حوار مع الفيلسوف الألماني أكسيل هونيث: الصراع مع القيم العالمية مغامرة ناقصة
فئة : حوارات
يعتبر الفيلسوف الألماني أكسيل هونيث من الوجوه الفلسفية البارزة، سواء على الصعيد الألماني أو العالمي؛ فهو مدير معهد فرانكفورت الذائع الصيت، كما أنه مهتم بتحديد الآليات الرأسمالية التي تمنع الذات من تحقيق نفسها.
ألكسندرا ل. لافاستين : ما هي في نظركم مواصفات المجتمع الجيد؟
أكسيل هونيث:المجتمع الجيد هو المجتمع الذي يسمح لأفراده من خلال توفير الظروف الثقافية والاقتصادية والاجتماعية بتحقيق ذواتهم واستقلاليتهم. كما أنه المجتمع الذي يسمح لأفراده بتحقيق أحلامهم بدون المرور من تجربة الاحتقار أو الإقصاء. أو بعبارة أخرى جامعة، فالمجتمع الجيد هو الذي يضمن لأفراده شروط حياة جيدة.
انطلاقا مما تعيشه مجتمعاتنا الغربية من قصور لا يرجع إلى انتهاك مبادئ العدالة، بل إلى الإضرار بشروط تحقيق الذات. وهذه الفكرة السابقة كانت في قلب اهتمامات مدرسة فرانكفورت. فقد تشبثوا بهذا الشكل من المجتمع في أفق تأسيس مجتمع الرجال الأحرار. فإذا كانت المقاربة الماركسية المعتمدة لديهم تجوزت، فإن المقاربة الإيتيقية لديهم لازالت صالحة في مجتمع القرن الواحد العشرين. فمع العولمة والرأسمالية المتوحشة، أصبحت شروط تحقيق الذات نادرة إن لم نقل منعدمة، سواء عن طريق التسليع أو تدمير العلاقات الشخصية.
ألكسندرا ل. لافاستين : بهذه النظرة الإيتيقة، فمدرسة فرانكفورت لا تندرج في إطار ما سميتموه بالفلسفة الاجتماعية ؟
أكسيل هونيث:قطعا لا، في حين أن مفهوم الفلسفة الاجتماعية الذي أتحدث عنه قليلا ما أسمع عنه في فرنسا. أفهم من هذا التقليد الفلسفي الكبير الذي أعطى للفلسفة مهمة تشخيص الأمراض الاجتماعية، أو بعبارة اخرى العوائق التي تكبح الإنسان من تحقيق حياة ناجحة. من روسو إلى كاستوريادس أو تشارلز تايلور مرورا بماركس وويبر وفوكو أو هابرماس. فهذا التيار أحدث منهجا فلسفيا جديدا؛ حيث الاهتمام مركز ليس فقط على تصحيح المساواة، بل بتحيين المعايير الأخلاقية لحياة كاملة أو أكثر إنسانية. فحنا ارندت مثلا، أولت اهتماما كبيرا لدور المواطنين في الديمقراطية .
ألكسندرا ل. لافاستين : هل ممكن أن تتحدث لنا عن مفهوم الصراع من أجل الاعتراف؟
أكسيل هونيث:من أجل إدراك المفهوم الجديد، لابد من الانطلاق من النموذج البراغماتي المهيمن في العلوم الإنسانية. فهذا النموذج ينطلق من فكرة مفادها أن المجتمع عبارة عن مجموعة من الأفراد الذين يتحركون بدافع مصالحهم الخاصة، ومن أجل إثبات ذواتهم. للوهلة الأولى من غير الممكن أن نعلل الصراعات التي تنشا من الرغبات غير المشبعة. بالاعتماد على هيغل الشاب، ولكن أيضا على مكتسبات علم النفس الاجتماعي ( من جورج ميد إلى دوناد وينيكوط) اقترح إدراك الصراعات الاجتماعية بمنظور الصراع من أجل الاعتراف؛ فهذا يقتضي بأن تحقيق الذات مرتبط أشد الارتباط بالاعتراف المتبادل. لهذا أميز بين ثلاثة مستويات لهذا الاعتراف، متناسبة مع ثلاثة نماذج من تحقيق الذات:
vالمستوى الأول، هو الحب الذي يجمع فردا ما بمجموعة ما. فقط هذه القوة العاطفية التي تربطه بمجموعته هي التي تحقق له الثقة في نفسه وبدونها لن يتمكن من المشاركة في الحياة العامة.
vـالمستوى الثاني، هو قانوني – سياسي: باعتبار الفرد هو فرد عالمي له حقوق وواجبات، ويجب أن نفهم أفعاله على أنها تعبير عن استقلاليته. من هنا فالارتباط ضروري بين الاعتراف القانوني والاحترام للذات. لكن هذا ليس كل شيء. من أجل إقامة علاقة دائمة مع أنفسهم، فالناس عليهم التمتع باحترام اجتماعي يسمح لهم بالتعاطي الإيجابي مع قدراتهم ومواهبهم أو مع بعض القيم المستلهمة من هوياتهم الثقافية.
vـالمستوى الثالث، التقدير الاجتماعي الذي هو مرتبط بتقدير الذات، أو مانسميه بالإحساس بالقيمة.
وإذا ما انتهك أحد المستويات، فإن الذات ستعتبر هذا الانتهاك مسا خطير بكامل الذات، سواء السياسية أو الاجتماعية أو الأخلاقية. لكن هناك الكثير من الأسئلة المعلقة من قبيل ما هو الشكل الذي ستتخذه ثقافتنا السياسية والأخلاقية في هذا العصر لمحاربة الإقصاء والانغلاق ؟ ومن أجل إعطاء فرصة للمقصيين والمحتقرين؟
ألكسندرا ل. لافاستين: بتطبيقكم هذه الفكرة على فرنسا، فهذه الخطاطة المفاهيمية أكثر وضوحا: أزمة الضواحي ، قانون حول منع الحجاب ، تنافس الذكريات.. ما هو تعليقكم على هذه التطورات؟
أكسيل هونيث:لابد من الحذر فيما يخص النتائج السلبية الناتجة عن احتقار بعض الأفراد. إذا لم يدخلوا في صراع مع القيم العالمية، فهذه مغامرة ناقصة لهم؛ فالذين يتميزون بنماذج خاصة لايمكنهم أن يعطوا لوجودهم معنى إيجابيا بالنظر إلى الغايات الأخلاقية المشتركة التي تطبع الحياة الجماعية، مثلا الحجاب فأنا أصنف نفسي في وضعية لا أدري: حتى و نحن لانعرف ما هي الأسباب الحقيقية التي دفعت الفتيات إلى ارتداء الحجاب، لهذا لايمكن منعهن من الفضاء العمومي.
إذا كان ارتداء الحجاب يشكل نوعا من الاضطهاد العائلي أو المجتمعي؛ فيمكن اعتباره تحقيق الذات المستقلة . فيما يخص السجالات الأخيرة حول واجب الذاكرة، فقد بينت تلك السجالات أن الاحترام الاجتماعي مرتبط ببعد أساسي ألا وهو الماضي؛ فالكثير من الناس يفشلون في الإحساس بأنهم مواطنون كاملو المواطنة في المجتمع الذي يعيشون فيه، لأنه لم يتم الاعتراف بالانتهاكات التي عرفتها مجموعته القومية.
فلا ننسى أن اعتراف الألمان بالجرائم التي اقترفوها في حق اليهود، كانت شرطا لعودتهم إلى الحياة العامة. كما أن فرنسا بدا فيها النقاش حول ألمانيا أو مايسمى صراع المؤرخين 1986- 1987 بخصوص الماضي النازي.
هناك من يقول كفانا إحساسا بالذنب والندم والجلد الذاتي، ولنا الحق في رفع رؤوسنا. في حين آخرون ومن بينهم هابر ماس، يقول لنرفع رؤوسنا علينا أن نتحمل مسؤولية الماضي، وتكون لنا الجرأة في مناقشته في أجواء مفتوحة.
ألكسندرا ل. لافاستين: تأويل هذه السجالات لمعان، مثل تكاثر الضحايا، ألا يعتبر الأمر مرتبطا بالموضوع ؟
أكسيل هونيث:وضعية الضحية من الآن وصاعدا لها قيمة، ومن الأجدر أن نحتاط في تقويمها. لكن يجب التفريق بين ضحية حقيقية وأخرى مزيفة، فالتمييز ليس سهلا .
مرة أخرى؛ فالصراع من أجل الاعتراف العام بالهشاشة الأخلاقية للماضي أمر شرعي . وأنا مهتم لفهم أن الكثير من المثقفين الفرنسيين أقل إحساسا بهذا الأمر. وسأقدم دليلا أخر: فقط الاعتراف العمومي بجرائم الماضي ـ حتى ولو كانت قديمة ـ هي السبيل للخروج من حالة الضحية؛ فبدون الاعتراف العمومي بالجرائم لن تتمكن الذات من تحقيق كامل المواطنة في حياتها.
ألكسندرا ل. لافاستين: ركزت في كتابكم الأخير "مجتمع الاحتقار" على مفارقات الرأسمالية المتوحشة، الفكرة نفسها نجدها في كتابكم الذي سيصدر في فرنسا . نقد الرأسمالية هل له من مستقبل؟
أكسيل هونيث:هذه المفارقات قاومت المثل العليا للتحرير التي تطورت في الغرب لمدة ثلاثة عقود، وأصبحت تتمسك بها التيارات النيوليبرالية . فإذا كانت إمكانات التفتح الفردية قد توسعت مع (التربية والتعليم والوقت الحر...) فإنها مع ذلك تحولت لصالح الرأسمالية المتوحشة. يمكن الحديث هنا عن تراجع أخلاقي وقيمي . فمبدأ تحقيق الذات أعطى ميلاد أمراض جديدة من قبيل الإحساس بالفراغ الداخلي والعدمية والقلق.... الضغط الهائل للنيوليبرالية يجبر الناس على التفكير في أنفسهم كمواد ومعرضين للبيع دائما: فيجب أن نكون دائما مرنين ومتكيفين ...
يتعلق الأمر بالقدرة على الحوار الداخلي والتضامن الذي أصبح امتيازا، بل نجده يسهم في تدمير هذه القدرة : تطبيق الفعل الاستراتيجي على الذات وعلى الآخرين. في هذا المعنى، فالاعتراف الذي يؤدي إلى الاعتراف بالآخر، باعتباره ينتمي إلى الإنسانية عليه أن يسقطه على الاعتراف الذاتي .
الأمر لا يتعلق بالعودة إلى الماضي، لأن المسالة أصبحت مرتبطة بمعرفة كيف نواجه هذه الاتجاهات المرضية التي تسعى العولمة إلى تضخيمها. وجوابي لايتماهي مع ما يطرحه بعض الجمهوريين الفرنسيين في إقامة مؤسسات سياسية وطنية. الحلول تكمن في إقامة أوروبا قوية لمقاومة النتائج السلبية للعولمة، لكن بدون أن نرجع إلى هوياتنا القديمة أو ثقافتنا المسيحية. فهذه المقاربة الأخيرة تبدو لي أكثر فعالية؛ فمفهوم التضامن لن يكون فقط في المجال السياسي، بل حتى في المجال الفني والثقافي. أن تجد نفسك دائما على مسافة متساوية من الفكر الليبرالي والفكر ألجماعاتي، أنا أتقاطع مع كانط ومع الليبراليين في مفهوم الاستقلالية وكونية المعايير. وأنا اتفق مع الجماعاتيين فيما يخص أن تحقيق الذات يحتاج إلى أشكال جديدة من العلاقات الاجتماعية التفاعلية بين الذاتية والنظر إلى الآخرين، باعتبارهم ذوي مواهب وقدرات إيجابية.