخارقة. ما نتيجة ذلك على المتلقي؟ أخص هنا الناشئة؟ العنف؟ الخنوع أمام المشكلات وانتظار أن يجده من لديه (عضلات) لينقذه حتى وإن كان الوالد أو من يرعاه؟ هل يعقل أن نترك الناشئة في سلبية ووهم لمجابهة الحياة؟! "جميل نادوند" تجسيد للإنسان البسيط وبدون أجنحة أو قوى خارقة يجتاز طريقه للحياة بإيجابية. من نعتبرهم في دولنا معاقين ذهنيا، على سبيل المثال، نجد دولا أخرى تضعهم في برامج تستغل طاقاتهم الذهنية التلقائية في حل معضلات علمية وأحياناً عسكرية. لو أدركنا فقط مكامن القوى الحقيقة لديهم لرأيناهم كنزا حقيقيا يجب ألا يهدر أو يهمش بل يحتضن وينال كامل حقوقه. على الدول والمجتمع أن يقوما بدورهما، وأن ينظرا إلى الناشئة على أنهم أمانة لديهم، فحين نخلق فجوات في تواصلنا معهم سيصل إليهم من يطوعهم لغايات قد تسهم في تدمير مجتمعاتنا، وهذا واقع رأيناه في العنف والإرهاب الذي أصبح تهمة في داخل وخارج دولنا العربية. نلومهم على عدم القراءة! من باب أولى أن نرى ماذا نقدم لهم، ماذا يوافق عقلياتهم، ما الذي يبهرهم ويحببهم في ما نكتب ونعرض لهم عبر الشاشات. كفانا تقديساً للكتابة غير الموضوعية في التاريخ والسياسة ودغدغة المشاعر الرخيصة، وبسذاجة عبر مواضيع الدين والجنس. الإبداع طريقنا للتغيير للأفضل، وإنقاذ ما يمكن إنقاذه عبر الاهتمام بهذه الفئة العمرية ومتطلباتها وموافقة عقلياتها. لدينا تراث راقي ولغة غنية، ولدينا تنوع ثقافي، لو فقط استلهمنا من تمازجه أفضل المواضيع وطرق التعبير، فيمكن أن نحدث طفرة حقيقية في المشهد الثقافي والاجتماعي باهتمامنا بهذه الفئات العمرية، وتشجيعها على الإنتاج الإبداعي، ودعمها بكل السبل المتاحة عبر المناهج التعليمية والأنشطة الثقافية.
عبدالله المتقي: بم تتهم آن الصافي، آن الصافي؟
آن الصافي: عنيدة تخفي خلف صمتها وابتسامتها عادة قرارات وآراء غير قابلة للتغيير. تفاجئني دوماً وتحملني بدهشة لدهشة أكبر لا أعلم ما ستصنعه بي. لا أستطيع أو يستطيع أي أحد أن يتنبأ بما تأتي به، ولكن... متصارحة ومتصالحة معها وبيننا لا توجد هدنة في التفكير والحوار والبحث والتحليل والتعلم.
عبدالله المتقي: ما الذي تشتعل عليه "آن الصافي" في ورشتها هذه الأيام؟
آن الصافي: عادة لدي جدول أعمال فيه القراءة والاطلاع والكتابة والنشر. لدي نصوص عدة تنتظر دورها للنشر، يهمني أن تكون دوماً مختلفة في المواضيع وتقنيات السرد وتقديم الجديد الهادف بمشيئة الله. أعمل بالتوازي على كتابة ونشر أوراق "الكتابة للمستقبل" الفكرية الثقافية عبر الصحف والمواقع المتخصصة بالوطن العربي، وهي تشرح الأسلوب الذي أتخذه في الكتابة السردية، آمل أن أصدر الكتاب الثاني من سلسلة "الكتابة للمستقبل" مع نهاية هذا العام. حسناً، سأخبرك بما أشتغل عليه الآن: هناك نواة لرواية جديدة بدأت أول فصولها. من خلال الذات ننظر للمجتمع وكينونة الحضارات الإنسانية عبر التنقل والهجرة، ستقول لي هذا عادة ما تفعلين! الحقيقة عبر هذه الرواية، سنرى التنقل والهجرة لأسباب وآليات جديدة تماماً.
عبدالله المتقي: ما كلمتك ما قبل الأخيرة..؟
آن الصافي: كما نعلم النسيج الثقافي له أعمدة رئيسة، الكاتب (روائي، شاعر، ناقد، ..) الصحفي، الإعلامي، الناشر، الموزع، وجميع الجهات الرسمية والأهلية المعنية بالشأن الثقافي. إن عملنا بعلمية وحيادية وموضوعية، مخلصين لأهدافنا السامية تجاه البشرية، لتحقق لنا النجاح على الصعيد الشخصي والجمعي. لن يتأتى الوعي والتغيير للأفضل مالم نؤمن بدورنا تجاه أنفسنا ومجتمعاتنا. معاناتنا في الحياة منها ما هو: اقتصادي، معنوية، سياسي، .. إلخ، هل نجحنا في التغلب عليها ونحن مستمرين بذات الوتيرة، حيث ذهبنا إلى تفضيل مصلحة الفرد على المجتمع؟ الموضوعية تعيد النصاب إلى موضعه الطبيعي، النقد الهادف يسلط الأضواء على مكامن القوى في العمل الإبداعي، وكيف يمكن الاستفادة منه وليس تقديم الاسم الأفضل (حسب الآلية التي يرتئيها الناقد) بل أيضاً الإسهام في رفع ذائقة المجتمع.
الإبداع ليس محصوراً على الآداب والفنون، بل هو أساس نجاح العمل في كل المهن: الإدارة، الطب، التعليم، التجارة، القانون، الهندسة، ... اهتمامنا بالإبداع سيتأتى بنتاج الابتكار والتميز، ومن ثم التنافسية المحلية والإقليمية والعالمية. كلما فتحنا أبواب الدراسات والأبحاث العلمية، واستفدنا من الثورة العلمية والمعرفية، ومن تطبيقات تفيد الفرد والمجتمع، كلما حققنا النجاح في تحصيل ثروات وكنوز تحسب للمجتمعات والحكومات معاً. لم يأت الإرهاب وتفشي الأوبئة الاجتماعية من فراغ؟! (ربما) ما وصلنا إليه الآن هو نتاج عدم الحيادية والموضوعية التي قدمها لنا كتاب التاريخ، وعدم إدراك من تلاهم لخطورة الكلمة في بناء وهدم المجتمعات. تخوف السلطة أياً كانت من المبدع تعكس جهلها بقيمته الحقيقية في تقديم ما يؤسس لنجاحها وتفوقها. نحن في العقد الثاني من الألفية الثالثة، كما دوماً يأتي العلم بالجديد والهادف؛ لأنه يركن للحيادية، فما يقدمه من نتائج يعتبر أمرا واقعا ومتاح تناوله للكل. هناك آليات جديدة للحوارات الهادفة لا تتأتى من المؤتمرات والاجتماعات المنغلقة على فئات بعينها لا تقدم سوى فقاعات سرعان ما تنكشف عدم مصداقيتها وقصورها وعجزها عن التنافسية. ببساطة، كلما واكبنا العلم والنهج المحايد والموضوعي في تناول الإبداع، نهضنا بالفرد والمجتمع لدرجات من الرقي والتحضر. ستأتي أجيال من بعدنا ستدرس وتحلل ما قدمناه لهم، سنحاسب على كل ذلك الآن ولاحقاً، هل نعي أهمية الإبداع وخطورة تهميشه؟! أين نحن من علم المستقبليات؟ لا يكمن دور السرد في التسلية فقط أو نقل (حواديث)، إن دور السرد أكبر من مجرد متنفس للشكوى والتباكي، إنه أداة للاحتفاء بالقيم الإنسانية والتنوع الثقافي، وتقديم نماذج من التراث تسهم بالدعم الإيجابي وكل ما هو جدير بإحداث نقلة فكرية وثقافية للمتلقي والأدب على حد سواء، ومن ينادي بغير ذلك فهو في قائمة من يدعو بهدم الفرد والمجتمع وهلاكه.
[1]- مجلة ذوات العدد 36