حوار مع الكاتب والمفكر الدكتور عبد الحكيم أجهر الفكر العربي والإسلامي أنساق جديدة للتفكير والنظر


فئة :  حوارات

حوار مع الكاتب والمفكر الدكتور عبد الحكيم أجهر الفكر العربي والإسلامي أنساق جديدة للتفكير والنظر

حوار مع الكاتب والمفكر الدكتور عبد الحكيم أجهر

الفكر العربي والإسلامي أنساق جديدة للتفكير والنظر

الدكتور عبد الحكيم أجهر كاتب ومفكر سوري مختص في قضايا الفكر الإسلامي، صدرت له مجموعة مؤلفات من بينها:

- سؤال العالم؛ الشيخان ابن عربي وابن تيمية من فكر الوحدة إلى فكر الاختلاف

- التشكلات المبكرة للفكر الإسلامي: دراسة في الأسس الأنطولوجية لعلم الكلام الإسلامي

- الله؛ الآخرية في الحضور أو ما وراء الأصالة والمعاصرة

- الحقيقة وسلطة الاختلاف

وهو وأستاذ الدراسات الإسلامية في جامعة محمد بن زايد بالإمارات. وقد درس الفلسفة والدراسات الاجتماعية في كلية الآداب بجامعة دمشق وكندا.

***

صابر مولاي أحمد: الدكتور عبد الحكيم أجهر. بصفتك من المتخصصين في دراسة الفكر الإسلامي القديم، ولا شك أن الحاضر يستمد جذوره سلبا أو إيجابا من القديم ونقصد هنا أنساق التفكير. نريد أن تقربنا من التشكلات المبكرة للفكر أو العقل الإسلامي؟

عبد الحكيم أجهر: من الأفضل أن نذهب إلى العوامل المتعددة التي تحكم نمط تفكيرنا اليوم، ومن الصعب في الوقت نفسه أن نعزل تأثيرات نمط التفكير التراثي عن هذه العوامل المتعددة. ولكن سنحاول قدر الإمكان أن نتحدث عن تأثيرات التشكلات المبكرة للفكر الإسلامي أو ما أسميته الأنساق الفكرية. وفي هذا الصدد، لابد من التمييز بين جانبين من جوانب التراث؛ التراث العالِم أو التفكير النظري في التراث، وبين المدارس العقدية التي كانت نشيطة جداً في الماضي، والتي مازالت تعمل اليوم بحضور ملحوظ. ونحن غالبا عندما نتحدث عن التراث نفكر بالجانب النظري. ولعل واحدة من مشكلاتنا اليوم هي هذا الفصل بين الجانبين، في الوقت الذي كان التفكير النظري مرافقا بطريقة لازمة للتفكير العقدي منذ وقت مبكر.

هذان الجانبان هما ما يجعلانا نفكر كثيرا اليوم بالصيغ والإسهامات التي حاولت التوفيق بين الفلسفة والدين، وربما كان اهتمام الكثير من المثقفين العرب بابن رشد يندرج في هذا السياق.

في الحقل الكلامي، أو علم الكلام، لم ينفصل الديني عن النظري العالِم أبدا؛ إذ كانت بنية علم الكلام تقوم على التفكير في المسائل الدينية نظريا، فكان الجانبان متلازمين في تاريخ هذا النوع من الحقول الفكرية، وهذه مسألة لا تشبه جهود الفلاسفة المسلمين في التوفيق بين الفلسفة والدين؛ لأن الفلاسفة كان لديهم منظومة فلسفية ناجزة جاءتهم من مدرسة الإسكندرية ومن مصادر أخرى، فكان عملهم يتركز على إيجاد صيغة مصالحة بين هذه المنظومة، وبين المسائل العقدية، بينما كان الأمر في علم الكلام مختلفا لحد ما؛ إذ كان المتكلمون المسلمون يعملون عقلهم ويصوغون مفاهيمهم النظرية بوصفها مرادفة للمسائل الدينية نفسها. لذلك، لا نجد في علم الكلام المبكر أنساقا تشبه الأنساق الفلسفية، بل صياغات عقلية لمسائل الدين. وقد استمر هذا الأمر حتى وقت متأخر اقتنع فيه المتكلمون المتأخرون بضرورة الاستعارة من الفلسفة، ولكن هذه الاستعارة لم تكن استعارة منظومات كاملة ولكن استعارة مفاهيم واستعارة طريقة تفكير.

أعتقد أن هذه المسألة هي المسألة الأبرز التي تركت أثرها الكبير على نمط تفكيرنا اليوم، والتي تطالبنا باستئنافها بشكل إبداعي أيضا.

ولكن إذا كانت هذه المسألة تتمتع بحيوية بالغة من أجل استئنافها، فإن مشكلات أخرى مرتبطة بها تسيطر على نمط تفكيرنا الحاضر.

واحدة من المشكلات هي العودة إلى فرضية ابن رشد والفلسفة بشكل عام لإيجاد طرق مصالحة بين الفلسفة والدين، واليوم كما هو معروف لدينا عدد كبير من الفلسفات التي تصلح لأن نستخدمها في هذه المصالحة، ولكن يبقى الفصل بين الحقلين النظري والديني ومحاولة التوفيق بينهما تحد كبير يواجهه المثقفون العرب. المشكلة الثانية هي انتشار التدين بالمعنى التقليدي، الأمر الذي يجعل رجال الدين والشباب المتأثر بهم، يرفضون كل تفكير عقلي في الدين، ويعتمدون كما كان الأمر في الماضي على المأثورات في التفسير والحديث والفقه.

هناك مشكلة أخرى تواجهنا اليوم، وهي مشكلة تكرار آراء بعض الشخصيات البارزة في التراث، وأعني أن هناك فئة من الشباب تهتم بالنظر العقلي في الدين، ولكنها تهتم به وفق آراء قيلت في الماضي؛ إذ نجد أعدادا كبيرة من الذين يهتمون بالتفكير العقلي يلوذون بابن تيمية ويكررون آراءه ضمن ما يعرف بالمدرسة السلفية، كما أن هناك فئة أخرى تكرر آراء فخر الدين الرازي الأشعري، ضمن ما يعرف بالمدرسة الأشعرية، وهناك مدارس أخرى تدخل التفكير العقلي في الدين مثل بعض المنتمين إلى التصوف الإسلامي وخصوصا ابن عربي.

نعم، هناك تأثير بالغ من الماضي علينا اليوم، ولكن مواجهتنا وفهمنا لهذا التأثير يحتاج إلى عمل إبداعي أكبر، يخرجنا من فكرة المدرسة ويعيدنا إلى التفكير العقلي بوصفه تفكيرا بدهيا في الدين كما فعل المتكلمون المبكرون دون تكرار لآرائهم، ولكن مع حصد الفائدة المطلوبة من ما وصلت إليه العلوم والفلسفات الحديثة والمعاصرة.

صابر مولاي أحمد: هل تشكلات الفكر الإسلامي؛ يسري عليها نوع من التكامل بين مختلف مجالات المعرفة في علم الأصول وفي علم الكلام وفي علوم الحكمة وفي الفقه والحديث... أم إن لكل قطاع معرفي تشكله الخاص به؟

عبد الحكيم أجهر: الاثنان معاً. أعني، نعم هناك تكامل أو لنقل إبستيمات كانت تحكم فروع المعرفة المتعددة كلها، وهناك أيضا انفصال بين هذه الحقول يتبع طبيعة الحقل المعرفي الذي يعمل فيه أصحابه. وأعتقد أن الإبستمي الرئيس الذي يجد نوعا من الوحدة في نشاطه هو ثنائية الأصل والفرع، المركزي والثانوي، المصدر والشيء الذي يصدر عن المصدر. لقد كان هناك على المستوى النظري، ثنائية تتعلق بالخالق والمخلوق، بالله والعالم، وهي الثنائية النظرية التي استُخدمت فيها المفاهيم المجردة لحد كبير، مثل الوحدة والكثرة، الكليات والجزئيات، العلة والمعلول...، وهناك على المستوى العملي كانت ثنائية، المصدر القرآني والفروع (الأحكام) المُشتقة منه، وهذا الأمر نجده بوضوح في الفقه الإسلامي.

كما نلاحظ أن هذه الثنائية الحاكمة على النشاط العقلي الإسلامي في الماضي كانت ثنائية صارمة، من الصعب لأحدهم أن يخرج منها، وكانت المفاهيم التي تتناسل منها، النظرية منها (الفلسفة وعلم الكلام والتصوف)، والعملية في الفقه واللغة، تتكافل فيما بينها رغم احتدام النقد والنقد المعاكس، ورغم حركات التكفير الواسعة، إلا أن الجميع كان يعمل تحت سقف هذه الثنائية.

علينا أن نتخيل الشهرة الواسعة التي حصل عليها الشافعي، عندما قرر أن أصول الفقه هي القرآن والسنة والإجماع والقياس، فقد كان بشكل صريح يبلور أصولا للفقه يعتمد على هذه الثنائية، في الوقت نفسه الذي كان يفكر فيه المتكلمون كيف خلق الله العالم، أو كيف انبثق العالم كجزئيات وأشياء مفردة عن الواحد، الكلي القدرة والمريد الذي يتصف بصفات كاملة، تماما مثل تقرير الشافعي كيف يمكن اشتقاق الأحكام التي نواجهها في حياتنا من المصدر الأول، القرآن ثم الحديث.

إذن يمكننا القول، إن تكافلا ما كان حاصلا على أساس نمط تفكير محدد، أو إبستمي محدد، أو ثنائية تحكم تفكير الجميع. وهذا يفسر لنا المصالحات التي كانت تحصل في التراث؛ فالمذاهب الكلامية تصالحت مع مدارس فقهية معروفة، كما يفسر العلاقة الوثيقة بين النحويين وبين علماء الكلام، وحتى الفلاسفة كانوا يمارسون هذه المصالحة بين الفقه والفلسفة، ولدينا مثال ابن رشد هنا، رغم أنه ليس المثال الوحيد.

ثنائية الأصل والفروع، أو مصدر العالم وتعدد موجوداته الصادرة عنه، كانت ثنائية وحدت النشاط العقلي الإسلامي، وكانت هذه الثنائية تعمل في الخفاء في كل تفاصيل الحياة الإسلامية، وتشكل نوعا من الحاكم المضمر على أنماط التفكير.

ومن جهة أخرى، علينا أن لا نبالغ في رفض هذه الثنائية، فهي بشكل ما نمط تفكير ليس سيئا، وعلينا أن نخفف من الإدانات المتكررة التي يحملها بعض المثقفين العرب اليوم على الشافعي بوصفه مؤسس هذه الثنائية.

إن واحدة من الفرضيات التي تساعدنا اليوم على استئناف التفكير والنهضة، ليس الثنائية نفسها، ولكن شكل الصلة بين الطرفين، شكل العلاقة المفترضة بين الأصل وبين الفروع، بين الواحد وبين المتعدد، بين المصدر وبين تجلياته...، وإن قراءة متأنية للتراث تطلعنا على فرضيات إبداعية حول شكل العلاقة أو شكل الوصل بين طرفي الثنائية تلك. وهذه العلاقة الواصلة بين الطرفين بقدر ما يمكن لها أن تكون بؤرة عمل نظري، يمكن لها أن تسمح ببناء أفكار جديدة. فعلى سبيل المثال، وجد المتصوف أن علاقة الوصل الأساسية بين الطرفين هي عودة المفرد والجزئي إلى أصله، في عملية اتحاد أو بناء وحدة من نوع ما، في حين قدمت الفلسفة فرضيات متعددة حول عملية بناء الوصل هذا، الفارابي وابن سينا وابن باجة وابن طفيل وابن رشد. وتبقى هنا إسهامات الفلاسفة المسلمين في تطوير فرضيات الوصل تلك جوهرية وأساسية لكل اجتهاد آخر؛ لأن التنوع الذي قدمته الفلسفة كان خلاقا بحق، وموحيا لكل فروع المعرفة الأخرى.

وفي علم الكلام، فقد كانت فرضيات الوصل بين طرفي الثنائية كثيرة جدا، لا يتسع المقام للحديث عنها، وفي الفقه نفسه، تعددت الاجتهادات في إنشاء علاقات متعددة بين الأصل والفرع بين الفقهاء الأربعة، وبين فقهاء آخرين أقل شهرة.

صابر مولاي أحمد: سبق لمحمد عابد الجابري أن قسم العقل العربي في القديم إلى عقل برهاني وعقل بياني وعقل عرفاني، ما هو تقييمك لهذا التقسيم المنهجي؟

عبد الحكيم أجهر: هذه الثلاثية كانت معروفة في التراث، وكان الكثيرون يقسمون نمط التفكير إلى ثلاثة أشكال ولكن بتسميات مختلفة، وبالتالي لم يكن الجابري مبتدعا في هذه القسمة، وهو نفسه أكد أصلها التراثي في معرض سجالاته مع ناقده البارز جورج طرابيشي.

لكن المشكلة عند الجابري هي في إعادة التسميات من أجل أن تخدم غرضه في قراءة التراث، وفي المنهجية التي طبقها عليها. وأعني بالتسميات، أن كلمة "عقل برهاني" لم تكن مستخدمة في الماضي كعنوان لحقل معرفي كامل، وكانت الكلمة المستخدمة هي غالبا "الحكمة" لتشير إلى الفلسفة كلها، وابن رشد نفسه استخدم كلمة حكمة أكثر من استخدامه لكلمة فلسفة. لكن الجابري أطلق على الفلسفة "عقل برهاني" كي يتاح له أن يحصر هذا العقل بابن رشد فقط، ويستبعد فلاسفة مسلمين آخرين من هذه التسمية، وعلى رأسهم ابن سينا. فابن سينا الذي كان واحدا من رؤوس "الحكمة" في الماضي، صار عند الجابري أقرب إلى العرفان منه إلى الحكمة بناء على إضاعة ابن سينا حسب الجابري للمنطق البرهاني.

الأمر نفسه يتكرر بـ "العقل البياني" الذي أراد الجابري بهذه التسمية أن يجعل علم الكلام خاضعا في تفكيره إلى الثنائية اللغوية المعروفة بـ "اللفظ والمعنى"، في الوقت الذي كان علماء الكلام يُطلق عليهم في الماضي تسميات أخرى، مثل: "أهل الكلام" و"أهل التوحيد"، وأحيانا بأسماء مؤسس المذاهب، كالأشاعرة والماتريدية والكلابية....، ولكن الجابري أراد أن يضع كل هذه المدارس، رغم تباعد آرائها تحت عنوان واحد، وهو عنوان يعلن غياب الألوان الفارقة.

المشكلة الثانية، وهي الأهم برأيي هي مشكلة المنهج في التعامل مع هذه الحقول، فقد اعتمد الجابري على المنهج البنيوي في قراءة هذه الحقول، واستبعد تماما الجانب التاريخي فيها.

فعلم الكلام يقوم عنده على قواعد منطقية ثابتة تمثل الختم النهائي لما يسمى علم الكلام، وهو الأمر نفسه في العرفان الذي ينظر إلى العالم نظرة مرآوية تنعكس فيها الصور نفسها بشكل لامتناهي، وحتى في الفلسفة التي يستخدم فيها الجابري مصطلح "القطيعة الابستمولوجية" وهو مصطلح يوحي بنزعة تاريخية ما، لكن الجابري يجُير هذا المصطلح لصالح الجغرافيا وليس التاريخ، وبمنطق بنيوي، حيث المغرب يفكر بعقل مختلف عن المشرق، والقطيعة الابستمولوجية عنده هي قطيعة جغرافية بين المشرق العرفاني والمغرب العقلاني في رأيه، وكانت هذه واحدة من الجوانب الرخوة في فكره.

البيان يقوم عنده على مجموعة قواعد منطقية ونمط تفكير معين، بعيدا عن التطورات التاريخية التي حصلت لهذا الحقل من المعرفة، وهنا سيصبح الأمر تحكميا تماما، عندما نجعل على سبيل المثال، الأشعري يفكر مثل الرازي الذي ينتمي إلى المدرسة نفسها، أو نجعل من ابن تيمية يفكر بالمنطق نفسه الذي استخدمه المتكلمون المبكرون أو الحنابلة الأوائل، وحتى الغزالي نفسه. إن المسافة النظرية بين المتكلمين المبكرين، وبين المتأخرين تشير بوضوح كبير إلى تطور تاريخي ملحوظ، لم يعد فيه علم الكلام هو نفسه علم الكلامي القديم، فقد اختفى قياس الغائب على الشاهد التي يكررها الجابري كعلامة مميزة لعلم الكلام، واختفت طريقة القياس القديمة كقياس الخلف، وحتى الجبائي الابن، أبو هاشم، قد مثل قفزة كبيرة في علم الكلام؛ إذ سمح بنظريته في الأحوال بدخول الكليات إلى علم الكلام وساعده ذلك جدا على بداية التفكير الكلي عند الجويني وبعده الشهرستاني والآمدي، لكن نظرية الأحوال لم تدرس من الجابري بهذه الحيثية، وإنما بحيثية مختلفة تماماً.

الأمر نفسه ينطبق على تطور "العرفان"؛ إذ من المستحيل أن نجعل من إبراهيم بن الأدهم مثيلا لرابعة العدوية أو للداراني، ومن رابعة العدوية مثيلا للحلاج، والحلاج لابن عربي أو ابن سبعين؛ إذ هناك تطور تاريخي طويل لا يمكن فيه جعل التصوف بكل مراحله يُختصر إلى بنية واحدة لاتغيير فيها. لقد أصبح التصوف أو "العرفان" نسقا معرفيا ورؤية للعالم، فيما بعد، وأصبح قريبا من الفلسفة عند ابن عربي والقونوي وابن سبعين، وهو غيره تماما عند الجيل المبكر، الذي كان التصوف عنده مقتصرا على الممارسات الزهدية والمقامات والأحوال وبعض العبارات والأشعار.

إن غياب فكرة التاريخ وملاحظة التغيرات التي كانت تطرأ على الفكر الإسلامي جعلت هذه التصنيفات المذكورة قوالب وصناديق تم تعليب التراث كله فيها، الأمر الذي لا يساعدنا اليوم على بناء نظريات متطورة عن الذات ولا يساعدنا في ملاحظة أنماط النقد التي نشأت في التاريخ وساهمت بلقاءات مهمة بين الحقول الفكرية، فقد التقت الفلسفة بالكلام وبالتصوف، وتغيرت كثيرا طرق التفكير.

إن النظر إلى التراث يحتاج إلى الغوص في تفاصيل معقدة وكثيرة يصعب معها القيام بتصنيفات نهائية لأشكاله؛ لأن هذه التصنيفات هي أكثر ما يؤذي طموحنا اليوم لبناء تجديد ونهضة، لسبب مهم وهو أن التصنيفات تختزل إلى حد كبير غنى التراث وتلغي الكثير من المسائل التي نحتاج دراستها. والتصنيف سيصبح مشكلة أكبر حينما يتلون باللون الأيديولوجي؛ إذ ستأخذ هذه التصنيفات دور العُلب الصغيرة التي يجب حشر تراث ضخم فيها، من أجل الوصول إلى غرض معين مقرر مسبقاً.

صابر مولاي أحمد: كان لعلم الكلام دور مهمّ في الثقافة الإسلامية؛ لأنه يقدم قيمة العقل والنظر والاستدلال، في فهم موضوعات الاعتقاد الإيمان والنبوة... وهناك من سمى هذا العلم بعلم النظر والاستدلال. بالنظر إلى واقعنا في الزمن الحديث، نجد العلم بمفهومه المعاصر قد ترتبت عنه نظم وقضايا معرفية غير مسبوقة، فيما يخص النظر إلى الإنسان وإلى الإله وإلى العالم... وهناك اليوم من يتحدث عن علم كلام جديد يستثمر المعرفة المعاصرة من جهة الاستدلال والنظر في قضايا تتعلق بالإيمان والاعتقاد والأخلاق... هل أنت مع هذه الدعوة؟ إن كنت متفقا مع هذه الدعوة ما هو السبيل إلى ذلك منهجيا؟ وإن كنت تختلف معها فكيف نوفق بين العلم والإيمان في الزمن الحديث؟

عبد الحكيم أجهر: بالتأكيد نحن نحتاج إلى دفع ممكنات التراث خطوات كبيرة إلى الأمام، وعلم الكلام ربما يمثل واحدا من أهم الحقول التي تحتاج إلى تثوير وجرأة في إعادة النظر فيه نظرة غير مستلبة لثقافة أخرى. وبغض النظر عن التسمية والتي تتكرر كثيرا مثل تسمية (الجديد)، فإن المشكلة في إعادة النظر إلى التراث عامة وعلم الكلام خاصة، هي مشكلة نمط التفكير المعاصر للمسلمين؛ إذ أصبح التجديد يتمثل في إسقاط مفاهيم أو قيم معاصرة، وهي غالبا غربية على الماضي، فنقوم بمطالبة علم الكلام القديم أن ينطق بما يجب أن يتوافق مع مانسميه اليوم فكرا معاصرا أو تجديدياً. وفي هذه الحالة، يتحول التجديد في كل الحقول إلى عملية توفيقية أو تفكير ميكانيكي في التراث، فنحاول أن نجد في التراث مايناسب قيم اليوم، وفي إقحام قيم اليوم في زوايا النص الكلامي بما لايحتمله هذا النص.

طبعا، أنا لا أقصد محاولة محددة ولا عنوانا محددا لكتاب، بل أفكر بشكل عام في الطريقة التي تحكم نمط التفكير العربي والإسلامي اليوم تحت ظل هيمنة ثقافتين على هذه التفكير، التراث مفهوما بشكل محدد والحداثة الغربية.

إن الشرط الأول الذي نمارس فيه تثوير الممكنات التراثية هو التوقف عن ممارسة الإقصاء والتقريب التي تحكم نمط الجهود المبذولة اليوم؛ إذ غالبا ما يلجأ "المجدد" إلى استبعاد تيارات من الماضي لصالح تيارات أخرى، فالتيارات التي وصفت في الماضي بالحرفية والتي رفضت التأويل والتزمت بما اعتقدته ضرورة الحفاظ على الدين بلغته التي جاءت به، يتم استبعادها من ساحة التفكير بوصفها مضادة لقيم التفكير الجديد، ولا يقتصر الأمر على هذا، بل إن هناك الكثير من التيارات العقدية في الماضي تستحق الإحياء اليوم، ولكن النقد الذي وجه إليها في الماضي تجعل مثقفي اليوم يحجمون عن استردادها، ومن جهة أخرى، فإن واحدة من المشكلات الكبرى في علم الكلام اليوم هي في التخلي عن الجانب العقلي فيها، فعلم الكلام في الماضي كان يطمح لأن يكون رؤية للعالم عقلية/نصية، ولكن بالتدريج تم استبعاد الجانب العقلي لصالح الجانب العقدي/ الديني، وذلك لإيمان البعض بأهمية الدين في العالم المعاصر، الأمر الذي أفقد علم الكلام واحدة من أهم خصائصه.

إن نظرة سريعة على أعمال المهتمين بعلم الكلام، تجعلنا نكتشف بسهولة أن واحدة من أهم مشكلات علم الكلام في الماضي هي تعريف "الشي" الفيزيائي، من أجل ربط هذا التعريف بفاعلية الله في العالم، هذا المبحث أصبح اليوم شبه غائب، وكذلك الآليات المنطقية التي استخدمت سابقا، تشهد غيابا شبه كامل للعمل عليها، والعمل هنا لا يعني تكرارها ولا استعادتها حرفيا، ولكن التجديد فيها. وأيضا مبحث نظرية المعرفة، هناك غياب لها. على العكس نجد اهتمام المدارس الكلامية السابقة تستعاد كمنظومة عقائدية فقط؛ أي إن المشتغلين بعلم الكلام اليوم هم أقرب إلى أهل الحديث والمأثور منهم إلى مدارسهم وتطوراتها النظرية التي اهتمت بها في الماضي.

بينما نجد على الطرف الآخر، أن قيم التسامح والتعايش والتضامن الاجتماعي، وهي قيم أكد عليها عصر التنوير بشدة، نجد هذه القيم هي نقاط انطلاق عدد من المجددين، الأمر الذي يجعل علم الكلام القديم يقف خلف قضبان المساءلة القضائية في تقصيره عن الذهاب بهذه القيم إلى حدودها البعيدة. لذلك، نجد اليوم أن صاحب مشروع التجديد يركز أكثر ما يركز على مناقشة فكرة التكفير في الإسلام، ويحاول التخفيف منها والبحث عن كل المبررات التي تؤدي إلى إلغائها، كما يؤكد على اسم الله الرحيم، من جعل قيمة الرحمة الإسلامية معادل قيمي لقيم التسامح والتعايش، وهكذا.

وبطبيعة الحال، فإن محاولات كتلك لا تتسم بالسوء، وهي على الأقل تلعب دورا في مجابهة التطرف الديني، ولكنها ليست كافية، والأصح أنها لا تذهب نحو ممكنات علم الكلام وتتابعه من هناك، وتبحث في طبيعته التي من الممكن أن تساعد على استعادة دوره القديم.

المسائل العقدية تستحق العمل عليها بالتأكيد؛ لأنها ترتبط بمفهوم الإيمان والعمل والسلوك والأخلاق، ونمط التدين الذي يحتاجه المؤمن، ولكن يجب العمل على الجناح الثاني لعلم الكلام، وهو طموحه لأن يبني رؤية للعالم يُصاغ فيها العالم الفيزيائي صياغة عقلانية، ويجب أن يراجع المهتمون اليوم علم الكلام بناء على نتائج العلوم الفيزيائية وغيرها، من أجل صناعة موقف نظري متماسك يحقق حضور الله بطريقة تسهم إيجابيا في الجانبين العقدي والكوني.

لقد أعطى المتكلمون الأصوليون هذين الجانبين تسميات جعلت منها جزءا مركزيا في الخطاب الكلامي، وأقصد جليل الكلام ودقيق الكلام، وهذا أمر مهم يجب الانتباه له في طموح تجديد علم الكلام، فهذه واحدة من أهم خصائصه، التي جعلت الكثيرين من البحاثة المحدثين يطلقون على علم الكلام بأنه فلسفة المسلمين.

صابر مولاي أحمد: سبق أن وصفت الفكر الإسلامي بأنه يعيش حالة من الاغتراب نريد معرفة أسباب هذه الغربة؟ وما هو السبيل لتجاوزها؟

عبد الحكيم أجهر: المسألة الجوهرية في مفهوم الاغتراب هي الانفصام، أو فصل الذات عن ذاتها، أو جعل الذات تفقد ذاتها، وتسعى بطريقة حائرة أو ربما مَرَضية إلى إيجاد ذاتها. مع قدوم الحداثة وهيمنتها على الكوكب كله لم تعد الثقافة الإسلامية وحدها من يعاني من هذا القلق في الانفصام بين نوعين من القيم، كل ثقافات العالم تعيش هذا الانفصام، وقد أصبح هذا الانفصام الذي هو اغتراب عن الذات نمطا من العيش، فنحن إن قمنا بزيارات مدن العالم غير الغربي لوجدنا علامات كثيرة على هذا الاغتراب في الشوارع، في الإعلانات التجارية، في نمط البناء، في اللباس، في الطعام، وفي ولادة مهن جديدة، علاوة على النزعات الجديدة والمطالبات الجديدة التي صارت فئات من المجتمع غير الغربي تبحث عنها تيمنا بما يحدث في الغرب. وربما نجد أيضا هذا الاغتراب في نمط الدولة الهجين الذي يسيطر على عدد كبير من المجتمعات.

إن نمط حياة المدن الإسلامية ليس بعيدا عن بقية مدن العالم، ولكننا بوصفنا معنيين بتلك الثقافة التي ننتمي إليها، ونعي هذا الانفصام الثقافي في حياتنا علينا أن نتوقف عند تلك العلاقة الخاصة بين ثقافتين، واحدة مازالت متعثرة في عملية التجديد، وأخرى أصبحت مهيمنة، سواء قبلنا بها أم لا.

التيارات الفكرية الكبرى في العالم العربي التي يتفق على تصنيفها معظم المثقفين، التيار الأصولي الذي يجد في ثقافة الماضي ملاذه الآمن، والتيار التحديثي الذي يرى أن الحداثة توجب علينا إدارة ظهرنا إلى الماضي؛ لأن قيما كونية جديدة أصبحت مهيمنة على العالم كله ويجب الأخذ بها، وتيار توفيقي يحاول جاهدا التوفيق بين الأطروحتين السابقتين، من أجل الحفاظ على الهوية الثقافية من جهة والأخذ بالحداثة من جهة أخرى، هذا التيار الذي أخذ تسميات عديدة، مثل، النهضة، البعث، التجديد، وأخيرا الأصالة والمعاصرة.

هذه التيارات الثلاثة تعاني أزمة حادة على المستوى الثقافي؛ فالتيار الماضوي مغترب بالضرورة عن العالم المعاصر وقيمه، ويعاني بشدة مما يعتقده ضياع قيم الأمة ودينها وهويتها، الأمر الذي يدفع به أحيانا إلى التشدد أكثر فأكثر بطريقة عصابية من أجل إرغام الناس على العودة إلى نمط العيش والتفكير القديمين.

التيار الحداثي أيضا يعاني اغترابا عميقا في محاولته إقناع الناس بأن ثقافتهم لم تعد تصلح للعالم الحديث، ويلمح ضمنا أو صراحة إلى ضرورة التخلي عنها. وهذا التيار أيضا يمارس التشدد عندما يتحول إلى تنظيم سياسي أو عندما يصل إلى السلطة، فهو يريد إرساء بعض القيم الحديثة بالقوة التي تأخذ شكل استبداد، وأحيانا تأخذ شكل عنف لا نظير له. هذان التياران مغتربان عن ذواتهما، وكلاهما يساهم في تعميق الاغتراب وحرمان الثقافات المحلية من تحقيق ذاتها في مسار تاريخي متوازن. وهما تياران مأزومان في غربتهما عن واقع لا يطاوعهم، في الوقت الذي لا يعطون لهذا الواقع قيمته الحقيقية بوصفه واقعا صلبا لا يمكن النظر إليه وفق ما نريد نحن، بل وفق مقتضياته هو التي يوفرها لنا تاريخه.

وإذا أردنا إدارك عمق هذا الانفصام التاريخي، فعلينا أن ننظر إلى التيار الثالث، التيار التوفيقي أو التلفيقي إذا شئت، والذي أخذ في العقود الأخيرة اسم (الأصالة والمعاصرة)،

ومع ذلك، فإن هذا التيار يحقق نجاحات متفاوتة بسبب نقاط انطلاقه التي تحاول الحفاظ على الهوية الثقافية ووضعها في سياق حداثي، وهذا أمر مطلوب من معظم شرائح المجتمعات العربية. ولكن هذه النجاحات مازالت محدودة، وكثيرا ما تتعرض إلى إخفاقات متزايدة.

إن أزمة هذا التوفيق أنه انتقائي، ويبدو أن هذا التلازم بين التوفيقية والانتقائية أمر لامفر منه بالنسبة لهذا النمط من التفكير.

إن التوفيق بين ثقافتين يجعل من الصعب تناول هاتين الثقافتين بكليتهما، بل يجب أن تنتقي إحدى الثقافتين عنصراً يتفق مع عنصر آخر من الثقافة الثانية، وهذا أمر يفرط بأهم ما يسم الثقافة بشكل عام وهو سياقها التاريخي؛ إذ لا تعود الثقافة هنا مفهومة في تفاصيلها وتعقيداتها وشروطها الخاصة، بل تصبح مادة معروضة للاستخدام مثل أي مادة قيد الاستعمال، فتتحول القيم الثقافية إلى عناصر معزولة عن بعضها البعض من أجل أن يسهل انتقاء ما يريد المثقف انتقاءه، الثقافة هنا تُستخدم بطريقة استعمالية، أكثر من أي شيء آخر. لو تناولنا فقط المشاريع الأخيرة التي حصلت في أواخر القرن العشرين، في القراءات الماركسية والابستمولوجية، للاحظنا ذلك بوضوح، فالمسألة المركزية الأولى في المنهجين، هي، ما الذي يجب تناوله من التراث وما الذي يجب استبعاده، وقد حصل ذلك في مشاريع كبيرة تختلف عن المنهجيتين الماركسية والابستمولوجية، صارت تبحث في "الميت والحي" في التراث؛ أي إننا نحن أمام مزاج خاص يحكم هذه الانتقائية؛ إذ ما الذي يجعل فكرة ما من الماضي تحمل بذورا مادية وفق المنهج الماركسي، وكيف تكون هذه الفكرة سندا تجديديا في المستقبل؟

والأمر نفسه في مناهج أخرى؛ إذ ما الذي يجعلنا نتوقف عند ابن سينا ثم الغزالي لنحملهم أزمة التخلف العربي التاريخي، وما الذي يجعل من ابن حزم ممثلا للاهوت الإسلامي الذي يصلح للتقدم أكثر من الرازي وابن تيمية؟

لقد أشار جورج طرابيشي إلى هذا الأمر، فخصص كتابا ليقول إن العملية التاريخية الطويلة التي نقلت الثقافة الإسلامية "من إسلام القرآن إلى إسلام الحديث" كانت أكثر تأثيرا وربما هي صاحبة التأثير الحقيقي في هذا التعثر التاريخي الذي حصل للعرب أكثر من أن نتوقف عند مفكر أو اثنين كالغزالي وابن سينا لنحملهم هذا المسؤولية التاريخية.

هذه الانتقائية التي تضع نقاطا محددة من كل من الثقافتين لمحاكمتها أو لاستلهامها، هي تعبير عن اضطراب ثقافي عميق؛ إذ نتحول هنا من كائنات تاريخية إلى كائنات تعود لعصر الصيد، حيث العنصر الثقافي هو ثمرة على شجرة، علينا فقط قطفه واستهلاكه.

نحن إذن حسب اعتقادي في حالة اغتراب عن الذات، عن تحققها وفق ممكناتها الذاتية، نحن نتناول بعض الأدوية والوصفات التي ذكرتها، ولكنا لا نمارس رياضاتنا الخاصة في هذا الشأن.

طبعا هناك عوامل كثير ومعقدة تضعنا على هذه المسارات ولكن بالنتيجة هذه هي الحال، فنحن نعيش حالة تراجع علمي وأكاديمي كبيرين، مدارسنا وجامعاتنا لا تصنع أجيالا واعية بضرورة الفكر النقدي، ولا حتى تزود الطالب بالمعلومات التي تناسب الدرجة التي سيحصل عليها، ودول تضيع ميزانيتها بين أجهزة الأمن والجيش والفساد، ولا ترى في البحث العلمي قطاعا يستحق الاهتمام كثيرا إلا بالحدود الدنيا التي تجعله مستمرا في الحياة فقط.

أيضا هناك مشكلة كبيرة أخرى، وهي ضعف التواصل بين أصحاب الانتاج الثقافي، فليس كل كتاب يصدر يجد من يقرؤه، وليس كل صاحب رأي يجد من يناقشه مناقشة جدية. وكما أننا لا نجد حركة نقد نشطة، تساعد على إنضاج الأفكار وبلورتها، بالكاد نجد مجلة عربية محكمة تخصص جزءا من صفحاتها لمراجعات الكتب.

وحتى خارج المجلات والتفاعلات الأكاديمية، نلاحظ أن العملية النقدية الشائعة تفتقد في كثير من جوانبها إلى التعاطف مع إنتاج الآخرين، وتحول النقد إلى عملية اصطياد تسيء جدا إلى الثقافة العربية.

صابر مولاي أحمد: نعيش اليوم زمنا مختلفا، حيث واقع تبعات الحداثة... وواقع الثورة الرقمية... وقد ظهرت وتشكلت سياقات جديد وغير مسبوقة في التفكير من جهة النظر إلى الدين والإنسان والعالم. ألسنا اليوم في حاجة إلى تشكلات جديدة للفكر الإسلامي؟ ما هو السبيل إلى ذلك؟

عبد الحكيم أجهر: هذا صحيح، نحن بالتأكيد أمام ثورة علمية جديدة، وهذا تحدي يطرح نفسه علينا اليوم بقوة لا نستطيع إزاءها إلا الانخراط فيها والتعامل معها بجدية. ومازالت قيم العقلانية تجدد حضورها وإلزاماتها على وعينا مع هذه الثورة. ولكن هذه الثورة الجديدة فيها خصوصية جديدة أيضا، فإذا كان التنوير قد ارتبط بالقرون الأخيرة بالثورة الصناعية وحتم على المجتمع أن يكون صاحب مؤسسات وبنية اجتماعية مناسبة تصاحب العمل الصناعي الضخم، كما حتمت الثورة الصناعية وجود رأسمال ودولة فاعلة من أجل الانطلاق بالمشروع الصناعي، فإن الثورة الرقمية لا تماثل تماما متطلبات الثورة الصناعية. أعتقد أن الثورة الرقمية تطرح قيما جديد تفتح نافذة على أهمية الفرد. نحن اليوم أمام مشاريع رقمية ضخمة ترتبط بالمبادرات الفردية وهذا أمر ربما يحرر الفرد من فكرة أن التقدم مرتبطة بالدولة ومؤسساتها. وطالما أن الدول أو الأنظمة السياسية في الوطن العربي قد فشلت في تأسيس تنمية صناعية مستدامة وتعثرت إلى درجة كبيرة في تطوير مشاريعها التي شرعت فيها في الخمسينيات والستينيات، فإن الثورة الرقمية تفتح للفرد فرصة الابتكار وتأسيس المشاريع الخاصة. ويضاف إلى ذلك، أن المبادرات الفردية تجد مساحة أوسع في تحقيق مشاريعها بسبب التحرر أيضا من ضرورة توفر رأسمال كبير من أجل تحقيق تقدم ما.

أعتقد أن الثورة الرقمية اليوم تحرض أفراد المجتمع على الانخراط في عملية التقدم دون انتظار الدول والأنظمة السياسية لطرح مشاريعها البطيئة. طبعا، هذا لا يعني أن الدولة لا دور لها، على العكس فمازال دور الدول مهمّاً وجوهريا، ولكن المبادرة لم تعد حكرا عليها، بل أصبح الشباب العربي قادرا على الانطلاق بمشاريعه الخاصة.

في هذا السياق، فإن التشكلات الجديدة المطلوبة للفكر الإسلامي يجب أن تركز على دور الفرد في المبادرة الاجتماعية، إلى جانب التأكيد على دور العقلانية وبعض قيم التنوير إلى جانب القيم الإسلامية.

الثورة الرقمية تفتح المجال للعمل الفردي والجماعي، الأمر الذي يوجب التأكيد على التعاون الاجتماعي، وهذا بدوره يحيلنا إلى أهمية التسامح والعمل المشترك، كما يحيلنا إلى مفهوم المسؤولية الفردية والتأكيد على أهمية الثقة بالنفس، فنحن لدينا مشكلة في هذا الأمر، وكأن شيئا ما بداخلنا يصرخ بأننا لا نستطيع أن نفعل ما يفعله الشباب الغربي، وهذا أمر خاطئ وعقدة موروثة من أيام التفوق الاستعماري، فالتكنولوجيا الرقمية اليوم فتحت للأفراد أبوابا جديدة للابتكار خارج أطر الدولة التي صار من الواضح أننا لا نستطيع انتظارها طويلا.

إن المشاريع الرقمية اليوم التي تحكم المجتمعات البشرية، هي مبادرات وإبداعات فردية، بل إن بعض هذه المشاريع صارت هي صاحبة القرار في مساعدة الدولة أم لا، بل وأكثر من ذلك انتقلت هذه المشاريع، لتصبح في قلب الصراعات الدولية.

تبقى الحاجة إلى إعادة صياغة الإسلام في هذه الحالة ضرورية جدا، التأكيد على العقل والعلم مازالا يتصدران الجهود التي يجب بذلها في تقديم الإسلام بالشكل الملائم لقيم العالم الحالي، ومازالت قيم التعاون والتخلص من قيم الإقصاء القائم على التكفير موضوعات أساسية، بالإضافة إلى تأكيد دور الفرد في الخلق والإبداع وضرورة التخلص من قيم الضعف وقلة الحيلة والعجز ومحدودية القدرة الإنسانية.

صابر مولاي أحمد: من بين كتبكم كتاب "الله الآخرية في الحضور؛ أو ما وراء الأصالة والمعاصرة" ما هي الفكرة العامة لهذا الكتاب وهو كتاب يغطي ما يقرب 400 صفحة.

عبد الحكيم أجهر: هذا الكتاب هو الأول من سلسلة تطمح إلى تغطية حقول التفكير الكبرى في الإسلام؛ ذلك أنه بعد تعدد المحاولات في الثقافة العربية الحديثة والمعاصرة لقراءة التراث قراءة تنطلق من مفهوم محدد للحداثة، لاحظت أن التراث الإسلامي غائب بشكل كبير عن هذه القراءات. كيف ذلك؟

لقد أخذت قراءات التراث المتعددة في الثقافة العربية، وخصوصا الفترة المعاصرة التي أسميتها "اللحظة المنهجية" التي تمثلت في القراءة الماركسية، والتي اعتمدت المادية التاريخية كمنهج، الطيب تيزيني وحسين مروة، والقراءة الابستمولوجية التي اعتمدت المنهج البنيوي وبعض المفاهيم الماركسية ونتائج فلسفة العلوم المعاصرة التي قام بها محمد عابد الجابري، لاحظت أن هذه القراءات تتجه نحو التراث وقد قررت نتائجها مسبقاً. وهذا التحديد المسبق للنتائج لا يتوقف فقط على نمط المناهج المستخدمة، ولكن على الموقف الفكري الذي حدده قارئ التراث لنفسه.

هذا الموقف يتلخص في سعي الباحث إلى سوق التراث الإسلامي طوعا أو استبدادا إلى لقاء الحداثة، والحداثة هنا كلمة فضفاضة، وإذا أردنا تحديدها أكثر نقول: الحداثة الأوروبية. فالحداثة وأوروبا اليوم لا ينفصلان في ذهن المثقف العربي الذي يريد قراءة التراث.

في عملية مثل تلك سيتحول التراث إلى مادة هلامية بلا ملامح، يطمح قارئ التراث إلى تشكيلها كما يشاء، والمشيئة هنا هي اجتماع الثقافتين الإسلامية والأوروبية اجتماع أصدقاء ومحبين.

هذا السعي الذي يبيت نتائجه على هذه الصورة يجعل من قراءة التراث قراءة ذرائعية، وتصبح نصوص التراث بدون هوية خاصة بها؛ لأن الهدف منذ البدء ليس البحث في هوية النص التراثي، بل في الكيفية التي يصبح فيها قابلا للتطويع لبرنامج معين.

إنها قراءة أداتية، كل عناصرها أدوات تخدم بعضها بعضا، النص التراثي نفسه، المناهج المستخدمة، والحداثة نفسها التي لا يُنظر إليها بذاتها، بل بما يجعلها قابلة لاستقبال النص التراثي الإسلامي.

النوايا التي يحملها هؤلاء المثقفون مفهومة، وربما مطلوبة في الوضعية الحضارية التي يعيشها العرب. لكن طريقة العمل مفتوحة على النقد بشدة.

في كتاب الله: الآخرية في الحضور، أردت العودة للنص التراثي نفسه، فهذا النص قد تعرض لاستنطاق قهري لفترة طويلة، دون التحقق من هويته الحقيقية. إذ كان يجب أن نسأل هذا النص، من أنت؟ ماذا تريد أن تقول؟ لماذا قلت الأشياء بهذه الطريقة وليس بطريقة أخرى؟

في هذه الطريقة للتعرف على النص التراثي التي تعتمد الحوار وليس الاستنطاق، كان النص يكشف بالتدريج عن سؤال مشغول بالإجابة عنه؛ فالنص الذي يريد أن يقول شيئا، يريد أن يفعل ذلك ليجيب عن قلق ما؛ ذلك أن هذا القلق هو النبض الذي يضخ الدم في المفردات والجمل وطريقة الكتابة، ولولا هذا القلق أو لنسمه السؤال، لما كان النص كله موجودا.

ومن المؤكد أن قراءة نص واحد في التراث لن تبوح لك بالكثير، ولكن قراءة نصوص متنوعة ومن أماكن مختلفة ولأشخاص مختلفي الميول، ستكشف بالتدريج عن طبيعة هذا القلق أو الأسئلة التي تشغل النصوص، وهنا لابد من فهم النص على أنه قول على شيء خفي يسكن مختبأ داخل كلمات النص وفواصله وجمله، نص يقول شيئا ما من أجل ردم فراغ أو إعادة صياغة أو مواجهة تحد يتمكن من تحقيق قول أكثر كفاءة عن هذا الشيء المختبئ الذي يُقلقه. فهذا الخفي والغائب والساكن في كل تفاصيل النص والمتحكم فيه، يجب إرضاءه بصورة ما.

السؤال المركزي الذي يتحكم بالنصوص الكبرى كلها هو: ما هو الشكل الذي يجب أن يستحضر فيه وعينا الله في العالم؟ إذ من الصعب أن نجد نصا في الثقافة الإسلامية العالِمة غير متورط في هذا السؤال، حتى لوكان نصا نقديا على قول آخر، فهو نقدي لأن شكل الاستحضار الذي تضمنه نص آخر لم يكن مقنعا لهذا الناقد.

هنا نكتشف أن سؤال كيف يستحضر وعينا الله في العالم، قد أخذ ثلاثة أشكال كبرى؛ الأول الذي وجد أن الله يحضر في العالم بقوته؛ أي بإرادته وقدرته، فهو الخالق والفاعل والمدبر لكل شيء منذ لحظة الخلق وحتى التفاصيل التي يعيشها الإنسان في حياته.

آخرون رأوا أن على وعينا أن يستحضر الله كله، ولا يكفي أن نتوقف عند قدرته وإرادته فقط، هذا ما يمكن تسميته بحضور الله في ذاته، وإذا أردنا حسب البعض إنشاء قسمة نظرية بين الله وبين صفاته، فقد كان هذا الخطاب تارة يريد استحضار الله كذات، وتارة يريد استحضار الله كمجموع صفات.

الطرف الثالث أو الانشغال الثالث، كان يجد أن هذا الاستحضار يجب أن يتحقق بطريقة تكشف عن أهم الجوانب الإلهية التي تخدم الإنسان، وهي المعرفة، فالله يجب أن يحضر بما يمكن تسميته ماهيات، أو عقول سماوية، التي هي بشكل ما فائضة عن الله نفسه، والله عند هؤلاء هوية مطلقة لا تتخارج عن نفسها أبدا، مطابقة لذاتها مطلقا، الأمر الذي يعني أن حضور الله يجب أن يحصل وفق وسائط متعددة تصل بين الله والعالم بطريقة تحافظ على هوية الله المطلقة، وفي الوقت نفسه تتصل بالعالم عن طريقها. وهذه الصلة بين الطرفين يجب أن تتحقق بما يضمن عملية معرفة إنسانية عقلية ممكنة. هذا الخطاب اعتمد نظرية الفيض وتسلسل الفيوضات المتكررة التي تبدأ من الله وتنتهي عند العالم مرورا بالعقل الفعال. وهذا التقسيم للإجابات الثلاثة ليس نوعا من التصنيف؛ لأن الإجابات رغم نمطيتها العامة كانت متعددة جدا، كما أنها دمجت بين حقول كان ينظر إليها مستقلة بذاته؛ إذ نجد أن إجابة محددة يجيب عليها متكلم وفيلسوف وربما صوفي أيضا، وإجابة أخرى كذلك، الأمر الذي يلغي لحد كبير فكرة القوالب والصناديق، ويفتح الإجابات التي عرفها التراث على تداخلات معقدة بين الحقول المعرفية.

في كتاب الله: الآخرية في الحضور، كان التركيز على خطاب القوة، وهو الخطاب الذي انشغل فيه معظم علماء الكلام، وبعض الفلاسفة كالكندي وأبي البركات البغدادي. أما الكتاب الآخر (الحقيقة وسلطة الاختلاف) الذي يعد الجزء الثاني من البحث عن أشكال الاستحضار، فقد ركز على خطاب الذات الذي يرى أن الله يحضر بذاته أو بكل صفاته في العالم. هذا الخطاب شغل معظم المتصوفة خصوصا في المرحلة المـتأخرة، كما شغل بعض الفلاسفة والمتكلمين المتأخرين.

في الكشف عن السؤال المركزي في استحضار وعينا لله، وفي تعدد الخطابات أو الإجابات، نجد أن كل القضايا التي ينشغل بها الفكر العربي الحديث تتوزع على جزئيات وتفاصيل نمط الاستحضار الذي قال به خطاب ما.

فمسألة السببية في العالم والتأثير الإلهي، نجدها تناقش بعمق وكثرة في خطاب القوة؛ لأن التأثير في الأشياء أمر راجع للقوة، بينما نجد مفاهيم الكليات والماهيات حاضرة أكثر في خطاب الوسائط.

مع انشغال الكتاب بخطاب القوة وفي كيفية فهم صفات القدرة والإرادة الإلهيتين ودورهما في العالم، نتعرف على التاريخية العميقة للخطابات في الإسلام، ففي سياق البحث عن الإجابات الملائمة، كانت حركة النقد لا تتوقف أبدا، الأمر الذي جعل التاريخ جزءا مكونا لكل خطابات الإسلام، فالعملية النقدية كانت تدفع الخطابات لتحسين أدائها في الإجابة، الأمر الذي يصل بنا إلى صياغة ناضجة متأخرة لهذا الخطاب، عند الرازي والآمدي والأرموي والإيجي وابن تيمية.

هذه التاريخية التي ترسمها حركة النقد، تساهم بقوة في كسر تصنيفاتنا التقليدية للخطابات، ذلك ان الخطاب كان كثيرا ما يطور من نفسه، ويتأثر بخطابات أخرى من أجل تحسين أدائه، مما يساعدنا على تغيير وجهة نظرنا في النظر إلى التراث على أنها مدارس مغلقة على أنفسها. انظر للأشاعرة مثلاً، فهم بالكاد ينتمون إلى مؤسس المدرسة، فاختلافاتهم جعلت فكرة المدرسة الجامعة لهؤلاء فكرة صعبة، أين الغزالي منهم، وأين الرازي....، كل ذلك دفعني إلى إعادة البحث عن طريقة أخرى لإنشاء هذه التصنيفات، فلم يعد مفهوم المدرسة صالحا تماما لجمع هذه الآراء المتعددة والخلاقة في بوتقة واحدة، لا عند المعتزلة ولا عند الأشاعرة ولا عند الحنابلة، ولا عند الفلاسفة، ولا عند المتصوفة.

إن فكرة المدرسة التي تصنف فكر التراث، والتي يمكن أن نستبدلها اليوم باسم "الخطاب"؛ إذا سمحنا لأنفسنا وأعطينا المدرسة هذا الاسم. يمكن تعريفه على أنه خطاب عام، فيه مبادئ كلية وقليلة، ولكن داخل هذا الخطاب هناك خطابات جزئية كثيرة يحققها كل مفكر فرد داخله. ينجح هذا الخطاب الفردي في رج استقرار الخطاب بشكل عام، وإثارة القلق داخله، الأمر الذي يفتح أفقا جديدا للخطاب ويخرج بدرجة ما عن العناوين العامة للمدرسة أو للخطاب المألوف المتعارف عليه. هذا الخطاب الجزئي الذي يعمل عليه فرد ما أو مجموعة ما، ويهز المبادئ العامة للمدرسة هو غالبا خطاب حدي، ونعني بكلمة حدث أنه خطاب يقف على حدود أكثر من مدرسة واحدة، ربما على حدود أو على تخوم مدرستين أو أكثر، فالغزالي مثلا ينتمي للخطاب الحدي أكثر من انتمائه للخطاب العام للأشاعرة، فهو يقف على حدود المعتزلة والفلسفة والتصوف. وكذلك الفيلسوف البغدادي، يقف في المنطقة الوسطى بين خطاب القوة والخطاب الفلسفي، وهكذا.

إذن هي محاولة للدخول إلى التراث ذاته دون إسقاطات خارجية عليه، ثم بعد ذلك ننتقل للتساؤل المعاصر: هل الأسئلة التي انشغل بها مفكرو التراث مازالت أسئلة راهنة، وهنا أقصد الأسئلة الفلسفية الكبيرة.

أعتقد أن الله كسؤال مازال سؤالا فلسفيا راهنا؛ لأن الله في التراث كان وراء كل الثنائيات الفلسفية المعروفة، كالوحدة والكثرة، والعلة والمعلول، والخلق والتأثير، والفعل والانفعال....، وكان وراء النظر إلى الله كأفق للتفكير في العالم، ففي الإجابات الكبرى، كان الله أفقا للبحث في العالم، فإجابة خطاب القوة كانت تنظر للعالم على أنه حركة وتأثير وفاعلية وطاقة وتوليد، كما كان خطاب الذات، يضع العالم كله موضع مساءلة فيما إذا كان يحقق في ذاته ارتقاء نحو مستويات أفضل، فالعالم مُطالب حسب خطاب الذات إلى الترقي من أجل الاقتراب أو محاكاة ذلك الأفق البعيد الذي يمثله الله، كوجود إيجابي ولكن غير متعين كلياً، إنه خطاب إعادة تحسين العالم وجعله عالما أفضل. أما خطاب الوسائط، فهو خطاب المعرفة العقلية وارتقائها من مرتبة إلى أخرى، وهو سؤال مازال راهنا.

كل ذلك يفتح لنا اليوم التفكير مجددا بالأسئلة نفسها ولكن بأدواتنا المعاصرة. إنه مشروع اجتهاد يحاول تجنب الانتقائية والخوض في الذات الثقافية بذاتها، دون عملية تصنيع مفتعلة.

إن الإجابات في الماضي كشفت لنا عن طبيعة الأسئلة التي انشغل بها الأسلاف، ولكنها في الوقت نفسه لم تعد إجابات تصلح للتكرار في العالم المعاصر، وإنما يجب البحث عن إجابتنا الجديدة في بنية العالم وقواه، وفي تحسين العالم وترقيته معرفيا أو في محاكاة ذات الله، على فكرنا اليوم إبداع استحضارات جديدة وتحديد آفاق مختلفة، لذلك أسميت محاولات مفكري الماضي بأنها تدريب لنا اليوم على فن الإجابة وصناعة ثقافتنا الحديثة.

صابر مولاي أحمد: في زمننا هذا ظهرت الكثير من المشاريع التي اعتنت بفهم القرآن، والكثير منها يهدف إلى تجاوز ما قال به المفسرون القدماء على مستوى المنهج في تعاملهم مع القرآن الكريم. في نظرك كيف نفهم القرآن اليوم؟

عبد الحكيم أجهر: هذا صحيح، هناك جهود كبيرة اليوم للعمل على النص القرآني من زوايا تناسب أحوال الإنسان المعاصر، سواء كان مسلما أم غير مسلم، وأنت تمثل واحدا من تلك المشاريع.

القرآن شأنه شأن المسائل الأخرى التي تشغل ثقافتنا اليوم، وينطبق عليه في وجوه كثيرة ما ينطبق على حقول الفكر الأخرى، أقصد إسقاط المفاهيم الحديثة، في محاولة إعادة تأويل النص القرآني تأويلا معاصرا. فالقرآن في القراءات الحديثة، يجب أن يكون قد تحدث في مساواة المرأة مع الرجل، وفي مفهوم المواطنة الحديث، وفي الديمقراطية، وفي التفكير العقلاني، وفي إنكار العنف، وفي التأكيد على الرحمة والتسامح والتعايش الإنساني، وفي قبول الآخر، وفي عدم التعصب ..... وهي كلها مفاهيم قد تتفق وقد لا تتفق مع النص القرآني.

إنها بالتأكيد جهود صادرة عن أزماتنا الثقافية، والتي تطمح بكل ما استطاعت أن تجعل الكتاب المقدس، يقول شيئا آخر غير ما افترضه الأسلاف في تفاسيرهم.

يغلب على محاولات الأبحاث القرآنية اليوم بالإضافة للنقطة السابقة منهجية العمل على المفردات، فكثيرا ما نجد في المحاولات الحديثة لتفسير القرآن التركيز على الدلالات الأخرى للمفردات الواردة في القرآن والبحث عن مدلولات أخرى قد تحتملها المفردة المقصودة، وهذه المدلولات المبحوث عنها يجب أن تؤكد رأي الباحث أن القرآن كان مع هذه القضية أو كان ضد قضية أخرى.

أيضا من الاستراتيجيات المتبعة في الدراسات الحديثة للقرآن، الانتقائية، فيذهب الباحث لالتقاط آية قرآنية أو بضع كلمات مجتزأة من آية، ليؤكد، ما يريد الوصول إليه، وتأكيد الدعوة التي يريد إثباتها، رغم وجود آيات أخرى تقول شيئا آخر. والحقيقة أن هذه الاستراتيجية كانت متبعة في الماضي من قبل المفسرين الأوائل، ولكنها استراتيجية تترك من المشاكل أكثر مما تحلّ، ولعلنا اليوم نعيش أزمات دينية كثيرة وكذلك فقهية نتيجة هذه الطريقة في النظر للنص القرآني.

ربما نحتاج إلى نوع من استراتيجية تأويلية مختلفة عن ذلك، استراتيجية تأخذ المعاني المتضمنة والتي تحتملها الآيات القرآنية دون تعسف، وقد أدرك بعض الأصوليين هذا الأمر فذهب كثير منهم للحديث عن التدبر. وهي كلمة أعتقد أنها جيدة، فالحاجة إلى تدبر النص ككل ربما تكون مفيدة أكثر من التوقف عند المفردات فحسب أو من الانتقائية الشائعة اليوم.

هناك أمثلة كثيرة عن هذا التدبر وربما نجده ليس عند المفسرين المعروفين، ولكن عند أصحاب الاهتمامات الأخرى كالمتكلمين والفلاسفة والمتصوفة، وأقصد ذلك التدبر الواعي للمقاصد الخافية للآيات القرآنية والتي تحتمل فعلا مقتضيات يقبلها النص، دون إقحام مفهوم أو فكرة لا تمت بصلة إلى منطوق الآية.

مثلا، الآية التي تقول: "كل يوم هو في شأن"، هي آية تتجاوز مفرادتها باتجاه قول أشياء كثيرة، وقد استخدمت هذه الآية من قبل كثيرين استخدامات متعددة، ولا تبدو هذه الاستخدامات متناقضة أو متعسفة. ولا يستطيع التفسير الأصولي الاعتراض على هذه المضامين التي تقتضيها الآية.

طبعا هذا المثال لا يحل كل مشاكل التفسير، ولكن ما أقصده هو الذهاب لاستراتيجيات تأويلية تبقى وفية للنص وفي الوقت نفسه تبحث عن مقتضيات أخرى له تحتملها آياته وسورة. هي مسألة صعبة، ولكن في كل الحالات يجب أن يحقق أي تفسير للنص القرآني ثلاثة مطالب، هي: النص ذاته دون تعسف فيه، وشروط العالم الجديد (الواقع)، والذات المفسرة؛ أي البشر أنفسهم الذين يجب عليهم الاقتناع أن القرآن يقبل احتمالات فهم أخرى.

هذه الثلاثية أيضا تحتاج إلى باحثين، رجال دين أو باحثين متخصصين يمتلكون سلطة معرفية مقنعة، كما يحتاج هذا الأمر إلى مرونة في التعامل مع النص القرآني، والتوقف عن التعصب للتفاسير التقليدية، فهي ليست كاملة ولا تتمتع بمصداقية أعلى مما يحاوله متخصصو اليوم في القرآن. إن أول تفسير شامل للقرآن، أقصد الطبري، كان في أواخر القرن الثالث وأوائل القرن الرابع للهجرة، الأمر الذي ينفي فكرة ان القرب الزمني من النص يجعل التفسير أكثر مصداقية.

كما أن أي محاولة تفسيرية يجب أن تأخذ في اعتبارها تلك الاجتهادات التفسيرية التي لا نجدها في كتب التفسير، أي تلك التي قام بها فيلسوف ما، أو متكلم أو متصوف، فهؤلاء كانت لهم في كثير من الأحيان نظرات ثاقبة وإبداعية في تقديم اقتراحات تفسيرية مفيدة.

إن تفسير القرآن مهمة بشرية، فهذا الكتاب من أجل البشر، والنبي محمد (ص) لم يفسر القرآن كاملا، وبالتالي يجب أن نقتنع أن القرآن قابل للتأويل والتدبر دائما، بما يحقق تهذيب المسلمين وربما يساهم في تهذيب الجنس الإنساني.